*
* كاتب وباحث من المغرب.
الكتاب: الحاكمية.
المؤلف: محمد أبو القاسم الحاج حمد.
الناشر: دار الساقي، بيروت - لندن.
سنة النشر: الطبعة الأولى، 2010م.
مدخل: مفهوم الحاكمية الإشكالية والجدلتعتبر الحاكمية من المفاهيم المتداولة في الفكر الإسلامي المعاصر، وقد أثارت فكرة الحاكمية جدلاً معرفيًّا، وخلافاً فكريًّا بين أصحاب الفكر والدعوة، كما شكّل هذا المفهوم، في فترات زمنية معينة، محوراً للممارسات الدعوية والحركية، واتُّخذ أصلاً للتنظيرات الفكرية والدعوية، ومرتكزاً لبناء النظريات السياسية الإسلامية في أنظمة الحكم.
وقد اختلف المفكرون الإسلاميون المعاصرون حول تحديد هذا المفهوم وتأصيله، لما يواجه هذا المفهوم من أزمة وما يكتنفه من غموض على مستوى النشأة والتنظير، فضلاً عن النتائج العلمية والعملية التي رتبت على أساسه، ولهذا اختلفت أساليب التعامل معه بين ناظر له باعتباره مفهوماً مصدره الشريعة، وبين معتبر له مفهوماً فكريًّا مصدره الإنتاج العقلي البشري.
وعلى هذا الأساس كانت التنظيرات الفكرية لهذا المفهوم متباينة انطلاقاً من الظروف الفكرية والملابسات الواقعية التي عاشها كل مفكر، وبقي هذا المفهوم، بدلالاته ومعانيه التي استقرت، أساساً للتحرك ومرجعاً للفكر ومستنداً لكثير من التفسيرات المختلفة.
وإن الملاحظ لتفسيرات هذا المفهوم يجد أنه غلب عليه الطابع الأدبي والخطابي الوعظي، بحيث حمل المصطلح إحدى المعاني التي يحتملها (البعد العقدي والسياسي) دون اعتبار للدلالات الأخرى، ومن غير تطلّع إلى الأبعاد المنهاجية التي يحملها، مما أبقى هذا المفهوم حبيس دلالات علمية محددة ومعالم فكرية ضيقة.
في حين نجد أن هذا المفهوم له عمقه الفلسفي وأبعاده المنهاجية، ومعالمه السياسية الضابطة لغيره من المفاهيم الموازية له في الفقه السياسي الإسلامي.
ومعلوم أن أبا الأعلى المودودي يُعدّ أول من صاغ فكرة الحاكمية الإلهية في الإطار السياسي والاجتماعي والقانوني، وقد قام بتوظيف ذلك من أجل بناء نظرية سياسية تقوم على منظومة عقائدية، حيث تتجلى الحاكمية الإلهية في السلطتين السياسية والقانونية.
وقد اختار المودودي مصطلح الحاكمية، للتعبير عن مبدأ سيادة الله، وما يفرضه من وجوب سيادة التشريع الإسلامي، إذ يرى المودودي «أن الحاكمية في الإسلام خالصة لله وحده، فالقرآن يشرح عقيدة التوحيد شرحاً يُبيِّن أن الله وحده لا شريك له، ليس بالمعنى الديني فحسب، بل بالمعنى السياسي والقانوني كذلك... إن وجهة نظر العقيدة الإسلامية تقول: إن الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله، وإن حكم سواه موهوب وممنوح، وإن الإنسان لا حظ له من الحاكمية إطلاقاً... وخلافة الإنسان عن الله في الأرض لا تُعطي الحق للخليفة في العمل بما يشير به هواه وما تقضي به مشيئة شخصه، لأن عمله ومهمته تنفيذ مشيئة المالك ورغبته.. فليس لأي فرد ذرة من سلطات الحكم... وأي شخص أو جماعة يدَّعي لنفسه أو لغيره حاكمية كلية أو جزئية في ظل هذا النظام الكوني المركزي، الذي تدبر كل السلطات فيه ذات واحدة هو ولا ريب سادر في الإفك والبهتان.. فالله ليس مجرد خالق فقط، وإنما هو حاكم كذلك وآمر، وهو قد خلق الخلق ولم يهب أحداً حق تنفيذ حكمه فيهم.
كما يرى المودودي «أن الإسلام يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها، ولا يتحرج في استخدام القوة الحربية لذلك، وهو لا يريد بهذه الحملة أن يكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته، والإيمان بمبادئ الإسلام، إنما يريد أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة، حتى يستتب الأمر لحملة لواء الحق، وعليه فإن الإسلام ليس له -من هذه الوجهة– دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود ويدافع عنها، وإنما يملك مبادئ وأصولاً يذب عنها، ويستميت في الدفاع عنها، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله».
وقد تبنى النهج نفسه سيد قطب عندما اعتبر الإسلام «إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده، (التي تعني) الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض».
و«مملكة الله في الأرض... لا قيام لها إلَّا بإزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر، وتحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها».
«كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان، لأن المتسلطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، إنه لا بد من الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، لتحرير الإنسان في الأرض كل الأرض».
«فالإسلام في جهاد دائم لا ينقطع أبداً لتحقيق كلمة الله في الأرض... وهو مكلف ألَّا يهادن قوة من قوى الطاغوت على وجه الأرض... والإسلام يواجه القوى الواقعة في وجهه بواحدة من ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو القتال».
والملاحظ أنه لا خلاف ولا تمايز في فكرة الحاكمية بين المودودي وقطب في الحقيقة والجوهر، إذ يفسر سيد قطب الحاكمية –ويصطلح عليها بالحاكمية العليا- في ضوء معاني الألوهية، ويرى أن مفهوم الحاكمية معناه «نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، والسلطان على الضمائر، والسلطان على العشائر، والسلطان على واقعيات الحياة، والسلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان.. ورده إلى الله..».
إن هذا الفهم للحاكمية الجاعل من إفراد الله بالحاكمية حكماً بتجريد الإنسان والأمة من كل حق في أن تكون مصدراً للسلطة والسلطان في أي شأن من شؤون الحياة... الأمر الذي يجعل البعض –سواء من أنصاره أو خصومه- يتصور حكومة الإسلام «ثيوقراطية» و«حتمية إلهية» لا مكان فيها لإرادة الإنسان، قد أثار العديد من المجادلات وأُلِّفت حوله العديد من الكتابات والدراسات.
ﷺ
كتاب الحاكميةيعد كتاب: «الحاكمية»، لمؤلفه أبو القاسم الحاج حمد من المحاولات الفكرية التي رامت مراجعة المفهوم، وبيان أسسه الفكرية، وأنساقه الأصولية، وسياقاته التاريخية، وإعادة صياغته وتركيبه ضمن خطوات منهجية تكشف عن ماهيته ومقاصده وأبعاده، في ارتباط تام بمنهجية القرآن الكريم المعرفية.
الكتاب في شكله العام يضم مدخلاً، وستة فصول. بالإضافة إلى تصدير الدكتور محمد شحرور ومقدمة محمد العاني، وكلاهما تحدثا عن أهمية الكتاب وقيمة صاحبه.
بيَّن المؤلف في مدخل دراسته طبيعة المنهج الذي توسل به في معالجة قضايا بحثه، وقد صرّح بأنه –أي المنهج- يختلف تماماً عن منهج من سبقه في تناول المفهوم بالدراسة والتحليل، يقول أبو القاسم: «لم نستغرق في الاستشهاد بتلك الكتابات إن من حيث المعالجات اللغوية أو المعالجات الفقهية للمفهوم، وذلك لاختلاف مدخلنا المنهجي والمعرفي القرآني الذي يخرجنا عن هذه المجادلات إلى صلب المفهوم في القرآن نفسه، فالمطلب هو استنطاق القرآن حول حاكمية الله ما هي؟ وكيف تكون؟ وعلاقة البشر بها، هل هي مطلقة أم نسبية؟(ص:30).
ﷺ
الفصل الأول: الحاكمية الإلهيةأوضح فيه المؤلف معنى الحاكمية الإلهية، وما يحيط بمنهجها الكلي من هيمنة إلهية مباشرة، كما ناقش بعض القضايا المتفرعة عن ذلك.
وتأتي الحاكمية الإلهية عند المؤلف بمعنى: «حكم الله المباشر للناس، دون استخلاف بشري، وهو حكم يتميز بـ«الهيمنة المباشرة» على البشر وعلى الطبيعة في آن واحد، مع التصرف الإلهي فيهما (البشر والطبيعة) تصرفاً محسوساً وملموساً من وراء حجاب.(ص:45).
وبهذا ينفي أبو القاسم الفهم الذي يعتبر أن الحاكمية الإلهية هي الالتزام بشرع الله أو رد التشريع إلى الله، وقيام خليفة أو سلطة دينية تنوب عنه في الأرض، إذ يصرح أنه ليس للحاكمية الإلهية أي علاقة بهذه المعاني.(ص:45).
وقد اعتبر الحاج حمد أن الحاكمية الإلهية كانت جوهر العلاقة بين الله والحالة التاريخية الإسرائيلية، وهي علاقة استوجبت قيام مملكة لله في الأرض يدير شؤونها الله، بنفسه لا بمنطق الاستخلاف البشري عنه.(ص:46).
حاكمية إلهية كان من نتائجها أن أسبغ الله على الأرض التي اختيرت لهذا الحكم الإلهي المباشر صفة «التقديس» وقد خاطب موسى قومه بهذا المعنى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}(المائدة: الآية 21) كذلك أسبغ على مجموعة القبائل الإسرائيلية المحكومة بالحاكمية الإلهية صفة التفضيل، وقد خاطبهم الله بهذا المعنى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: الآية47) ارتباطاً بهذه الحاكمية الإلهية المباشرة «قُدِّست» الأرض و«فُضِّل» الشعب. (ص:48).
لقد قضت الحاكمية الإلهية أن يهيمن الله على الإنسان والطبيعة معاً، ولذلك تميَّزت التجربة الإسرائيلية بخوارق هيمن الله بها على الإنسان والطبيعة، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة: الآية50)، {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} (البقرة: الآية60)، {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (الأعراف: الآية160).
بناء على ما سبق، فالحاكمية الإلهية هي هيمنة مباشرة على الإنسان والطبيعة، وإن تقديس الأرض وتفضيل الشعب من متعلقات الحاكمية الإلهية، ولأن البشر عند الله أكفاء، لا يعود التقديس لذات الأرض أو التفضيل لذات الشعب، وإنما هما من متعلقات الحاكمية الإلهية.
وبهذا الفهم يرفض الحاج حمد المقابلة بين حاكمية الله وحاكمية البشر، ويعتبرها غير مستقيمة، إذ يقول: «إن طرح المقابلة بين حاكمية الله وحاكمية البشر أمر لا يستقيم فلسفيًّا وفق منهجية القرآن المعرفية، وذلك للفارق الجوهري بين الطبيعتين، الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، فالطبيعة الإلهية أزلية تمارس الحاكمية بأشكال مختلفة طبقاً لمقتضيات مكان الإنسان وزمانه دون أن تسلبه، ودون أن يكون هذا الإنسان مكافئاً لها مهما منحته من حاكمية خاصة به أو سلبته إياها.
ﷺ
الفصل الثاني: حاكمية الاستخلافأبرز فيه المؤلف أن حاكمية الاستخلاف، حاكمية تلي في الدرجة الحاكمية الإلهية، وقد تحقَّقت بعد قرون من بعثة موسى، حين تمرد الإسرائيليون على الحاكمية الإلهية وطلبوا «ملكاً» من عند أنفسهم بديلاً من سلطة الأنبياء والربانيين والأحبار المتصلين بالله، وطلبوا من الله أن يختار هذا الملك، فتحوَّلوا بذلك من منطق «الحاكمية الإلهية» إلى «حاكمية الاستخلاف» عن الله.(ص:55).
وتعني «حاكمية الاستخلاف» بحسب رأي الحاج حمد، أن يكون الخليفة موصولاً بالله عبر الإلهام والإيحاء، وأن يسخّر له الطبيعة والكائنات، كما تعني أن الله يختار –لا المجتمع البشري- هذا الخليفة تماماً كما اختار الله طالوت ثم داوود وسليمان، فالخلافة اختيار إلهي وتسخير إلهي، وليست مجرد سلطة دينية بموجب شرع الله وباختيار بشري. (ص: 64).
ويورد أبو القاسم مجموعة من الآيات القرآنية المدعمة لرأيه، منها قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} (سورة ص: الآيات 17-20). وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (سبأ: 10). وقوله عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} (سبأ: الآية 12). وقوله سبحانه: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: الآيتان 78-79).
فالآيات القرآنية تفيد أن خليفة الله في الأرض قد سُخِّر له كل شيء، الطبيعة رهن أمره، والطير محشورة، ومنطق الطير معلوم، والريح مسخرة، والحديد يلين، ولغة النمل معلومة، والريح مسخرة غدوها شهر ورواحها شهر.
ذلك هو «سلطان - قوة» الخليفة عن الله في الأرض الذي «يختاره» الله ويصرف إليه بالتسخير من مظاهر قوته ما يشاء. فالاستخلاف عن الله ليس مجرد «سلطة سياسية» ولكنه «استخلاف كوني» وهيمنة على البشر والطبيعة «بتفويض إلهي».
هذا هو معنى «حاكمية الاستخلاف» ومعنى أن يكون إنسان ما خليفة عن الله في الأرض. (ص:67-68).
ﷺ
الفصل الثالث: حاكمية الكتاب البشريةيؤكد الحاج حمد أن الله عز وجل قد تدرج بالبشرية لتحكم نفسها وتلك غايته من الخلق، من «الحاكمية الإلهية» إلى «حاكمية الاستخلاف» إلى «حاكمية الكتاب البشرية»، أي «حاكمية الإنسان». وهي حاكمية تأتي خارج منهج الهيمنة الإلهية المباشرة على الإنسان والطبيعة «الحاكمية الإلهية»، وكذلك خارج منطق الاختيار الإلهي والتسخير «حاكمية الاستخلاف».(ص:71).
تأتي الحاكمية البشرية في إطار التعلّق الغيبي بالله، يعطش القوم ولا ينبجس الماء من الصخر، ويجوع القوم ولا منٌّ ولا سلوى، ويُحاصر القوم في يثرب بين اليهود في الداخل والمشركين في الخارج فلا تنشق الأرض عن أخدود يحتمي به المسلمون، وإنما هو خندق يحفرونه بعرق يمازجه دم، فليس هنا مكان الحاكمية الإلهية، علماً بأنه كان على رأس هذه المرحلة خاتم المرسلين وإمامهم جميعاً.
ويعيش القوم الضنك فلا ريح غدوها شهر ورواحها شهر، ويحصلون على سيوفهم ورماحهم بشق الأنفس، إذ لا عين قطر تُسال ولا حديد يُلان ولا جن تغوص وتسبك، فليس هنا مكان الحاكمية المستخلفة.
إنها مرحلة الحاكمية البشرية التي يعتبرها الحاج حمد، أخطر مرحلة تناولها الخطاب الإلهي للبشرية، منذ خطاب الحاكمية الإلهية وحاكمية الاستخلاف، فالله تدرَّج بالبشرية لتحكم نفسها وتلك غايته من الخلق، وهي غاية انتهى الله إلى تأسيسها على يد خاتم النبيين، وفي الأرض «المحرمة» وجعل لها «القرآن» العظيم منهجاً.(ص:71).
حاول الحاج حمد -وبعد تحديده لمعنى «الحاكمية البشرية»- الإجابة عن سؤال: كيف تكون «الحاكمية البشرية» المنسوبة إلى البشر، أخطر من «الحاكمية الإلهية» المنسوبة إلى الله سبحانه، وأخطر من «حاكمية الاستخلاف» التي يختار الله فيها شخص الخليفة ويُسخِّر له قدرات الإنس والجن والطبيعة؟. معتبراً أن هذا السؤال نابع من عدم قدرة الناس على التمييز بين «هدف» الله من الخلق، و«حق» الله في أن يحكم ما خلق ويتحكّم فيه، ويفسر ذلك بقوله: نحن جميعاً مخلوقات الله، والله أولى بنا من أنفسنا وغايته أن يرقى بنا لنكون خلقاً متكافئاً، عقلاً ونفساً، مع الوجود الكوني وحركته: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. (البقرة: الآية 29).
وهذه الآية يأتي من بعدها مباشرة إخبار الله للملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، يظن الناس –بالمنطق البشري المستجيب للذة الحكم والسلطة- أن الله قد خلق الكون ليوجد مملكة يحكمها ورعايا يذلون له رقابهم، وهذا إسقاط بشري ضيق الأفق على علاقة الله بخلقه الكوني، متناسين أن الله سبحانه يكرر دوماً {غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، فهو أحد صمد، قائم بذاته المنزهة والمقدسة والمباركة... ولا يفتقر إلى العباد والجهاد: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (العنكبوت: 6).
فكل ما نأتيه من صالح الأعمال بعونه هو لنا، عائد لنا على طريق ترقيتنا ليمارس الإنسان مهامه الكونية، متكافئاً بين الخلق والحق، وقضى الله أن تكون حاكميته الإلهية المباشرة، ثم حاكمية الاستخلاف، ليصل إلى غايته في الحاكمية البشرية. (ص:72).
ولما كان من الضروري تأسيس هذه الحاكمية البشرية، فقد تساءل الحاج حمد عمن أُسندت له هذه المهمة؟ وما خصائصه؟
فبادر بالإجابة قائلاً: قد أسندها إلى أفضل الخلق جميعاً، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي استصفاه الله عز وجل من كل ذنب، والذي أُوتي السبع المثاني والقرآن العظيم، بمعنى «الخلافة الكونية» المستندة إلى القرآن الكريم كوعي معادل موضوعيًّا للوجود الكوني وحركته. وهو المؤيد بنصر الله له في «الآخرة» تماماً كما في الدنيا بما يعني أن له شأناً هناك في الآخرة خلافاً لشأن الآخرين...، ثم هو «أحمد» اسماً دالًّا على خصائصه «سلطان اسمه» الذي يجمع كل هذه المقومات من الخلافة الكونية «السبع المثاني والقرآن العظيم» وامتثال الأنبياء لنصرته وخاتميته لهم وإماميته للمسلمين، لذلك كان من بينهم هو نبي «الأرض المحرمة» التي اسطصفاها الله لذاته «المنزهة» وبأرقى مرتبة من الأرض «المقدسة» التي تجلَّى الله فيها بصفاته المقدسة وحاكميته الإلهية. إيذاناً بـ«حاكمية الإنسان» باتجاه شرعة التخفيف: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (البقرة: 178). وبخطاب عالمي: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158).(ص: 77-80).
ﷺ
الفصل الرابع: خصائص الحاكمية البشريةاعتبر المؤلف أن حاكمية الإنسان تُؤدِّي إلى بناء الحضارة الكونية بأبعادها الغيبية والإنسانية والطبيعية، بحيث لا يتحوَّل الغيب إلى لاهوت يستلب الإنسان والطبيعة، ولا يتحوَّل الإنسان إلى وجودية عبثية إباحية فردية، ولا تتحوَّل الطبيعة إلى جبرية مادية، فكل يتدامج في جدلية الغيب والإنسان والطبيعة.(ص:86).
إن جوهر الحاكمية البشرية التي أسسها خاتم النبيين، هو التعلّق الغيبي بالله دون معجزات خارقة ودون تسخير للإنس والجن والرياح. هذا التعلّق الغيبي بالله سبحانه هو أخطر مرحلة في تطور علاقة البشرية بالله، حيث يمارس الإنسان مسؤوليته الوجودية بأقصى ما لديه من قدرات الوعي، سمعاً وبصراً وفؤاداً. هنا عليه أن يكتشف «فعل الله» في الوجود والحركة «غيباً» وخلافاً لما كان عليه الأمر في إطار الحاكمية الإلهية وحاكمية الاستخلاف، وأن يتفاعل مع فعل الله الغيبي، وأن يُدرك أبعاده وأن ينفذ إلى «ما ورائياته»، فلا تكون العلاقة بـ«التشريع» –مثلاً- علاقة نصوص، بل علاقة «اكتشاف لما وراء النصوص»، ولا تكون العلاقة بـ«قصص» الأنبياء علاقة مجرد «سير ذاتية»، بل علاقة بما تتضمنه هذه القصص وترمز إليه. ولا تكون العلاقة مع القرآن مجرد ترتيل لفظي، ولكن علاقة استيعاب لهذا الكتاب بوصفه منهجاً للوعي معادلاً موضوعيًّا للوجود الكوني وحركته، فيه ومن خلاله يلج الإنسان آفاق المعرفة الكونية التي تهيئه لممارسة حاكميته في الأرض. (ص: 85).
إن من الخصائص الأخرى للحاكمية البشرية، عدم الأخذ بالمدخل الذي طرقه الأنبياء مع أقوامهم القائم على التسليم بالخوارق الغيبية، وإنما مدخلها هو الانتقال من مدركات النظر والسمع إلى مرحلة الحكمة التي تنفذ عبر الفهم الدقيق للعلاقات بين الأشياء، إلى رؤية فعل الله في حركة الطبيعة والتاريخ فعلاً غير مباشر ولكنه كامل التأثير.(ص: 86).
الحاكمية البشرية، تحرّر البشرية وتخرجها من تسلط أي أحد باسم الحق الإلهي، كما تعطي للإنسان قدرة مستمرة على تجديد الأحكام من خلال تعامل الأجيال القارئة مع القرآن. (ص: 88 وما بعدها).
إن الحاكمية البشرية قائمة على شرعة الرحمة والتخفيف، لا شرعة الإصر والأغلال. حاكمية تتسع فيها دائرة «التصرف البشري» بالقدر الذي تتسع به مدارك الإنسان ومفاهيمه، وتتغير استنباطاته بالقدر الذي تتغير به الأزمنة والأمكنة، وصولاً إلى تأصيل «منهج الهدى ودين الحق». (ص: 100).
ﷺ
الفصل الخامس: أزمة البديل الحضارييؤكد المؤلف أن أزمة البديل الحضاري أزمة عالمية وليست أزمة أوروبية أو عربية، وأن البديل الفلسفي الوحيد لهذه الأزمة هو أن يقفز الإنسان فوق لاهوت الأرض، أي أن يرفض الوسيط المادي بينه وبين الكونية على مستوى التصور. إذاً اكتشاف البديل يتخذ منذ البداية قيمة عالمية، ويجب أن يأتي عالمي الإطار والمحتوى، مستوعباً بالوعي لمقومات العالمية المعاصرة وقادراً على النفاذ فيها والتعامل معها. ولا ندرك مثل هذا الخلاص إلَّا في القرآن، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: الآية 158). فالعالمية مقررة منذ البدء ومهمة القرآن شاملة للعالم كله. (ص: 124 وما بعدها).
إن القول بالبديل القرآني قائم في الأساس على شمولية الكتاب لكل شيء، ومن شأن هذه الشمولية أن تحتوي على عناصر الإجابة عن أسئلة من قبيل: ما هي نظرة القرآن وكيفية تعامله مع المتغيرات الجذرية في عالم الفكر والحياة؟. وإلى أي الحدود يمكن أن يمضي التجديد في طرح القرآن طرحاً جديداً كبديل حضاري أمام البشرية كلها؟ هل تستخلص فلسفيًّا مفاهيمه الأساسية لتأخذ فيما بعد أشكالاً تطبيقية مختلفة على حساب المتغيرات؟ أم يسحب معه خصوصية المجتمع العربي والمجتمعات الإسلامية الأخرى لتطبيقها تطبيقاً حرفيًّا على البشرية جمعاء؟. (ص: 126).
إن دراسة عدد من القضايا القرآنية حول هذه الموضوعات يمكن أن توضح لنا ملامح الإجابات المطلوبة حين نطرح القرآن بديلاً حضاريًّا. وإن الحاكمية البشرية، التي تعود بحذرها التأسيسي إلى عالمية الأميين، هي المدخل للعالمية الشاملة التي تحتوي مناهج المعرفة البشرية المتنوعة وحقول الثقافات المتعددة. (ص: 127).
ولأن في زمن العولمة المشكلات كونية إنسانية تشترك فيها كل الحضارات وإن لم تسهم في التسبب فيها، فإن كل خلاص لا يتم في إطار المجموع العالمي ويتحرك من خلاله سيكون خلاصاً جزئيًّا، ولا يمكن لحلول مشكلات العالم أن تكون جزئية، بل في مستوى كونيتها، ولا ندرك مثل هذا الخلاص إلَّا في الرؤية القرآنية للعالم.
إن الوضع العالمي الراهن لا يمكن أن يتقبل إلَّا حلولاً وبدائل قادرة على تقديم نفسها عالميًّا؛ وفي الوقت نفسه يكون قادراً على استيعاب وتجاوز فلسفات الأرض ومناهجها كافة، وليس هناك مصدر غير القرآن الكريم الهادي للتي هي أقوم يستطيع تحقيق ذلك. فالقرآن الكريم بخصائصه المعرفية والمنهجية يستطيع أن يقوم بالتصديق والمراجعة ثم الهيمنة على سائر المناهج المطروحة، وإعادة صياغتها ضمن منهجه الكوني، ومن ثم القدرة على معالجة مشكلات الوجود الإنساني وأزماته الفكرية والحضارية.
فالعالمية حسب الحاج حمد مقررة منذ البدء، ومهمة الإسلام شاملة للعالم كله {إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}. (ص125).
لقد كان الحاج حمد على وعي بخطورة المشكلات الفكرية التي تترتب عن طرح القرآن الكريم بديلاً حضاريًّا على مستوى العالم، من مثل: أن محاولات التجديد اليوم تواجه مشكلات الفرز المزدوج لعلاقة القرآن ببيئة التنزيل من ناحية، ولعلاقته بالتاريخ الخاص للشعوب الإسلامية من ناحية أخرى.
يوضح الحاج حمد ذلك بقوله: إن هناك «وعياً مفهوميًّا تاريخيًّا خاصًّا» قد أسقط نفسه على نصوص الكتاب، واستلبها لظرفه الخاص، وقيدها به. فإذا كنا نعاني مشكلة الفصل بين فهمين تاريخيين خاصين بالقرآن ضمن سياق تاريخي واحد، ما بين القرن السابع والقرن العشرين، فكيف يكون الأمر حين يطرح القرآن بديلاً على المستوى العالمي؟ فما هو المطلق وما هو النسبي في القرآن؟ أم أن القرآن نفسه يعطي معنى آخر للاستمرارية خارج دائرة المطلق والنسبي؟ وبمعنى آخر أيضاً: ما هي نظرة القرآن وكيفية تعامله مع المتغيرات الجذرية في عالم الفكر والحياة؟ وإلى أي الحدود يمكن أن يمضي التجديد في طرح القرآن طرحاً جديداً كبديل حضاري أمام البشرية كلها؟ هل تستخلص «فلسفيًّا» مفاهيمه الأساسية، لتأخذ فيما بعد أشكالاً تطبيقية مختلفة على حسب المتغيرات؟ أم يسحب معه خصوصية المجتمع العربي والمجتمعات الإسلامية الأخرى لتطبيقها تطبيقاً حرفيًّا على البشرية جمعاء؟.
هذه التساؤلات –حسب الحاج حمد- لا يمكن الإجابة عنها بمحض اجتهاد خاص، إلَّا أن يجد المجتهد في القرآن ما يوضح الإجابة، ويطرح الحلول. فالقول بالبديل القرآني قائم في الأساس عن شمولية الكتاب لكل شيء، فأقلها أن تحتوي هذه الشمولية على عناصر الإجابة عن هذه التساؤلات الصعبة. كيف يمكن إذا طرح القرآن على مستوى الحضارة العالمية الراهنة، وضمن أفقها، ليستطيع أن يقود المسلم أولاً إلى خارج التخلف ثم يقود معه العالم إلى حيث البديل؟. (ص: 126).
يراهن الحاج حمد -حين يضع الإطار العام لحركة البديل، ويطرح مثل تلك التساؤلات- على التوجه إلى القرآن مباشرة، وبنفس الروح التي انفتحنا بها على عصر العلم والعالمية، وغصنا في أشكاله وإشكالياته، بالاعتماد على أسلوب تقديم «النماذج» لا التحليل المتكامل بالكيفية التي قدمنا بها المسألة الآدمية، وإشكالية الروح والأسماء ومفهوم الحاكمية الإلهية وحاكمية الاستخلاف. (ص: 127-128).
ويختم هذا الفصل بالقول: إن الحاكمية البشرية بالمواصفات التي ذكرناها في مطلع هذا الفصل، والتي تعود بجذرها التأسيسي إلى عالمية الأميين، هي المدخل للعالمية الشاملة التي تحتوي مناهج المعرفة البشرية المتنوعة وحقول الثقافات المتعددة، وضمن أقصى متاحات التصرف العقلي والمنهجي الإنساني المستنبط لمنهجية الكتاب والمستدرك لما «ورائيات» كل حكم فيه. فإذا أبطل الإنسان هذا المنهج أبطل حاكميته في الوقت ذاته. (ص: 128).
ﷺ
الفصل السادس: الحاكمية البشرية والخطاب الثلاثيجاء لتأكيد أن الحاكمية البشرية –بحكم بشريتها- تتضمن التفاعل الإنساني مع المجموع البشري دون ادِّعاءات التفضيل والوصايا على الآخرين، فمن طبيعتها أن تلجأ إلى أنواع متعددة من الحوارات مع المجموع الإنساني على ضوء منهجية القرآن الكلية ودون أن تطبق على هذا المجموع الإنساني نموذج دولة لم يِؤسسه خاتم النبيين أصلاً، ودون أن تمثلها ورجوعها إلى فهم قرآني تأسيسي معين. إنها حاكمية بشرية ليس من طبيعتها أن تستمد سلطانها إلَّا من البشر أنفسهم لا من فئة تختار نفسها باسم الله. (ص: 131).
ليستنتج أن ادِّعاء منطق الحاكمية الإلهية بالمعنى الذي تبنته بعض الحركات الدينية، قد شوَّه مفاهيم الدين وأوجد حالة الانفصام ما بين المسلم ودينه من جهة، حين لا يتقبل المسلم حالات التعصب والمغالاة والادعاء والفرقة وإسقاط حقوق الغير، كما أوجد حالة من الانفصام بين المسلم ومجتمعه من جهة أخرى، حين يقبل بهذه المقولات الزائفة على علَّاتها ظنًّا منه أنها من صلب دينه. (ص: 142).
لقد سعى أبو القاسم الحاج حمد من خلال بحثه الحاكمية، إلى تحديد الدلالات المفهومية لمعاني الحاكمية الإلهية، وحاكمية الاستخلاف، والحاكمية البشرية، بالصفة المصطلحية لهذه الكلمات، وبمعزل عن الاستخدام اللفظي العام. والذي كان سبباً -بحسب رأيه- في إرباك الذهنية الإسلامية، مما أدَّى إلى انحرافات عقلية ومسلكية حين ظن البعض أنهم يجسدون «حكم الله» أو أنهم «خلفاء» عن الله في الأرض، فاستباحوا حق كل من يليهم تكفيراً وتجهيلاً. وأن الحاكمية المقصودة في القرآن هي الحاكمية البشرية القائمة على الرحمة والتخفيف.
يناشد الحاج حمد، قادة الحركات الدينية، سواء أكانوا في سدة السلطة، أم كانوا يتطلعون إليها، أن يتبصَّروا من جديد في منهجية القرآن ليكتشفوا أن هذا الدين مستوعب للحالات البشرية المختلفة، وعبر أنواع من الخطاب الإلهي المستجيب للبشرية في تعدديتها الدينية والثقافية وفي أحاديتها في الوقت ذاته. فالخطاب الإلهي للناس هو الخطاب المستجيب للتعددية وللتنوع الثقافي تماماً كاستجابة القرآن لكل مناهج المعرفة وحقول الثقافات البشرية المتنوعة. فهو دين عالمي متنزل على بيئات إنسانية مختلفة، فيه الحد الأدنى من الخطاب وفيه الحد الأعلى. فالإسلام لم يتنزل ليفرق بين الناس ويمزق العلاقات الداخلية للمجتمعات. (ص: 142).
ليختم فصله وكتابه بالقول: إن أولى خطواتنا –بإذن الله- على طريق الهدى ودين الحق، أن نستجيب لأوضاع مجتمعاتنا بمنطق الخطاب الإلهي للناس، الذي يشمل تشريعات الحد الأدنى التي أوضحها الرسول الخاتم في خطبة الوادع، والتي لا تخضع في تحقيق سندها لاجتهادات الرواة، فهي خطبة كانت على الملأ وفي عرفات المبارك، وكانت تنتهي بـ«اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد». ذلك هو الحد الأدنى فيما تستطيع ممارسته «الحاكمية البشرية»، ضمن استيعابها لمنهجية القرآن وقدراتها على حرية التصرف، وضمن تفاعلها مع المجتمعات الراهنة، على أمل الوصول بها تدريجاً إلى التعلّق بكلمات الله التامات، فالدين ليس فلسفة «دوغمائية» لا تستجيب لأوضاع الإنسان، فإن كان علينا أن نتخذ برنامجاً في الظروف الراهنة، فإن الأمر لن يتعدى مضمون خطبة الوداع.
ولكن كيف يدرك هذا المثال دون أن يستدرك المنهج، ودون أن تفهم الكيفية التي خاطب الله بها البشر، متدرجاً من الحالة العائلية إلى الظهور العالمي للدين؟ ودون أن ندرك تنوع الخطاب الإلهي المستجيب لحالات الناس جميعاً؟ ودون أن ندرك موقع الصيرورة والمتغيرات التاريخية والاجتماعية ضمن منهجية المعرفة القرآنية؟ ودون أن نميز بين الحاكمية الإلهية، وحاكمية الاستخلاف، وحاكمية البشر؟ فنفرض أنفسنا أوصياء على الدين وعلى الناس بعصبية دينية تراثية.
إن كل آيات التبشير الإلهي بظهور الإسلام على الدين كله، إنما تشير إلى الإسلام بوصفه منهجاً للهدى ودين الحق، وإلى هذه المنهجية يجب أن تتجه قلوبنا وعقولنا. (ص: 142-143).
وتبقى محاولة الحاج حمد من المحاولات الجادة التي حاولت تخليص مفهوم «الحاكمية» مما علق به من شوائب أثَّرت سلباً في الحياة الفكرية والدينية والسياسية للأمة الإسلامية عامة. كما كانت لها تأثيراتها على علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم التي لا تدين بالإسلام مما فوّت العديد من فرص تجاوز حالة التخلف التي نعيشها.
إجمالاً لقد استطاع الحاج حمد معالجة مفهوم الحاكمية بمنهج علمي رصين، وهذا لا يعني أنه حسم الخلاف حول الموضوع، ذلك أن مفهوم الحاكمية دقيق وحساس، خاصة عند بحث أبعاده السياسية وتطبيقاتها. الأمر الذي يحتاج معه –أي مفهوم الحاكمية- إلى مزيد من البحث والدراسة والمناقشة.
وفي تقديري، إن طرح الكثير من المصطلحات والمفاهيم للحوار والمناقشة والمفاكرة وتفكيك مكوناتها، والقيام بمراجعة لتاريخها وعوامل تشكلها، وتحريرها مما لحق بها من الانغلاق على شخص أو جماعة أو طائفة أو حزب أو زمان أو مكان..، هو السبيل إلى التفاعل والتفاهم وبناء القاعدة الثقافية المشتركة.