(تقرير تركيبي حول ندوة تربوية)
إعداد: حسن علوض*
* مستشار في التوجيه التربوي، باحث في قضايا التربية، الرباط - المغرب.
في إطار الإعداد لامتحانات الكفاءة المهنية 2012، وتحت شعار «التكوين مدخل أساسي لإعادة الاعتبار للمدرسية العمومية وتأمين الحق في الاستفادة من تعليم موفور الجدوى والجاذبية وملائم للحياة»، نظم نسيج الجمعيات صديقة المؤسسات التعليمية، وجمعية أطر الغد لدعم التمدرس والمساعدة على التوجيه، وبتعاون مع المجلس البلدي بالمضيق ونيابة وزارة التربية الوطنية المضيق الفنيدق، يوم الجمعة 7 ديسمبر 2012 بدار الثقافة بمدينة المضيق، ندوة تربوية تضمّنت محاضرتين، الأولى للدكتور مصطفى محسن حول مدرسة المستقبل، والثانية للأستاذ حسن علوض حول آليات تأهيل المؤسسة المدرسية.
ففي المحاضرة الأولى ركز الأستاذ مصطفى محسن، من خلال مدخل عام، على قضية الإصلاح التربوي بالمغرب، في ظل فشل المخططات الاجتماعية والتربوية ومشاريع الإصلاح، وبالتالي الفشل في بناء نظام تربوي – تكويني واضح المعالم والأهداف والتوجهات، فظل التعليم في بلدنا كما وسمته العديد من التقارير الوطنية والدولية (المجلس الأعلى للتعليم، البنك الدولي، اليونسكو...) منذراً بالكثير من المخاوف والمخاطر، في ظل زمن عولمي موسوم بالكثير من التحوُّلات والمستجدات المعرفية والتقنية والقيمية والسوسيوحضارية المختلفة الأبعاد، وخاصة ما يرتبط منها بمجالات التربية والتكوين والتعليم وإعداد البشر، وبالتالي كان لزاماً وضع الاستراتيجيات والبرامج الملائمة لتجاوز هذا الوضع المأزمي والتفكير بجدية فيما ينبغي أن تكون عليه مدرسة المستقبل.ولعل من سمات ومظاهر هذا الوضع المأزمي ما يلي:
- عدم توفرنا على استراتيجية معقلنة ومخططة لمشروعنا التربوي.
- عدم الربط بشكل جدلي ديناميكي وتكاملي شامل ما بين برامج وخطط ومشاريع التنمية والتجديد والإصلاح، وأسس ومقومات ومقاصد النظام التربوي.
- عدم التوفر على فلسفة تربوية واجتماعية واضحة التوجهات والأهداف، تمتلك تصوراً واضحاً للإنسان/ المواطن الذي نريد بناءه من خلال التربية والتكوين.
- سيادة تصورات تمهينية واختزالية تبسيطية لدور المدرسة والجامعة كآليتن لإنتاج الكفاءات المعطلة...
إن هذا الوضع المتدهور للمشهد التربوي، ما هو إلَّا جزء من أزمة بنيوية مركبة شمولية. وانطلاقاً من هذه الملاحظة، يمكن أن نطرح السؤال الجوهري التالي: ما هي التصورات والآليات التي يجب تبنِّيها لبناء مدرسة المستقبل؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، أكد الأستاذ مصطفى محسن على ضرورة التوفر على وعي نظري ومنهجي، بل واجتماعي وحضاري، بأبعاد ودلالات المستقبل كمفهوم عميق، مركب وتاريخي لا يمكن اختزاله فيما سيأتي من أحداث ووقائع... بل إنه الماضي والحاضر والذي سوف يأتي. ليسرد مجموعة من العوامل والتصورات الفكرية والمنهجية، التي يعتبرها أرضية للتفكير في مدرسة المستقبل التي نأمل تأسيسها، وذلك من قبيل:
- الاهتمام بالدراسات المستقبلية، والنظر إلى المستقبل كبعد محوري وكعملية ديناميكية مستمرة في الزمن وفقاً لعوامل التطور السوسيوتاريخي المحدد.
- ضرورة الاستحضار، في كل مشاريع الإصلاح، لأهمية التحولات السريعة لمجتمع المعرفة المعولم، وتأثيراتها، بشكل خاص على مآل أنساق التربية والتعليم والتكوين.
- إعادة تأهيل المدرسة العمومية لتصبح مدرسة وطنية جديدة ومتجددة بالفعل، من خلال تأهيلها تقنيًّا ولوجستيكيًّا، ومدها بجميع الأدوات والوسائل المساعدة على التعليم والتعلم والتكوين... وخلق شراكات مع العالم الخارجي، مع ضرورة مأسسة العمل التربوي، واعتماد الحكامة الجيدة، والمقاربة التشاركية داخل مؤسسات التربية والتكوين.
وبتوفير هذه الشروط المطلوبة لتأهيل مدرسة وطنية جديدة للمستقبل، تصبح المؤسسة التربوية حاضنة بالفعل لـ(حياة مدرسية) حقيقية، وفضاء للتنشئة والتكوين وبناء الشخصية الإنسانية المتكاملة والمتوازنة، ولترسيخ ثقافة الحق والواجب والمواطنة الواعية بمهامها ومسؤولياتها التربوية والاجتماعية. كما تصبح المدرسة، في ظل هذا المناخ السليم، مؤسسة مؤثرة جاذبة، باعثة على الفرح والتفتُّح والمبادرة، وبالتالي مؤسسة لتربية الجودة وجودة التربية، وقاطرة آمنة للتنمية في أبعادها التربوية والثقافية والإنسانية الشاملة المتكاملة.
وقبل اختتام محاضرته القيّمة، أكد الأستاذ مصطفى محسن على أن كل مشروع إصلاحي يجب أن يتَّسم ضرورةً، بسمات، الواقعية والموضوعية والمرونة والقابلية للتطبيق والإنجاز، وتجنّب التعامل الاختزالي واعتماد المنظور الشمولي. وبالتالي فالإصلاح التربوي الذي تتم المراهنة عليه الآن في مجتمعاتنا لمجابهة تحديات العولمة، لا يمكن أن يتحقَّق بالشكل المراد إلَّا إذا اندرج في مشروع إصلاح مجتمعي شمولي واضح الأهداف والمعالم، متعدّد المسارات ومتوازن الواجهات الإصلاحية. كما دعا إلى أن يكون الإصلاح بمثابة «ثورة تربوية واجتماعية هادئة وهادفة». وذلك في ظل ما تعيشه المجتمعات العربية حاليًّا من حراك ثوري ضمن ما يسمى بالربيع العربي.
أما الأستاذ حسن علوض فقد ركّز في محاضرته على إبراز بعض آليات تأهيل المؤسسة المدرسية، وذلك بتأكيده على ضرورة الاهتمام بتقنيات التعليم والتعلّم، من خلال إبراز دور التوجيه والإعلام كآلية لانفتاح المؤسسة وتجدّدها المستمر. فإذا كانت التربية وسيلة المجتمع لتحقيق التنمية البشرية بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية عن طريق المؤسسة التعليمية. فالتوجيه المدرسي والمهني تبعاً لذلك، يصبح الأداة الضرورية لتحقيق هذه التنمية وآلية لانفتاح المؤسسة التربوية على محيطها الاجتماعي وتبادلها معــه، وبالتالي كان من اللازم العناية بالتوجيه بوصفه خدمة تربوية في مؤسساتنا، وكأداة ووسيلة لتأهيل المؤسسة التربوية وإصلاحها.
فالتوجيه، بهذا المعنى يسدي خدمات تربوية وسيكولوجية واجتماعية وإرشادية لها علاقة بحل العديد من المشاكل التربوية المتنوعة. فهناك الخدمة التوافقية المراد منها تحقيق التوافق النفسي والسوسيوتربوي لدى التلاميذ الذين هم في حاجة إلى ذلك. ثم هناك الخدمة التوزيعية التي يقصد بها تصريف التدفقات التلاميذية على أسلاك وشُعب وتكوينات متعدّدة حسب الخريطة التربوية. وأيضاً الخدمة التكيفية التي تستهدف إدماج خدمات ومهام التوجيه في مكونات البنية التربوية. هذا إضافة إلى الخدمتين الاجتماعية والإعلامية اللتين أسهب الباحث في إبراز دورهما التربوي. فالتوجيه يراهن أساساً على تحقيق تصالح الفرد مع محيطه بطريقة إيجابية، بحكم أن مهنيي التوجيه يؤكدون أن أنشطتهم تندرج أساساً في سياق إنساني يتجه نحو الأفراد، وبالتالي نحو تحقيق التنمية البشرية. كما أن التوجيه من الناحية البنائية الوظيفية هو مشروع للحياة في دلالاته السوسيولوجية والسيكولوجية، والذي هو مجموع السيرورات والمراحل التي يقطعها الفرد في إطار نموه الجسمي والفكري والنفسي، وفي علاقاته المتعدّدة بمختلف الفاعلين الاجتماعيين المكونين لبيئة مؤسسات التربية والتكوين والتنشئة الاجتماعية التي يمر بها الفرد ويتفاعل معها. من هنا يصبح التوجيه خدمة اجتماعية تروم التدخل عبر مستويات عدة، ويعتبر التلميذ فرداً منخرطاً في مشروع مستقبلي يستدعي التخطيط والإنجاز والتقويم، مع ضرورة معرفته لذاته ومحيطه، وتحقيق تناغم بين تلك الذات وذلك المحيط، شرط أن يبلور المتعلّم استراتيجية ملائمة للبحث عن إمكانات النجاح في المسارات التعليمية والتكوينية التي سيتم اختيارها.
أما الخدمة الإعلامية في سياق التوجيه فهدفها هو إخبار التلميذ، وتنحية الشكوك والأخطاء المتعلقة بالمحتويات الضرورية لبناء قرارات مستقلة وواعية ومحفزة. وبالتالي يصبح الإعلام بأبعاده المدرسية والمهنية –حسب الأستاذ المحاضر– من الأركان الأساسية للحياة المدرسية والمنهاج الدراسي، وله فوائد تربوية ونفسية واجتماعية.
وفي ختام مداخلته، أكد الأستاذ حسن علوض أن الهدف من الاهتمام بهذه الجوانب التربوية وغيرها، هو العمل على خلق مدرسة وطنية جديدة ومتجددة، قادرة على تشكيل فضاء لبناء الإنسان المواطن المنشود وقاطرة آمنة لإكساب مجتمعاتنا أهلية وجدارة الانتماء إلى مجتمع المعرفة، علماً أن عملية إنتاج هذه المعرفة واستخدامها بل وتسويقها، تعتبر مسألة جوهرية بالنسبة للتنمية والتقدّم واللحاق بركب المجتمعات المتقدمة، والحد من الفجوة الرقمية التي تفصلنا عن هذه المجتمعات سواء في النفاذ إلى هذه المعرفة، أو استيعابها وتوظيفها وتوليد معرفة جديدة.
وبعد المحاضرتين فُتح باب النقاش، الذي انصبَّ حول مجموعة من القضايا التربوية، ذات العلاقة بإشكالية تأهيل المؤسسة المدرسية في ظل تفاقم مجموعة من العوائق المشكلات والعراقيل والتوعكّات في مجال التربية والتكوين في بلادنا، لم تنفع معها مجموعة من التدابير والإجراءات وأساليب الإنقاذ والتقويم والتصحيح آخرها البرنامج الاستعجالي، والتي فشلت وأبانت عن عدم قدرتها، فكراً وممارسة عملية، على إعادة تفعيل النظم التربوية القائمة، وانتشالها من أزمتها، وتجديدها، وتحديثها، وتوجيهها لتحقيق أهداف تنموية واضحة تستجيب لتطلعاتنا المشروعة في ظل لحظة حضارية مُتَّسمة ومُتميزة بتطوُّر أنساق القيم والمعرفة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في سياق عولمة سريعة ومتغلغلة في مفاصل الحياة الفردية والجماعية كونيُّا ومحليًّا.