ابن طفيل والدلالات الفلسفية لقصة حي بن يقظان
وأثرها في الفكر الإنساني
الدكتور غيضان السيد علي*
* مدرس الفلسفة الحديثة بكلية الآداب، جامعة بني سويف، مصر.
ﷺ تمهيد
تعدّ قصة «حي بن يقظان» قصة رمزية فلسفية تفترض نمو العقل الموحّد منذ بداية خلقه حتى وصولة إلى معرفة الله معرفة أتم، حيث تَعْرَّضَ ابن طفيل لمشكلة التوفيق بين الفلسفة والدين، وبيَّن لنا أن ما وصل إليه «حي بن يقظان» بالنظر العقلي والتأمّل، لا يخالف الدين الموحى به.
ويعدّ ابن طفيل أول فيلسوف إسلامي صبَّ خلاصة فلسفته كلها في قالب قصصي، وجعل بطل قصته شخصًا متوحّدًا يكوّن نفسه وأفكاره بالاحتكاك بالطبيعة وبالكائنات التي هي أقل منه درجات من جماد ونبات وحيوان، إلى أن يصل لنقطة الإدراك والاتصال، فهذه القصة الرمزية تعدّ بحق نوعًا من الفانتازيا العقلية التي قَلَّدَها ونسج على منوالها كثيرون من كتاب الإفرنج ومفكريهم.
فهي باختصار شديد تقدّم حالة جديدة منفردة، تتحدّث عن طوباوية فردية، ولا تتحدّث عن نظام اجتماعي، وهي تعرض حياة طفل إنساني عاش منفردًا واستطاع بعد جهد وتأمّل أن يصل إلى حياة مثالية تعتمد على الذكاء والعقل، كما تعتمد على الاكتفاء الذاتي.
ولذلك تعدّ هذه القصة الفلسفية الرمزية بمثابة ظاهرة فريدة في الفكر العربي، حيث عرض صاحبها مذهبه الفلسفي في قصة شائقة يمكن اعتبارها نسقًا فلسفيًّا متكاملًا، ومذهبًا فكريًّا تامًّا، وهو ما أراد هذا البحث أن يُثبته معتمدًا على مناهج التحليل والمقارنة والنقد، كما يعدّ بناؤها الروائي محكمًا يبدو فيه ابن طفيل متمكّنًا من فن السرد والوصف والتشويق، حتى يمكننا اعتباره سابقًا لعصره بل سابقًا للعالم كلّه إلى فن الرواية الحديثة.
ﷺ حياة ابن طفيل
هو أبوبكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي، المشهور بابن طفيل، وينسب أيضًا فيقال: الأندلسي، والقرطبي، والإشبيلي، ويكنَّى أحيانًا –وهو الأقل- أبا جعفر. ولد في وادي آش على مسافة 53 كيلو مترًا من قرطبة، ولا نعرف تاريخ ميلاده على وجه التحديد، فبينما يرى البعض أنه ولد نحو عام 500 هجرية[1]، يرجّح البعض الآخر أنه ولد في عام 506هـ[2]. ولذلك يمكننا القول: إنه ولد في السنوات العشر الأولى من القرن السادس الهجري.
ولا نعرف أيضًا شيوخه ولا أين تلقّى العلم، غير أن مراكز العلم في ذلك الوقت كانت على الأخص قرطبة وإشبيلية، وإن كان البعض قد أشار إلى أنه تتلمذ على يد ابن باجة، غير أن ابن طفيل نفسه يُنكر ذلك؛ إذ ذكر صراحة في «حي بن يقظان» وهو يُشير إلى ابن باجة: «فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل -ابن باجة- ونحن لم نلقَ شخصه»[3].
وهذا دليل قاطع على أنه لم يتلقَّ العلم على يدي ابن باجة، إلَّا أنه بغير شك قد تأثّر به من الناحية الفلسفية تأثُّرًا بارزًا، وفي الحقيقة لم يكن حي بن يقظان سوى الامتداد المتطوّر لمتوحّد ابن باجة. فقد ذهب ابن باجة في كتابه «تدبير المتوحّد» إلى أن الإنسان مدني بطبعه، ولا حياة له بغير المجتمع، إلَّا أن المجتمع مليء بالشرور، فلا سبيل للفيلسوف الذي يريد أن يصل إلى الحقيقة غير الابتعاد عن الناس، ولكنها ليست دعوة إلى عزلة مطلقة بل عزلة اختيارية، ومن هنا ذهب ابن باجة إلى أن الإنسان مدني بالطبع، ولكنه متوحّد بالعرض، فيقول: «على المتوحّد... أن يعتزل الناس جملة ما أمكنه فلا يلابسهم إلَّا في الأمور الضرورية»[4].
وجاء ابن طفيل ليعبّر عن هذه العزلة الاختيارية في اختيار «حي بن يقظان» أن يعتزل الناس في جزيرة منفردة، يعبد الله مع صديقه «أبسال» حتى يصلا إلى حالة السعادة المنشودة.
ولا بد أن ابن طفيل قد درس العلوم الدينية، والفقه بخاصة؛ لأن تلميذه البطروجي يذكر أن ابن طفيل كان قاضيًا، وكذلك درس العلوم العقلية والطب، وقد مارس مهنة الطب في غرناطة زمنًا، واشتغل كاتبًا لعامل غرناطة وحاكم ولاية طنجة، كما كان طبيبًا لأحد خلفاء دولة الموحّدين وهو أبو يعقوب يوسف.
وقد نال ابن طفيل عند هذا الخليفة مكانة كبيرة، فلقد كان من أكثر العلماء حظوةً لديه، حيث كان يقيم بقصر الخليفة أيامًا ليلًا ونهارًا حتى أصبح صديقه المقرّب وكاتم أسراره وطبيبه الخاص ووزيره.
ولعل ممّا ساعد ابن طفيل على أن تكون له تلك المكانة الخاصة أن كلاهما ينتسب إلى قبيلة قيس، وصلة الدم لها مكانتها عند العرب، كذلك كان هذا الخليفة يمثّل نمطًا من الحكام الذين يميلون للعلم والدين، إذ تُخبرنا كُتب التراجم بأنه كان يجمع بين أمرين: الفقه في الدين والورع من ناحية، والطموح إلى تعلّم الحكمة والفلسفة من ناحية أخرى.
أي إنه كان هناك تقارب بينهما في المزاج الفكري، فلقد كان كل منهما أديبًا محبًّا للعلم وأهله، محبًّا للفلسفة والمشتغلين بها، فقد اشتهر عن هذا الخليفة أنه كان حريصًا على أن يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب، ويبحث أيضًا عن العلماء، حتى كان لديه بالبلاط مجموعة كبيرة من العلماء، لم تجتمع لمن قبله ممّن ملك المغرب. وكان من مهام ابن طفيل أيضًا جلب العلماء إلى قصر الخليفة، فهو الذي نبَّه الخليفة إلى ابن رشد أعظم فلاسفة العرب.
وظل ابن طفيل في بلاط السلطان أبي يعقوب يوسف متمتعًا بمكانته الخاصة إلى أن كبر سنّه فتخلّى عن وظيفة الطب لخلفه ابن رشد، وتوفّي ابن طفيل في سنة (581هـ - 1185م) في مدينة مراكش، ودفن هناك، واشترك السلطان أبو يوسف في تشييع جنازته[5].
مؤلفاته
ينسب المؤرخون لابن طفيل مؤلفات في مختلّف الموضوعات والمجالات العلمية، كما يشار إلى أهميتها العلمية، ومن تلك الكتب التي تنسب إلى ابن طفيل، كتاب «أسرار الحكمة المشرقية» و رسائل «في النفس» وفي بعض النواحي الفلسفية الأخرى، وله كتابان في الطب، والرسائل الهامة المتبادلة بينه وبين ابن رشد التي تناولت كثيرًا من المشاكل الفلسفية والعلمية؛ حيث ذكر المراكشي أنه قد رأى عدة رسائل في الفلسفة، وعلى وجه الخصوص يذكر «رسالة في النفس» مكتوبة بخط ابن طفيل نفسه، وذكر ابن رشد أن ابن طفيل له في الفلك نظريات فاخرة، كما ذكر أبو إسحق البطروجي في إحدى رسائله في الفلك أنه رأى لأستاذه ابن طفيل نظريات فلكية يصح أن تحل محل نظريات بطليموس[6].
وليس هذا بالأمر المستبعد فإلمام ابن طفيل بعلوم الفلك أمر بيِّن لمن يقرأ قصة «حي بن يقظان»، كذلك إلمامه بالطب والجغرافيا وعلم النفس، إلَّا أنه لم يصلنا من علم الرجل غير قصته «حي بن يقظان» فهي الأثر الوحيد الذى كتب لصاحبه الخلود في تاريخ الثقافة العربية والعالمية.
ﷺ أولًا: ملخص القصة
تجري أحداث القصة على جزيرتين، الأولى يسكنها مجتمع إنساني تقليدي تسود فيه الشهوات والنزعات الدُّنيا، وأهله يحاكون الحقائق بأمثلة الخيال، واعتقادهم الديني سطحي ساذج، فهم يقبلون ظاهر النصوص بمدلولاتها الحسية.
وقد جاء القرآن الكريم على هذه الصورة لكي يخاطب هؤلاء العامة الذين يرفضون جميع صور التأمّل العقلي، ويعزفون عن التعمّق واستبطان النصوص وتأويلها. وإن كان يوجد بهذه الجزيرة طبقة معرفية أعلى من طبقة العامة وهم أصحاب «أبسال» الذي قال عنهم لـ«حي بن يقظان»: إن تلك الطائفة هم أقرب إلى الفهم والذكاء من جميع الناس، وإنه إن عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور أعجز.
وقد ظهر في هذه الجزيرة فتيان أحدهما سلامان والآخر أبسال، تميّزا عن أهل الجزيرة بالفضل وسمو النظر العقلي وبتغلّبهما على الشهوات، وكان الأول ذا نزعة علمية فنجده يساير العامة ويقبل دينهم في الظاهر ولا يلبث أن يسيطر عليهم.
أما الثاني فإنه ينزع نزعة عقلية تأمّلية فيعتزل مجتمع الجزيرة، ويولّي وجهه نحو جزيرة مجاورة يظن أنها فقر من السكان. وهذه هي الجزيرة الثانية التي تجري عليها أحداث القصة، في هذه الجزيرة يسكن «حي بن يقظان»، وهو قد نشأ في هذه الجزيرة وترعرع على الفطرة، وقد يكون قد أُلقي به في اليم طفلًا فاستقر على الجزيرة، أو قد يكون قد تولّد طبيعيًّا من العناصر الطبيعية، وقد تكفّلت به ظبية فأرضعته، وهذه إشارة إلى التكافل الموجود بين الكائنات من نبات وحيوان وإنسان.
ثم أخذ يتدرّج في مدارج المعرفة، فتعلّم بنفسه كيف يكفي حاجاته المادية، وكيف يستطيع أن يقوم بتوفير حاجاته الضرورية التي بها قوام حياته، من غذاء وملبس ومسكن. وقد كافح «حي» حتى خرج من الطور الحيواني الأول، ثم انبعث لديه شعور ديني مصدره التعجّب من اكتشافه للنار. وهو يمضي في حياته البريئة من المادة فيرعى النبات والحيوان ويُعنى بنظافة جسمه وملبسه ويحاول تصحيح حركاته، ويقتصر في أكله على ما يقيم الأود فلا يسرف في الغذاء أو في أكل اللحوم، وعن طريق التأمّل والملاحظة يعرف حقائق الحياة، ويعرف أهمية النار ويستخدم يديه في صنع ما يحتاج إليه.
ينطلق إذن من ذكائه الفطري في التأمّل والملاحظة والتفكير إلى أن استطاع أن يدرك بعقله أرفع حقائق الطبيعة ويكتشف أخص قوانينها، ثم ينتقل إلى البحث عن الأسباب البعيدة فأخذ يفكّر في أسرار السماء ويتشوّق لمعرفة مكنونات ما وراء الطبيعة. فيعتزل الحياة في مغارة يعيش فيها أربعين يومًا زاهدًا في الطعام فترتقي نفسه، ويهتدي إلى ما اهتدى إليه الفلاسفة الإشراقيون.
فيحاول «حي» أن يصل إلى الاتحاد الوثيق بالله، هذا الاتحاد هو السعادة القصوى والغبطة العظمى، ولقد سلك «حي» في سبيل الاتصال بالله طريق التأمّل والنظر العقلي، فانقطع عن عالم الجزيرة، ودخل مغارة وصام أربعين يومًا متتالية، وانقطع عن عالم المحسوسات، وما يصله به، واجتهد في فصل عقله عن العالم الخارجي المحسوس، وحتى عن جسده، وتفرّغ للتأمّل العقلي المطلق في الله، لكي يصل إلى الاتصال به.
مر «حي» خلال هذه الرحلة نحو الاتصال بالله بسبعة مراحل كل منها سبع سنين يصل في نهايتها إلى حالة الفناء فيصير عقلًا خالصًا فتصبح روحه مرتبطة بالعالم العلوي، وتكون غايته أن يلتمس الواحد في كل شيء، وأن يشهد الحضرة الإلهية، فيرى الطبيعة كلها تنزع إليه ويرى التجلّي الإلهي شاملًا، ويكون عمره قد أشرف على الخمسين.
وحينذاك يحدث اللقاء بينه وبين «أبسال» الذي هجر الجزيرة الأولى ليعتكف في الثانية زاهدًا في الدنيا وفي مجتمع الناس، وقد كان تفاهمهما صعبًا في بداية الأمر، حيث فرّ «أبسال»[7] من «حي» مذعورًا، ولحق به «حي» تحت دوافعه الفطرية للاستطلاع ومعرفة كنه هذا المخلوق الغريب الذي ظهر فجأة على جزيرته، كما كانت دوافع «حي» أقوى لمعرفة تلك اللغة التي يتكلّمها ومعرفة سرّ بكائه وتضرّعه في صلاته.
ومع إدراك «أبسال» أن «حيًّا» ليس حيوانًا متوحشًا ولا ينوي إيقاع الضرر به اطمأن إليه، وعلّمه الكلام وحقيقة الشريعة التي أوحى بها الله سبحانه وتعالى إلى البشر عن طريق الأنبياء، ولقد اكتشفا أن العقيدة الدينية السائدة في مجتمع الجزيرة الأولى قد انتهى إليها «حي» وعرفها بدقة أكثر كمالًا بهداية العقل الفعّال.
وعرف أبسال أن العقيدة الدينية ما هي إلَّا رمز للحقيقة الروحية المحجوبة عن البشر بسبب تعلّقهم بالعالم المادي المحسوس وعاداتهم الاجتماعية، وإنه لكي تنكشف جوانب الحقيقة يجب استخدام منهج التأويل الرمزي، فالعقيدة ظاهر وباطن ولكنها في حقيقة أمرها شيء واحد يفهمه العامة على مستوى حياتهم المادية وإدراكاتهم المشوبة بالخيال، ويفهمه الخاصة أو المتوحدون على مستوى الكمال العقلي بحسب إدراكاتهم.
وتمضي القصة فنجد «حي» يصحب أبسال في رحلة إلى الجزيرة المجاورة لكي يُخرج أهلها من حالة الجهل ويعلّمهم أسرار الحقيقة. ولكن «حي» لاحظ أنه كلما أمعن في شرحه الفلسفي ازداد نفور الناس منه فجعلوا ينقبضون منه وتشمئز نفوسهم ممّا يأتي به، ويتسخّطونه في قلوبهم، وإن أظهروا له الرضا في وجهه إكرامًا لغربته فيهم، ومراعاة لحق صاحبهم «أبسال».
فاضطر إلى الرحيل هو و«أبسال» عن الجزيرة عائدين إلى جزيرتهما الخالية، لكي يعتكفا لعبادة الله عبادة روحية خالصة حتى يدركهما الموت. وقد أدركا بالتجربة أن مجتمع البشر لا أمل في شفائه من الجهل والسطحية، وأن الحقيقة لا يقوى على طلبها وإدراكها سوى قلّة من المتوحدين ممّن له قوة الإرادة والقدرة على التخلّي عن مطالب البدن وحاجات الدنيا.
لقد اتّضح لهما إذن أن العامة لا قدرة لها على إدراك الحقيقة الخالصة، وإنها لم تخلق للعوام؛ إذ إنهم مكبّلون بأغلال الحواس، وعرفا أن الإنسان إذا أراد أن يصل إلى التأثير في تلك الأفهام الغليظة التي أثقلها الحس، وأن يؤثّر في تلك الإرادة المستعصية، فلا مفرّ من أن يصوغ آراءه في قوالب الأديان المنزلة.
كما انتهى إلى أن الأنبياء A كانوا على حق حينما عرضوا على العوام الحقائق الدينية في صورة أمثال حسية ولم يجهروا لهم بالمكاشفات النورانية الكاملة، تلك التي لا يدركها سوى قلّة من المتوحدين، أي الفلاسفة[8].
ويطرح ابن طفيل في هذه القصة تساؤلات حول الحق الذي لا جمجمة فيه، وعن الحقيقة الخالصة وما هي الطريق الأنسب لبلوغها؟ وهل هي طريق أهل النظر أي الفلاسفة أم طريق أهل الولاية أي المتصوفة؟ وما هي حقيقة مصير الإنسان، من هو؟ ومن أين أتى؟ وما شأنه في الحياة؟ وما الغاية من وجوده؟ وما مصيره؟ وكيفية الوصول إلى السعادة؟ وكيفية التعرّف إلى الخالق ذاته وصفاته؟
وهي قصة في مجملها حاملة لأفكار ابن طفيل الفلسفية. ويمكن تقسيم هذه القصة إلى ثماني مراحل: المرحلة الأولى تشمل ولادة حي، والمرحلة الثانية يكتشف حقيقة الروح بموت الظبية، ويعرف أن القلب هو مصدر الروح، والعضو الأساسي للحياة، وتجيء المرحلة الثالثة باكتشاف النار فيعرف الحرارة وفائدتها، وفي المرحلة الرابعة يعرف قانون السببية ويتأكّد أن كل ما في الكون يخضع لهذا القانون، ويرتفع في المرحلة الخامسة إلى اكتشاف وحدة الكون؛ إذ تشترك الكائنات في وحدة واحدة، ثم تتميّز فيما بينها بمميّزات إضافية تبعًا لمرتبتها.
وفي المرحلة السادسة يصل إلى معرفة صانع الكون، ويفكّر في المرحلة السابعة في ذات الله وصفاته ويسعى إلى التشبّه به عن طريق التسامي والاتصال. وفي المرحلة الثامنة والأخيرة يلتقي بـ«أبسال» ويعلّمه الكلام، ويتّفقان على أن الحياة الحقة في العزلة للتفكر والعبادة حتى يلحق بدرب السعداء[9].
ﷺ ثانيًا: الدلالات الفلسفية لقصة «حي بن يقظان»
قبل عرض تلك الدلالات الفلسفية التي بسطها ابن طفيل في رسالته «حي بن يقظان» نرى أنه من الضروري الإجابة عن سؤال مُلِحّ تضاربت فيه أقوال وآراء الباحثين، فأردنا أن نقف عليه وقفة جادّة لعلها تحسم ذلك الجدال حول مقصود ابن طفيل من تدوين هذه القصة بهذا الشكل.
مقصود ابن طفيل وغايته من قصته
رأي الدكتور محمد غلاب أن غاية ابن طفيل من هذه القصة لم تكن –كما فهم عبدالواحد المراكشي- محاولة عرض كيفية بدء الخلق أو بيان أصل النوع الإنساني فيما يرى الفلاسفة، وإنما غايته الأساسية هي إيضاح رأيه في كيفية المعرفة، وهو يتلخّص في أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقائق ولو كان قد نشأ في عزلة تامّة، ولم يتلقَّ أية ثقافة خارجية، ولم يحتمل أقل أثر من غيره إلَّا أثر العقل الفعّال الذي ينير عقله، وكذلك يستطيع أن يدرك هذه الحقائق ويتذوّقها إذا لقّنه غيره إياها، ولكن على شرط أن يكون هذا الإنسان من الخاصة الذين منحتهم السماء موهبة فلسفية كحي بن يقظان بطل رواية فيلسوفنا الذي أدركها وحده، وكصديقه «أبسال» الذي أدركها أولًا بوساطة الدين، ثم بوساطة «حي»؛ وذلك لأن العامة ليس لديهم الاستعداد لإدراك هذه الحقائق، ولأن المجهود الذي يبذل في تهذيبهم يذهب عبثًا كما ذهب مجهود «حي» وصاحبه في تهذيب أهل الجزيرة الأخرى[10].
في حين قرّر أحد الباحثين أن ابن طفيل أراد أن يستكمل ما بدأه سلفه الفيلسوف الأندلسي أبو بكر بن الصائغ المشهور بـ«ابن باجة» عن المتوحد وتدبيره، فيقول: «وفي تقديري أن حي بن يقظان لابن طفيل هو التجسيد المتطوّر لمتوحد ابن باجة في مرحلة جديدة هي مرحلة دولة الموحدين حيث الازدهار والاستقرار والنضج العقلي»[11]، ويشاركه هذا الرأي محمد لطفي جمعه الذي ذهب إلى القول بأن غرض ابن طفيل من كتابه حي بن يقظان هو أنه أراد أن يحلّ معضلة كبرى شغلت حكماء وقته وهي علاقة النفس البشرية بالعقل الأول[12] أو ما يعرف في تاريخ الفلسفة الإسلامية بمشكلة الاتصال.
بينما نزع البعض إلى القول بأن قصد ابن طفيل من قصته هو استعراض أحوال الإنسان لو لم ينزل عليه الوحي، وكيف أنه يستطيع وحده بدون مساعدة من أحد باستثناء العقل السليم أن يصل إلى حقائق الوحي وأصول العقيدة[13].
كما آثر أحد الباحثين القول: إن ابن طفيل «كتب هذه القصة من أجل تحقيق هذه الغاية، ألا وهي عرض أسرار الحكمة المشرقية»[14]، بينما يرى الغالبية العظمى من الباحثين[15] أنه يقصد بهذه القصة بيان التطابق بين العقل والنقل، أي بين الحكمة والشريعة، ويحاول أن يبيّن للجميع درء تعارض العقل والنقل، وأن صريح المعقول لا يعارض أبدًا صحيح المنقول، ومن ثم فلا تعارض بين الدين والفلسفة؛ حيث إنهما يعبّران عن حقيقة واحدة، الدين يصورها بصورة حسية، والعقل يكتشفها ويصوغها في قالب عقلي.
في حين تؤكّد هذه الدراسة أن مقصود ابن طفيل من هذه القصة هو تضمينها خلاصة آرائه الفلسفية، فهو لم يقدّم حلًّا لمشكلة واحدة ولا ابتغى معالجة إشكالية فلسفية بعينها «وإنما يقدّم نسقًا فلسفيًّا كاملًا يكاد يعالج فيه أهم القضايا الفلسفية في الفكر العربي الإسلامي»[16].
وأنه لما كان أسلافه من علماء الأندلس لم يعنوا بالآراء الفلسفية في الطبيعيات والإلهيات؛ حيث اشتغل فريق منهم بالعلوم المحفوظة من شرعية ولغوية، ويئس فريق آخر من النظر في الفلسفة ومعارفها يأسًا تامًّا؛ لأنها لا ترمي -في نظرهم- إلَّا إلى أحد شيئين: حقيقة متعذّرة التحصيل، وباطل غير مفيد.
أما معاصرو ابن طفيل فرأى أنهم ناشئون في الفلسفة ولم يقطعوا فيها بعدُ شوطًا يستحق الذكر، فصمّم أن يتكفّل هو بسد هذه الثغرة فألّف هذه الرسالة وبسط فيها كل آرائه الفلسفية. وهو الأمر الذي يستشعره القارئ لأول وهلة من التفاصيل العميقة حول كل قضية يتمّ عرضها، ولم يكن العرض القصصي بحاجة إليها من حيث الحبكة أو التشويق، مثل نزعته النقدية البارزة للسابقين من أمثال الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة. أو في بيان كيفية علم حي بن يقظان أن كل حادث له محدث وقيام الأدلة على وجود الله، وفي نظر حي بن يقظان في الشمس والقمر والكواكب وبقية الأجرام، وفي أن كمال الذات ولذتها إنما هو بمشاهدة واجب الوجود، وفي النزعة الإنسانية البارزة التي ترى أن الإنسان نوع كسائر أنواع الحيوان ولكنه إنما خلق لغاية أخرى، كذلك تفصيلاته في القول في أن السعادة والفوز من الشقاء إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود دائم الوجود، أو ما بسطه في الجزء الأخير من رسالته حول الفناء والوصول، وغيرها من الدلالات الفلسفية التي جاءت بصورة كاملة وموجزة في الآن نفسه.
أما لماذا اختار ابن طفيل هذا الشكل القصصي لتقديم فلسفته؟ فالسبب ظاهر للعيان وهو الهروب من تلك المواجهة السافرة مع فقهاء عصره، وأن يتفادى مصير من اشتغلوا بالفلسفة بعد تلك الحملة الشعواء التي قام بها الغزالي في المشرق العربي ولم يسلم منها المشتغلون بالفلسفة في المغرب العربي، وما مصير ابن باجة الذي مات مسمومًا من ابن طفيل ببعيد، أو نكبة ابن رشد الذي جاء بعد ابن طفيل مباشرة بخافية على أحد.
ولذلك عمل ابن طفيل على أن يُضَمِّنَ روايته كل آرائه الفلسفية من خلال تقنية روائية تتّسم بالبساطة والجرأة من خلال فضاء روائي واسع يعطي الحرية في سرد التفاصيل الخاصة بمذهبه الفلسفي، وهذه الدلالات الفلسفية هي ما نعرض له فيما يلي:
1- النزعة النقدية
فطن ابن طفيل منذ البداية إلى أنه لا يمكن أن يكون هناك مفكّر أصيل بدون موقف نقدي، فالموقف النقدي هو بمثابة نقطة الانطلاق، بل ويمكن وصفه بأنه ذلك الموقف الذي يرى ضرورة مناقشة المعلومات كلها، ويرى أنه ليست ثمة معرفة مقبولة إلَّا بعد فحص وتمحيص، فالنظرة النقدية تكون دائمًا الحافز والدافع للباحث لسبر غور موضوعه، ولولا النظرة النقدية للظواهر الكونية ولفكر السابقين لما وجد لدى الباحثين والعلماء والمفكّرين موضوعات للبحث والدراسة ولأصبح الإنسان تابعًا لا مبدعًا، مقلّدًا لا مجدّدًا، وبدون هذه النظرة أيضًا تموت روح الابتكار والإبداع.
ولذلك نجد أن أول ما يمكننا ملاحظته عند قراءة قصته هي تلك النزعة النقدية التي تميّز بها ابن طفيل؛ حيث إنه قام بنقد كل من الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة، وكان نقده لهم منطلقًا من التزام ابن طفيل في تفلسفه بخصائص وشروط الموقف الفلسفي.
ومن أبرز ما تميّز بها النقد عند ابن طفيل هو إظهاره للغثّ والسمين معًا في المذهب الذي يتناوله، فلا يكتفي بذكر العيوب أو المزايا وإنما عُني بذكر العيوب والمزايا معًا.
فأما الفارابي فقد رأى ابن طفيل أن أكثر ما وصل بلاد الأندلس من كتب الفارابي في المنطق، أما ما ورد منها في الفلسفة فهي كثيرة الشكوك، بها العديد من أوجه التناقض والتي من أبرزها موقفه من المعاد وخلود النفس، حيث إنه أثبت في كتاب «الملة الفاضلة» بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها بقاءً لا نهاية له، ثم صرَّح في كتاب «السياسة المدنية» بأنها منحلة وصائرة إلى العدم وأنه لا بقاء إلَّا للنفوس الفاضلة الكاملة.
ثم وصف في شرح «كتاب الأخلاق» شيئًا من أمر السعادة الإنسانية، وأنها إنما تكون في هذه الحياة وفي هذه الدار؛ ثم قال عقب ذلك كلامًا هذا معناه: «وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز».
وهكذا يكون الفارابي في نظر ابن طفيل قد أيأس الناس جميعًا من رحمة الله تعالى، وصيّر الفاضل والشرير في رتبة واحدة؛ إذ جعل مصير الكل إلى العدم؛ وهذه زلّة لا تُقال، وعثرة ليس بعدها جبر. وهذا ما صرّح به من سوء معتقده في النبوة، وأنه بزعمه للقوة الخيالية، وتفضيله الفلسفة عليها إلى أشياء ليس بنا حاجة إلى إيرادها[17]. ولكنه بالرغم من ذلك ينزله منزلة عظمى ويرى أنه من أنبغ فلاسفة الإسلام في المشرق؛ ولذلك يستشهد بالعديد من كتبه.
أما الشيخ الرئيس ابن سينا فيرى ابن طفيل أن كتابه المسمى «الشفاء» قد سار فيه على درب أرسطو وعلى مذهب المشائين، ولكن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بكتاب «الفلسفة المشرقية». أي إن ابن سينا قد اتّفق ظاهريًّا مع أرسطو واختلف باطنيًّا، فيقول ابن طفيل: «ومن عُني بقراءة كتاب الشفاء وبقراءة كتب أرسطوطاليس، ظهر له أكثر الأمور أنها تتّفق، وإن كان في كتاب الشفاء أشياء لم تبلغ إلينا عن أرسطو. وإذا أخذ جميع ما تعطيه كتب أرسطو وكتاب الشفاء على ظاهره دون أن يتفطن لسره وباطنه، لم يوصل به إلى الكمال حسبما نبَّه عليه الشيخ أبو علي في كتاب الشفاء»[18].
أما ما يتعلّق بأبي حامد الغزالي فقد رماه ابن طفيل بالتلوّن والذبذبة بين الخاصة والعامة يظهر لأولئك ما يخفيه أمام هؤلاء؛ فهو عند ابن طفيل بحسب مخاطبته للجمهور، يربط في موضع، ويحل في موضع، ويكفر بأشياء ثم ينتحلها، ثم إنه من جملة ما كفّر به الفلاسفة في كتاب (التهافت) إنكارهم لحشر الأجساد، وإثباتهم الثواب والعقاب للنفوس خاصة.
ثم قال في أول كتاب «الميزان»: إن هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع، وغير ذلك من العثرات التي لا تقال من اتّصاف الموجود العظيم بصفة تنافي الوحدانية المحضة... تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
وقد حاول الغزالي أن يخرج من هذا المآزق بزعمه أن هذه الآراء قد تمّ فهمها بطريقة خاطئة حيث إنها لم تكتب للعامة وإنما هي كتابات مضنون بها على العامة، ولكن ابن طفيل يقرّر أن كتبه المضنون بها هذه لم تصل إليه... ولكنه مع ذلك يجلّ الشيخ الغزالي ويرى أنه ممّن سعد السعادة القصوى، ووصل تلك المواصل الشريفة المقدّسة، لكن كتبه المضنون بها المشتملة على علم المكاشفة لم تصل إلينا[19].
وعندما يتحدّث عن ابن باجة، فيرى أنه لم يكن في أهل الأندلس من هو أثقب منه ذهنًا، ولا أصحّ نظرًا، ولا أصدق رؤية غير أنه شغلته الدنيا، حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه، وبثّ خفايا حكمته، وأكثر ما يوجد له من التآليف فإنما هي غير كاملة ومجزومة من أواخرها، ويذكر من مؤلفاته «كتاب النفس» و«تدبير المتوحد» و«رسالة الاتصال»، ويرى أن المعنى المقصود برهانه في رسالة الاتصال ليس يعطيه ذلك القول عطاءً بيّنًا إلَّا بعد عسر واستكراه شديد، وإن ترتيب عباراته في بعض المواضع على غير الطريق الأكمل، ولو اتّسع له الوقت لمال إلى تبديلها[20].
ولذلك يرى ابن طفيل أن ابن باجة كان من الممكن أن يقوم بسدّ الثغرة في الاهتمام بالعلوم الفلسفية نظرًا لنبوغه العقلي لو لم تعترضه العقبات القاسية التي إحداها أنه اتّقي شر الجمهور، فلم يخض في الفلسفة صراحة، وثانيتها أنه اشتغل بالماديات فألهته عن التفرّغ للعلم، وحالت أطماعه في الثروة بينه وبين الإتقان، وثالثتها أن المنية قد عاجلته قبل ظهور خزائن علمه.
2- أنطولوجيا العالم الفيزيقي
عالج ابن طفيل العالم من الناحية الفيزيقية والناحية الميتافيزيقية؛ فإذا نظرنا إلى العالم عند ابن طفيل سنجده مقسّمًا من الناحية الفيزيقية إلى قسمين: عالم ما تحت فلك القمر وعالم ما فوق فلك القمر، متبعًا في ذلك القسمة الأرسطية للعالم.
ولقد بدأ ابن طفيل بحثه للعالم الفيزيقي على أساس المنهج العلمي مبتدئًا بالإدراك الحسي المباشر للظواهر الطبيعية ومحاولة تفسيرها، وفرض الفروض وإجراء التجارب للتحقّق من صحة تلك الفروض، ومحاولة الوصول إلى القوانين العامة المفسّرة للظاهرة.
حيث قام ابن طفيل بتقسيم عالم ما تحت فلك القمر «العالم السفلي» إلى قسمين من الموجودات؛ موجودات حية وموجودات غير حية. وأن الموجودات الحية تشمل النبات والحيوان والإنسان.
وتأمّل كل أنواع النبات فرأى أنه على الرغم من اختلاف أنواعها إلَّا أن كل نوع منها تشبه أشخاصه بعضها بعضًا في الأغصان والزهر والثمر، فرأى أن لها شيئًا واحدًا مشتركًا، الأمر نفسه لجميع أنواع الحيوان، وكذلك الإنسان.
والفرق بين الأصناف الثلاثة هو في قوى النفس التي هي في الإنسان أتمّ من النبات والحيوان، وأن الإنسان يتميّز بقوى النفس الناطقة التي تميّزه على النبات الذي له من القوى المغذية والمنمية، ويزداد الحيوان بالحس والحركة والتنقل من حيّز إلى آخر، أما النفس الناطقة فتتميّز عمّا سواها بإدراك الأمور المعقولة والجوانب الروحانية[21].
أما الموجودات غير الحية وهي التي لا نفس لها وهي مختلفة من جبال وأنهار ومعادن وغيرها فهي متكثّرة من جهة ومتّحدة من جهة أخرى، وهي من الجهة التي تتّفق فيها واحدة، ومن الجهة التي تختلف فيها كثيرة متغيّرة[22].
وهكذا ينتهي ابن طفيل إلى شيء واحد يجمع الموجودات الحية وإن تعدّدت مظاهره في الأنواع المختلفة، كذلك الأمر في الموجودات غير الحية. وأهم ما يميّز عالم ما تحت فلك القمر أنه قابل للكون والفساد ولا يخلد فيه سوى النفس الناطقة.
أما عالم ما فوق فلك القمر أو عالم الأجرام السماوية، من الشمس والقمر وسائر الكواكب وغيرها فقد رأى ابن طفيل إن أجرامه تتّصف بالجسمية، أي إنها تمتدّ في الأقطار الثلاثة الطول والعرض والعمق، ولا ينفك شيء منها عن هذه الصفة، وكل ما لا ينفك فهو جسم، فهي إذن كلها أجسام، وبما أنها أجسام فهي متناهية ومحدودة، حيث إن القول بأنها لا نهاية لها أمر باطل وشيء يعدّ محالًا[23].
وأن شكل الفلك هو شكل الكرة، وأن لها حركة منتظمة جارية على نسق واحد، وأنها لا تقبل الكون والفساد مثل أجسام العالم السفلي؛ حيث إن أجسام عالم ما فوق فلك القمر لها ذوات غير أجسامها تعرف الموجود الواجب الوجود، وأن تلك الذوات العارفة ليست بأجسام ولا منطبعة في أجسام، مثل القوة العاقلة التي للإنسان.
ويستخدم ابن طفيل قياس الأولى، فإذا كانت هذه القوة موجود مثيل لها في الإنسان الذي يجمع بين الحس والعقل، فمن الأولى أن توجد للأجرام السماوية التي هي بريئة من الحس[24].
ثم تناول ابن طفيل الكشف عن الأبعاد الميتافيزيقية للطبيعة فتناول آراء تتعلّق بعالم الكون والفساد، وأخرى تتعلّق بعالم الأجرام السماوية مفرقًا بين الكائن والفاسد من ناحية والأزلي والخالد من ناحية أخرى.
فقد حاول من خلال دراسته لعالم الطبيعة الصعود إلى أعم المبادئ الموجودة في الوجود، إذ كان يصعد دومًا من المادي إلى الروحي، كما يصعد من الكثرة والتنوّع إلى الوحدة والثبات... وهكذا يُشير ابن طفيل إلى القول بوحدة الحقيقة واختلاف المنهج، أي وحدة الحقيقة بين الحكمة والشريعة (العقل والنقل)، واختلاف طرق الوصول إليها. ولكل منهما منهج خاص به، منهج الإيمان الخالص يختلف عن منهج العقل الاستدلالي.
وصل «حي بن يقظان» إلى الحق بعقله الخالص دون رسالة من نبي أو تعلّم من فقيه، وصل بالعقل من خلال الانتقال من الإدراك الحسي إلى التصوّر العقلي، فالمشاهدة الذوقية الوجدانية. أما «أبسال» فقد وصل إلى الحق عن طريق الإيمان بالدين. وهذه التفرقة في المنهج هو ما سنجده بعد ذلك عند ابن رشد.
3- وحدة الوجود
يعبر مذهب وحدة الوجود في صورته الكلية عن أن الله وحده هو الوجود الحق، والعالم هو مجموع المظاهر التي تعلن عن ذات الله دون أن يكون لها وجود قائم بذاته[25]. وقد وجدت صور متعدّدة ومختلفة إلى حدٍّ كبير منه عند الهنود وفي الفلسفة اليونانية وعند صوفية العرب كالحلاج وابن عربي وفلاسفتهم كابن رشد، كما وجد في الفلسفة الحديثة عند ديدرو وسبينوزا[26].
وقد ظهر عند ابن طفيل حيث إنه نظر إلى الوجود بكامله على أن بينه ترابط في قوانين، وترتيب في درجات مرتبة يعلو بعضها بعضًا حتى نصل إلى العلة الأولى، والوحدة عنده دليل على وجود الخالق، ومن ثَمَّ فوحدة الوجود عند ابن طفيل تختلف عن تصوّر الصوفية، فهو تصوّر يعني الترابط العضوي بين كل عناصر الطبيعة وما فوق الطبيعة[27].
4- مشكلة حدوث العالم وقدمه
إن مشكلة حدوث العالم أو قدمه أو أنطولوجيا العالم الميتافيزيقي أخذت مكانًا كبيرًا في الفكر الفلسفي الإسلامي، فقال جميع فلاسفة العرب بالقدم عدا الكندي الذي قال بالحدوث، وقد بدأ ابن طفيل بحثه في مسألة الحدوث أو القدم، بالقول بضرورة حاجة العالم إلى موجد أو خالق، ولهذه البداية، إذ تعني أهمية إثبات أن العالم مخلوق لله تعالى، سواء كان حادثًا أو قديمًا[28].
وقد ذهب ابن طفيل إلى أن القول بالقدم يُثير إشكالات وشكوك، كما أن القول بالحدوث يؤدّي إلى ذلك أيضًا، والمقصود بقدم العالم أي إنه الموجود الذي ليس وجوده مسبوقًا بالعدم، وهو القديم بالزمان[29].
ولكي يتلاشى الفلاسفة بهذا القول بأن العالم ليس من خلق الله ذهبوا إلى القول بأن الله قد خلق هذا العالم ولكن من مادة قديمة، تصوّرها أفلاطون Platon في حالة من الفوضى وعدم التعيّن أو التحديد أو ما يُعرف بالعماء Choas، وتصوّرها أرسطو على أنها مادة دائمة الحركة، ولكنهما اتفقا على أنها موجودة مع الإله منذ القدم أو لم تزل موجودة معه.
أما الحدوث فيعني خلق الله للعالم من العدم، وقد عرض ابن طفيل في قصته لحجج أهل القدم ولحجج أهل الحدوث، كما عرض للشكوك التي تلزم عن القول بالقدم مثل استحالة وجود ما لا نهاية له، كما أن هذا الوجود لا يخلو من الحوادث ولا يتقدّمها، وما لا يتقدّم الحوادث ولا يخلو منها فهو محدث.
كما رأى أن القول بالحدوث يلزم عنه اعتراضات كثيرة، منها أن معنى الحدوث لا يفهم إلَّا على معنى أن الزمان تقدّم العالم، والزمان من جملة العالم ولا ينفك عنه؛ لذا فلا يفهم تأخّر العالم عن الزمان. كما أنه لو كان العالم حادثًا وله محدث، فَلِمَ أحدثه الآن ولم يُحدثه قبل ذلك، ألطارئٍ طرأ عليه ولا شيء هناك غيره، أم لتغيّر حدث في ذاته، فإن كان فما الذي أحدث ذلك التغيير؟[30]
وما زال ابن طفيل حائرًا بين القدم والحدوث عدة سنين إلى أن ارتضى القول بالقدم على اعتبار أن العالم كله معلول ومخلوق لله تعالى بغير زمان؛ مخالفًا بذلك جمهور المتكلّمين والكندي أيضًا، ومتّفقًا مع الفلاسفة الذين آثروا القول بالقدم من قبله مثل الفارابي وابن سينا أو من بعده كابن رشد.
ومع ذلك لا يفوتنا القول بأن ابن طفيل من القائلين بنظرية الخلق المستمر، التي تعني إثبات حفظ الله للعالم وعنايته المستمرة به، وأن القدرة الإلهية تتدخّل في كل لحظة من لحظات الزمان ليحفظ للأجسام والأفعال تماسكها ويُبقي على وحدتها[31].
وهو ما نلحظه في تأكيد ابن طفيل الدائم على افتقار الموجودات في دوامها إلى دوام الفاعل، فهي تفتقر إليه في وجودها وفي دوام ذلك الوجود. فهي متعلّقة الوجود به، ولولا دوامه لم تدم، ولولا وجوده لم توجد، ولولا قدمه لم تكن قديمة، وهو في ذاته غني عنها، وبريء منها[32].
5- أدلة ابن طفيل على وجود الله
على الرغم من ترجيح ابن طفيل للقول بقدم العالم إلَّا أن ذلك لم يمنعه من تقديم أدلة على وجود الله تعالى، بل إنه ربط بين القول بقدم العالم وبين تقديم أدلة على وجود الله تعالى برباط وثيق، ويعدّ هذا من جانبه ردَّ فعل على محاولة الغزالي الذي رأى أن الفلاسفة حين قالوا بقدم العالم، فاعتبر قولهم هذا يؤدّي إلى مذهب الدهرية، ومعنى هذا أن الفيلسوف الذي يقول بقدم العالم يكون متناقضًا مع نفسه إذا بحث عن أدلة وجود الله تعالى، فيما يرى الغزالي.
والجدير بالذكر أن ابن طفيل لم يحدّد أسماء معينة للأدلة التي قال بها، ولكننا يمكن لنا تسميتها في ضوء الفلسفة الإسلامية التي حدّدت أسماء لهذه الأدلة، فكان دليل الحركة هو دليل ابن طفيل الأول على وجود الله تعالى، ذلك الدليل الذي نجده عند أفلاطون وأرسطو أيضًا، وفحواه أن كل متحرّك له محرِّك يحرّكه وهذا المحرِّك له محرّك وهكذا إلى أن نصل إلى محرّك أول يحرِّك ولا يتحرَّك وهو الله تعالى. فإخراج العالم من مرحلة اللاوجود إلى الوجود، يعدّ دليلًا على حركة العالم، وهذه الحركة بدورها يلزمها محرِّك أي إله[33].
وهذا المحرِّك الأول يختلف عن المحرِّك الأول الأرسطي، الذي نفض يده من الكون بعد خلقه، ولا يتّصل به وبين الذي يرجع في أصله للعقيدة الإسلامية، التي تقرّ العناية الإلهية المستمرة للكون وما فيه من موجودات[34].
وهذا الدليل هو الذي نقده الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط؛ إذ إن العِلّيّة في نظر كانط لا تنطبق إلَّا على عالم الظواهر «عالم الشهادة» أي عالم الأشياء الواقعة في نطاق تجاربنا، بيد أنها لا تصدق على العلّة التي تعدّ خارجة عن العالم والتي تعدّ في الوقت نفسه سبب وجود العالم.
أما الدليل الثاني عند ابن طفيل فيمكن أن نطلق عليه دليل «حدوث الصورة عن محدث»، ويمكن الوصول إلى الفكرة العامة لهذا الدليل من ثنايا دراسته للعلاقة بين المادة والصورة، فإذا كانت جميع الموجودات تتركّب من مادة وصورة، وكانت المادة تفتقر إلى الصورة التي لا يصح وجودها إلَّا عن فاعل، فإن جميع الموجودات تفتقر إذن في وجودها إلى الفاعل المختار جلّ جلاله[35].
أما الدليل الثالث والأخير، فهو دليل يعتمد على فكرة الغائية والعناية الإلهية، وهو ما يُعرف في الفلسفة الإلهية بالدليل الغائي، الذي يعني أن هذا النظام وهذا التدبير الموجود في العالم لا بد له من فاعل منظّم ومدبّر؛ لأنه لا يمكن أن يكون على سبيل المصادفة أو الاتّفاق، أي إنه لا بد من وجود كائن يعتني بهذا العالم المحكم والمنظّم ويحفظه دومًا من الفساد، فتصفّح ابن طفيل الأشياء جميعًا «فتبيّن له في أقل الأشياء الموجودة، فضلًا عن أكثرها من آثار الحكمة، وبدائع الصنعة، ما قضى منه كل العجب، وتحقّق عنده أن ذلك لا يصدر إلَّا عن فاعل مختار في غاية الكمال وفوق الكمال»[36].
كما تناول ابن طفيل مشكلة الصفات الإلهية سواء كانت صفات ثبوت أو صفات سلب، ودرسها صفةً صفة فنفى منها الصفات الجسمية وأثبت العلم والقدرة، كما أثبت لله تعالى كل صفات الكمال والتنزيه، ونفى صفات النقص كلها عن الله تعالى، كما نفى العدم عنه، وأثبت له الأزلية والأبدية ودوام الوجود أو السرمدية، فيقول: «إن الموجود الواجب الوجود، متّصف بأوصاف الكمال كلها، ومنزَّه عن صفات النقص وبريء منها»[37].
وإن أكثر ما يمكن ملاحظته هنا هو أن ابن طفيل إذا كان أرسطيًّا قحًّا في دليل المحرِّك الأول في مسألة الصفات، فإنه انقلب اعتزاليًّا صرفًا حين رأى أن صفات الله هي عين ذاته وليست شيئًا زائدًا عليه.
6- خلود النفس وعلاقته بنظرية المعرفة
ارتبطت مشكلة خلود النفس بنظرية المعرفة عند ابن طفيل ارتباطًا بيّنًا؛ فإذا ما نظرنا إلى معالجته لمشكلة خلود النفس نجده يقارن بين تلك المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس والمعرفة التي تأتي عن طريق العقل، فالحواس لا تدرك إلَّا ما هو جسمًا؛ ولذلك لا يمكنها أن تدرك واجب الوجود الذي هو بريء من صفات الأجسام، ولا يدرك بشيء ليس بجسم وليس له من صفة الجسمية أي صفة؛ ولذلك كانت النفس الناطقة هي التي تدرك واجب الوجود، ومن ثَمَّ كانت النفس خالدة لأنها تدرك الخالد، أما الجسم فهو فانٍ شأن جميع الأجسام، ومن ثَمَّ يُصبح مصير الجسد هو الفناء ومصير النفس هو الخلود.
فيحلّل ابن طفيل حالات النفس في حياتها الأرضية من خلال علاقتها بواجب الوجود (الله)؛ نظرًا لأن السعادة والشقاء في العالم الآخر لا بد أن ترتبط كل حالة منها بأفعال البشر في هذه الحياة الدنيا، فيميّز بين ثلاث حالات للنفس من خلال علاقتها بواجب الوجود؛ حالة أولى تمثّل النفس أو الإنسان الذي أدرك واجب الوجود ثمّ فقد إدراكه بالمعصية، ومصير الإنسان في تلك الحالة إنما يتمثّل في الآلام التي لا نهاية لها وسواء تخلّص من الآلام بعد جهاد طويل، أم بقي في الآلام بقاءً نهائيًّا.
وحالة ثانية تمثّل الإنسان الذي أدرك وجود الله وأقبل تمامًا عليه والتزم بالتفكير فيه حتى موت الجسد، ومصير النفس بعد الموت إنما يتمثّل في لذَّتها وغبطتها وسعادتها سعادة لا نهاية لها. وحالة ثالثة تمثِّل الإنسان الذي لم يدرك وجود الله، ومصير النفس في هذه الحالة كمصير الحيوانات[38].
ومن خلال هذه الحالات الثلاثة للنفس تظهر أهمية المعرفة بالنسبة للإنسان من جهة، والربط بين المعرفة والعمل من جهة أخرى، والدليل على ذلك، أن الحالة الثانية بالنسبة لمصير النفس بعد الموت (حالة المعرفة مع العمل) تعدّ أفضل من الحالة الأولى (حالة المعرفة مع المعصية) والحالة الثالثة (عدم المعرفة) وكيف ساوى صاحب هذه الحالة بالحيوان الأعجم.
7- التوفيق بين الفلسفة والدين
لقد أراد ابن طفيل أن يعرض لمشكلة التوفيق بين الفلسفة والدين، تلك المشكلة التي شغلت جلّ فلاسفة الإسلام، فعمل على أن يبيّن لنا من خلال هذه القصة أن ما وصل إليه «حي بن يقظان» بالنظر العقلي والتأمّل، لا يخالف الدين الموحى به.
ولما كان في الشريعة أقوال تدعو إلى العزلة والانفراد، وأخرى تدعو إلى المعاشرة وملازمة الجماعة، فقد تعلّق «أبسال» بطلب العزلة، وخاصة في أنه كان يتعمّق في البحث فيما وراء ظاهر الدين، وكانت عزلته تساعده على ذلك، أما «سلامان» فقد تعلّق بملازمة الجماعة، وكان هذا الاختلاف بين طبيعة كل منهما باعثًا على افتراقهما[39].
لكن يبدو أن ما أورده ابن طفيل من تقابل بين العقيدة والفلسفة قد يُوحي بأن ثمة تعارضًا بين الدين والفلسفة، وأنه لا التقاء بينهما بدلالة نفور العامة من شرح الفيلسوف للعقيدة، ولكن الواقع أنه لا يوجد أي تعارض بين الدين والفلسفة مطلقًا، وإنما التعارض الظاهر يرجع إلى اختلاف مستوى الإدراك عند كل من العامة والفلاسفة.
وعلى أية حال فإن هذا الموقف يرجع إلى ما سبق أن أشار إليه الغزالي من ضرورة حماية عقيدة العوام من مغبّة النظر العقلي ومخاطره، ولهذا فقد ميّز بين مفهوم العامة للدين ومفهوم الخاصة له، وهذا لا يقدح في الدين نفسه.
فالعامة أو الجمهور لا يعي إلَّا الظاهر والحرفي ولا يدرك من المعاني الخفية شيئًا، والأمر الأوضح من هذا وذاك أن ابن طفيل يرتّب الناس في مراتب أربع: أعلاها مرتبة الفيلسوف، ويتلوها مرتبة عالم الدين البصير بالمعاني الروحانية وهو الصوفي، ويتلوها مرتبة رجل الدين المتعلّق بالظاهر وهو الفقيه، وأدناها مرتبة الجمهور من الناس أو العامة.
غير أننا نلاحظ أن هذه القصة إنما تصل بنا إلى نتيجة مؤدّاها، أنه في الوقت الذي يمكن فيه تبرير إرسال الرسل إلى عامة الناس الذين يعجزون عن الوصول إلى أصول العقائد بدون معلم أو مرشد خارج أنفسهم، نجد أن المتوحدين ليسوا بحاجة إلى الرسل لأنهم يستطيعون الوصول إلى حقائق الوحي بعقولهم وبهداية العقل الفعّال.
كما لفت ابن طفيل الأنظار في تناوله للقضايا الدينية بين تناول أهل الظاهر، وهم الذين يأخذون النصوص الدينية على ظواهرها، وأهل التأويل وهم الذين يستخدمون العقل في فهم النص الديني، وفي حالة ظهور تعارض بينهما يؤوّلون النص ليوافق العقل، وانحاز ابن طفيل لأهل التأويل.
كما رأى أن الشريعة قد أصابت في استخدام الطريقة الملائمة لمخاطبة الناس على قدر عقولهم، دون مكاشفتهم بحقائق الحكمة وأسرارها، ورأت أن الخير في التزام الناس بحدود الشرع، وترك التعمُّق لمن هو أهلًا له. ولذلك ترك «حي» «سلامان» وقومه على مذهبهم في الاكتفاء بظاهر الشرع. فأثّر تأثيرًا كبيرًا في اللاحقين الأمر الذي سنجده بصورة بارزة جدًّا عند خلفه ابن رشد[40].
ولذلك فإننا نرى كيف أن ابن طفيل قد نجح في التعبير في هذه القصة عن التقاء الحكمة المشرقية بالفلسفة اليونانية، وأن محاولته هذه تعدّ استمرارًا للمحاولات السابقة التي قام بها فلاسفة الإسلام في المشرق العربي، حيث إن محاولة الربط بين العقيدة والفلسفة باعتبارهما وجهين مختلفين لحقيقة واحدة، واستخدامه التأويل بهذا الصدد، هذه المحاولة سيتردّد صداها عند ابن رشد وقد كان معاصرًا له، وكان ابن رشد معجبًا بابن طفيل، وبقدرته على التفلسف، وبإلمامه أيضًا بجلّ العلوم العقلية والفلسفية التي كانت سائدة في عصره.
8- مشكلة الاتصال
أما الاتصال فيكون عن طريق الاجتهاد والترقّي المعرفي والعقلي من خلال إعمال النظر والتأمّل، فالإنسان عند ابن طفيل من خلال تنمية قواه الإدراكية والامتلاء المعرفي الاتصال بالعقل الفعّال المنبثق عن الله تعالى، فطريق الاتصال عنده طريق عقلي تأمّلي بعيد تمام البعد عن طريق التصوف الذي هو تجربة وذوق، فالاتصال هو سمو إلى العالم العلوي وارتباط بين الإنسان والعقل الفعّال ارتباطًا دون امتزاج، أما عند المتصوفة فالاتصال امتزاج واتحاد وحلول، حلول اللاهوت في الناسوت، وتلاشي الأنا في الأنت، وعدم تميّز الخلق عن الخالق.
كما سعت هذه القصة إلى تفصيل درجات الخطاب؛ حيث يرى ابن طفيل أن الحكمة لا يقدر عليها إلَّا القلّة النادرة من البشر، ممّن مُنحوا عقلية فذّة تدرك المعقولات المجرّدة. أما الجمهور فلا يعي إلَّا الظاهر فقط.
ولذا يرتّب ابن طفيل المُخَاطَبين على مراتب أربعة هي: مرتبة الفيلسوف ويمثّلها «حي»، يتلوها مرتبة عالم الدين البصير، ويمثّلها «أبسال»، يليها مرتبة رجل الدين المتعلّق بالظاهر وهو «الفقيه» ويمثّلها في القصة «سلامان»، وأدناها مرتبة الجمهور ويمثّلها «أهل جزيرة سلامان»[41].
كما عكست القصة فكرة أن الشريعة عند ابن طفيل ظاهر وباطن، وأن الشريعة قد أصابت في استخدام المنهج الملائم لمخاطبة الناس على قدر عقولهم، دون مكاشفتهم بحقائق الحكمة وأسرارها، ورأت أن الخير في التزام الناس بحدود الشرع، وترك التعمُّق لمن هو أهلًا له.
ولذا ترك «حي» «سلامان» وقومه على مذهبهم في الاكتفاء بظاهر الشرع. وأبدى لهم تأييده لكيلا يفسد عليهم إيمانهم، ومضى مع «أبسال» إلى الجزيرة المنعزلة ليعيشا منعزلين يعبدان الله بالطريقة التي تناسب عقليهما[42].
ولكل جماعة من الناس إيمانهم الخاص الذي يتناسب وقدراتهم وفطرتهم التي فطرها الله عليهم، أو كما يقول «حي»: «إن الحكمة كلها والهداية والتوفيق فيما نطقت به الرسل الكرام، فلكل عمل رجال، وكل ميسَّر لما خُلق له»[43].
كما يمكننا أن نرى في بحث مشكلة الاتصال عند ابن طفيل نسقًا كاملًا لنظرية المعرفة، يتحقّق عبر مراحل زمنية وعبر درجات متتالية من المعرفة، تبدأ بالخبرة الحسية لترتفع إلى التجربة والممارسة العملية، ثم الاستدلال العقلي النظري، لتنتهي إلى أعلى درجة وهي المعرفة الوجدانية القائمة على الذوق والحدس، وصولًا إلى حال الاتصال بالعقل الفعّال، دون أن يعني هذا التخلّي عن مراتب الوصول السابقة، أو إلغاء الحس والعقل، وهذا ما يفرق ابن طفيل عن الصوفية، التي تفنى عن ذاتها عند الوصول.
كما وجّه ابن طفيل –من خلال قصته- الأنظار إلى الاهتمام بالملاحظة والاستقراء، وبيَّن دور التجربة في الوصول إلى المعرفة. كما أشاد بدور البراهين العلمية، ولا سيما ما يُبنى على الطبيعيات والرياضيات.
وأخذ بالمذهب التجريبي الذي بدأه من الملاحظة والاستقراء لكل مظاهر الطبيعة من حوله، في عوالم النبات والحيوان وفي مسائل الحياة العادية، ولم يقف عند حدود الملاحظة واختبار قيمتها، بل ألحقها بإجراء التجارب. كل ذلك في سبيل الوصول إلى الحقيقة والمعرفة الصحيحة.
ويرفض ابن طفيل أن يعتمد الإنسان على أفكار موروثة، واعتقادات لم تثبت صحّتها لأن ذلك يؤدّي بالطبع إلى الوقوع في خطأ التفكير.
وهكذا يُعطي ابن طفيل للعقل مكانة كبيرة في المعرفة، وربما تكون عنده أعلى من المعرفة الدينية، فالإنسان الكامل عنده –والممثّل بشخصية حي- وصل إلى كل الحقائق بصورتها التامّة الخالصة عن طريق العقل وحده، وكان في معارفه أكثر وصولًا ممّا وصل إليه أهل جزيرة سلامان. وهذا تكريم لدور العقل وبيان أهميته في مجال المعرفة. ويعدّ هذا في الحقيقة إعلاء لمكانة الفيلسوف في المجتمع الأندلسي.
9- فلسفة الأخلاق
رغم أن الكثيرين ممّن تصدّوا لبحث فلسفة الأخلاق عند فلاسفة الإسلام قد أغفلوا دراستها عند ابن طفيل، رغم أنه قد وضع –في ثنايا قصّته- مفهومًا جديدًا للأخلاق، فقد جعل الأخلاق من حيّز العقل والطبيعة لا من حيز الدين والاجتماع؛ إذ إن السلوكيات الفاضلة هي التي تقوم على التوافق والتكيّف مع الطبيعة، فلا تعترض سيرها، ولا تحول دون تحقيق الغاية الخاصة بالموجودات. فمن طبيعة الفاكهة مثلًا أن تخرج من زهرتها البذور التي تُعيد دورة الفاكهة مرة أخرى، فإذا قطف الإنسان هذه الثمرة قبل أن يتمّ نضجها، لم يأكلها ولا أتاح للبذرة أن تسقط مرة أخرى على الأرض ليتسنى لها الإنبات عُدّ ذلك فعلًا بعيدًا عن الأخلاق.
بل إن ابن طفيل ذهب إلى أبعد من هذا معتبرًا أن الأخلاق الكريمة تقضي على الإنسان أن يزيل العوائق التي تعترض الحيوان أو النبات في سبيل تطوره[44]. ويدعو الفرد إلى أن يسير في سلوكه على أساس دفع المجتمع في الطريق المؤدّية إلى التطوّر والتقدّم.
كما تتجلّى نزعة ابن طفيل الأخلاقية من خلال طريق الاتّصال الذي يتدرّج من الأدنى المحسوس إلى الأعلى، بحيث إن كل مرحلة من مراحله تُفضي إلى الأخرى، ولا يمكن بلوغ مرحلة أعلى إلَّا بعد اجتياز المرحلة السابقة عليها.
ويشترط ابن طفيل الترقّي الأخلاقي لتجاوز تلك المراحل، وهذا ما نجده في المرحلة الأولى التي يُشارك فيها الإنسان الحيوان غير الناطق حيث يُشير إلى ما يبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان حيال هذا الجانب، الذي يجب أن يبعد فيه عن الانغماس في الشهوات والانقياد لمتطلّبات الجسد والإسراف في المشهّيات، بل يقتصر على الضروري الذي به قوام حياته، لأن الترقّي لا يتيسّر لمن يسرف في الملذات[45].
كما نجد النزعة الأخلاقية بارزة في التشبُّه الثاني، وهو التشبُّه بالأجرام السماوية وأفعالها، وأن يقدّم الخير إلى كل من يحتاجه، وأن يكون رحيمًا بالحيوان والنبات، وأن يُجري الطبيعة في كل شيء على مجراها، ومجرى الطبيعة يوجب الاهتمام بالجماعة لبقائها، ويوجب العناية بالناس وتحسين أحوال معيشتهم من أجل تحقيق الوحدة والانسجام في العالم الطبيعي والميتافيزيقي، لذلك كانت الأخلاق الحميدة عنده بمثابة الإطار الرائع الذي يتعامل به مع كل كائنات الطبيعة[46].
ولا ينبغي أن نفهم دعوته إلى الانعزال بأنها مجافية للأخلاقية، حيث إن الأخلاق لا تظهر إلَّا مع الجماعة كما هو معلوم، فطريق الاتّصال لا يعني السلبية والانعزال عن الناس وهجر الحياة كلية، بل إن فيه جانبًا إيجابيًّا يعني فاعلية الإنسان في الكون وعمارته وتقديم الخير والمعونة إلى الآخرين، أما درجة الانعزال والانفراد والتأمّل ومداومة الفكر فهي مرحلة تكاد تقترب من نهاية الطريق وتحقيق الاتصال بالفعل.
وهكذا نكون قد عرضنا إلى الدلالات الفلسفية التي تضمّنتها قصة «حي بن يقظان». والتي ربما يقرؤها آخر فيخرج منها أفكارًا أخرى، وربما يرى فيها الباحث في مجال الأدب أفكارًا ودلالات أخرى تختلف عن تلك التي يراها المتخصّص في الأنثروبولوجيا أو علم النفس أو التاريخ، فقد عمل أسلوبها الرمزي على ثراء محتواها الذي لا ينضب.
ﷺ ثالثًا: أثر قصة حي بن يقظان في الفكر الإنساني
في البداية يجب أن ننوّه على تهافت الرأي الذي يرى بأن مصدر القصة غربي يوناني، ونحن من جانبنا نعدّ هذا القول هو محض افتراء تعسفي مجحف من جهة بعض الباحثين الغربيين غير المنصفين، والحقيقة أن مصدر هذه القصة هو مصدر عربي صرف، فقد ظهر هذا الموضوع في اللغة العربية في عدّة قصص أولها عند ابن سينا باسم «حي بن يقظان» ثانيها عند ابن طفيل بالعنوان نفسه، ثالثها عند الصوفي السهروردي باسم «الغربة الغريبة»، وأخيرًا عند العالم العربي الكبير ابن النفيس باسم «مطلق ابن ناطق».
لكن اقترن اسمها بابن طفيل دون غيره لأنه كان أبرع من وضع مادة الموضوع في قالبها الفني الجميل الجذاب. كما أن الأثر الإسلامي المتمثّل في التعبيرات القرآنية والروح الإسلامية الصوفية التي تملأ القصة من بدايتها إلى نهايتها ينوء بتفصيلها إطار هذه الدراسة، فهي تحتاج إلى دراسة مخصّصة.
أما عن تأثير قصة حي بن يقظان عربيًّا فواضح في تلميذه ابن رشد الذي يخصّص كتابًا مستقلًا للتوفيق بين الفلسفة والدين في كتابه القيِّم «فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وعن ابن رشد تأثّر الرشديين اللاتينيين بهذه القصة من أمثال ألبرت الكبير وتوما الإكويني وسيحر دي برابانت[47]، وعند الصوفية اللاحقين من أمثال الحلاج وابن عربي أصحاب مذهب «وحدة الوجود».
وقد تُرجمت هذه القصة إلى العبرية واللاتينية، وعنهما ترجمت إلى اللغات الأوروبية الحديثة، فقد ترجمها موسى النربوني سنة 1349م إلى العبرية، وما زالت هذه الترجمة مخطوطة حتى اليوم، ثم ترجمها إلى اللاتينية إدوار بوكوك «E.Pococke» بعنوان «الفيلسوف الذي علّم نفسه بنفسه» ثم أرفق معها النص العربي ونشرت في أكسفورد 1661م، وهي الترجمة التي أثارت اهتمام الجمهور الأوروبي.
وبعد هذه الترجمة اللاتينية ترجمت إلى الهولندية على يد إسبينوزا Spinoza 1672م، ثم ترجمت أيضًا عن اللاتينية إلى الإنجليزية بواسطة أشويل Ashwell، وأخرى بواسطة جورج كيث G.Keith وثالثة على يد سيمون أوكلي S.Ockly، ورابعة بواسطة بروميل P.Brommle.
ثم تُرجمت إلى الألمانية ثلاث مرات الأولى عن اللاتينية بواسطة ج.ج. بريتفز J.G. Pritivs، ونشرها في فرانكفورت عام 1763، والثانية عن النص العربي قام بها إيكون J.G.Eichhon عام 1782 ونشرت في برلين، أما الثالثة فكانت عن طبعة برونل Bronnl ونشرت في روستوك عام 1907.
كما ترجمت إلى الأسبانية مرتين عن النص العربي، الأولى بيد بونس بويجيس P.Boigues، والثانية بواسطة إنجل جوناليث بلنسيه عام 1936 وأعاد ترجمتها مرة ثانية عام 1948م، بينما تأخرت الترجمة الفرنسية إلى عام 1900م والتي قام بها ليون جوتيه Leon Gauthier ونشرها في الجزائر، وهي في الحقيقة أفضل وأدق الترجمات الأوروبية على الإطلاق.
أما عن تأثير «قصة حي بن يقظان» في أوروبا فهناك مسألتان تثيران الحيرة: أولاهما أن الأب اليسوعي جرثيان نشر في سنة 1650م كتابًا بعنوان الكريتيكون Elcriticon النصف الأول منه يشبه تمامًا «حي بن يقظان»، فهل كان ذلك عرضًا واتفاقًا؟ هذا يُستبعد لشدة الشبه بينهما في كل شيء الأمر الذي يمنع القول باحتمال توارد الخواطر!
لكن الأمر المحيّر بالفعل هو كيف عرف الأب جرثيان بقصة حي بن يقظان؟ وخاصة أن ترجمة بوكوك لم تظهر إلَّا سنة1671م، وكذلك لم ينشر النص العربي إلَّا بعد ذلك بكثير، فكيف عرف جرثيان وهو لم يكن يعرف العربية بقصة حي بن يقظان؟
الاحتمال الوحيد لدينا أن يكون قد اطَّلع على الترجمة العبرية التي قدّمها النربوني، أو تكون قد تُرجمت ترجمة مجهولة ووقع عليها جرثيان ولم نتوصّل إليها حتى الآن، ربما فقدت وربما هي قابعة في خزائن الكتب.
ومشكلة ثانية هي أن هناك مشابهة بين قصة «حي بن يقظان» وقصة «روبنسون كروز» التي ألَّفها دانيال دي فو، وتحكي قصة روبنسون كروز، عن رجل وحيد استطاع أن يعيش مدة ثمانية وعشرين عامًا في جزيرة خالية، وتوصّل بعقله إلى الكشف عن كثير من الأمور، فأتقن مختلف الصناعات، وسيطر على الطبيعة، وأدرك قدرة الإله في آثاره.
ورغم ذلك فهي من حيث التشابه أقل كثيرًا من التشابه الموجود عند الأب جرثيان في قصته «الكريتيكون»، وقصة «روبنسون كروز» نُشرت سنة 1719م أي بعد ظهور ترجمة بوكوك، فاحتمال التأثّر بعد الاطّلاع عليها أمر وارد، ولكنه يبقى تأثّرًا بالروح العامة فقط؛ لأن اتجاه ابن طفيل مختلف تمام الاختلاف عن اتجاه دانييل دي فو.
ومن الذين أعجبوا بقصة «حي بن يقظان» الفيلسوف الفرنسي المشهور ليبنتز، حيث أطرى عليها إطراءً بالغًا، وكان قد قرأها في ترجمة بوكوك اللاتينية. كما أشاد بها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو؛ لأنها تتّفق مع فكرته عن ضرورة عودة الإنسان إلى حالة الطبيعة. كما أن اورتيجا أي جاسيه فيلسوف أسبانيا الأشهر قال بعد أن قرأ قصة حي بن يقظان: إن الفكر الإسلامي ارتفع في نظره درجات[48].
ولذلك يمكننا القول بأن قصة حي بن يقظان قد أثّرت روح المغامرة والإبداع في الأدب الأوروبي، فأبدعوا قصصًا خيالية استمدوا فيها سمات البطل من «حي بن يقظان» مثل قصة «جولفر» و«الأدغال» لرديارد كبلنج، كذلك شخصية طرزان في الأدب الشعبي الأوروبي.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر والدراسات في أوروبا تتوالى في غير انقطاع وبمختلف اللغات حتى الآن، حتى ليمكن أن نقرّر في اطمئنان أن قصة «حي بن يقظان» كانت أوفر الكتب العربية حظًّا من التقدير والعناية والتأثير في أوروبا في العصر الحديث. ممّا يجعلنا نتحدّث عن أثر هذه القصة على الفكر الإنساني العالمي لا العربي أو الإسلامي فقط.
ﷺ نتائج الدراسة
تأتي خاتمة هذه الدراسة لترصد أهم النتائج التي توصّل إليها، وتتلخّص أهم هذه فيما يلي:
أولًا: إن الغاية الرئيسية التي كتب ابن طفيل قصة «حي بن يقظان» من أجلها هي أن يُودعها خلاصة آرائه الفلسفية، فهو لم يقدّم حلًّا لمشكلة واحدة ولا ابتغى معالجة إشكالية فلسفية بعينها، وإنما قصد تقديم نسق فلسفي كامل يكاد يعالج فيه أهم القضايا الفلسفية في الفكر العربي الإسلامي معالجة تامّة. فالوصول إلى الحقيقة الكاملة أمر لم يتسنَ للسابقين عليه أو المعاصرين له على طريقة أهل النظر، وإنما اهتموا بالعلوم الشرعية واللغوية، فعمل هو على سدّ تلك الثغرة فاهتم بعلوم الحكمة وأودع خلاصة ما توصّل إليه في هذه القصة الرمزية.
ثانيًا: اختار ابن طفيل الشكل الروائي لبسط تلك الآراء الفلسفية كي يتفادى مواجهة الفقهاء والعوام المتشبعين بالتعصُّب الديني ضد الفلسفة على أثر هجوم الغزالي على الفلسفة في المشرق العربي وتكفيره للفلاسفة.
ثالثًا: إن «حي بن يقظان» هو التجسيد المتطوّر لمتوحد ابن باجة في مرحلة جديدة هي مرحلة دولة الموحدين حيث الازدهار والاستقرار والنضج العقلي، وتعبير فلسفي عن دولة الموحدين بشكل عام وعن رؤية خليفتها المتفلسف أبي يعقوب يوسف الذي قرّب إليه الفلاسفة ورفع من شأن العقل واتّخذ منه مرتكزًا لدولته، ليضعف من نفوذ الفقهاء ورجال الدين برغم سقوط دولة المرابطين ذات التوجّه الديني المتعصّب.
رابعًا: كما عكست هذه الدراسة نزعة ابن طفيل النقدية؛ حيث إنه قام بنقد كلٍّ من الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة، وكان نقده لهم منطلقًا من التزام ابن طفيل في تفلسفه بخصائص وشروط الموقف الفلسفي.
خامسًا: اهتم ابن طفيل في دراسته للعالم الطبيعي بالملاحظة والاستقراء، وبيَّن دور التجربة في الوصول إلى المعرفة، فبدا ممارسًا للمنهج العلمي التجريبي في دراسة الوقائع المادية، مبتدئًا بالإدراك الحسي المباشر للظواهر الطبيعية ومحاولة تفسيرها، وفرض الفروض وإجراء التجارب للتحقُّق من صحّة تلك الفروض، ومحاولة الوصول إلى القوانين العامة المفسّرة للظاهرة.
سادسًا: ذهب ابن طفيل إلى القول بوحدة الوجود، والتي تعني الترابط العضوي بين كل عناصر الطبيعة وما بعد الطبيعة، والوحدة عنده دليل على وجود الله، وتختلف بالطبع عن وحدة الوجود عند الصوفية.
سابعًا: أشار ابن طفيل في قصته إلى العلاقة بين التفكير ودوافعه، وأن الحاجة هي أم الاختراع، وأحيانًا قد تكون العاطفة باعثًا قويًّا على التفكير وإجراء التجارب.
ثامنًا: إن ابن طفيل شأنه كشأن كل فلاسفة العرب عدا الكندي في القول بقدم العالم، ولكن ذلك لم يمنعه من تقديم أدلة على وجود الله تعالى.
تاسعًا: مال ابن طفيل إلى القول بالخلود الروحاني للأنفس السعيدة في النعيم، وبأن بعض الأنفس التي عرفت الخالق ثم أعرضت عنه بالمعصية، فإما أن تخلّد في النعيم أو في الجحيم، أما النفوس الجاهلة فمصيرها كمصير الحيوان الأعجم! وإن كانت هذه الرؤية تجافي إلى حدٍّ كبير الرؤية الإسلامية حسب القرآن والسنة وخاصة فيما يتعلّق بما حدَّده بمصير النفوس الجاهلة.
عاشرًا: ظهرت نوايا ابن طفيل على طول قصته من بدايتها إلى نهايتها في التوفيق بين الفلسفة والدين، فعمل على أن يبيِّن لنا من خلال هذه القصة أن ما وصل إليه «حي بن يقظان» بالنظر العقلي والتأمّل، لا يخالف الدين الموحى به.
حادي عشر: جعل ابن طفيل الأخلاق من حيّز العقل والطبيعة، لا من حيّز الدين والاجتماع. ووضع مفهومًا جديدًا للأخلاق، وهي العيش وفقًا للطبيعة وعدم اعتراض سيرها، فكان إرهاصًا حقيقيًّا لما ذهب إليه جان جاك روسو في القرن السابع عشر الميلادي.
ثاني عشر: أثّرت قصة حي بن يقظان في الفكر العربي في اللاحقين على ابن طفيل سواء من الفلاسفة مثل ابن رشد أو من المتصوّفة المسلمين أمثال ابن عربي والحلّاج، كما تُرجمت إلى العديد من اللغات المختلفة كالعبرية واللاتينية والإنجليزية والألمانية والأسبانية والفرنسية، فأثّرت أيَّما تأثير في الآداب العالمية والفلسفات الأوربية، وإن شئت قل: الفكر الإنساني العالمي بصفة عامة.
[1] انظر تصدير: حي بن يقظان لابن طفيل، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1999، ص 7.
[2] على عبدالفتاح المغربي، فلاسفة المغرب، القاهرة: مكتبة الحرية الحديثة، 1990، ص 193.
[3] ابن طفيل، حي بن يقظان، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1999، ص 21.
[4] ابن باجة، تدبير المتوحد، تحقيق: ماجد فخري، ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، بيروت: دار النهار، 1968، ص 90.
[5] عاطف العراقي، الفلسفة العربية مدخل نقدي، القاهرة: الشركة المصرية العالمية للنشر، ط2، 2003، ص 206.
[6] على عبدالفتاح المغربي، فلاسفة المغرب، مصدر سابق، ص195.
[7] تورده بعض الطبعات باسم «أسال» وبعض الطبعات باسم «أبسال» وقد رجّحنا هنا أبسال، حيث إن «سلامان وأبسال» كانا أبطال قصة ترجمها حنين بن إسحاق عن اليونانية، كما أن «سلامان وأبسال» كان عنوان قصة كتبها ابن سينا من قبل، هذا فضلًا عن أنهما أبطال قصة ابن سينا المعنونة بالاسم نفسه «حي بن يقظان»؛ ولذلك رجّحنا أن تكون «الباء» لم تظهر جيدًا في المخطوطات التي نقلت منها القصة فاختلط الأمر على المحقّق وخاصة أن الحرف الذي يليها هو «السين»، كما أن اسم «أبسال» أسهل في نطقه في العربية من «أسال».
[8] انظر: ابن طفيل قصة حي بن يقظان مصدر سابق، وأيضًا: على عبدالفتاح المغربي: فلاسفة المغرب، ص 196-199.
[9] منى أحمد أبو زيد، ابن طفيل وقصة حي بن يقظان، القاهرة: مجلة أوراق فلسفية، العدد (29)، 2010، ص 371.
[10] محمد غلاب، الفلسفة الإسلامية في المغرب، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1948، ص 45.
[11] محمود أمين العالم، مدخل إلى قراءة حي بن يقظان لابن طفيل،القاهرة: مجلة أدب ونقد، العدد (106) يونيه، 1994، ص 106.
[12] محمد لطفي جمعة، تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب، القاهرة: مطبعة المعارف ومكتبتها، 1927، ص 98.
[13] محمد علي أبو ريان، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، الطبعة الرابعة، 1980، ص 562.
[14] منى أحمد أبو زيد، ابن طفيل وقصة حي بن يقظان وأثرها على أوربا، ص 374.
[15] ويأتي على رأسهم: عبد الرحمن بدوي، حي بن يقظان لابن طفيل، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995، ص 30. وأيضًا: عاطف العراقي، الفلسفة العربية والطريق إلى المستقبل، القاهرة: دار الرشاد، د.ت، ص 124.
[16] محمود أمين العالم، مواقف نقدية من التراث، القاهرة: دار المستقبل العربي، د.ت، ص 194.
[17] ابن طفيل، حي بن يقظان، ص 22.
[18] المصدر السابق، ص22-23.
[19] المصدر السابق، ص 23-25.
[20] المصدر السابق، ص 21.
[21] المصدر السابق، ص 60-63.
[22] المصدر السابق، ص 60.
[23] المصدر السابق، ص 69.
[24] على عبد الفتاح المغربي، فلاسفة المغرب، ص 231.
[25] مراد وهبة، المعجم الفلسفي، القاهرة: دار قباء، 1998، ص 735، مادة: وحدة الوجود.
[26] انظر: عبدالمنعم الحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، القاهرة: مكتبة مدبولي، ط3، 2000، ص938-939، مادة: وحدة الوجود.
[27] منى أحمد أبوزيد، ابن طفيل وقصة حي بن يقظان وأثرها على أوربا، ص 377.
[28] على عبد الفتاح المغربي، فلاسفة المغرب، ص 232.
[29] عبدالمنعم الحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، ص 644، مادة: حدوث.
[30] ابن طفيل، حي بن يقظان، ص 73. وأيضًا: خليل الجر وحنا الفاخوري، تاريخ الفلسفة العربية، ج2، دار المعارف، 1958، ص 370-371.
[31] يحيي هويدي، محاضرات في الفلسفة الإسلامية، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى، 1960، ص 134-135.
[32] ابن طفيل، حي بن يقظان، ص 76. أيضًا: عاطف العراقي، الميتافيزيقا في فلسفة ابن طفيل، القاهرة: دار المعارف، ط5، 1992، ص 136.
[33] ابن طفيل، حي بن يقظان، ص 66. وأيضًا: عاطف العراقي، الميتافيزيقا في فلسفة ابن طفيل، ص 128.
[34] على عبد الفتاح المغربي، فلاسفة المغرب، ص 242.
[35] ابن طفيل، حي بن يقظان، ص 76.
[36] ابن طفيل، حي بن يقظان، ص 77.
[37] ابن طفيل، حي بن يقظان، ص 82.
[38] عاطف العراقي، الإنسان عند فلاسفة المغرب العربي، دراسة بالكتاب التذكاري: يوسف كرم مفكّرًا عربيًّا ومؤرّخًا للفلسفة (بحوث عنه ودراسات مهداة إليه) القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، د.ت، ص 258. وانظر أيضًا: محمد غلّاب، المعرفة عند مفكري المسلمين، القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966، ص 258-259.
[39] عاطف العراقي، الفلسفة العربية مدخل نقدي، ص 207.
[40] وفي ذلك يمكن الرجوع إلى: الزواوي بغورة، ابن رشد بين الشرح والتأويل، القاهرة: مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الثامن، 1999(ص53-58)، وأيضًا: وليم سيدهم، قضية التأويل عند ابن رشد، القاهرة: مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الثامن، 1999، (ص59 -65)، وأيضًا: مقداد عرفه منسيه، موازنة ابن رشد بين القول بالظاهر والقول بالقياس، القاهرة: مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الثامن، 1999، (ص 25-50). وأيضًا: علي عبدالفتاح المغربي، التأويل بين الأشعرية وابن رشد، دراسة بكتاب: ابن رشد مفكّرًا عربيًّا ورائدًا للاتجاه العقلي، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1993، (ص 203-237).
[41] منى أحمد أبوزيد، ابن طفيل وقصة حي بن يقظان وأثرها على أوربا، ص 375.
[42] ابن طفيل، حي بن يقظان، ص 123.
[43] المصدر السابق، ص 122.
[44] منى أحمد أبوزيد، ابن طفيل وقصة حي بن يقظان وأثرها على أوربا، ص 376.
[45] ابن طفيل، حي بن يقظان، ص 95.
[46] منى أحمد أبوزيد، ابن طفيل وقصة حي بن يقظان وأثرها على أوربا، ص 377.
[47] لمزيد من التفصيلات يمكن الرجوع إلى: زينب الخضيري، أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، بيروت: دار التنوير، 2007.
[48] مصطفى السيوفي، ملامح التجديد في النثر الإسلامي، بيروت: عالم الكتب، 1985، ص124.