شعار الموقع

الرؤية الحدايثة إلى العالم ومظاهر أزمة القيم والتربية

نصر الدين بن سراي 2019-05-16
عدد القراءات « 879 »

 

 

 

 

الرؤية الحداثية إلى العالم ومظاهر أزمة القيم والتربية..

روجيه غارودي أنموذجًا

الدكتور نصر الدين بن سراي*

* جامعة لامين دباغين، سطيف - الجزائر، البريد الإلكتروني: benserai20@gmail.com

 

 

 

ﷺ مدخل

تعتبر التربية من أهم الأساليب التي اعتمد عليها المفكّر الفرنسي روجيه غارودي في تغيير الواقع؛ لما لها من أهمية في بناء وصناعة الإنسان، فهناك صلة وشيجة بين التربية والإيمان، حيث ترتبط مشكلات الإيمان والتعليم بعضها ببعض بشكل حميمي، ذلك أن كلًّا منهما تطرح قضية الغايات الأخيرة للإنسان، وينطبق هذا الأمر على كل حضارات العالم.

كما أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين أزمة القيم ومشكلات التعليم والتربية، فالنمط الثقافي التعليمي مسؤول بالأساس عن أزمة القيم العالمية. إن أزمة التربية لها علاقة بأزمة القيم، فما هو هدف جامعاتنا ومدارسنا؟ وما معناها وما رسالتها التي تريد أن تقدّمها للإنسانية؟ ووفق أي مفهوم للإنسان ولمستقبله يمكن أن نتصوّرها؟ وكيف نعيد هيكلتها ونعيش واقعها؟

إن كل نظام تربوي هو صورة من مجتمع ومشروع له، فما المجتمع الذي يمثّل نظامنا التربوي الحالي صورة منه؟ وما المجتمع الذي يمكن أن يكوّن نظامنا التربوي الحالي مشروعًا له؟

إنها مهمة إنسانية نبيلة جدًّا تلك التي نقوم من خلالها بإرشاد الطفل التائه بين فراغ السماء وفوضى الأرض، إلى بعض العلامات والغايات، لهو شيء قيّم بالتأكيد.

من هذا المنطلق سعى غارودي لتغيير الوضع القائم، من خلال استراتيجية التعليم ليضع تصوّرات جديدة للتعليم، من شأنها معالجة الأزمة الراهنة بحيث لا يمكننا أن نطرح القضية الأساسية للتعليم بعيدة عن هذه التعارضات الزائفة.

وفي هذا الإطار لن نتحدث إلَّا على ثلاث مواد: تعليم القراءة، والتاريخ، والفلسفة، ذلك أن كل شيء في نظامنا التعليمي يجب أن يعاد بناؤه انطلاقًا من البدايات والأسس.

أما إشكالية البحث فهي على النحو التالي: ماذا يعني غارودي بمصطلح الحداثة؟ ما هي الأفكار الناظمة للفكر الحداثي؟ وما مظاهر الأزمة القيمية؟ وما هي رهنات العلاج حسب رؤية غارودي وفق التصور التربوي الذي اختاره؟

ﷺ أولًا: الحداثة عند غاوردي

المحدّد الفلسفي للفظ الحداثة في المعجم الفلسفي لجميل صليبا أن «الحديث (moderne) في اللغة نقيض القديم، ويرادفه الجديد، ويطلق على الصفات التي تتضمّن معنى المدح أو الذم، فالحديث الذي يتضمن معنى المدح: صفة الرجل المتفتح الذهن، المحيط بما انتهى إليه العلم من الحقائق، المدرك لما يوافق روح العصر من الطرق والآراء والمذاهب... والحديث أن يتّصف أصحاب الحديث بالأصالة والعراقة، و القوة، والابتكار، وأن يتخلّى أصحاب القديم عن كل ما لا يوافق روح العصر من التقاليد البالية والأساليب الجامدة»[1].

فنلاحظ أن الدلالة المعجمية الفلسفية للحداثة، تنطبق تمامًا على الدلالة اللغوية لأنها مشتقّة منها، فهي تتساير مع الحديث وترفض القديم، فالحداثة بهذا المعنى تتسالم وتتعايش مع الجديد وتتصارع وتتفارق مع القديم.

أما هانز كونغ فيرى أن كلمة «حديث Moderne قديمة ولكنها لم تستخدم للدلالة الإيجابية على الحساسية الجديدة إلَّا في بداية عصر التنوير أو حتى قبله بقليل، لقد استخدمت كاحتجاج ضد التصوّر الدوري للتاريخ، هذا التصوّر الذي كان مستديرًا بنظره نحو العصور اليونانية – الرومانية القديمة، وكان يرى فيها ذروة الحضارة وهو تصوّر عصر النهضة كما هو معلوم، فالنهضة التي تعني في اللغات الأجنبية الولادة الثانية –Renaissance- كانت تنظر إلى الوراء لا إلى الأمام على عكس ما نتخيّل، فقد كان مثلها الأعلى اليونان والرومان... القرن السابع عشر الفرنسي هو الذي استخدمه وروَّجه لأنه أحسّ بالتفوّق حتى على اليونان والرومان، وذلك بعد النجاحات التي حقّقها العلم والفلسفة الحديثة على يد كوبرنيكوس وغاليليو وديكارت»[2].

اذن هذا المصطلح كان استخدامه ليُوحي إلى مرحلة الانتقال الجديدة، بسبب تلك القفزات التي كانت في القرن السابع عشر لا سيما في المجال المعرفي والمجال الفلسفي، واستبدلت الرومان واليونان بمقولتين جديدتين هما العلم والفلسفة بعد أن كانت العصور اليونانية والرومانية تعدّ أعظم ما انتجه العقل الإنساني.

أما موسوعة لاروس الكبرى فتقول عن الحداثة: «إنها مجمل المذاهب والاتجاهات المتعلّقة بتجديد اللاهوت، و التفسير، والمذهب الاجتماعي وإدارة الكنيسة لوضعها في توافق مع متطلّبات العصر الذي يعيشونه، وبالتحديد فهي كلمة تعني الأزمة الدينية التي هزّت عصر البابا بيوس العاشر، وفي مجملها، فقد نجمت أزمة الحداثة من اللقاء العنيف للتعليم الكهنوتي التقليدي مع العلوم الدينية الشابة التي تكوّنت بعيدًا عن رقابة الأصولية، وفي أغلب الأحيان في اتّجاه مغاير لها ابتداءً من مبدأ ثوري هو: تطبيق المناهج الوضعية في مجال وعلى نصوص ظنوا أنها بعيدة عن أياديهم»[3].

هذا التحوّل الجديد يمكن أن يكون نقطة تمفصل بين الرؤى القديمة إلى العالم، والرؤية الحداثية الجديدة إلى العالم من خلال تحوّل البراديغم الجديد في عملية البحث وخلق التصوّرات الجديدة، وهو تطبيق المناهج العلمية الوضعية الجديدة، ولم تسلم في ذلك حتى تلك النصوص التي كانت يُعتقد أنها نصوص مقدّسة، بل تم عرضها على محك النقد العلمي، خاصة مع سبينوزا.

أما من الناحية التاريخية لبداية الحداثة «فمقرّرات التاريخ تعرّف الحداثة بالاقتصار على استبعاد العصور القديمة، فتكون الأزمنة الحديثة تبتدئ بسقوط آخر إمبراطورية في العصور القديمة، وهي الإمبراطورية البيزنطية في سنة 1453م أو سقوط القسطنطينية، وأيضًا مع عام 1455م مع اختراع المطبعة على يد غوتنبرغ، و1492م مع اكتشاف أمريكا على يد كولومبس، أم هي1520م عندما أثبت كوبرنيك أن الأرض ليست هي مركز العالم»[4].

أما ما جاء في تفسير الحداثة في موسوعة إنكارتا فهي «تلك الفترة التي تمتدّ من عصر الأنوار إلى الوقت المعاصر، وتسعى إلى تفسير العالم أو الكون وجميع الموجودات تفسيرًا عقليًّا».

وعليه فمفهوم الحداثة حسب ما ورد، فهي تشير إلى التحوّلات الكبرى في التوجّهات التي برزت على الساحة المعرفية والعلمية والفلسفية والسياسية، خاصة تحوّلت البرديغمات والنماذج المعرفية التي من خلالها يتمّ إيجاد تصوّرات ورؤى جديدة إلى العالم، فالمناهج العلمية الجديدة المستحدثة قد برزت مظاهرها بأشكال مختلفة، تعبّر عن نقاط تحوّل في السيرورة التاريخية للبشرية، هذا ما أسموه بالزمن الحديث قياسًا بالأزمنة القديمة، التي كانت مكرّرة في دور تاريخي في نماذجه الرومانية واليونانية، وما الحداثة إذن إلَّا العيش في الأزمنة الحديثة.

أما بالنسبة للحداثة عند روجيه غارودي، فقد تعدّد وصفه لها عبر تمظهراتها المختلفة، غير أنه يشير إلى أهمية أن مصطلح الحداثة لا بد أن نورده من جهة ثقافية عالمية، لا من جهة فكرية مرتبطة بالبيئة الجغرافية التي نشأت فيها الحداثة وهي أوروبا، «نبدأ بتعريف الحداثة في منظور ثقافة عالمية متعدّدة، وليس من زاوية نظر ثقافة أوروبية خصوصية فحسب»[5].

هذه الطريقة التي اتّبعها روجيه غارودي في عرضه لمفهوم الحداثة، هي لفتة منهجية قيّمة؛ ذلك أنه لو أوردها من زاوية ثقافية غربية في محضنها الذي نشأت فيه، فلا شك أنه سيسقط في مصادرات منهجية، من أهم هذه المصادرات التحيّز[6] للنموذج الثقافي الغربي الأوروبي، لأن هذه القراءة ستكون جانبية ومن زاوية واحدة، وستكون قراءة ناقصة للمشروع الحداثي الغربي، فالقراءة التي يريدها روجيه غارودي هي من منظور ثقافية عالمية، لعالمية الفكرة التي أصبح لها حضور عالمي وتجاوزت الحيّز الجغرافي الذي نشأت فيه.

لذلك قرّر غارودي أن يقارب الحداثة من هذه الجهة حيث يقول: «إن الحداثة شكل من أشكال ثقافة من الثقافات، وأسلوب حياة من الحيوات»[7]، أما الثقافة عنده فهي تتحدّد «بمجمل علاقات الإنسان، فردًا أو جماعة، بذاته، وبالطبيعة، وبالآخرين من بني نوعه، وبالمستقبل أو بمعنى الحياة»[8].

فالحداثة ذات صلة وشيجة بالثقافة، فلكل مجتمع له ثقافة تحدّد طُرُزَ رؤيته إلى العالم، فالحداثة من حيث الرؤية والمقاربة الثقافية لها، هي رؤية إلى العالم، وعليه فالحداثة -حسب غارودي- تعني الثقافة وطريقة عيش هذه الثقافة في الحياة وفق تلك الرؤية الثقافية إلى العالم؛ أي ذات حُمُولَة ثقافية، ولكل ثقافة أسلوب في تحديد معنى الحداثة.

فإذا كانت الحداثة هي شكل من أشكال الثقافة، وجذر منبتها هو الغرب فما هو زمانها؟ وما هو نوع هذه الثقافة؟ يجيب روجيه غارودي ويربط الزمن بالأزمنة الحديثة المتعلّقة بالنهضة الأوروبية بقوله: «ممّا له دلالته أن تدرج كتبنا المدرسية على تحديد بداية الأزمنة الحديثة بالنهضة الغربية»[9].

أما طبيعة هذه الثقافة فهي ليست سوى ثقافة الهيمنة والسيطرة والاستغلال والاستدمار تلك هي النهضة الحداثية، «التي ليست سوى الميلاد المتزامن للرأسمالية والاستعمار والذي بتقويضه أركان قرطبة عام 1236م، ودكّه لغرناطة آخر مملكة إسلامية بأوروبا عام 1492م، واجتياحه لأمريكا، يكون قد قطع أوصال ثقافتين شامختين، هما الثقافة الإسلامية وثقافة الهنود الحمر»[10].

تلك الحداثة التي يمكن تحديد ثقافتها التي تريد أن تنمّط عليها العالم، وفقًا لتلك الأفكار التي صاغتها، ونعني بها أفكار الحداثة ومسلّماتها الثلاث، «وابتداءً من هذه اللحظة، يغدو بالإمكان أن نرجع بتحديد الحضارة الغربية لعلاقاتها بالطبيعة والآخر والله أو الغاية النهائية من الوجود إلى ثلاث مسلّمات هي: 1- مسلّمة ديكارت التي تجعل الإنسان سيّدًا ومالكًا للطبيعة، 2- مسلّمة هوبز التي تجعل الإنسان ذئبًا بالنسبة للإنسان، 3- مسلّمة مارلو التي تجعل الإنسان المنمي لقدراته العقلية إلهًا يسود جميع العناصر ويهيمن عليها»[11].

أما بالنسبة للحداثة وكونها ثقافة الهيمنة والاستغلال فيحدّدها غارودي في بعض المظاهر والمجالات، خاصة وأن التاريخ خير ما يستأنس به في الإدانة لتلك التصوّرات، وحسب قوله: «ولكن خمسة قرون من الهيمنة المطلقة لم تنتهِ بهذه الثقافة إلى ما استهدفته مسلّماتها تلك من نتائج، وإنما إلى نقائضها من تلويث للطبيعة، واستنفاد لمواردها، وقدرة تقنية على إتلافها، وانغمار في مستنقعات السوق التي فاقمت العنف، وسعّرت الحروب، وألهبت نيران المزاحمة التي لم تفتأ أن جزّأت المجتمع الواحد إلى فئات متناهشة، وعمّقت الهوة بين شمال مستقطب للثروات المتفاحشة، وجنوب يتضوّر جوعًا ومسغبة»[12].

كما يمكن تحديد الحداثة في بعض المظاهر الغامضة لتلك السلوكات غير الواضحة للمجتمعات التي تتدعي وتصطنع فعل التحديث؛ إذ « تخص كلمة الحداثة مجموعة مبهمة من السلوكات:

- حضارة مسيطر عليها من خلال العلوم والتقنيات.

- عقل برجماتي[13]، مرتبط بحكمة الغاية تبرر الوسيلة، وتسلط مقولة: كل الأسئلة التي لا نستطيع الإجابة عنها هي أسئلة خاطئة، بما في ذلك أسئلة الخير والشر، والتي تشكّلت منذ ذلك الوقت من خلال علاقة القوة.

- وحدانية شمولية للسوق[14]، نظام تختزل فيه كل القيم إلى قيم سلعية.

- نمط حياة غربي يهدف إلى تحوّل الإنسان إلى منتج أكثر وأكثر فعالية، مستهلك أكثر وأكثر شراهة في رغباته، وتحركه مصلحته الفردية فقط»[15].

فالحداثة الغربية تُعلي من شأن التقنية والمعرفة والعلوم، وهي حداثة وفيّة لمسلّماتها التي انطلقت منها في رغبتها الديكارتية، ولا ترتكن إلَّا إلى مرجعية العقل الإنساني؛ الذي حلَّ محلَّ الإله عند مارلو، فهي تحاول وتسعى للإجابة عن جميع الأسئلة بما في ذلك أسئلة القيم والبدايات والنهايات.

وكل سؤال لا يتضح الإجابة عنه فهو سؤال خالٍ من معنى ولا يمثّل أي قضية ذات بال، وحتى تبقى وفيَّة لمسلمة هوبز في مقولة الصراع وإشباع الرغبة، فهي تكرّس العالم وتجعله سوقًا واحدةً لسلعها ولإشباع رغبتها في التملّك والسيطرة، فهي تريد أن تجعل من العالم كأنه قرية واحدة، لا لهدف التواصل وتحقيق الاعتراف، بل لهدف الدمج في النسق الإمبريالي، والامتثال لديانة وحدانية السوق، ولا يصبح للإنسان أيَّ معنى، بل سيختزل في بُعده الاستهلاكي، تحركه الرغبة والمصلحة والأنانية، فلا مكان لوجود مبدأ التسامي والقيم الهادفة في الحياة سوى لخلق التملّك وحب الذات.

إذن فالحداثة عند روجيه غاوردي وفق تلك التصوّرات والمسلّمات الناظمة للفكر الحداثي، إنما تمثّل حداثة الرجل الفاوستي «المبدع العملاق الذي لا يؤمن إلَّا بالقدرة على المعرفة، والذي لا يتوقّف عن طلبها ولا يروي ضمأه منها، بل هو في بحث متواصل عن المطلق بمنتهى العبقرية»[16]؟

ﷺ ثانيًا: الأفكار الناظمة للفكر الحداثي

3/ 1- الغزو والسيطرة على الطبيعة عند رينيه ديكارت

يعتبر رينيه ديكارت (René Descartes) أبًا للفكر الحداثي، ومدشن الفكر الفلسفي للحداثة الغربية، وقد أسّس فكره على أساس عقلاني، فجعل من العقل معيارًا للحكم على العوالم، «فإنّنا لا نخطئ إذا استخدمنا بحكمة العقل الذي منحنا إيّاه، ولكن هذا لا يعني أنّنا لن نخطئ أبدًا، ثم أعرف بخبرتي الشخصية أن الله قد وهبني ملكة من خصائصها أن تحكم، أو أن تميّز بين الصائب والخطأ... فمن الثابت أنه لم يهبني تلك الملكة لتقودني إلى الخطأ، إذا استعملتها كما هو لازم، إذن لا مفرّ من الاستنتاج أنني لا انخدع»[17].

هذه الملكة هي من الهبات، التي يمكن أن تكون معيارًا للوجود وللمقايسة، كيف لا وهي كما يقول ديكارت: «العقل هو أحسن الأشياء توزعًا بين الناس إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية... يتساوى بين الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أنّنا نوجّه أفكارنا في طرق مختلفة، ولا ينظر كل منا في نفس ما ينظر فيه الآخر لأنه لا يكفي أن يكون للمرء عقل، بل المهم هو أن يحسن استخدامه»[18].

فقد صاغ ديكارت التصوّر الجديد البديل عن تلك التصوّرات القديمة التي كان المنطق الأرسطي هو المنهج الوحيد في التعاطي مع الوجود وتصوّره، لكن مع «ديكارت تأخذ الرياضيات محل المنطق الصوري، ونجد داخل عقلانية ديكارت جميع مميّزات العقلية السقيمة، التي تكمن فيما يلي:

- الادّعاء المنهجي بأن كل حقيقة تستنبط من يقين أولي واحد (أنا أفكر، إذن أنا موجود).

- النزعة المحوّلة التي ترد الإنسان إلى بُعد واحد من أبعاده، أي العقل: (أنا مادة يكمن جوهرها كله وطبيعتها في التفكير فقط).

- التطلّب الملزم إزاء الطبيعة: (بحيث نجعل من أنفسنا أسياد الطبيعة ومالكيها)»[19].

أراد ديكارت أن يجعل المرجعية للذات العارفة، من خلال اعتمادها العقل في فهم الوجود، والتعاطي مع العالم الذي نحيا فيه، وسيكون الإنسان الجديد الذي حدّده ديكارت، معتمدًا فقط على ذاته وقدراته العقلية ولا يركن إلَّا إلى هذه المرجعية.

 هذا ما حاول ديكارت فعله حينما «وضع الذات le sujet في مقابل الموضوع l’objet وتكوّنت تلك الثنائية la dualité الحادّة بين الذات العارفة من جهة ممثّلة في الإنسان، والموضوع المعروف أو المدروس من جهة ثانية، وهي متمثّلة في الطبيعة وهذا يعارض النظرة أو الموقف الذي كان سائدًا من قبل لدى رجال اللاهوت... بحيث أصبحت الذات الإنسانية الواعية بقوّتها، والتي اعتبرت نفسها مواجهة للعالم الموضوعي الخارجي الذي يخضع للحساب الغزو والسيطرة»[20].

3/2- فكرة الصراع عند توماس هوبز:

من المقولات الأساسية التي تأسّس عليها المشروع الحداثي الغربي، وفق تصوّر روجيه غارودي للأفكار الثلاث الناظمة للفكر الحداثي، مقولة توماس هوبز (Thomas Hobbes) التي تعتبر أن الإنسان ذئب للإنسان، ومن ثَمَّ فالعلاقات بين البشر هي علاقات تنافس على الأسواق، ومواجهات الغابة بين الأفراد والجماعات، وعلاقات السيد والعبد[21].

حيث صرّح هوبز عن هذه النبوءة في كتابه (المواطن) إذ يقول: «وكي نكون غير متحيّزين فإن كلا القولين صحيح جدًّا، فالإنسان للإنسان هو شبيه بالإله الرحيم؛ والإنسان للإنسان هو ذئب شرير، فالأولى صحيحة إذا ما قارنَّا المواطنين بين أنفسهم؛ والثانية صحيحة إذا ما قارنَّا المدن»[22].

وحسب طبيعة البشر الشريرة فإن الفعل الخلقي لن يتأسَّس في أكثر أحواله إلَّا على دوافع مادية، لا يعرفها الإنسان إلَّا وفق تصوّر الرغبة والمنفعة واللذة والألم، حيث يقول هوبز في كتابه (اللفياثان): «إن إنسانًا انتهت رغباته لا يمكنه أن يعيش، تمامًا كالذي توقّف خياله وحواسه، إن السعادة هي انتقال مستمر للرغبة من موضوع إلى آخر، حيث يكون الموضوع الأول سوى طريق نحو الثاني، سبب ذلك أن موضوع رغبة الإنسان ليس أن يستمر مرة واحدة وللحظة واحدة من الزمن، بل أن يضمن إلى الأبد الطريق نحو رغباته المستقبلية»[23].

فطبيعة البشر الأنانية والرغبية تتصارع لتحقيق المزيد من الملذات والرغبات؛ فلذلك «إذا رغب شخصان بشيء واحد لا يقدران على الاستمتاع به كلاهما فإنهما يصبحان عدوّين، وفي طريقهما إلى غايتهما -و هي بشكل أساسي حفظ نفسيهما، وأحيانًا مجرّد اللذة- يحاول كل منهما تدمير أو إخضاع الآخر، ومن هنا حيث لا يخشى الغازي إلَّا قوة الإنسان الآخر، إذا زرع أحدهم أو حصد أو بنى أو اقتنى مكانًا ملائمًا فإنه من المتوقّع أن يأتي آخرون، وهم مصمّمون... لأخذ ممتلكاته وحرمانه ليس من ثمار عمله فقط، بل وأيضًا من حياته أو حريته»[24].

3/3- العقلانية المطلقة عند كريستوفر مارلو

أما بالنسبة للمسلّمة الثالثة التي ساهمت في صناعة الفكر الحداثي، فيرى روجيه غارودي أنها تكمن في مسلمة كريستوفر مالو[25] (Christopher Marlowe)، حيث ينقل غارودي هذه المسلّمة على لسان كريستوفر مالو بقوله: إن «الفرض الأساسي لمارلو في كتابه فاوست، الذي أعلن مسبقًا، وفاة الإله -أيها الإنسان عن طريق عقلك القوي، تصبح إلهًا، المالك والسيد لكل العناصر- هكذا تمَّ تكريس القضاء على الأبعاد السامية للإنسان، والرفض لكل القيم المطلقة»[26].

وفي اختيار غاروي لهذه المسلّمة التي تحمل في بنيتها معانيَ مضمرة ودقيقة؛ حول البدايات الأولى لتشكُّل ثقافة عصر النهضة والطابع الرؤيوي للحداثة، وما ستكون عليه تلك التصوّرات في المستقبل الإنساني، التي تُعلي من شأن الإنسان من خلال الصفة العقلانية التي يتمتّع بها على خلاف جميع عناصر الوجود، بنزعة وثوقية لا تكاد توجد من قبل.

وقد أورد هذه المسلّمة كريستوفر مارلو في كتابه «مأساة الدكتور فاوست» بقوله: «إذا قلنا: أنْ ليس لدينا خطيئة فنحن نخدع أنفسنا، وليس فينا حقيقة... أي معتقد هذا الذي تقولون، ما الذي سيكون، سوف يكون، وداعًا يا لاهوت (يتناول كتابًا في السحر) خطوط، دوائر، حروف، أرقام... آه، أي عالم من الفائدة والسرور، من القوة، والرفعة، والقدرة القادرة، سيكون طوع إرادتي الأباطرة الملوك، مملكة... تمتد على امتداد فكر الإنسان الساحر البارع نصف إله، بهذه أشغل عقلي لأبلغ الألوهية.

(ملاك الشر) تقدّم يا فاوستس، في ذلك العلم الشهير الذي يضم كنز الطبيعة جميعًا، كنت أنت في الأرض مثل يوبيتر[27]، وفي السماء سيّدًا وحاكمًا لهذه العناصر»[28].

هذه الأفكار الكبرى قد قادت الحضارة الغربية نحو الاضمحلال وبروز الأزمات التي يمكن رصدها وفق ما قرّره غارودي في الآتي:

1- الاضمحلال على المستوى الاجتماعي

لما كانت الحياة عبارة عن صراع، والتأسيس لمزيد من السيطرة والغزو فقد أدّى إلى انعكاس ذلك في: «صرف التسليح على سطح الكرة الأرضية بمبلغ 650 مليار دولار 1986... في نفس السنة توفِّي في العالم الثالث خمسون مليون بسبب الجوع أو سوء التغذية، ومن الصعب أن نسمّي خط سير الحضارة الغربية، وتوصّلها إلى إمكانية تدمير الحياة على سطح الأرض وإنهاء ثلاثة ملايين سنة من تاريخ البشر، لا يمكن أن نسمّي ذلك بحال من الأحوال تقدّمًا»[29].

2- الاضمحلال على المستوى الاقتصادي

لما كانت الفكرة هي السيطرة وغزو العالم تعدّ أهم أفكار الحداثة، كان لا بد أن تفعّل تلك المسلّمات بأفكار أخرى تدعمها، منها فكرة «النمو والزيادة، فهم يطلبون زيادة الإنتاج سواء كان مفيدًا أو ضارًّا أو حتى مميتًا»[30]، وخطره واضح في البيئة اليوم.

3- الاضمحلال على المستوى السياسي

فكرة الصراع واعتبار الحياة لا يحكمها إلَّا منطق القوة، منذ تأسيس أبجدياتها مع توماس هوبز، «كانت السياسة والعلاقات الخارجية والداخلية بين الدول، فالعنف هو الذي يسيّرها، أي مصالح الأشخاص والطبقات والشعوب التي تتصارع فيها صراعًا رهيبًا»[31].

4- الاضمحلال على المستوى الثقافي

لما كانت أفكار الحداثة تفتقد لناظم موجّه نحو الهدف والغاية، فإن المنطق الذي يحكم الفعل الثقافي هو العراء عن المعنى والعدمية، «تتميز النواحي الثقافية بفقدان المعنى والمغزى لهذه الحياة، فهم يريدون أن يكون الفن للفن، والعلم للعلم، والاختصاص لمجرّد الاختصاص وأن تكون الحياة في سبيل لا شيء»[32].

5- الاضمحلال على المستوى الدين والإيمان

فكرة العقلانية وتأليه العقل التي جعلت الفردانية ورجوع الفرد إلى ذاته وعقله وقطع الصلة بالمتعالي، «فقد أضاعوا معنى السيطرة العلوية الإلهية، وبذلك تمَّ إغفال البعد الحقيقي للإنسان في إنسانيته، وتعذر إمكان الفصل بين النظام والفوضى الموجودة»[33].

ﷺ ثالثًا: رهنات العلاج في رؤية غارودي
أو آليات تفعيل المنظومة القيمية على الصعيد الواقعي

تعتبر التربية من أهم الأساليب التي ركّز عليها غارودي في تغيير الواقع؛ لما لها من أهمية في بناء وصناعة الإنسان، فهناك صلة وشيجة بين التربية والإيمان؛ حيث «ترتبط مشكلات الإيمان والتعليم بعضها ببعض بشكل حميم، ذلك أن كلًّا منهما تطرح قضية الغايات الأخيرة للإنسان، وينطبق هذا الأمر على كل حضارات العالم»[34].

من هذا المنطلق يسعى غارودي لتغيير الوضع القائم، من خلال استراتيجية التعليم ليضع تصوّرات جديدة له، من شأنها أن تعالج الأزمة الراهنة؛ وحسب قوله: «لا يمكن أن نطرح القضية الأساسية للتعليم بعيدًا عن هذه التعارضات الزائفة، وفي هذا الإطار لن نتحدّث إلَّا على ثلاث مواد: تعليم القراءة، والتاريخ، والفلسفة، ذلك أن كل شيء في نظامنا التعليمي يجب أن يُعاد بناؤه انطلاقًا من البدايات والأسس وتتمثّل البدايات في تعليم القراءة»[35].

إن هذه الطريقة التي يعتمدها غارودي من خلال فعل التعليم تسعى لتعليم المقهورين، ليفتكَّوا إنسانيتهم من مستلبيها، لذلك رسم مخطّط المواد السابقة التي رآها نقطة البداية، «لأجل أن يتغلّب الإنسان على ظروف القهر فإن عليه أن يتعرّف على أسبابه حتى يتمكّن من تطوير موقف جديد يحقّق فيه إنسانيته الكاملة... وعلى المقهورين مسؤولية نضالية من أجل استعادة إنسانيتهم المفقودة»[36].

أ- فاعلية القراءة وبناء الوعي

أول شيء يبتدئ به غارودي هو تعليم القراءة لما لها من دور خطير في توجيه الوعي، وهذا النوع من القراءة لا يستهدف القراءة الساذجة، بل تلك القراءة التي يمتلك القارئ من خلالها الحسّ النقدي[37]، القراءة التي تصل بصاحبها إلى تكوين حسّ نقدي للواقع وتأويله وتفسيره، ويسعى للكشف عن البؤر والأشياء غير الظاهرة فيما هو معطى.

يقول غارودي: «أن تتعلّم القراءة، فهذا لا يعني
فقط أن تذكّر أو أن تتهجّى الكلمات، وإنما يعني أن تتعلّم كيف تفسّر الواقع، أي تدرك أن الكلمات لا تكشف، وإنّما على العكس تقتفى... أن تعرف القراءة لا يعني أن تترجم شفاهيًّا العلامات المكتوبة في جريدة أو كتاب ما، وإنما أن تجيد قراءة الواقع، وفكّ شفرات شراك الكلمات، أن تبصر العالم وتصدّعاته لتغييره»[38].

يضرب لنا غارودي مثلًا حول القراءة النقدية الواعية من خلال كلمة المسكن، هذه الكلمة البسيطة التي تعني حسب قاموس لاروس «المكان الذي نقيم فيه عادة، فإن صورة المتسوّل الذي ينام عند فتحة تفريغ هواء ساخن في محطة المترو ليحمي نفسه من البرد يتلحّف صفحات الجرائد، ويستدفئ بها، فهذا هو المكان الذي يقيم فيه عادة»[39].

وهنا لا يتعلّق الأمر بمجرّد وضع مفهوم أو اصطلاح بسيط للكلمة بقدر ما أنه «الوعي بالحركة التي يفجّرها اللفظ، هكذا نخرج من مقام التجريد اللفظي، إلى مقام تهيئة الطفل لأن يكون إنسانًا، أي بناءً للمستقبل، وإلَّا ظل -وإن تلجلج في نطق العلامات، وتكرار تعريفات القاموس المجرّدة- أميًّا، عاجزًا عن تفسير الحياة ومعناها؛ إذ يصبح مؤهلًا لأن ينخدع بكل الكلمات المشبعة بالتجريد»[40].

إن فعل القراءة هو عبارة عن فعل واعٍ، ووسيلة يسعى الأفراد من خلالها إلى قراءة حركة الواقع وتغييراته، خاصة بعد أن غُذّي الفعل التربوي في الغرب بفكرة القهر والتطويع لما هو واقعي، « في كل مستويات التعليم، من بدايات تعليم القراءة وحتى تعليم الفلسفة أو مدرسة الإدارة العليا، كانت الوظيفة الأولى للتعليم هي تطويع الفرد للفوضى القائمة، أي تشكليه كذات وهي قطب للملكية وللسلطة من جهة، وإخضاعه للقبول بالأمر الواقع... وهكذا ومنذ الانطلاقة الأولى للتعليم، نجد مفهومًا منحرفًا للثقافة وللنّظام الاجتماعي معًا»[41].

والقراءة التي يركّز عليها غارودي هي ما تَمَّ ضبطه عند باولو فريري، حيث نجده متأثرًا به في التصوّرات التي وضعها حول التعليم والتربية، إذ يعتبر فريري أن «القراءة الواعية تمكّننا من مراجعة قراءتنا السابقة للعالم، ولكن القراءة ليست متعة خالصة، ولا فعلًا ميكانيكيًّا لاسترجاع وتذكّر أجزاء من النص... الحل عندي لا يعتمد على مجرّد تكرار أجزاء من فقرات من خلال قراءة ميكانيكية مرتين وثلاث مرات وأربع مغلقًا عيني ومحاولًا ترديدها... إن القراءة لا تعني ذلك الأداء، إنما هي عملية ذهنية صعبة ولكنها ممتعة»[42].

هي قراءة نقدية إذن، وليست لأجل الاسترجاع ولا لتقليد ما يقال، بل هي الوعي اللازم لتغيير ما هو قائم، وهي المعاناة لأجل فهم العالم وإعادة صياغته من جديد، فعبر أفق القراءة تكون الولادة الجديدة للعالم وللإنسان.

ب- فاعلية الدرس التاريخي في بناء الحس النقدي

يعدّ علم التاريخ من أهم المواد التعليمية التي يسعى كل مجتمع من خلالها لتكوين شخصية أفراده وأبنائه عن طريق ربط الحاضر بالماضي، وإضفاء صورة رمزية حول تكوّن الشعوب والقوميات والدول، هذه الصورة التي ستكون آلية مضمرة في البنية النفسية للعقل الجمعي لكل فرد في المجتمع.

ومن هنا تسعى كل دولة إلى بناء وجودها الأنطولوجي من خلال هذا الوعي الزمني المتشكّل عبر حقب متعدّدة، وهو ما يطلق عليه: التاريخ، ولكنه سلاح ذو حدين فإما أن يكون تاريخًا يسعى إلى بناء الأمم، وإما أن يكون سعيًا إلى تشكيل أوهام تخدم السلطة الحاكمة؛ ولذلك يعتبر «التاريخ [43] هو المنتج الأكثر خطرًا لكيمياء العقل المتقدّمة، وخصائصه معروفة جدًّا، إنه يسلمنا للحلم، إنه يخدّر الشعوب، يجلب لها الذكريات المزيّفة، ويقودها إلى هذيان العظمة أو الاضطهاد، إن التاريخ يبرّر ما يريده، كما أنه يحتوي على كل شيء، ويقدّم الأمثلة لكل شيء، وفي الوضع الحالي للعالم صارت غواية التاريخ أكبر ممّا كانت عليه في أي فترة مضت»[44].

ولذلك حاول غارودي تقصّي تلك البؤر التي جعلت من تعليم التاريخ وسيلة لبناء الأوهام والاستغلال غير الأخلاقي له، وقد رصد لنا المواقف اللاإنسانية خاصة تلك التي تتركّز حول ذاتها في بناء التاريخ المجيد والبطولي لها ونفي الآخر وثقافته< إذ يقول ناقدًا: «أولًا: دور التاريخ المدرسي في اختراع الأساطير المؤسّسة للانسجام القومي. ثانيًا: الاحتقار الاستعماري وما بعد الاستعماري لقيم الآخر، والذي لا نتعلّم منه شيئًا عن طريق الحوار بين الثقافات»[45].

ويرى غارودي أن من المشكلات العويصة هنا أيضًا عملية التحريف، ومن بين التحريفات للتاريخ «إضفاء الطابع الأسطوري على فكرة الدولة»[46]، خاصة فيما يتعلّق بالتأريخ لدولة فرنسا باعتبار أنّها «خالدة تلك التي أعيد بناؤها بطريقة لا تراعي التاريخ، وإنمّا بأثر رجعي، تمَّ فيه إسقاط فرنسا الحالية على الماضي، كما تمَّ تشكيل شخصية فاعلة للشعب الفرنسي موجّهة نحو هدف بعينه، حتى قبل أن يوجد مثل هذا الشعب، وعلى الرغم من الأصل الأسطوري الذي نعزوه إليه»[47].

يتّجه غارودي في تعقّب المسيرة التاريخية لتشكّل ما تسمّى دولة فرنسا، منتقدًا السيرورة التاريخية لبناء هذه دولة التي ضمّت بين أكنافها تاريخًا لا إنسانيًّا بُنيت عقبه؛ إذ يقول: «إن فرنسا الخالدة كانت تسمّى منذ ألفي عام بلاد الغال، ومن ثم تغيّر اسمها إلى فرنسا، ووفقًا لهذا التاريخ الأسطوري لم يعد مهمًّا إذا ما كان مجموع الأراضي التي تتشكّل منها فرنسا الحالية هو نتاج سلسلة من الحروب والغزوات والمذابح للبشر والثقافات... وفي كل الأحوال تصبح فرنسا خالدة لأنّها فرنسا الهابطة من عند الله»[48]، ذلك التاريخ الذي يجعل من دولة فرنسا خالدة ويضفي عليها طابع التقديس على الرغم أن تاريخها قد سجّل أفعالًا لا أخلاقية «إذ تظل فرنسا خالدة، على الرغم من شهادتها على مذابح اليهود ومذابح المسيحين في بيزنطا، ومذابح المسلمين في القدس»[49].

بالإضافة إلى ذلك فإن جل الدول تتأسّس على فكرة رابطة الدم أو العرق أو ما يسمّى فكرة العقد الاجتماعي، و«إنه لصراع مزيّف ذلك الذي يدور حول مفهوم المواطنة، التي تمنح على أساس حق الأرض وحق الدم، كما لو كان الانتماء إلى جماعة ما، يرتبط بعوامل خارجة عن الإنسان ومشاعره... أمّا عن حق الدم فهو يعتمد على عامل آخر مستقل عن إرادتي كما هو الحال مثلًا بالنسبة للحيوان، فهو يكون إما فيلًا وإما ضفدعًا بغير إرادته»[50].

أما إذا أردنا أن نتحدّث عن الرّابطة التي من خلالها يمكن لأي فرد أن يتمتع بحق المواطنة، فإنه يتعيّن علينا أن نجد رابطة أسمى، ابتداء يمكن أن تكون الرابطة إنسانية بامتياز وهي «الرابطة الإنسانية الواحدة لجماعة الإنسانية، تتمثّل في اشتراك هذه الجماعة في مشروع عام، وتعاونها على تحقيق هذا المشروع، بوصفه مشروعًا مشتركًا للإنسانية كلها كوحدة كلية، وهكذا يساهم كل شعب من خلال ثقافته الأصلية في أنسنة الإنسان، ونموّه وتقدّمه الحقيقي للإنسانية»[51].

هذا ما يتطلّب التغيير الجذري لكيفية تعليم مادة التاريخ، لا عن طريق مجرّد تغيير للمعلومات، بل تجنّب طرح تلك النزعات التمامية المغلقة، و«تجنّب الرأي الدوجماطيقي والذي يرمي إلى التسلط على المجتمع كله، والعلمانية التي تصادر على البحث عن الغايات النهائية للفعل، يجب أن نكافح معًا من أجل وحدة الإيمان ومن أجل تلاقح خصب بين الثقافات والمؤسسات التي تعيش هذا الإيمان»[52].

تجب -بالموازاة مع ذلك- مراعاة وضع تلك المادة، خاصة وأن كتابة التاريخ عادة ما تتمّ صياغتها من الطرف الأقوى المنتصر، فبينما يظل القوي يحتل المركز دائمًا، تظل بقية الشعوب الأخرى على الهامش، ممّا يؤسّس لثقافة تهميش الآخر والاعتداد بالذات على حساب سحق أصناف كثيرة من تاريخ الثقافات التي ساهمت في بناء تراث الإنسانية؛ ولذلك نبّه غارودي إلى مثل هذا النوع من التحريف الذي يطال تعليم التاريخ بقوله: «فقد اقتضى التاريخ المكتوب دائمًا بقلم الغالبين، أن يكون الانتصار لحضارة وقانون الأقوى... وأن كل الشعوب والحضارات غير الغربية ليست إلَّا ملاحق ثانوية لتاريخ الغرب، فهي لا تدخل في حيّز التاريخ إلَّا إذا اكتشفت من خلال الغرب، أن التاريخ الذي تنقله لنا الكتب المدرسية ليس إلَّا تاريخ الغرب وقد ألحق به تاريخ الشعوب الأخرى»[53].

فالمعرفة التاريخية ضرورية في بناء الوعي عن طريق العودة إلى الأحداث الماضية، واستردادها لأجل الاستفادة منها حتى لا تكرّر تلك الأخطاء، فنفعها مهمّ بالنسبة للحياة الإنسانية.

ج- نحو فلسفة جديدة لتغيير العالم

يرى غارودي أن الفلسفة في الغرب تكاد تكون فلسفة ميّتة، لانفصالها عن البحث في مجال الغايات ومعنى الحياة، واقتصار جهدها على البحث في الوجود والبحث التجريدي، لتكتمل قمة هذه المثالية مع «هيجل ثمّ تبدأ حركتها العكسية مع ماركس، ليفتح المجال على فكر هو الذي سيشعل الحماسة أو الكراهية لدى ملايين الرجال»[54]، ليتصدع هذا البناء الفلسفي مع نيتشه ويقلب التصوّرات «رأسًا على عقب... ويمضي هذا النبي إلى ما هو أبعد من هذه الثنائية ليطلق سراح الحياة»[55].

ثمّ لتبتدئ فلسفة الوجود مرة أخرى مع سارتر، ولتنفصل عن الحياة و«ليصبح الفكر هو تاريخ خضوع الإنسان -كما يقول جيل دولوز- أو تاريخ الثورات العاجزة، فأنت لست إلَّا تجريدًا للثائر كما يقول سارتر... الفلسفة في العالم المعاصر هي من ألعاب التسلية للمختصّين المتميّزين، هي الألعاب البهلوانية اللغوية، فالمفكّرون بعيدون عن المشكلات الحياتية اليومية، وعن حركات حياة الشعوب، بقدر بعدهم عن الأزياء الراقية أو لعبة بنك الحظ»[56].

والموقف نفسه أيضًا يتّخذه غارودي من فلسفة هيديجر في ألمانيا< «إذ جعل من نفسه راعيًا للوجود، واستمرّ في غزل الوجود والزمان في مكتبه الرئاسي الآمن في المقاطعة، بمأمن من الوجود الواقعي الذي كان هتلريًّا في ذلك الحين»[57].

وتبعًا لذلك يحكم غارودي على جميع فلسفات عصره أنّها فلسفات عديمة الجدوى، فلسفات موت الانسان، تظل قابعة في التكرار والموضة، كالفلسفة البنيوية التي تختزل الإنسان في حدود ضيّقة، وكفلسفة ألتوسير حيث «يعرض الماركسية أنها الفكر الأكثر حيوية في قلب الجماهير، دون أن يصل إلى جذور هذه الفلسفة، فهو لا يتجاوز في فلسفته حدود شارع الألما في باريس، وحدود دائرة مريديه في الحي اللاتيني، فهو يعكس روحًا يائسًا من الزمن، ويطبّق بنيوية جافة، قاد تلاميذه إلى الظن بأن الإنسان هو عروسة خشبية متحرّكة تتحكّم فيها الأبنية، ويصل مشيل فوكو[58] إلى نفس النتائج، ألا وهي موت الإنسان»[59].

وهكذا تمّ إبعاد دور الفلسفة عن الحياة، وإقصاء دورها الحيوي المتمثّل في اهتمامها بالسؤال الواقعي، فالفلسفة بمعناها الحقيقي هي عبارة عن «التفكّر في الغايات وفي معنى الحياة، والمشاركة في الفعل لتحقيق هذه الغايات وهذا المعنى، قد خانت رسالتها في الغرب، شرقه وغربه على السواء»[60].

لقد كانت هناك نماذج من فلسفات جعلت من الفعل أساسًا لها، ويرجع غارودي هذا النوع من التفلسف إلى انفتاح أصحابه على تجارب وفلسفات شرقية كالصينية والإسلامية، «فقد كانت رسالة الفلسفة من قبل هي رسالة رجال اللاهوت الكبار من أمثال: الكاردينال دوكو، ريمون لول[61]، يواكيم دي فلور[62]، هؤلاء انتعشت أفكارهم من أثر الاحتكاك بالشرق الصيني، الإسلامي، الإفريقي، عن طريق الاسكندرية»[63].

وبحلول القرن التاسع عشر كانت البدايات الأولى لإنبثاق فلسفة الفعل؛ مع موريس بلونديل[64] (MAURICE BLONDEL) (1849-1861م) في بحثه الذي قدّمه سنة 1839م تحت عنوان (L’Action) أو «الفعل: محاولة لنقد الحياة والعلم التطبيقي، وقد طرح سؤالًا أساسيًّا: ما الذي يجب أن نبتغيه لنصير أكثر إنسانية؟»[65].

وكجواب مقترح يعتبر بلونديل «أن الفعل هو أخصّ ما يعبّر عن الإنسان، ولن نكون مجازفين إذا اعتبرنا أن الإنسان هو الفعل، أو الفعل هو الصورة الحقيقية الدالة عن الإنسان، وهكذا فالفعل كسيف حادٍّ يفتح للنظر ممرًّا حتى إلى الأعماق المظلمة حيث تتهيَّأ التيارات الكبرى للحياة الداخلية، من خلال المنفذ الضيق للوعي ليكشف لنا على ما دون هذا العالم المعقد -الذي هو نحن– وجهات نظر لا نهائية، إنها تجدّد وباستمرار مع التناقضات والصراعات الحميمية منبعًا للفكر وللحرية»[66].

إن الفعل عند بلونديل هو الوسيلة التي من خلالها يتمكّن الإنسان من الوصول إلى تحقيق وجوده، ومن ثَمَّ شعوره باليقين من خلال ممارسته للفعل، ينسجم بلونديل بهذا الموقف مع الاتجاه الكاثوليكي، «ويصنف ضمن خصوم العقلانية والإيمانية معًا، بمعنى أن الوصول إلى اليقين لا يتمّ بواسطة العقل المحض ولا الإيمان المحض، فاليقين الأخلاقي فعل يقوم به الإنسان كله... فالوجود الإنطولوجي، والحياة بالنسبة للإنسان، ليس مجرّد تفكير، أو إيمانًا أو ممارسة، بل فيما يقوم به الإنسان بالفعل، إن ذلك يكمن في كلية الإنسان... الفعل هو ماهية الإنسان من خلال كونه حركة تجري بشكل دائم على هيئة دائرية»[67].

تلك الحركة التي تدل على تغلل الفعل وحضوره في عالمنا كله، فالحياة المعيشة والرغبات والطموحات وكل تصوّراتنا في العالم هي حركة من أجل الحضور الذي يتمثّل في الفعل بما «أن الوظيفية الأساسية للإنسان تكمن في بحثه عن الكمال النهائي أو التفوّق وتجاوز نظام الطبيعة التي يعيش في وسطها وحتى طبيعته هو، والتي تحدّد بعفوية بسيطة أو بالتكيّف مع الجو العام، فالقانون الداخلي للفعل الباحث عن المساواة بين المطلوب والمرغوب، يستلزم استهداف الميتافيزيقي، فالصفة المتعالية لأفعالنا معتبرة في مجمل طموحاتنا وجهودنا»[68].

إلَّا أن مطلب التناهي والكمال في الفعل غير ممكن، ومقدرة الإنسان لا تحيط به، ومن هنا يكون الفعل أمام «مشكلة لا يستطيع حلّها، وهي عملية المواءمة من حيث كونه حاول الإحاطة به، ويعجز عن ذلك، فاللامتناهي في المتناهي، يكمن في حركة الفعل، أي: في حركة الإنسان لبلوغ ماهية تفوّقه قيمة، يشعر بها، ولكنه يرى نفسه عاجزًا عن ذلك. يرى بلونديل أن ذلك يتمّ من خلال الموهبة الإلهية، وهي موهبة تكمن في النفس البشرية وما فيها من تجليات نورانية»[69].

كل ذلك لإظهار الطبيعة الديناميكية لفلسفة الفعل، وربطها بجميع عناصر الحياتية في الدراما الإنسانية، وتأكيد الحضور الإلهي في جميع تلك العناصر الحياتية من مِنح ومِحَن لتعطينا حركة التواصل نحو اللا نهائي من خلال حضور دائم للفعل.

إن مهمة فلسفة الفعل تكمن في إعادة ربط الإنسان بالحياة المعيشة والواقع، فهي ردّة فعل لإعادة تصحيح دور الفلسفة بعد أن تمَّ «إقصاء عالم الواقع اليومي، من أجل التأمّل على المستوى المجرّد وانفصل الفكر عن الحياة، وصنعت الفلسفة عالمًا قائمًا بذاته عالم الوجود، الذي يخلو من حركة الوجود الواقع ومن الوعي به، وهكذا صارت فلسفة الوجود فلسفة للسيطرة وليس فلسفة للتحرّر»[70].

هذا التحرّر الذي ننشده من خلال تصحيح حركة الفلسفة، والدعوة إلى تأسيس فلسفة الفعل هو ما اكتشفه غارودي فيما بعد في فكرة التوحيد باعتباره عملًا، «فالتوحيد ليس مؤسَّسًا على فلسفة للوجود، كما هو الحال عند اليونانيين، ولكنه على العكس من ذلك هو فلسفة فعل وهذا ما سمح بتجدّد العلوم»[71].

ثم توسّع غارودي في هذه الفكرة التي وجدها في الجوهر الروحاني للإسلام أي في التصوف الإسلامي مع محيي الدين بن عربي حيث وصل بتلك الفكرة –التوحيد- إلى مداها البعيد من خلال التأسيس الفعلي لفلسفة الفعل، «فما من شيء يبدأ مع حقيقة واقعة، سبق حدوثها، معطاة، سواء أكانت محسوسة أم مدركة، ولكن بفعل الله المبدع الذي لا يتوقّف، وأصبحت مشكلته الأساسية منذئذٍ تبيان كيفية استطاعة الإنسان المشاركة في هذا الفعل المبدع في خلق جديد، فعل لله الذي يكشف عنه القرآن بأنه لا يتوقّف {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} و{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، ليس في وسعنا أن نعرفه إلَّا بآيات عمله سواء أكان ذلك من عالم الطبيعة المرئي، أو حوادث تاريخ البشر أو وحي الأنبياء»[72].

وفي الفعل تكمن مقدرة الإنسان على أن يحقّق التسامي، ويتجاوز طبيعته الأنانية والطبيعة الموجودة كواقع مادي، إن «فلسفة الفعل تقوم هي أيضًا على مسلّمة هي: قدرة الإنسان على أن يتعالى على هذه الطبيعة وعلى أن يعمل لأجل إبداعها المستمر، في هذه الحالة ليس للإنسان طبيعة، بل له تاريخ إبداعات ثقافته، التي تميّزه عن الحيوان»[73].

د- الرمز والمثال والأسطورة آفقًا آخر نحو إعادة بناء الواقع

في إطار إصلاح منظومة المعرفة سعى غارودي إلى البحث عن بدائل يمكن أن تسهم في عملية إنهاض الإنسان بعد أن تشبّث بما هو أرضي، كما حاول أن يلفت انتباهنا إلى بعد آخر يمكن أن يسهم في رأب شرخ القيم الذي أحدثته التصوّرات الحداثية للعالم، خاصة أن البشر لا يمكن تنميطهم على بعد واحد.

إن الذي أراده غارودي من البحث عن التصوّرات الروحية في الأديان كان محاولة لفت انتباه الإنسان إلى السماء بدل تركيز نظره على الأرض، والمزاوجة بين النظرتين: نظرة التعالي ونظرة الإنسية أي وفق تصوّر متكامل[74]، ويمكن اعتبار الأسطورة[75] ممهّدًا لهذا العمل؛ لأنّها «كانت تدل على التاريخ الحقيقي بالإضافة إلى أنّها كانت نموذجًا يُحتذى، وقصة حافلة بالمعنى، ينظر إليها بأعلى درجات الاعتبار لما تتصف به من قدسية... بمعنى أنها تتيح نماذج للسلوك البشري، وتضفي على الوجود قيمة ومعنى... حتى أوجه السلوك ومختلف الفعاليات الدنيوية التي يقوم بها الإنسان تجد نماذج لها في بوادر الكائنات العليا»[76].

عن الطريق الأسطورة يمكن لها فتح باب المعنى أمام الوجود الإنساني، إذا اعتبرناه أنه الكائن الوحيد الذي يبحث عن المعنى فهي بذلك «لا تعبر عمَّا هو كائن فقط، بل هي أيضًا تساؤل عمَّا سيكون، واقتضاء للمضي إلى ما هو أبعد... بوصفها نداء، فهي لا توحي بالشاهد وإنّما بالغائب، بفقد ما، بفراغ ما، وتدعونا لملئه، هذه الأساطير هي شواهد على الحضور الحيوي الخلاّق للإنسان في عالم دائم التوالد والنمو... فالواقع ليس مُعطى، ولكنه مهمة ينبغي إنجازها»[77].

فالأسطورة تُروى بشكل قصصي وبلغة الرمز ممَّا يتيح لتلك الرمزية الانفتاح على المفهوم، ووضع كل تصوّر ومفهوم ضمن دائرة التساؤل، فهي وإن كانت تفسر بالوجود المفارق، إلَّا أن تلك العملية هي تجربة الوقوف في أفق التعالي لا بوصفه هروبًا من الواقع بقدر ما هو «تجاوز الجدلي من داخل عقل واعٍ بتعاليه الدائم على القوانين المؤقّتة التي كان قد أرساها من قبل... ومَانِحِينَ للمعنى، ومبتكرين للمستقبل، إن الرمز يقتضي منا هذا الانفصال عن الوجود، أو هذا التجاوز للوجود، أو هذا التجاوز للوجود عن طريق استجلاء المعنى والابتكار، يقول مثل بوذي عندما يُشير الإصبع إلى القمر، فإن الغبي ينظر إلى الإصبع»[78].

لهذا يمكن النظر إلى الأسطورة على أنها تلك الطريقة لمحاولة تجاوز الواقع والمعطى[79]؛ وإمكانية التعالي عليه بنقده والدعوة إلى تغييره، والتغيير يتطلّب منا القيام بفعل خلّاق تجاه العالم الواقعي الذي نعيشه، من خلال نقد البنى الرمزية المضمرة التي ساهمت في تكوينه، وبالتالي فلا بد من خلق معنى جديد تمامًا، «فالأسطورة هي ميلاد للمعنى بمنأى عن الحدث، إنها إرهاص للتعالي، لنجاوز الواقع الملاحظ والمعيش، ببساطة من أجل تفسير الأصل أو تشكيل الغايات»[80].

هذه هي أهم التوجيهات التي حاول غارودي من خلالها، بناء منظومة تربوية تعليمية، تسهم في بناء الإنسان وإعداده ليتجاوز ما هو قائم، والبحث فيما ينبغي أن يكون، وإنّها لمهمّة صعبة أن نبني إنسانًا يكون ثوريًّا[81] بالمعنى الإيجابي في حياته وواقعه المعاش، إن «أخصّ ما ينبغي أن تختصّ به تربية تليق بعصرنا هو أن تجعل الإنسان يعي أن مهمته كإنسان، أن يشارك في الخلق المستمر للعالم وفي التوليد الإبداعي لمطلق الجديد، وأن فعله لا يكون إنسانيًّا حقًّا ولا يمكّنه من بلوغ ذروة الحياة إلَّا إذا اجتمع الخلق الإبداعي والعمل السياسي والحب والإيمان لديه في فعل واحد»[82].

وهذا ما يمكن أن نسمّيه بالشرط الإنساني في التربية، أو كما يسمّيه إدغار موران شرط إنسانية الإنسان، فهو-الإنسان- «في الوقت ذاته، كائن بيولوجي كليًّا وثقافي كليًّا، أي كائن يحمل في داخله وحدة الثنائيات الأصلية، إنه حي فائق وخارق... إن الإنسان إذن كائن بيولوجي كليًّا، والثقافة بالتأكيد هي التي تمكّنه من الخروج من أسفل مراتب الرئيسات»[83].

وعليها يقع الرهان الأصلي للتربية، خاصة وأن الحمولة الثقافية تعتبر المساهمة في تشكيل الإنسان، إما أن ترتفع به نحو التسامي والتعالي أو تسفل به إلى الانفتاح على تجربة الشقاء.

ﷺ خاتمة

يمثّل التصوّر الذي عرضه روجيه غارودي النموذج النقدي لقيم الحداثة وآثارها في التربية وفي عالم القيم، وبعد هذا العرض يمكن القول: إن هذه النظرة التي قدّمها غارودي جديرة أن تحظى بالقبول أو أن نضعها في دائرة الإمكان الذي يمكن لأهل الحكمة من المفكّرين أن يدرجوها كتصوّر جديد لترميم الحداثة التي قوّضت نفسها من الداخل بسبب تلك الأزمات الحادّة التي تجلّت في مستويات متعدّدة.

كما أن هذا التصوّر العلاجي لم يتمّ عرضه من الجانب الآخر الذي يضاد فعل التحديث باعتباره خلاف القيم التي يتبنّاها أي تصوّري ديني منغلق على ذاته، بقدر ما هو رؤية جديدة لفيلسوف غربي نافح على الفكر الغربي مدة من الزمن، ليتأكّد له فيما بعد خلاف ذلك، فإدراك غارودي لفكرة الإصلاح التربوي، تمّت من خلال النقد الداخلي للحداثة الغربية باعتبارها بؤرة التوتّر، و لا يمكنها أن تعالج ذاتها من ذاتها أو من أفكارها التي دونتها طيلة خمسة قرون.

فقد بدأ العد التنازلي لبداية المراجعة والمساءلة التي لا بد أن تكون ذات قيمة تربوية باعتبار أنه العلاج الذي يضمن تخلّص الإنسان من السيطرة البشرية، ويقود الإنسانية نحو التسامي والتعالي الذي تتحقّق معه إنسانية الإنسان، باعتباره البوصلة الموجّهة لفكر البشر، والمهذّبة لنوازع أنفسهم التدميرية.

لم يكن روجيه غاوردي لوحده الذي حمل لواء العلاج التربوي، حتى لا يكون بِدعًا ما قام به، بل قد تقاطع تصوّره هذا مع تصوّرات الكثير من مفكّري الغرب، منهم رونيه جينو، وروجيه دوباسكويه، ومراد هوفمان، ودفيد موسى بيدكوك، وغيرهم من المفكّرين والفلاسفة الغرب الذين أدركوا أن العالم قد بلغ نقطة جدُّ حرجة، ولا بد من فتح المجال إلى التغيير، وسيكون الرهان الإيتيقي الجديد الذي سنراهن عليه هو العلاج التربوي.

هذا الأخير هو بمثابة نظرة جديدة إلى العالم، وانفتاح على تجربة التعالي والتسامي التي، ما فتئت التصوّرات منذ عصر النهضة تحاول أن تقوّض صرح المتعالي، النتيجة التي كانت مآلها إلى خلق متعاليات جديدة، تضمحل باضمحلال الإرادة الرَغَبِيَة في تصوّرات الإنسان الحداثي.

 

 



[1] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بيروت - لبنان: دار الكتاب اللبناني، 1982، ج1، ص 455، 454.

[2] هاشم صالح، مدخل التنوير إلى التنوير الأوروبي، بيروت: دار الطليعة، ط1، 2005، ص 240.

[3] موسوعة لاروس الكبرى طبعة 1975، انظر: زينب عبد العزيز، الحداثة والأصولية، دار الكتاب العربي، ط1، 2004، ص 39.

[4] إدغار موران، هل نسير إلى الهاوية، ترجمة: عبد الرحيم حزل، المغرب: إفريقيا الشرق، 2012، ص 22.

[5] روجيه غارودي، الإسلام والحداثة، ترجمة: العربي كشاط،

http://alarabnews.com/alshaab/GIF/18-01-2002/Garoody.htm

[6] التحيّز: هو «صورة عقلية مجردة ونمط تصوري وتمثيل رمزي للحقيقة، وهو نتيجة عملية تجريد؛ إذ يقوم العقل بجمع بعض السمات من الواقع فيستبعد بعضها ويبقى بعضها الآخر، ثم يقوم بترتيبها بحسب أهميتها، بل وأحيانًا يضخّمها بطريقة تجعل العلاقات تشكل ما يتصوّره علاقات جوهرية في الواقع». عبدالوهاب المسيري، إشكالية التحيّز رؤية معرفية، ودعوة للاجتهاد، مقدمة فقه التحيّز، مصر: معهد العالمي للفكر الإسلامي، 1998، ص30.

[7] مرجع السابق.

[8] مرجع نفسه.

[9] روجيه غارودي، الإسلام والحداثة، مصدر سابق.

[10] مصدر نفسه.

[11] المصدر نفسه.

[12] المصدر نفسه

[13] نسبة إلى البراجماتية «Pragmatism اتجاه واسع الانتشار في الفلسفة الحديثة، وقد سيطرت الذرائعية لوقت طويل على الحياة الروحية في الولايات المتحدة الامريكية، فالبراجماتية وهي إحدى مدارس الفلسفة نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر سنة 1800، تتميّز البراجماتية بالإصرار على النتائج والمنفعة والعملية (من عملي) كمكونات أساسية للحقيقة، وتعارض البراجماتية الرأي القائل بأن المبادئ الإنسانية والفكر وحدهما يمثّلان الحقيقة بدقة، معارضة مدرستي الشكلية والعقلانية من مدارس الفلسفة، ووفقًا للبراجماتية فإن النظريات والمعلومات لا تصبح لها أهمية إلَّا من خلال الصراع ما بين الكائنات الذكية مع البيئة المحيطة بها، في المقابل ليس كل ما هو مفيد وعملي يجب ان يؤخذ كأمر صحيح، أو تلك الأشياء التي تساعدنا في حياتنا على مدى البعيد، ويسمّى بمبدأ الذرائعية فهو محو الفلسفة الذرائعية، وهو يحدّد قيمة الصدق بفائدته العملية وقد أسسه : بيرس، ووليم جيمس، وديوي». مصطفى حسبية، المعجم الفلسفي، عمان - الأردن: دار أسامة للنشر والتوزيع، ط1، 2009، ص 111 - 112.

[14] هي محاولة جعل العالم قرية واحدة (عولمة العالم)، النظر إليه على أنه سوق للسلع وفقًا لنظام الاقتصاد الرأسمالي، وهذا ما يبدو جليًّا في العالم اليوم، عن طريق المعاهدات والاتفاقيات، «فأروبا -بعد اتفاقية- ما ستريخت هي أروبا أمريكية»، وكذا نظرة الرأسمالية إلى العالم كله بتك النظرية سوق لتصدير السلع. انظر: روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، ترجمة: منى طلبة وأنور مغيث، مصر: دار الشروق، ط3، 2002، ص80.

[15] روجيه غارودي، حفارو القبور، ترجمة: عزة صبحي، مصر: دار الشروق، ط3، 2002، ص102، 103.

[16] روجيه غارودي، حوار الحضارات، ترجمة: عادل العوا، بيروت - لبنان: دار عويدات، 1982، ص 16.

[17] رونيه ديكارت، تأمّلات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة: كمال الحاج، بيروت: منشورات عويدات، ط4، 1988، ص 41 - 42.

[18] رينيه ديكارت، مقال عن المنهج، ترجمة: محمود محمد الخضيري، القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 2، 1968، ص 109 - 110.

[19] روجيه غارودي، في سبيل ارتقاء المرأة، ترجمة: جلال مطرجي، بيروت - لبنان: دار الآداب، ط1، 1982، ص 142 - 143.

[20] Edition Gallimard.1963) .p216: Marcuse (Herbert). Culture et societé 1Edit Trad. Bernard cases (Paris).

نقلًا عن: كمال بومنير، جدل العقلانية في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2010، ص 23.

[21] روجيه غارودي، حفارو القبور، مصدر سابق، ص 94 - 95.

[22] Thomas Hobbes, The Citizen, Edited with An Introduction، by Sterling P. Lamprecht, Appleton - Century Crofts, Inc Copyright 1949, p1.

[23] توماس هوبز، الفياثان، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حرب وبشرى صعب، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبو ضبي للثقافة والتراث، كلمة ودار الفارابي، ص 104 - 105.

[24] توماس هوبز، مرجع نفسه، ص 131 - 132.

[25] كريستوفر مارلو (1563 – 1593م) كاتب مسرحي بريطاني.

[26] روجيه غارودي، حفارو القبور، مصدر سابق، ص95.

[27] «يوبيتر: Jupiter أو Jove كبير الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية، انظر هامش: كريستوفر مالو، مأساة الدكتور فاوستس، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نوفمبر 2013، العدد 368، ص 52.

[28] المرجع نفسه، ص 51 - 52.

[29] روجيه غارودي، الإسلام هو الحل الوحيد للأزمات المتصاعدة في الغرب، مصر: مطابع فتحي الصناعية، ص 12.

[30] المصدر نفسه، صفحة نفسها.

[31] المصدر نفسه، صفحة نفسها.

[32] المصدر نفسه، ص13.

[33] المصدر نفسه، ص13.

[34] روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، مصدر سابق، ص 237.

[35] مصدر نفسه، ص 167.

[36] باولو فريري، تعليم المقهورين، ترجمة: يوسف نور عوض، ، بيروت - لبنان: دار القلم، ط1، 1980، ص 30.

[37] وهو ما يسمّيه باولو فريري التعليم من أجل وعي ناقد، وهو «أن نزوّد الناس بالوسائل التي بها يتمكّنون من استبدال إدراكهم السحري أو الساذج؛ ليحل محلّه وعي يتغلّب عليه التوجّه النقدي حتى يحتلّوا مواقع فاعلة جديرة بالمناخ الدينامي لعملية التحوّل المجتمعي، وهذا يقتضي أن نلتحم بالناس عند نقطة البدء بوعيهم في عملية التحوّل، وأن نقدّم لهم العون للانتقال من مرحلة السذاجة الفكرية إلى مرحلة التفكير الناقد المتمدّد، وإلى تسيير تدخّلهم في عملية التحوّل التاريخي». باولو فريري، التعليم من أجل الوعي الناقد، ترجمة: حامد عمار، القاهرة - مصر: الدار المصرية اللبنانية، ط1، 2007، ص 89.

[38] روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، مصدر سابق، ص 171.

[39] المصدر نفسه، ص 172.

[40] المصدر نفسه، ص 173.

[41] المصدر نفسه، ص173 - 174.

[42] باولو فريري، المعلمون بناة لثقافة، ترجمة: حامد عمار، القاهرة  مصر: الدار المصرية اللبنانية، ط1، 2008، ص 65.

[43] ما يقصده فاليري، ليس الحطّ من قيمة علم التاريخ، بل إنه «في حكمه هذا لم يكن يهاجم التاريخ كعلم قائم بحدّ ذاته، وإنما هوس الإنسان في إيجاد تبرير لنفسه بأي ثمن كان». بيير دو بوادفير، بول فاليري أو إمبريالية العقل، مجلة الآداب الأجنبية، سوريا، العدد رقم 3، 1 يوليو 1975، ص145.

[44] Paul Valéry, Regards sur le monde actuel, Librairie Stcock, Delamain et Boutelleau, Paris, 1931 p19.

[45] روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، مصدر سابق، ص 176.

[46] المصدر نفسه، صفحة نفسها.

[47] المصدر نفسه، صفحة نفسها.

[48] المصدر نفسه، ص 177.

[49] المصدر نفسه، ص 178.

[50] روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، مصدر سابق، ص 182.

[51] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[52] المصدر نفسه، ص 182.

[53] المصدر نفسه، ص 202.

[54] المصدر نفسه، ص 224.

[55] المصدر نفسه، ص 225 بتصرف يسير.

[56] المصدر نفسه، ص 226.

[57] المصدر نفسه، ص 227 - 228.

[58] وهذا ما يظهر جليًّا فيما دوّنه ميشال فوكو في آخر كتابه الكلمات والأشياء إذ يقول: «الإنسان في طريقه إلى الزوال، بينما تزداد كينونة اللغة في سمائنا لمعانًا ووهجًا؟... ألا يجدر بالأحرى التخلّي عن التفكير بالإنسان، أو بصورة أدق، التفكير عن كثب بموت الإنسان –ويقول أيضًا– فالإنسان اختراع تظهر أركيولوجيا فكرنا بسهولة حداثة عهده، وربما نهايته القريبة». ميشال فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع الصفدي وآخرون،  بيروت - لبنان: مركز الإنماء القومي، ط1، 1990، ص 313.

[59] المصدر نفسه، ص 228.

[60] المصدر نفسه، ص 232.

[61] ريمون لول: (1235- 1315م) رجل دين وفيلسوف وكيميائي، أطلق عليه لقب الأستاذ المستنير، قطع كل أوروبا ومنطقة البحر المتوسط للتبشير بالمسيحية. روجيه غارودي، المصدر نفسه، ص 232.

[62] يواكيم دي فلور: (1202-1130م) متصوّف إيطالي، يرى -وفق نظرية له- أن الروح القدس ستسود الكون بعد سيادة المسيح الابن، وقد كانت نظريته هذه عونًا للمعارضين للممارسات الكنسية التقليدية. المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[63] المصدر نفسه، صفحة نفسها.

[64] موريس بلونديل «فيلسوف فرنسي معاصر، كاثوليكي النزعة، ولد في مدينة ديجون عام 1861، وتوفّي في إكس إن بروفانس عام 1949، من أبرز أساتذته إميل بوترو، كما تأثر بأوليه لبرين، في مدرسة المعلّمين العليا، ناقش رسالة الدكتوراه عام 1863، وكانت بعنوان: الفعل: محاولة لنقد الحياة والعلم في الممارسة العملية، عيّنه وزير المعارف آنذاك ريمون بوانكاريه أستاذًا للفلسفة في جامعة ليل، ثم انتقل منها إلى جامعة إكس إن بروفانس، حيث استمر فيها إلى أن أحيل للتقاعد سنة 1929، وهو في السبعين من عمره، توفّي بلونديل عام 1949، بعد أن أتمّ رباعيته الفلسفية التي عبّر فيها عن تمام مذهبه الفلسفي وتشمل: 1- الفكر ويشمل على جزأين: (أ) تكوين الفكر ومدارج صعوده التلقائي سنة 1934، (ب) مسؤوليات الفكر وإمكان إنجازه سنة 1934. 2-الوجود الموجودات، محاولة في إيجاد إنطولوجيا عينية وشاملة، 1934. 3- الفعل. 4- الفلسفة والروح المسيحية سنة 1944». عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، مرجع سابق، ج1، ص 359 - 360.

[65] روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، مصدر سابق، ص 232.

[66] Maurice Blondel, L›action, Tome 2 L’action humaine et les conditions de son aboutissement, Libraire Felix Algan, Parice، 1937, p161

[67] محمد سليمان حسن، فلسفة الفعل لدى موريس بلونديل، مجلة المعرفة، دمشق - سوريا، العدد 354، مارس 1993، ص 51 - 52.

[68] Ibid ,p249.

[69] محمد سليمان حسن، مرجع سابق، ص 52 - 53.

[70] روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، مصدر سابق، ص 234.

[71] المصدر نفسه، ص 199.

[72] روجيه غارودي، الإسلام في الغرب، مصدر سابق، ص 156.

[73] روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، مصدر سابق، ص 285.

[74] «ففي الإسلام وجدنا العلم متصلًا بالدين، والعمل موصلًا بالإيمان والفلسفة مستوحاة من النبوة، والنبوة موصولة العقل والسماء على اتصال أبدي بالأرض، والتقدّم الحضاري يمضي صعودًا نحو الله». عبد القادر محمود، من آراء غارودي الإسلامية، مجلة القاهرة، القاهرة - مصر، العدد رقم 78، سبتمبر 1987، ص 31.

[75] يعرّف غارودي الأسطورة بقوله: «هي الشكل الذي يكشف عن اقتحام المفارق في الحياة في لغة الخيال... لما تروي الأسطورة على طريقة مجاز والرمز كيف حدثت الواقعة ولماذا؟، فهي تعطي دلالة للعالم والوجود الإنساني وتقترح بذلك على الإنسان أنموذجًا أو طريقة مثلى للوجود والفعل... إنها تستحضر بيسر في كل مرحلة من التاريخ والثقافة وكل ما يتجاوز بعد التنظيم العقلي للعالم... فالأسطورة مشروع، أي طريقة في التملّص من المعطى والتعالي عليه».

Roger GARAUDY: De l’anathème au dialogue Editions. Plon Paris 1965, p25.

[76] مرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، ترجمة: نهاد خياطة، دمشق - سوريا: دار كنعان للدراسات والنشر، ط1، 1991، ص 5 - 11.

[77] روجيه غارودي، مصدر سابق، ص 154.

[78] روجيه غارودي، مصدر نفسه، ص 155.

[79] يحتجّ غارودي بما يقرّره هنري فالون من أن محاولات الإنسان البدائي حول تفسير العالم بالرمز والأسطورة ليس مجرّد خبال بل هو عبارة عن الكشف عن الفاعل في الوجود حقيقة؛ حيث يقول: «إن محاولة تفسير المرئي باللا مرئي لدى البدائي لا يعدّ ضربًا من الضلال الذي يبعده عن الواقع... إنها الشرط اللازم لكل جهد فكري إذا كان غرضه أن نتجاوز معطيات التجربة التي نعيشها ببساطة، وأن نكتشف وراء الأفعال التي تمتزج في نشاطنا الخاص الأسباب التي أنتجتها والتصرفات التي يمكن استخلاصها للفعل... فهناك بين العلم والأسطورة شبه في الوظيفة، فهما يمثلان سبيلًا إلى عالم الأسباب المتخفّي والممتزج بعالم الوقائع المحسوسة».

Roger GARAUDY: De l’anathème au dialogue Editions. Plon Paris 1965 ,p67.

[80] روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، مصدر سابق، ص 148.

[81] وفي هذا الصدد يؤكّد غارودي على أهمية فعل التربية، ويعتبره الثورة في حدّ ذاتها؛ حيث يقول: «وليس أشدّ ثورية من تربية تعلّم الإنسان أن يقف أمام العالم موقف من يرى فيه دعوة إلى الخلق، موقف من يعتبره واقعًا معطى ومكتملًا». روجيه غارودي، التربية وأزمة القيم، مصدر سابق، ص 58.

[82] روجيه غارودي، التربية وأزمة القيم، مصدر سابق، ص 59.

[83] إدغار موران، تربية المستقبل، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، مرجع سابق، ص 49.