سياســة الأمــل
أو الإيمان من منظور الحداثة
الدكتور مرزوق العمري*
* كلية العلوم الإسلامية، جامعة باتنة – الجزائر، البريد الإلكتروني: merlamri@yahoo.fr
ﷺ مدخل
تعدّ مسألة تحديث العقل المسلم في الراهن أبرز تحدٍّ يُجابه هذا العقل، خاصّة بعد تراجع فعالية الفكر الإسلامي بفعل ما تعرّض له من تشويه ومحاصرة لم تكن الحسابات السياسية المحلية والدولية بمنأى عنها، فوجد خطاب الحداثة إمكانية الامتداد في هذا الفراغ.
ولقد راهن هذا الأخير على توظيف جهاز مفاهيمي طال مختلف المستويات الدينية الشرعية منها والعقدية؛ فكما اصطلح على الوحي الحدث القرآني، وعلى القرآن الكريم الخطاب النبوي، وعلى علماء الإسلام الفاعلين التاريخيين... وغير ذلك، اصطلح كذلك على الإيمان كمبحث عقدي اصطلح عليه سياسة الأمل، فإلى أيِّ مدى يكون هذا الاصطلاح مشروعًا من الناحيتين المعرفية والعقدية؟
إن هذه الاصطلاحات تأخذ شيئًا من الخصوصية والخطورة إذا ما تعلّقت بالأمور الدينية؛ ولذلك كانت اجتهادات علماء الإسلام في القديم كبيرة جدًّا في ضبطهم للمصطلح، وفي فنون إسلامية عديدة، حتى عُدَّ المصطلح آلية قراءة.
بناء على ذلك لا يمكن دراسة مسائل علم من العلوم بغير جهازه المفاهيمي، وهي المهمة التي نهضت بها عدّة علوم إسلامية على غرار علم مصطلح الحديث وغيره.
أما علماء العقيدة فقد كانوا في تبويبهم لمسائل هذا العلم -علم العقيدة- يراعون طبيعة المسائل وأولويتها، فلما كانت الألوهية أهم مسألة جُعلت في صدارة الاهتمام، ولكون هذا العلم -علم العقيدة- يبحث في موضوع الألوهية صنّفه علماء الإسلام بأنه أشرف العلوم على الإطلاق لشرف موضوعه.
ثم يأتي بعد ذلك مبحث النبوة، ثم مبحث السمعيات، ثم مبحث الكونيات الذي من مسائله مسألة الإنسان. هذا هو الترتيب الذي درج عليه علماء العقيدة الإسلامية، لكن الرؤية الحداثية آلت إلى تغيير هذا الترتيب، فجعلت موضوع الإنسان في الترتيب الأول، وتبع ذلك تقديم العقل على الوحي وغير ذلك.
ممّا تجدر الإشارة إليه أن هذا الموضوع طرح في إطار جهود المشروع التحديثي الذي يعمل على أرخنة الإسلام، هذه الأرخنة التي توظّف في مقابل «الغيب» وبما أن الألوهية أمر غيبي راح الخطاب الحداثي يطرح مسألة الألوهية ضمن هذا المنظور –منظور التاريخية- أو ضمن إحدى خططه: خطة التعقيل أو العقلنة التي تستهدف رفع عائق الغيبية كما يقول الدكتور طه عبد الرحمن[1].
تغيير محور العقيدة من الألوهية إلى الإنسان هو جانب من جوانب الرؤية التي أفرزها المنهج الأنثروبولوجي خاصة في قراءة النص الديني، وقد تمّ هذا التغيير بناء على ما يلي:
أولًا: طبيعة فهم الغيب
تجدر الإشارة إلى أن الألوهية موضوع غيبي، ولذا بدأت عملية التحويل من الألوهية إلى الإنسان من خلال النظر إلى موضوع الغيب، ولقد كانت للتوظيفات المنهجية تجلّيات في الرؤية بخصوص عالم الغيب عمومًا حتى صارت لدى الحداثيين العرب المعاصرين رؤية أخرى خلاف الرؤية الإسلامية التي أرستها العقيدة الإسلامية.
ومن أبرز هؤلاء الحداثيين طرقًا لهذه المواضيع وتحيّزًا في قراءته محمد أركون، الذي نجده مثلًا في حديثه عن الإيمان بالغيب يناقش مقولة «الإيمان» كمقولة عقدية في مقابل العلم الحديث، و«المؤمن» في مقابل رجل العلم الحديث[2].
يفهم من هذا أن الإيمان ضد العلم، وأن الإيمان ليس له حيّز في التاريخ طالما أنه يتعالى عن الأسباب المادية، وهذا بناء على النظرة السببية التي تقضي بتقنية الوقائع، ولهذا تتجلّى بداية تغيير محور العقيدة من الألوهية إلى الإنسان من هذه النقطة؛ أي من محاولة فهم الإيمان بالغيب فهمًا ماديًّا، حتى إذا تعذر هذا الفهم كانت الدعوة إلى التركيز على «الإنسان» كمحور عقدي بدل «الألوهية»؛ أي خلاف ما هو سائد في العقيدة الإسلامية.
ثم نجد كلامًا آخر ينمّ عن شيء خطير أيضًا، هو اعتبار الإيمان بالغيب مجرّد حالة نفسية، ولذلك يوظف مصطلح آخر أكثر دنيوية وهو «سياسة الأمل» بدل الإيمان بالغيب، وقد اعتبر هذا المفهوم البديل مفهومًا كفيلًا بإيصالنا إلى فهم «الإيمان بالغيب»، وذلك بالاستعانة ببعض العلوم الإنسانية كعلم النفس التاريخي وعلم الاجتماع الديني: بالاستعانة بهذين العلمين يمكن دمج كل التطوّرات اللاهوتية فيهما مثل: التفكير في النجاة والأمل الأخروي[3].
وهذا يعني أن دراسة مسائل الغيب ضمن هذين العلمين، ينتهي إلى اعتبارها آمالًا أو خواطر نفس.... أو غير ذلك من الأمور، ولا يمكن أن تعتبر حقائق طالما أن دراستها ماديًّا متعذرة؟!.
هذه الرؤية لموضوع الغيب مؤسّسة طبعًا على خلفية من العلوم الإنسانية خاصة علم النفس التاريخي الذي يهتمّ بدراسة عقلية الناس في الماضي، وهذا العلم تمّ الاستناد إليه لأنه درس موضوع الإلحاد في القرن السادس عشر ورآه مستحيلًا، بينما في القرن العشرين صار ممكنًا بل نزعة طاغية[4].
وهذا يعني أن الإيمان بالغيب وفق هذه الرؤية ليس إلَّا حالة نفسية لا صلة لها بالحقيقة، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يتحوّل الاهتمام إلى الواقع والتاريخ والاهتمام بالإنسان، وكل ذلك في طرح يبدو متطرّفًا أيديولوجيًّا أكثر ممّا هو موضوعيًّا، ففي بعض الأحيان تجاوز الطرح الاستشراقي مثل ما هو الأمر في معاتبة أركون للمستشرقين لأنهم يترجمون النصوص كما هي إذ يقول: «إنهم يترجمونها ويصفونها بكل اهتمام وخشوع، ولكنهم لا يسمحون لأنفسهم أبدًا بأن يفكّكوا هذه العقائد من الداخل، أقصد أن يفكّكوا هذه البديهيات والمسلّمات والموضوعات أو المضامين التي تنسج وتؤسّس التماسك المغامر لكل إيمان»[5].
والنصوص المتحدّث عنها هنا هي النصوص التي تضمّنت مسائل العقيدة، وتبدو المصطلحات الموظّفة على أنها تدل على وظيفة الإنسان في المعتقد، وكأنه هو الذي يؤسّسه وليس من عند الله عز وجل، أو كأنه قائم على مسلّمات وليس على استدلال يقيني.
وعلى كلٍّ يبدو التركيز على الإنسان ووظائفه المختلفة أكثر من التركيز على الألوهية كحقيقة عقدية. وهذا الفهم يجعل من الإيمان بالغيب مسألة إنسانية يمكن أن تدرس في إطار التاريخ والأنثربولوجيا وعلم النفس التاريخي... إلخ لتصبح في النهاية مسألة الإيمان بالغيب عبارة عن تجلّيات ثقافية، ومعطيات حاسمة لنمط التاريخ المتولّد عن طريق الموقف الإيماني[6]. وهذا الكلام يُبدي قوة وأثر الموقف الإنساني دون أي قوة أخرى.
ثانيًا: طبيعة فهم الألوهية
إذا كان فهم موضوع الغيب عمومًا في الخطاب الحداثي العربي المعاصر وجدناه فهمًا مخالفًا للفهم العقدي الإسلامي، فإن موضوع الألوهية كموضوع غيبي أيضًا فُهِمَ فهمًا آخر غير الفهم الإسلامي. أو يمكن القول: إن المناهج الوضعية آلت إلى تكوين رؤية لموضوع «الألوهية» خلاف الرؤية الإسلامية وذلك من جوانب مختلفة: من جهة طبيعة الموضوع، أو من جهة كيفية الإيمان بالألوهية، وحتى من جهة المواقف الاستشراقية التي تناولت دراسة العقائد الإسلامية.
من هذه الجوانب المختلفة نجد الرؤية الحداثية، تستبعد موضوع «الألوهية» وتركّز على الإنسان إذ تبرزه من زاوية أنثربولوجية تاريخية، ومن منظور علم المقارنة بين الأديان بأن مفهوم الألوهية تطوّر في الخيال الديني للمؤمنين من مرحلة إلى أخرى[7].
والحديث هنا عن المسلمين؛ ففي المرحلة الأولى التي كان القرآن فيها ينزل كان إدراك الإله وتصوّره بمثابة فاعل أو نموذج حاضر باستمرار، وهذا بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام أو لأتباعه من معتنقي الإسلام الجدد، ثم جاءت مرحلة أخرى اعتبر فيها مفهوم «الألوهية» قد تطوّر باتّجاه تصوّرات متعدّدة منها التيولوجي، والصوفي، والفلسفي، والشعبي... ثم العقلاني حديثًا.
ثم جاءت مرحلة ثالثة وهي المرحلة الراهنة، والتي يمكن القول: إن بداياتها كانت مع ظهور الفلسفة الإلحادية في القرون الأخيرة، ولذلك نجد أركون يصف مفهوم «الألوهية» وصفًا لا يليق حتى في الفلسفات الوضعية، فيرى أن في هذه المرحلة صار الإله خاضعًا للتحوّل، والتغيّر بتغيّر الأحوال والأزمان، وأنه لم ينجُ من ضغط التاريخية[8].
هكذا تقدّم لنا الرؤية الحداثية حقيقة الإيمان بالله عز وجل، وهي رؤية أفرزتها القراءة المعاصرة للنصّ الديني، أو تلك التي ترتّبت على القول بتاريخية النصّ الديني، ويلمس المهتمّ بالخطاب الحداثي الصبغة المادية حتى في فهم الحقيقة الكبرى «الألوهية»، بل يصل البعض منهم في حديثه عن الذات العلية واصفًا إياها بـ«الكائن المشخص»[9].
وهذا الكلام لا يليق بجلال الله سبحانه وتعالى، كما أننا من خلال ذكر المراحل السابقة لمفهوم «الألوهية» نلمس أن «الألوهية» اختراع بشري من منظور الحداثة، شأنها في ذلك شأن موضوع الغيب كما سبقت الإشارة.
كما نلمس امتداد خصائص الرؤية المشار إليها وسحبها على هذا الموضوع مثلها مثل إلغاء القدسية، والقول بتقنية الوقائع. أليس ربط مفهوم «الألوهية» بالخيال البشري والحكم بتطوّر الإله وخضوع «الألوهية» لضغط التاريخية، أليست هذه الأمور تؤكّد نزع القداسة عن القداسة؟! وتريد أن تجعل من كل شيء ماديًّا حتى «الألوهية»؟!.
وهذا الكلام يأتي في إطار تصوّر الحداثيين لحقائق العقيدة الإسلامية، ففي الرؤية الحداثية: «العقائد تصوّرات مرتهنة بمستوى الوعي، وبتطوّر مستوى المعرفة في كل عصر»[10]. فالحقائق العقدية في الرؤية الحداثية متطوّرة، ومنها موضوع «الألوهية»، ولذلك صار التركيز على الإنسان بدل «الألوهية» انسجامًا مع التاريخية.
ولهذا إذا ما طرح تساؤل حول هذا الموضوع عن: ما سر بقاء الإيمان بالله عند الإنسان؟ نجد الإجابة عند الحداثيين -كما أشرت من قبل- هي الإجابة اليت يقدّمها علم النفس التاريخي على أنها مجرّد حالات نفسية، كما أن هذه المفاهيم الإيمانية مثل: الله، النبي، المؤمنين، الكفار، ليست إلَّا تسميات مريحة، تدلّ على مضامين معيّنة داخل الخطاب القرآني الذي لا يمكن فصله عن العمليات الاجتماعية التي ولّدته[11].
وإذا كانت القراءة السيمولوجية هي التي صنعت هذه الرؤية على هذا المستوى العقدي؛ أي بخصوص عقيدة الألوهية، فإننا نجد موقفًا آخر يريد ومن زاوية مقارنة إبراز أن «الإله» يصطلح عليه «الفاعل المعقّد» و«البطل المغيّر» و«بطل التغيير»، وأن هذه التسميات تنطبق على الله بحسب المؤمنين، وعلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسب المؤرخ النقدي[12].
وكأن التاريخ النقدي يجعل من «الألوهية» في الإسلام لا حقيقة لها، وأن حركة التاريخ الإسلامي أدارها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دونما تدخّل للعناية الإلهية، وهذه رؤية مخالفة للعقيدة الإسلامية.
بهذا يتجلّى لنا رهان الرؤية الحداثية في قول أحد صانعيها: «أريد تجاوز الرؤية الافتخارية والتمجيدية للمسلمين، هذه الرؤية التي تخضع الكلية التاريخية (أو كلية التاريخ) للوحي وتدخل الله في التاريخ»[13].
هذا هو رهان الرؤية الحداثية في هذه المسألة -الألوهية- إنه فصل الألوهية عن التاريخ كما يقولون. ما دام هذا هو الرهان نجد في الرؤية الحداثية الإشادة بالباحثين الذين أهملوا هذا الموضوع -الألوهية- من مستشرقين وغيرهم على الرغم من أنه موضوع مركزي بالنسبة للعقل الديني وللعقل الفلسفي[14].
بالإضافة إلى الإشادة بهذا الموقف نجد التحذير من التأصيل للحقيقة، وفق ما يقتضيه العقل الجديد؛ لأن التأصيل للحقيقة يؤدّي إلى الوقوع في الدوغمائية من جديد، وهو الأمر الذي يرفضه العقل الحداثي[15].
ومن المعلوم أن الحقيقة هي «الألوهية»، التي تراهن الرؤية الحداثية على جعلها مسألة تاريخية، ونتيجة هذا التصوّر وهذه الرؤية الحداثية لموضوع الألوهية، ولموضوع الغيب يتجلّى لنا أن هذه الرؤية تتخلّى عن الألوهية كحقيقة وتجعل من الإنسان هو مركز الرؤية الحداثية.
وهذا ما يتجلّى بصراحة في الخطاب الحداثي المعبّر عن هذه الرؤية، يقول حسن حنفي: «وكما يستعين القدماء بالله، فإنّنا نستعين بقدرة الإنسان على الفهم والفعل على النظر والعمل بالاعتماد على النصوص القديمة وتجارب العصر»[16].
وهكذا قضت الرؤية الحداثية بتغيير محور الاهتمام في العقيدة، فعندما كانت الاستعانة بالله صارت الاستعانة بالإنسان. وبعدما كان موضوع «الألوهية» أهم المواضيع على الإطلاق، صار موضوع الإنسان بدل ذلك، وهكذا سائر القضايا التي تريد الرؤية الحداثية نسبتها للإنسان طالما أنه صانع التاريخ، وخاضع لضغط التاريخ ومتفاعل معه.
ثالثًا: طبيعة فهم النص
وهي تجلٍّ من تجلّيات تغيير محور الاهتمام في العقيدة، إذ يبدو التركيز على الإنسان بالدرجة الأولى: على فهمه وثقافته، ولغته وحدود وجوده، وكل ما هو تاريخي وللإنسان دور في إنجازه، لقد صارت الرؤية الحداثية تراهن على نقل النص من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري[17].
بينما الرؤية الدينية تركّز على بعده الإلهي، ويتجلّى ذلك من خلال ما يلي:
1- إلغاء بعده الغيبي: لم تعد الرؤية الحداثية تثبت أن القرآن الكريم كلام الله الأزلي كما هو معتقد المسلمين، بل تنكر أزليته وتركّز فقط على بعده التاريخي، وفي ذلك محاولة فصله عن مصدره الإلهي، وإن كان بعض الحداثيين يعتبر ذلك موقفًا إسلاميًّا له حضوره في التراث مستنجدًا بمقولة «خلق القرآن» التي قال بها المعتزلة.
وقد كان الدكتور نصر حامد أبو زيد يقول: «إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك أنه تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عامًا، إذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية متّفقًا عليها، فإن الإيمان وجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة»[18].
هذا الكلام ينكر صاحبه أزلية الكلام الإلهي ويقصد تحديدًا النص القرآني، وهي دعوة إلى فهمه على أنه منتج ثقافي بعبارة الدكتور نصر حامد أبو زيد، ولا شك أن الثقافة من صنع الإنسان، ومن ثم يصبح النص منتجًا إنسانيًّا على الأقل على مستوى اللغة.
هذه إحدى صور التركيز على الإنسان بدل الألوهية، كصفة من صفات الرؤية الحداثية، وقد تمَّ تأسيس هذه الرؤية بالنظر إلى عدة أمور اعتبرت من خصائص التصوّر الإسلامي الذي بنى عليها فهمه للنص واعتبرها حقائق وما هي كذلك في نظر الحداثيين، مثل هذه المسألة (أزلية النص) فالرؤية الحداثية تعتبرها تأسّست في الفضاء الإسلامي بفعل التقادم والتراكمات وليس مردّها النص.
يقول نصر حامد أبو زيد: «من أخطر تلك الأفكار الراسخة والمهيمنة، حتى صارت بسبب قدمها ورسوخها جزءًا من «العقيدة» فكرة أن القرآن الكريم الذي نزل به الوحي الأمين على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من عند الله سبحانه وتعالى نص قديم أزلي»[19].
فحسب هذا الكلام أزلية القرآن الكريم خاصية مضفاة عليه وليست خاصة ذاتية، وما دام كذلك فمعنى هذا أنه ذو طبيعة تاريخية، وهذا كلام يتّفق مع ما بيّناه من قبل بخصوص طبيعة فهم الغيب وطبيعة فهم الألوهية، وإذا كان النص من طبيعة ثقافية تاريخية فهذا تجلٍّ للدور الإنساني أو للتركيز على محور الإنسان بدل محور الألوهية.
إذا كان الجانب الأول الذي كانت عليه الرؤية الحداثية هو مسألة «التقادم»، فإن الجانب الثاني في هذه المسألة هو مخالفة أهل السنة في تصنيف صفة «الكلام» كصفة من صفات الله عز وجل فلا يعتبرها الحداثيون من صفات الذات، بل تعتبر من صفات الفعل، وذلك لما للأفعال من ارتباط بالوجود، ونفيها عن الذات لما للذات من وجود ميتافيزيقي أزلي[20]، والارتباط بالوجود ارتباط بالتاريخ ومن ثَمَّ تاريخية النص القرآني. هذا جانب من جوانب طبيعة النصّ في الرؤية الحداثية.
2-علاقته بالواقع: وهي نتيجة ترتّبت على إلغاء بعده الغيبي؛ لأنه بنفي أزليته تثبت دنيويته ويرتبط بالواقع، والتركيز على الإنسان يتجلّى بفعل دوره في صناعة الواقع وأحداثه وثقافته... إلخ.
لذا نجد التركيز على النصّ باعتباره نصًّا لغويًّا، يعالج ويناقش ويدرس بهذه الصفة دون غيرها، يقول نصر حامد أبو زيد: «هي نصوص لغوية تشكّلت خلال فترة زادت على العشرين عامًا، وحين نقول: تشكّلت؛ فإننا نقصد وجودها المتعيِّن في الواقع والثقافة، بقطع النظر عن أي وجود سابق لها في العلم الإلهي أو في اللوح المحفوظ»[21].
الحديث هنا عن القرآن الكريم ويتجلّى اعتباره نصًّا لغويًّا في الرؤية الحداثية، وهذا جانب من جوانب التركيز على البعد الإنساني لأن اللغة إنسانية. وتتجلَّى علاقة النص بالواقع من خلال مقارنته بسائر الظواهر الثقافية السائدة في البيئة العربية في فترة نزوله مثل: السحر، الشعر الكهانة... وغيرها[22].
كما يقول بأن إطلاق النص على نفسه «القرآن» يدل على استجابته إلى الثقافة التي تشكّل من خلالها، ولكنه في الوقت نفسه يفرض تميّزه عنها باختياره هذا الاسم غير المألوف تمامًا[23].
أما عن النصّ النبوي والنصّ التراثي فهما في الرؤية الحداثية أشدّ التصاقًا بالواقع؛ فالنصّ النبوي هو تعبير عن بشرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس عن نبوّته، وبما أنه كذلك فهو نصّ مرتبط بمرحلة من مراحل شخصه عليه الصلاة والسلام.
أما النصّ التراثي فيكون في نظرهم ألصق بالواقع من باب أولي، فهو استجابة لمراحل حضارية معينة من حياة الأمة، أنجزه العلماء المسلمون استجابة لظروفهم في تلك المراحل.
هذا ما يجلِّي دور الإنسان والاهتمام به بدل موضوع الألوهية الذي هو أهمّ المواضيع العقدية كما سبق بيان ذلك. وما دام التركيز على الإنسان صار الإيمان -في الرؤية الحداثية- حالة نفسية تعتني بها علوم الإنسان كعلم النفس وأنثربولوجيا الأديان، وليس نصوص الوحي على حدّ زعم أطروحة الحداثة.
وعليه فهذا الاصطلاح -سياسة الأمل- لا يكون مستساغًا من الناحية العقدية لأنه يفضي إلى إنكار الإيمان بالغيب، ولا يستساغ معرفيًّا لأنه دراسة للمطلق بآليات نسبية؟!.
[1] طه عبد الرحمن، روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، الدار البيضاء - المملكة المغربية: المركز الثقافي العربي، ط1، 2006م، ص181.
[2] محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ترجمة: هاشم صالح، بيروت - لبنان: المركز الثقافي العربي، ط2، 1996م، ص190.
[3] محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، بيروت - لبنان: دار الساقي، ط2، 2002م، ص56.
[4] انظر: هاشم صالح في تعليقه على نص محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص37.
[5] المرجع نفسه، ص67.
[6] المرجع نفسه، ص36.
[7] تجدر الإشارة هنا إلى أن أركون وظّف مصطلح «الخيال» بدل مصطلح «الإيمان»، وهذا التوظيف له دلالته، إنه يريد جعل الموضوع إنسانيًّا بحتًا، ولا صلة له بالحقائق الأنطولوجية، وهذه من دلائل تحويل محور الاهتمام في العقيدة من الألوهية إلى الإنسان.
[8] محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص101-102.
[9] هشام جعيط، في السيرة النبوية القرآن والوحي والنبوة، بيروت: دار الطليعة، ط1، 1999م، ص27.
[10] نصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط4، 2000م، ص134.
[11] محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص100.
[12] المرجع نفسه، ص105.
[13] المرجع نفسه، ص62.
[14] محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص20.
[15] المرجع نفسه، ص15.
[16] حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، المركز الثقافي العربي، ط1، 1988م، ج1، ص42.
[17] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، ص178.
[18] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، بيروت - لبنان: المركز الثقافي العربي، ط 5، 2000م، ص 24.
[19] نصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة، ص67.
[20] المرجع نفسه، ص6 وما بعدها.
[21] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، ص25.
[22] المرجع نفسه، ص31 وما بعدها.
[23] المرجع نفسه، ص52.