بما أن الجامعة هي المختبر أو المشتل الذي تُستنبت فيه الأفكار والنظريات والمعادلات العلمية، فالباحث الذي يُمضي جزءاً من حياته في البحث والتعلم والدراسة الأكاديمية والميدانية، كان طبيعياً أن يكتسب نصيباً من العلم والمعارف والمناهج العلمية وأدوات الرصد والقياس وآليات الاستشراف، وأن يصبح أكثر قدرة من غيره على الإبداع الفكري وبلورة النظريات والحلول وتمكين المجتمع منها. هذا عدا أخلاقيات البحث والأمانة العلمية وأدبيات النقد البناء الهادف وقول الحق والجهر بالحقيقة مهما كانت مرة، لكن دون إيذاء، والابتعاد عن التشهير والقدح والمس بكرامة الآخرين، والاهتمام بالأحداث والوقائع أكثر من الأشخاص...
ولا غرابة فأدوات البحث العلمي السليم لا تتأتى إلا إذا أمضى الباحث أشواطاً من التكوين العالي، وراكم حداً هاماً من البحث الجامعي الأكاديمي المستند على مناهج البحث العلمي السليم، أكان بحثاً نظرياً أو ميدانياً.
وبما أن البحث العلمي يرتبط بالتكوين الأكاديمي، فالعنوان الطبيعي للمفكر هي المراكز الجامعية. بعلة أن هذه المراكز توفر كل الذي يحتاجه الباحث لتطوير مناهج البحث، أو هكذا يفترض.
لكن تجدر الإشارة إلى أن الباحث لا يوجد في الجامعة فحسب وإن كانت الجامعة مكانه الطبيعي، كما أنه ليس كل باحث أكاديمي مفكراً. وإنما يحتاج الباحث لدرجات عالية من التكوين والتراكم المعرفي، وسعة في الأفق والانفتاح على العلوم والتخصصات المكملة، ومن القدرة على الربط بين الأحداث والقضايا والظواهر والملفات والنظريات، ومن القدرة على رصد الواقع والمسح الميداني، وقياس مصداقية النظريات من خلال تمثلها على الواقع.
كما يجب لفت الانتباه إلى أن صفة الباحث لا تنطبق على الباحثين الجامعيين بشكل آلي تلقائي. بل كثير من هؤلاء رغم اكتسابهم صفة الباحث الأكاديمي لا يحوزون على الدرجة المؤهلة لصفة الباحث، طالما أنهم لا يرقون لدرجة الفكر الشمولي التركيبي القادر على الربط بين القضايا الكبرى، وطالما لم ينالوا حظهم من تخصصات أخرى تعتبر مكملة وضرورية للتخصص الأصلي، ولم يسهموا في مسيرة التنمية الوطنية الشاملة.
في هذا البحث المقتضب سنتعرف بداية على المهام المختلفة -أو على الأقل أهمها- الموكولة للجامعة. ولنا كل الحق بعد ذلك في طرح السؤال التالي: هل الجامعة العربية تقوم بتلك الأدوار كاملة وعلى أحسن وجه؟
وإذا كان الجواب بالنفي، فما هي الأسباب والإكراهات التي تحدُّ من فعالية الجامعة العربية؟
وبما أن الاستشراف وإيجاد الحلول جزء هام في كل بحث أكاديمي رصين، فإن هذا البحث، على اقتضابه، سيحاول تصور شكل جامعة عربية مواطنة، مندمجة في محيطها، قادرة على النهوض بالمجتمع والإسهام في تنمية شمولية ومستدامة.
? مبحث أول:
المهام المتعددة للمراكز الجامعية
منذ قرون طويلة أُهملت مهمة بناء الفكر، ولم يبق الركيزة الأساسية لبناء المجتمع، فقد حصل اعتقاد جازم بأن مهمة المراكز الجامعية تقتصر على التلقين والتدريس. وإذا كان الأمر كذلك فما الفرق بينها وبين باقي مؤسسات التعليم الأخرى؟
ولأن الأدوار الأخرى لمراكز البحث الجامعي جُمِّدت، فقد بهت موقعها داخل النسق الاجتماعي، وتوقفت الجامعات عن التأثير في المحيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بل حصل انفصام وقطيعة بينهما.
وليس مجرد افتراض أن أكوام المشاكل التي تراكمت فيما قبل الاستعمار، ثم منذ الاستقلال وإلى الآن مردها تغييب المراكز الجامعية عن العمل السياسي والاجتماعي.
من هذا المنطلق، وما دام الأمر كذلك، نفترض أنه لاستنقاذ ما بقي والتغلب على أكوام المشاكل المتراكمة على مدى قرون، لا خيار لنا سوى توظيف الفكر، وبأكثر تحديد، توظيف المراكز الجامعية والبحث العلمي الجامعي لفائدة التنمية.
بمقتضى النظام الحديث الذي انخرطنا أو بالأحرى نسعى للانخراط فيه، فالبحث العلمي الأكاديمي هو العمود الفقري للمجتمع. وبما أن الجامعة هي المكان المناسب لكل ذلك، فقد أضحت بمثابة مستنبت تشع منه الأفكار والنظريات والمبادئ والحقائق والمعادلات، ليس في مجال التقدم العلمي فحسب، وإنما في كل ما يهم الشأن الوطني وأيضاً العالمي. هكذا فالجامعة هي المحفل الذي تتبلور فيه السياسات والخطط الحكومية، انطلاقا من الرؤى الأكاديمية المرتبطة بالواقع وبالدراسات الميدانية، بطبيعة الحال. وفيها تصاغ مشاريع القوانين وتتدارس وتناقش وترتقب تداعياتها قبل إدخالها حيز التنفيذ، وبها أيضاً تهيأ الخطط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية... كل ذلك يجري انطلاقا من دراسات ميدانية تستجلي الواقع وتقيس الظواهر وتستشرف انحسارها أو تناميها...
وداخل الجامعة أيضاً تُدْرَس مشاريع البحث العلمي التكنولوجي في تعاون وشراكة وتنسيق مع قطاع الإنتاج والتنمية. فهي إذن المشتل الذي تستنبت فيه الإبداعات الفكرية والصناعية والتكنولوجية.
أكيد أن مراكز البحث الجامعي تتقلد مسؤوليات ضخمة. وبالنظر لكونها تتكفل بجميع قضايا المجتمع (في حدود تخصصها طبعاً) فلا غرابة أن نجد مجالات عمل الجامعات موزعة، تماماً كما هي مهامها موزعة ومتسعة.
ولكون البحث العلمي، في المنظومات العصرية يقترن في الأذهان بالمراكز الجامعية، ولكون مهام البحث العلمي متنوعة، فإن مجال العمل لا ينحصر في الأنشطة التي تؤتى داخلها، وإنما يمتد إلى أنشطة كثيرة تمارس خارجها.
أنشطة تؤتى داخل الجامعة: بناء الفكر المستقبلي:
يتميز عمل الأكاديمي عمن سواه من المُكَوِّنين بكون مهمته لا تنحصر في عملية التلقين وحسب، وإنما تتعداها إلى التأطير والتوجيه وتدريب المتعلم على الاستقلال والاعتماد على الذات وتهييئه للاندماج في الحياة العملية، وتثبيت قيم البحث العلمي المعمق:
التكوين، التوجيه والتأطير:
عملية التدريس ليست بالبساطة التي ينظر بها الكثيرون إليها. بل لعلها أخطر مهمة، من منطلق أن الغاية منها بناء فكر المتعلم. فإن بُني بشكل سليم أعطى مواطنين صالحين، والعكس لا شك أنه بارز.
وعملية التدريس كيما تأتي سليمة يلزم أن تطوَّر مناهجها وأساليبها والوسائل المعتمدة فيها وتقريبها من متطلبات العصر، بما يؤهل الدارس للتكيف والاندماج في عصره ومجتمعه.
على أن أهم ما يميز مراكز البحث الأكاديمي عن باقي المؤسسات التعليمية أن مهمة المُكَوِّنين لا تتوقف عند التعليم والتكوين، وإنما تتعداها إلى مجالات أخرى، أهمها: تأطير البحث العلمي وتطويره، تهييء الطالب للاندماج في الحياة العملية والاجتماعية:
البحث العلمي:
مهمة التكوين والتدريس يجتمع فيها كافة من تقلد هذه المهمة على جميع المستويات، من دون تفضيل أحدهم على الآخر. إنما المؤسسات الأكاديمية، فوق مهمة التدريس، ومن منطلق كونها مركزاً للفكر والبحث فهي ملزمة بالتدبر وبلورة الأفكار والنظريات والتجارب الميدانية وتطويرها، وفي كلمة، فالإبداع إحدى المسؤوليات الضخمة المسندة لمراكز البحث الجامعية. وتتنوع هذه المسؤوليات بحسب التخصصات ومجالات البحث. ويمكن تلخيصها في التالي:
- فالجامعة تعتبر المكان المناسب للخلق والإبداع، وتطوير النظريات والمبادئ بما ينسجم مع المستجدات.
- ولا تقف مهمة الجامعة والجامعي عند الإبداع والابتكار الذي يصل إليه الباحث بنفسه، بل المفروض أن يثبِّت حب البحث والإيمان بجدواه في الأجيال المتعاقبة من الطلبة، وأن يلقنهم مقومات الابتكار والتجديد والتطوير.
- من جهة أخرى فالجامعات تعتبر وسيلة فاعلة للتحكم في الرأي العام، فهي -بفضل ما تملكه من إمكانات علمية هائلة ومن مناهج البحث العلمي وأدواته، وما تتميز به من موضوعية- تستطيع التأثير في الذهنيات ونشر الثقافات الإيجابية واجتثاث السلبي منها.
إعداد الخريجين للاندماج:
يمكن تلخيص مهمة مراكز البحث الجامعية في بناء الفكر المستقبل، أي بناء مجتمع الغد، وتزويده بأطر ومفكرين صالحين أكفاء.
لذلك فمهمة مراكز البحث لا تنتهي بمجرد التكوين الآني، وإنما تمتد لما بعده. وهي مطالبة بأن ترصد الحاجيات المستقبلية من الأطر والمتكونين، وأن تنبه الحكومات إلى المسألة وتوجه التعليم العالي للتخصصات التي سيحتاجها المستقبل.
ويعتبر من أكبر مهام مراكز البحث الأكاديمية أيضاً تهييء الطالب للاندماج في المجتمع، أكان في الحياة العملية أو الاجتماعية أو متطلبات البحث العلمي.
مجالات أخرى لعمل الجامعات:
من مميزات العمل الأكاديمي أنه لا ينحصر داخل أسوار الجامعات، بل يمتد إلى خارجها. وعملها في هذا الخصوص لا حدود له ولا أطراف وهو من نفس أهمية العمل داخلها، ويمكن تركيزه في القطاعات المتنوعة:
فعلى المستوى الاقتصادي يمكن اختزال مسؤوليات مراكز البحث في:
- الاستشارة والتوجيه وتحريك القطاعات الاستراتيجية التي تشكل مواطن قوة؛ لتتمكن من أسرار التكنولوجيا الحديثة...
وعلى مستوى تدبير الشأن الوطني، تتلخص مهام الجامعة في:
- الإشارة على صناع القرار.
- الوساطة بين المواطن وصانعي القرار.
- المشاركة في صنع القرار.
- تهذيب السلطة في أفق الوصول إلى سلطة مواطنة...
وعلى المستوى الدولي نختزل المهام الكثيرة لمراكز البحث في:
- مواجهة الغزو الثقافي.
- نقل الفكر المحلي.
- تصحيح الصورة المغلوطة المتكونة لدى الآخر عن الثقافة والهوية المحليتين...
? مبحث ثان:
هل الجامعة العربية تقوم بمهامها كاملة؟
إذا قدرنا أن الفكر الأكاديمي يتقلد كل تلك الأدوار الخطيرة المرسومة، وإذا كانت برامج التنمية تعاني من اختلالات بنيوية تعوق سير العمل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ألا يحتمل أن يكون هنالك علاقة جدلية بين الاثنين؟
ببيان أكثر، ألا يتحمل الباحث والمراكز الجامعية المغربيين، على غرار مثيليهما العربيين بعض المسؤوليات عن اختلال الأوضاع؟
هل الجامعة العربية تقوم بالأدوار المنتظرة منها فعلاً، أو بالأحرى، هل يطلب منها القيام بها؟
أليس بسبب تعطيل البحث العلمي وتهميش الجامعة أُجبرنا على تجرع كثير من الإحباط ومن خيبات الأمل؟
إن الجدلية التي افترضناها، بشكل مبتسر، توحي إلينا بأن اختلالات ما جذرية في العمل الفكري الأكاديمي موجودة، وأنها سبب مركزي لتعثر السياسات والطموحات التنموية.
فلنتأمل إذن، ونحلل مختلف المهام الملقاة على مراكز البحث، ولنتساءل بشكل عملي، إلى أي مدى تقوم بها أو يسمح لها بالقيام بها؟
أكيد أن تشخيص الأدواء قد يسمح لنا بالخروج بخلاصة عن مدى الارتباط الجدلي الموجود بين الاختلالات البنيوية المستحكمة واختلال الفكر أو بالأحرى استحكام المثبطات التي تعرقل عمل الفكر الأكاديمي أكان على مستوى التأطير والتكوين أو على مستوى الإسهام في حل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
? مطلب أول: معيقات تحد من جودة المنتوج الجامعي
بقراءة السياسات المتعاقبة منذ الاستقلال، وبقراءة سريعة لمحتواها، يستخلص أنها وبإجماع أسهمت في تنحية الجامعة عن الشأن العام، وعملت بكل قوة على إزاحة عمل الفكر وضموره.
بل أدهى من ذلك، يلاحظ نفس الانزواء الفكري حتى داخل الجامعة. مما اضطر الباحثين للاكتفاء بمجرد التدريس والتلقي النظري في كثير من جوانبه.
شكل التكوين والتأطير:
تداعيات أنماط التكوين:
إن التكوين داخل الجامعة، تماما كنظيره في الأطوار السابقة عنه، نظري يكتفي في غالبه بالتلقين والسرد. اللهم إلا ما كان من المعاهد والمدارس العليا وهي لا تشكل إلا نسبة ضئيلة مقارنة إلى عدد المؤسسات.
وإذا أضيف لذلك ربط التعليم بهاجس كسب العيش، فما يجب أن نفاجأ إذا علمنا أن الحس الإبداعي ضعيف لدى الطلبة والمتكونين وحتى لدى بعض الباحثين أنفسهم.
تغييب وإهمال الطالب:
أي طالب نريد؟ وأي تكوين لأي طالب؟
أسئلة إلى الآن لم تطرح بالحجم الذي كان يجب. وبذلك فالباحث المؤطر الذي كان يجب أن يكون في قلب الاهتمام من منطلق أنه يبني فكر الأجيال المتعاقبة، أهمل بدوره ولم ينسِّق أحد معه لتحديد شكل التكوين الذي نريد ولا نوعية الطلبة الذين نريد أن نكوِّن. ولإبراز مقدار خطورة الوضع نطرح مجموعة أسئلة، يعتبر الجواب عليها أهم مؤشر:
بمراكز الفكر، هل يركَّز على بناء فكر الطالب بناءً جيداً؟ هل يتعلم الطالب كيف يصل إلى المعلومة؟ هل يتعلم الإبداع والخلق والفضول العلمي؟ هل تبنى شخصيته بما يتلاءم مع المتطلبات الآنية والمستقبلية للبلد؟ وهل يكتسب قدرات للتكيف مع التحولات التي تحصل في الظرفية الراهنة وبالسرعة المطلوبة؟ هل تركز عملية التكوين على أن يكتسب الطالب مهارات التحليل والمقارنة وعدم تصديق كل ما يصل إلى ذهنه؟
هل يتعلم داخل مراكز الفكر مهارات الحياة وكيف يواجه المشاكل اليومية، وكيف يتخذ قراراته في المهمات والمواقف الصعبة؟ هل يتعلم كيف لا يبيع عقله وضميره وكيف يرفض المساومة الفكرية؟
هل تخلينا عن مناهج الحفظ المبلِّد والحشو والتحصيل للامتحان فقط؟
هل تعلمنا أن نجعل محور التعليم الطالب وليس البرامج والمناهج؟
هل نقيِّم كيف يؤطَّر الطالب وفي أية ظروف وطبقاً لأية مناهج ولأية غاية وأية أهداف؟
لا يهم الجواب بقدر ما يهم طرح الإشكال. وما من شك في أن الجواب على جل التساؤلات سلبي. وإذا كان الأمر كذلك فالمعضلة كبيرة وتحتاج لحل جذري.
عدم إدماج التكوين الفني في البرامج التعليمية:
من جهة أخرى، فعدم الإقبال على التكوين الفني، أو بالأحرى عدم مزج مناهج التعليم بالتكوين المهني، انعكس سلباً على الإنتاج والمردودية. حيث لا المتعلم بقي ابن فلاح أو ابن حرفي يأخذ عن والده تقنيات الفلاحة أو الصنعة، ولا هو استفاد من تكوين مهني فلاحي أو صناعي أو غيره (دون أن يفهم -من قولنا- أننا نحكم على ابن الصنائعي وابن الفلاح أن يكون صنائعياً أو فلاحاً بالحتمية، وإنما نقصد أنه في ظل مجتمع يعج بالعطالة والإحباط يلزم المزاوجة بين التكوين النظري والمهني الفني).
هكذا أصبحت البوادي والأحياء، الهامشية بالخصوص، تفيض بشباب متعلم (تعليماً نظرياً) عاطل لا يتقن أية حرفة ويرى مستقبله بكامله مختزلا في وظيفة إدارية يحمل فيها قلما ويجلس على مقعد لا يؤدي خدمات تذكر.
وفي هذا الخصوص ما فتئنا نطالب بوضع سياسات تعليمية تجمع بين النظرية والتطبيق منذ السنوات الأولى. على أساس أن يكون التطبيق نوعاً من التدريب على الحرف والصنائع المختلفة. بهذه الطريقة فأينما توقفت مسيرة المتعلم سيكون ملماً برصيد من المعرفة الفنية تؤهله وتحفزه لإتقانها أكثر وبالتالي تَعَلُّم شيء ينفعه.
غياب استراتيجية للتكوين:
من المفارقات أن التعليم لم يأخذ المكان الذي يليق به في السياسات التنموية المختطة بالمغرب منذ الاستقلال. لذلك غلب على التكوين والتأطير الارتجال والسرعة في البناء. ولسنا نحتاج لكثير بحث لنستنتج أن عمليات الجذب والمد التي عرفتها المؤسسات الجامعية لم تكن وليدة استراتيجية تستجيب لمتطلبات المجتمع الآنية والمستقبلية. وإنما تقام المؤسسات في تخصص ما ويزاد من عددها، ليس لكون مخطط تنموي يحتاج لعدد من الخريجين في التخصص إياه، بل فقط لأن الطلبة يتوجهون بشكل اندفاعي إلى تخصص أو آخر، اعتقاداً منهم أو من ذويهم أنه تخصص ما زال له بعض القيمة في سوق العمل. وهكذا يغلب على استجابات الحكومة طابع الارتجال.
فالحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال وجهت أو تركت الشباب يتوجه إلى تخصصات، ما فتئ أن تبين عدم انسجامها مع احتياجات سوق العمل، وهذا يفسر كون عدد من الكليات أو المعاهد أو التخصصات كالعلوم الفيزيائية والبيولوجية أو الآداب التي >عانت< من إقبال وتشجيع مرتفع مع بداية الاستقلال وأنفِقت من أجل إقامة بناها التحتية ميزانيات ضخمة، تحولت إلى دور شبه مهجورة. والآن حصل توجه >ماراثوني< نحو العلوم القانونية والاقتصادية والهندسة... على اعتبار أنه المجال الذي يوفر أملا في الحصول على عمل. ولن نفاجأ مع الأيام إذا حصل عزوف عن هذا التخصص أو ذاك، بعد أن يفيض المجتمع بخريجين قانونيين أو اقتصاديين أو مهندسين عاطلين، وإن ما ينفق على هذه التخصصات حاليا قد يلقى نفس المصير.
وللرمز لخطورة الظاهرة تكفي الإشارة إلى أن أفواجاً متتالية من المهندسين من مختلف الشعب، سيما المعلوميات والتكنولوجيا والتخصصات الدقيقة وغيرها لا يجدون مجالات تستوعب تخصصاتهم، مما يضطرهم للهجرة. وأن أفواجاً متوالية تعاقدت بكاملها مع مؤسسات أجنبية ووقعت عقود عمل بأوربا وأمريكا. ولنتصور مقدار الخسارة المضاعفة التي تسببها هذه الظاهرة لميزانيات الحكومات، علما بأن المهندس الواحد يكلف الميزانية ما بين 15.000 و 20.000 درهم سنوياً. وإن عملية رياضية بسيطة تعطينا بالأرقام مقدار الخسائر. هذا عدا ما تتكلفه ميزانيات الأسر. على أن أكبر خسارة لهي الناجمة عن إضاعة طاقات كانت ولا شك ستسهم في تحقيق تنمية بلدها. طاقات تهدى على أطباق من ذهب وبدون أدنى مقابل للدول المتقدمة.
هذا يدعونا للتساؤل بإلحاح: من يساعد من في نهاية المطاف؟ أليست الدول المتقدمة هي من يفيد من الطاقات الفكرية والتقنية للعالم النامي وتتخير من بين أكفأ طاقاته الأكفأ والأكثر انسجاماً مع مخططاتها؟ ألم يحن الوقت لمعالجة ظاهرة تسرب الكفاءات العالية؟ ظاهرة لا تزيد إلا استفحالاً في غمرة صمت وإهمال رهيبين، ظاهرة أضحت تشكل ملفاً ضخماً يلزم التوقف عنده ملياً وبجرأة واستعجال، في أفق الحد من النزيف ومن الخسائر!
من جهة أخرى، للتعبير عن الهدر العلمي والمالي في الجامعات العربية، نرمز لما يحصل حالياً فيما يسمى بالمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح (établissements à accès libre) حيث الأرقام الرسمية تنطق لوحدها. أرقام نختزلها في التالي:
انفصام مقلق بين الجامعة ومحيطها:
عيب الخطط التنموية أنها، إلى الآن، لم تهيِّئ خططاً بعيدة المدى تحدد الاختيارات الاستراتيجية، ولم توظف التعليم لخدمة التنمية.
وللتشخيص نستحضر مثال اليابان، كوريا الجنوبية، سنغافورة، ماليزيا. فهذه الدول حددت أهدافا دقيقة استراتيجية، منها مثلاً التطور التكنولوجي، ثم وظفت التعليم وباقي الوسائل لبلوغ غايتها الاستراتيجية تلك. وهكذا انتقلت سريعاً من مصاف الدول المتخلفة تكنولوجياً إلى صدارة الدول المتقدمة.
خلافاً لذلك فعيب الدول العربية والمغرب ضمنها، أنها تريد أن تكون فلاحية وسياحية وصناعية وتكنولوجية... وهذا في حد ذاته ليس عيباً، إنما العيب في عدم وضوح الرؤية لديها وعدم تحديدها لما تريده بالضبط وعدم وجود اللوجستيك والآليات اللازمة لتحقيق ما تتطلع إليه.
وما دامت تسير على ذات النهج ولا تحدد هدفها الاستراتيجي الأول ولا توظف آليات تنفيذه، ستظل موزعة (تائهة) بين أهداف متضاربة وستظل تصطدم بذات الإكراهات (بفعل عدم استنادها للعلم والبحث). وما دامت لا تجعل التعليم والمراكز الجامعية في قلب استراتيجياتها، فما يجب التطلع لنتائج مبهرة.
مآل البحث العلمي في مراكز معَدَّة للبحث العلمي:
لسنا نحتاج لكثير تمحيص لاستنتاج أن البحث العلمي ظل وما يزال يعاني من عدم الاكتراث ومن التهميش من قبل السياسات الحكومية المتوالية. وذلك بسبب انتشار أفكار مغلوطة عن مردوديته ونفعيته، وهو ما يمكن الرمز له كالتالي:
ضعف المخصصات المالية المرصودة للبحث العلمي:
مع أنه أضحى بديهياً ألَّا تَقَدُّم بدون تطوير البحث العلمي ودون اعتماد نتائجه أثناء رسم السياسات الحكومية وصياغة التشريعات، ظل البحث العلمي لا يحظى بالمكانة التي تليق به. بحيث تتراوح ميزانياته ما بين 0.2% وفي أحسن الحالات 0.4% من الدخل القومي، حتى في أكثر الدول العربية غنى.
وهي نسب على ضآلتها، لا تتجه بكاملها فعلاً للبحث العلمي وتطوير مناهج التكوين وصناعة الفكر. بل جزء كبير من المخصصات يذهب للقطاع غير المنتج كتعويضات سامي الموظفين وتجهيزات المكاتب... مما يمنع الجامعات من تطوير مناهجها ويحد من تفاعلها مع محيطها.
عدا كون ميزانيات الجامعات ظلت حتى البارحة لا تتوفر على أية خانة أو بند rubrique مخصص للبحث العلمي. وهذا في حد ذاته مؤشر خطير على مقدار تهميش البحث الأكاديمي.
ومن باب المقارنة، فالميزانيات التي تصرف على الأمن والتسليح تفوق ذلك بكثير، وتمتص القسط الأوفر من ثروات الدول النامية. وليتها كانت توجه للأمن القومي الخارجي، بل هي تسلط على المواطن. وهذا بطبيعة الحال يتحكم في اختيارات حكومات الدول النامية ويؤثر سلبياً على تطلعاتها التنموية.
وللفت الانتباه نشير إلى أن الدراسات، معززة بالأرقام، تثبت أنه كلما زاد الإنفاق على التعليم والبحث العلمي تقلصت تلقائياً الحاجة للإنفاق على الدفاع والتسليح والتجنيد.
وإن جداول عدة اعتمدناها في دراسات سابقة لنا(1)، تبين بجلاء أن الإنفاق على التسلح في الدول النامية يشكل عدة أضعاف من الإنفاق على التعليم. لذلك لا عجب أن نجد الدول التي تنفق أكثر على التسلح هي الأكثر معاناة من الأمية والجهل والمرض وكل الآفات الاجتماعية.
على مستوى آخر فالدول النامية بقدر ما تشكو من ضعف مساهمات الدولة في تمويل البحث العلمي، بقدر ما تشكو من التباعد بين المؤسسات الجامعية والقطاع الخاص... صحيح أن البنى التحتية الاقتصادية ما تزال غير قوية، لكنها مع ذلك حققت بعض التراكم، وهي قادرة على تمويل البحث العلمي ولو بقليل. أما وإنها لا تفعل فقد عمَّقت العجز المادي الذي يعاني منه البحث العلمي، وإن كان هذا لا يصدق على بعض البلاد العربية الإسلامية الموسرة.
عدم استثمار نتاج البحوث العلمية:
إذا كان لنا أن نحدد علاقة الجامعات بمحيطها، فلا يمكن أن نتجاهل عدة مؤشرات تحد من دور الباحث وتباعد بين الجامعة وما ينتظر منها وبين المواطن. فمن المضاعفات السلبية لهذا التباعد، أن جل النظريات والحلول المنبثقة عن الدراسات الجامعية (محاضرات، أبحاث، أطروحات...) تبقى حبيسة أسوار الجامعات.
انعدام الحماية بالنسبة للحقوق الفكرية:
تنضاف معضلة أخرى وتهم عدم شعور الباحثين بالأمان على منتوجاتهم العلمية، بالنظر لعدم تثبيت أية فكرة عن حقوق التأليف وبفعل تواري أخلاق الصدق والأمانة. بذلك أضحت محاضرات ونظريات وأطروحات ومؤلفات الباحثين تتعرض للقرصنة والسطو والسرقة وبطرق مبتذلة جداً من قبل المتطفلين على البحث العلمي. وهذا وحده يكفي لتثبيط الهمم وإثناء الباحثين عن الإنتاج(2)، فما بالك لو انضافت إكراهات أخرى؟
المشاكل المادية للباحث كعامل آخر لنقص عطاءاته:
يجب عدم إغفال دور الحكومات العربية المتعاقبة منذ الاستقلال، في تراجع مكانة الفكر والبحث العلمي، والتراجع الموازي لمرتبة العالم الباحث، سواء على المستوى المادي أو المعنوي.
فعلى المستوى المادي يكفي الرمز لذلك بكون الباحث الجامعي كان، حتى الثمانينيات، يصنف في أعلى قائمة الموظفين السامين، وتدحرج في الترتيب إلى رتب متدنية للأجور. وهذا بمفرده له دلالات كبرى، ورسالة سلبية من الحكومات، أقل ما يقال عنها عدم رغبة الحكومات في تطوير الفكر والبحث العلمي وتعطيل وظيفة المؤسسات الأكاديمية العظمى.
وعلى المستوى المعنوي، دأبت الحكومات المتعاقبة على صياغة البرامج والمخططات والقوانين باعتماد قدراتها الذاتية، فإن عجزت هرعت إلى الخبرات الأجنبية تستنجد بها، مع تجاهل الطاقات الفكرية الوطنية. وهذا في حد ذاته كاف لتثبيط همم الباحثين الوطنيين وفقدانهم الثقة بقدراتهم. عدا ما تشكله الخبرة الأجنبية من ضياع للجهود وانعكاسات سلبية على مشاريع التنمية (لاستحالة إلمام الخبراء الأجانب بحقيقة مشاكلنا)، ومن خسائر لخزينة الدولة بفعل ارتفاع تكاليف استقدام الخبراء، وارتفاع كلفات الصفقات التي تعقد في هذا الشأن. أما إذا حصل واعتمدت خبرة الباحثين الوطنيين، فعادة ما تكون بمقابل هزيل (بصفر درهم في الغالب)... ولكل هذه السلوكات المستحكمة في الإدارة العربية آثار مدمرة للبحث العلمي الوطني: لعمل الفكر ولإشعاع الجامعة.
ومن التداعيات الحتمية لذلك أن الباحث أصبح يشتغل في ظروف غير مريحة تماماً، ظروف تدخله في دوامة من المشاكل المادية والنفسية وتبعده لحد النفور عن البحث العلمي...
عزل الجامعة عن محيطها:
بعد أن كثر الحديث عن إدماج الجامعة أو انفتاحها على محيطها، ترسب في الأذهان أن الانفتاح والاندماج يعنيان أن تأخذ الجامعة لوحدها المبادرة وأن تكون وحدها من ينفتح. هذا في حين أنه في العالم أجمع لم ولا يمكن أن يتم الاندماج إلا بمبادرة من كافة الشركاء والفاعلين من القطاع الحكومي وغيره، كما سبق أن أشرنا لذلك.
هكذا وبعد أن أجبَرَت الحكومات المتتالية على مدى سياساتها المتعاقبة، أجبرت المراكز الجامعية على الانكماش والعزلة والاكتفاء بإعطاء دروس تقليدية متجاوزة، ها هي ذي ذات الحكومات تحاسب الجامعات وتطلب منها أن تنفتح لوحدها وكأن الجامعات هي التي اختطت لنفسها، بعيداً عن كل إرادة حكومية، سياسة عدم الانفتاح على المحيط الخارجي.
وكل الذين يرددون نداء انفتاح الجامعة، إذا جالستهم وسألتهم: ما المقصود بانفتاح الجامعة وما هي أدوات تحقيقه؟ يجيب الجميع بلسان واحد: أن تفتح الجامعة أبوابها للجميع من دون شرط أو قيد. وإذا عقبت: وهل هذا ممكن؟ وهل الانفتاح يعني فقط فتح الأبواب بدون حدود ومن دون أن تساهم في هذا الانفتاح أية جهة؟ يكون الجواب بالإجماع: أجل بكل تأكيد!
فأزمات الجامعة هي حصاد سياسات وممارسات حكومية متوالية إذن. سببها الرئيس عدم إشراك الباحثين الوطنيين في صناعة القرار وعدم تقديم أي دعم من أي جهة وعدم تثبيت ثقافة الشراكة وتبادل المنافع والخبرات.
ذلك أن السياسات المتتالية صيغت من طرف الإدارة، التي اعتمدت إما خبراتها الذاتية أو في الأقصى الخبرات الخارجية، وتجاهلت بالتالي الطاقات الفكرية والعلمية الوطنية. ولنا اليقين بأن الخبراء الأجانب، مهما كان حذقهم ونبوغهم، لا يستطيعون معرفة خصوصيات المشاكل الداخلية لكل بلد.
هكذا بقي عدد هائل من الطاقات العلمية الوطنية معطل للأسف، واضطر عدد آخر للهجرة. ومن المؤكد أنه لا سبيل لاستثمار ما بقي منها إلا بخلق التواصل بين الجامعات وبين الحكومة ومكونات المجتمع المدني وتوفير المناخ الملائم للإبداع. وإن كان الطموح يجب أن يتجه نحو استعادة الكفاءات المهاجرة!
ومن دون أدنى شك، فهذه الأزمات جزء من اختلالات وظيفية بنيوية مردها خلل عام شل وظيفة الجامعة، وعطل علاقتها بصناع القرار من جانب وعلاقتها بالمجتمع من جانب آخر، ومنعها من أن تتقلد دور قاطرة المجتمع المدني.
الاستنكاف عن توظيف التعليم لفائدة التنمية:
عدم رصد التعليم لخدمة التنمية:
لماذا نتعلم؟ ولأية غاية؟ ما المراد من حفز أو فرض التمدرس والتعليم؟ هل السياسات الحكومية تطرح على نفسها هذه الأسئلة أثناء وضعها لبرنامج تعليمي؟ وهل ترصد التعليم لتحقيق الأهداف التي حددتها؟
للجواب تكفي مراجعة سطحية للسياسات التنموية المتتالية منذ الاستقلال وإلى الآن. وسمتها الأساسية أنها لم توظف عدداً كبيراً من المؤسسات والأوراش لما كان يجب أن تعد له. ونكتفي بالتذكير بأن نظام التعليم لم يُستثمر إلى الآن من أجل التنمية. وهذا لوحده مؤشر كاف لتفسير سبب عدم اندماج المتعلم في المجتمع وفي عملية التنمية. وتفادياً للتكرار نُحيل على ما أوردناه عن الموضوع في إطار بحثنا لعلاقة الجامعة بالسياسات الإنمائية.
أهم ما في المسألة أن التعليم والبحث العلمي لم يدمجا بعدُ في التنمية. ولا يخفى ما لذلك من تداعيات سلبية، من أخطرها تعميق التباعد والخلاف وأحياناً التنافر بين قطاعات كثيرة كان من المفروض أن تتفاعل وتتراصّ في مجتمع مدني فعال يدعم الحكومة ويتكفل بملفات تعجز لوحدها عن تحملها.
فلعل القارئ يفهم لماذا يستحكم بعض الخلاف وعدم التفاهم بين المجتمع السياسي وقطاع التعليم. أو قُلْ إحجام صانعي القرار عن تمكين نظام التعليم من الآليات اللازمة للقيام بدوره كاملاً، ويفسر النظرة السلبية للبعض إلى الجامعة بالخصوص، واعتبارها خصماً غير شريف، وبالتالي السعي إلى تقويض أركانها والحد من دورها التنموي.
? مطلب ثان: تراجع دور الباحث في تدبير الشأن العام
إن الإكراهات التي تحد من فعالية الباحث داخل الجامعة تنعكس بشكل آلي على الجانب الاجتماعي والسياسي، وفي كلمة: على القيام بالدور الريادي المنتظر من الباحث في قيادة المجتمع المدني وفي توجيه العمل السياسي. وسنكتفي بسرد بعض النماذج لهذه التداعيات:
أولاً: المقاربات الأمنية وأثرها على إشعاع الجامعة:
محاصرة الجامعة باعتبارها معتركاً للإيديولوجيات:
مرت المجتمعات العربية الإسلامية بفترات عصيبة كان لها أسوأ الأثر على البحث العلمي ومردودية العمل الجامعي. فإبان الاستعمار وما رافقه من قهر وتنكيل بالوطنيين ركز المحتلون أولاً وأساساً على المتنورين من المجتمع (والعلماء والباحثين بخاصة) بل وظف كل الآليات العلمية والأكاديمية للسيطرة على البلاد المستهدفة(3).
ومع استعادة الحرية حلت فترة لا تقل قتامة من حيث كتم الأصوات المعارِضة وإخماد نشاط المثقفين، مع التركيز على الجامعة، باعتبارها مستنبت الأفكار والأيديولوجيات وصانعة الطاقات الفاعلة، وباعتبارها قوة يُحسب لها ألف حساب.
تلا ذلك مرحلة أخرى مختلفة من حيث سماتها ومن حيث كيفية تعاطي الحكومات معها. فمن سمات هذه المرحلة أَنْ تزايد أعداد الباحثين لدرجة أضحى من الصعب إسكات الجميع. تبعا لذلك، رامت الحكومات حلولاً أخرى أكثر فعالية في تحقيق خططها، حلولاً أخطر بكثير من سابقتها من حيث نجاحها في تقليص نشاط الباحثين والحد من تفاعلهم أو بالأحرى تأثيرهم في المجتمع. تمثلت الحلول في السعي لاستمالة المحاضرين والباحثين بشكل أساسي وخلق المتاعب لمن نُعِتُوا بالباحثين >المشاغبين< لتوهمها أنهم يشكلون مصدر خطر، وهي بذلك تعطي العبرة بهم لزملائهم...
الهاجس الأمني هذا كانت له تداعيات أخطر من ذلك بكثير. فإذا كانت الحكومات في البلاد المتقدمة هي التي تقلد أداءات الجامعة والباحثين، فالذي جري في الدول النامية أن بعض المثقفين (كي لا نقول جل) هم من أعاد إنتاج الخطاب الحكومي المستند إلى المقاربات الأمنية إياها. بالتالي بات الباحث يمارس رقابة ذاتية على نظرياته وأبحاثه، لتفادي إزعاج السلطات أو التأذي من ذلك. وما من شك في أن الشعور باللاأمن يقلص المردودية ويصادر الحقائق.
ثانياً: مقاطعة الباحث للعمل الحزبي:
من جهة أخرى، ولأن ممارسة العمل الحزبي اقترنت طوال العقود السابقة بكل النعوت السلبية، ولأن الانتماء للأحزاب لم يكن عملاً سليماً ولا مشرفاً؛ فقد اشمأز منه جلَّ الباحثين ونبذوه وقاطعوه.
في المقابل، لأن الأحزاب استعارت ذات الممارسات الحكومية المتمثلة في تنحية العلم عن العمل السياسي، والأكثر في مضايقة المثقفين أو على الأقل إرغامهم على التخلي عن النظريات والمبادئ العلمية والفلسفية الراسخة؛ فإن العدد القليل من المثقفين الذين قبلوا الانخراط في العمل الحزبي، وجدوا أنفسهم أمام إكراهات أجبرتهم على أن نسيان النظريات والمثل التي تشبعوا بها، وعلى ألَّا يصدح فيهم -أثناء مباشرة العمل السياسي- غير صوت الحزبي الممثِّل لأدبيات الحزب وحساباته الضيقة.
إنما يجب ألاَّ نُخلي مسؤولية الباحث بدوره الذي قصر أو استسلم أو انصاع لأوامر السلطة أو لأيديولوجيات الأحزاب. وتخلى بذلك عن مهمة هي من صميم مهامه: تحريك عمل المجتمع المدني، وضمنه العمل الحزبي وتوجيهه. ولأن إثمار عمل المجتمع المدني يتوقف على خلق علاقة تكامل وتفاهم بينه وبين السلطة وبين المواطن، ولأن الباحث لم يقم بدوره في هذا السياق، فقد افتقدت الحلقة الرابطة بين مكونات ذلك الثلاثي.
ثالثاً: إكراهات تمنع تواصل الباحث مع مجتمعه:
يزيد من حدة التباعد بين الباحث ومحيطه استمرار الأمية والجهل، وضعف فكر الحوار. لهذا تجد الهوة تتسع باستمرار بينه وبين المواطن العادي، وتتعطل لغة الحوار بينهما لدرجة تفتقد معها الثقة أحياناً. وبالنظر لعدم فهم المواطن العادي لخطاب الباحث أو فهمه المغلوط. لهذا السبب تجد المواطن كثيراً ما يشن حملات مسعورة على مفكر اعتقاداً منه أنه يسيء لقيم عقائدية راسخة، أو بالأحرى لأعراف اختلطت في ذهنه مع الموروث العقائدي. وهذه معضلة أخرى كثيراً ما تحرج الباحث، وتدخله في >سجال< يفتقد لكل مقومات النقاش العلمي، مع أناس من بني وطنه لا يفهمون وسائل البحث العلمي وينصبون مع ذلك أنفسهم قيِّمين على ما يعتبرونه أصولاً أو قيماً أو مقدسات. ولا يخفى ما في هذا من هدر للطاقات ومن تثبيط لهمم الباحثين وهجر العمل الفكري، وبالحتمية من زيادة اتساع الهوة بين الباحث ومجتمعه، عدا الانفصام عن المؤسسات الحكومية والحزبية.
رابعاً: اهتزاز موقع الجامعة والباحث في النسق الاجتماعي:
يقودنا ما سلف للخوض في إشكالية أخرى وهي تراجع مكانة الباحث داخل النسق الاجتماعي. فالعلم الذي صيغت بشأنه قيم وضوابط، ورفعت درجته في أصولنا الفكرية العريقة وارتقت بمقتضاها رتبة العلماء إلى مكانة ورثة الأنبياء، فَقَدَ الكثير من حظوته وثقة المواطنين به، بفعل عوامل عدة ذكرنا بعضها، وأيضاً بفعل خلخلة عنيفة أصابت التراتبية المجتمعية. ولسنا نقصد هنا التراتبية الاقتصادية أو التدرج الاجتماعي، وإنما الاحترام والهيبة التي يجب أن تكون لمؤسسات عدة أهمها مؤسسة الفكر، لما لها من خطورة وما تضطلع به من مهام عظيمة التأطير والتوجيه.
ارتجاج التراتبية بهذا الشكل، فسح المجال لكثير من المتطفلين على العلم واجتهاد الرأي ومن الجاهلين للتسيب وادعاء المعرفة وتقلد مهام العالم وتقمص وظائف كانت، ويجب أن تظل، حكراً على الباحث.
ومع أننا لسنا من دعاة تقديس الأشخاص، لكنَّ حدًّا أدنى من المصداقية والتزام الحدود ضروري، كي تُستعاد هيبة الباحث وثقة المواطنين به، وكي تستعاد وظيفته في قيادة المجتمع المدني وتأطير مكوناته، وكي يتوقف المواطن العادي (غير الباحث ولا الباحث) عند حدوده، ويتراجع عن نمطية الجسارة والجرأة الزائدتين عن اللزوم، التي يتعامل بها مع قضايا الفكر. ويلزم هنا التمييز بين حرية التعبير والرأي وبين الجسارة والتجني والانحراف والقذف. والتشهير والسب..
خامساً: تغييب الجامعة والباحث عن الإعلام:
زيادة على ما سلف، نسجل تقاعس وسائل الإعلام عن القيام بالوساطة المنتظرة منها بين ثلاثي مفروض فيه أن يتفاعل ويتواصل: الباحث (بصفته ممثلاً للجامعة)، صانع القرار، والمواطن العادي.
ولإيماننا المسبق بأن الباحث هو الدينامية الحقيقية والموجه للمجتمع المدني. فلتقييم دور الإعلام كفاعل ومؤثر فيه، من الضروري أن نبحث عن مكانة الباحث داخل وسائل الإعلام. وفي المغرب عندما تطالع الصحافة المكتوبة وكل وسائل الإعلام الأخرى تجد الباحث الأكاديمي وعموماً المثقف مغيباً. وتجد وسائل الاتصال، التي كان من المفروض أن تكون قناة وصل بين الباحث والحكومة والمواطن، تكتفي بقدرات ذويها. بهذه الطريقة يتقلص دور الإعلام ويتناقص إشعاعه وتأثيره. بل كثيراً ما تكون نتائجه عكسية تماماً.
بل أخطر من ذلك أن العامل في الاتصال عندما يتكفل بملف معين، ويجري فيه ما قدر له من بحث (متواضع) يشعر في قرارة نفسه ويعلن ذلك بألف لغة، أنه أصبح متمكناً من المادة، مسيطراً على تشعباتها الدقيقة، قادراً على الإفتاء فيها وبلورة رأي قاطع لا يقبل التعقيب، وأنه يستطيع تحدي أي مفكر باحث. وهنا يتقمص دوراً من أخطر الأدوار ويسيء في الوقت ذاته للإعلام وللجامعة، بقدر ما يسيء إلى الرأي العام، بتوجيهه توجيهاً خاطئاً مغلِّطاً.
فالباحث الأكاديمي الرزين مفروض فيه الإلمام بسيكولوجية وسوسيولوجيا التواصل، والقدرة على ارتقاب تداعيات نشر المعلومة، بما يحفزه لصياغتها في القالب الأكثر منفعة الأقل إضرار... أخطر من ذلك أن وسائل الإعلام تولت مهمة بناء فكر المجتمع بكامله، وبخاصة الشباب. ولنتصور خطورة المسألة. فإذا كان الإعلام لا يُلِمُّ بسيكولوجيا التواصل، فهل يستطيع أن يمتلك بيداغوجية بناء فكر الشباب؟
نعتقد أن وظيفة التربية والتكوين والتوجيه التي سحبها الإعلام من المربين والأكاديميين هي من أخطر عوامل التردي الذي ساد مختلف المجالات.
هكذا وبفعل أخطاء استراتيجية، عوض أن يتكفل الإعلام بمهامه السامية ومن أبرزها التقصي عن الخبر والتحقيق في الملفات الكبرى والاختلالات وما تقتضيه من بحث وتنقلات... رام اختيارات أسهل يمكن تلخيصها في:
- إما أخذ أقوال وأفكار ونظريات المفكرين والأكاديميين وتقمصها ونشرها،
- وإما اختيار طريق أسهل بكثير، وهو نقل أسرار الناس والأخبار التافهة والمثيرة والتشهير...
والحاصل أنه عوض أن تكون وسائل الإعلام منبراً يتواصل من خلاله جهاز الباحثين مع المواطن ومع المجتمع السياسي والمدني، تقمصت هي نفسها دورَ هذا الجهاز، وغيبت الباحث والجامعة، وسطت على وظائفهما.
سادساً: تكاثف العوامل مجتمعة لإضعاف قوة الجامعة:
تؤشر ذات المثبطات المعدَّدة أعلاه، وأخرى ضاق عن سردها المقام، إلى عدم اكتمال دعامة مركزية وأساسية: الجامعة، وتواري الباحثين، ليس بصفتهم أفرادا، وإنما بصفتهم جهازاً مكتملاً موصولاً، أي قوة مؤثرة. وبتحديد أكبر، غياب كيان متماسك للمفكرين الأكاديميين، مسموع الكلمة وقادر على القيام بوظائف هامة لا يمكن أن ينوب عنهم فيها أي جهاز آخر، وأهمها بناء الفكر وصياغة رأي عام فاعل ومؤثر، والإسهام في بلورة مشروع مجتمعي تنموي تعتمده الحكومات والأحزاب، وقيادة المجتمع المدني، وتقويم العمل الحكومي والحزبي...
إن سر قوة الدول المتقدمة يكمن في قوة المراكز الجامعية التي تشكلت داخلها مؤسسة فكرية حققت استقلالا عن المؤسسة السياسية وتمخضت عنها سلطة رمزية لها مرتكزات هي التي صنعت قوَّتَها وتَنَفُّذَها. ويكمن سرها الثاني في كون الباحث يذوب فيها ويشكل معها جهازاً قوياً يتكون من الجماعات لا من الأفراد. وكل ذلك يزيد الباحث ثقة في النفس وشعوراً بالأمان ويرفع إنتاجيته.
فبالنظر لغياب مؤسسة فكرية حقيقية وفاعلة، تحمي كرامة الباحث وتضمن أمنه، تجده (الباحث) يشتغل بشكل انفرادي ويحول رحلته العلمية إلى مغامرة وتضحية. وبفعل العوامل المحبطة مجتمعة وبفعل غياب الحوافز، تجده يتمزق بين خيارين لا فضل لأحدهما على الآخر:
- أن يختار المهمة البحثية، وهي كما رأينا مغامرة لا تخلو من متاعب. ومن الناحية العملية، وبفعل غياب مؤسسة فكرية ينصهر فيها تجده نادراً ما يروم هذا الاختيار بل يمارس حظراً ذاتياً على إنتاجه ويقنع بمهمة التأطير داخل الجامعة.
- وإن رام اختياراً آخر وكانت له ميول للانفتاح على محيطه، لم يجد غير العمل السياسي، يفرغ فيه طاقاته. بل إن المجتمع السياسي من تلقاء نفسه، يمارس عليه إغراءات وإكراهات لسحبه إلى ممارسة الشأن الحزبي. وهذا الخيار على إيجابياته (وأهمها تقويم العمل السياسي وإقامته على مبادئ علمية...) لا يخلو من المهاوي. إذ عادة ما يصدح صوت السياسي على حساب الإنتاج الثقافي. وهكذا يستنكف الباحث عن توظيف معارفه في المجال السياسي. بل تجده كثيراً ما ينساق وراء أيديولوجيات وسلوكيات وممارسات أبعد ما تكون عن انتماءاته (أو ما يجب أن يحدد انتماءاته) العلمية. وفي حالات ليست قليلة للأسف، يبتعد الباحث تماماً عن أصوله ومعارفه.
بالنتيجة فالباحث المغربي يعيش انفصاماً حاداً، هو الذي يفسر انحسار صوته، ليس بسبب ضيق في الفكر والأفق، ولا لغياب الإرادة (رغم ممارسة البعض حظراً على ذاته) ولكن بعلة غياب مؤسسة فكرية وطنية ذات سلطة معنوية، يذوب فيها وتشكل قوة الفكر. وهو ما تعودنا التعبير عنه بغياب فكرة الفريق والعمل الجماعي، كلبنات أساسية لجهاز الباحثين.
مما سلف، يستنتج أن الباحث الأكاديمي، وهو رائد المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الغرب، لم يستطع في الدول النامية إخراج أبناء وطنه من التخلف، ولا حتى التفاعل مع فئات المجتمع المتباينة. فلم يبق له من خيار سوى الانجذاب مع القوى والتيارات السياسية، التي بفعل تكتلها في لوبيات، نجحت في إخماد صوت الفكر وتفكيك سلطة فكرية كانت ربما ستنشأ، وفي إضعاف تأثير المراكز الجامعية.
وبالتسلسل المنطقي للأحداث، اختل التوازن بين العمل الثقافي والسياسي، مع أن المفروض فيهما التفاعل والتكامل وصنع مجتمع مدني متين وفعال. فالمفروض في الفكر والبحث العلمي أن يسندا العمل السياسي الحزبي ويوجهانه الوجهة الصائبة. لكن لأن هذا لا يحصل، فقد ضعفت الروابط بين الباحث وباقي المكونات الأساسية للمجتمع المدني، والسياسي، التي اجتهدت بدورها لإسكات أصداء العمل الفكري الأكاديمي.
غاية ما في الأمر أن انعدام مؤسسة فكرية مستقلة، يَسَّرَ التسلط السياسي، بل إنه يؤشر بصورة أعم، لضعف أداء المجتمع السياسي. ويؤشر بنفس الدرجة لعدم صمود الحكومات العربية في وجه الاختراق السياسي للقوى العظمى، التي مارست غطرستها على العالم العربي الإسلامي أكثر من أية أعراق أو ثقافات أخرى.
ومعلوم أن الحكم بالعلم يقوى، وأن مناعة السلطة الحاكمة كانت ستكون أكثر قدرة على صد الاختراق الأجنبي وتحكم وغطرسة الدول العظمى، لو كانت مساعدة بجهاز قوي للمفكرين، يشكل قوة ضاغطة يحسب لها.
وضعف جهاز الباحثين يؤشر من جهة أخرى إلى تعثر الديموقراطية في عدد من بلداننا. فالذي يحصل عادة أو يجب أَنْ يحصل، أَنَّ الحكومات تتعلم من الجامعات (مراكز اعتمال الفكر والأيديولوجيات والنظريات) أنماط الديموقراطية والتمثيلية واحترام الرأي الآخر. لكن الذي حصل معاكس تماماً. فالمراكز العلمية هي التي (بفعل الاختلالات الكثيرة) استنسخت عن الحكومات ممارساتها اللاديموقراطية.
ومن التداعيات أن الباحث هو من قلد الأداء الحكومي حتى في انسياقه الأعمى وراء قوى وثقافات وإيديولوجيات أجنبية متسلطة. وعوض أن يؤسس الفكرُ المحلي لميلاد ثقافة محلية مستقلة سِمَتُها الَخْلق والإبداع والتفاعل مع الواقع والانسجام مع الثقافة المحلية، وَجَدْتَه يتماهى مع الفكر المستورد بالتقليد الأعمى. هكذا إذا رفع الغرب شعار دولة الحق والقانون، أو الشراكة، أو حقوق الطفل أو المرأة أو الإرهاب أو النظام العالمي الجديد أو ثقافة النوع... رددناها ونحن لا نعي أنها منتجات غربية أوجدت لتجيب على ظروف تعيشها مجتمعات مختلفة، وأنها بالنسبة لنا مسميات وهمية لا تتوفر على جذور في الفكر ولا في السلوكات ولا توجد بنى تحتية تدعمها ولا آليات تضمن تطبيقها. ولعل هذا يكفي لتفسير انفصام آخر نعاني منه سببه استعمال الشعارات كخطاب والابتعاد عن سلوكياتها وأدبياتها كممارسة، وابتعاد مماثل عن معالجة مشاكلنا الحقيقية.
سادساً: نتيجة أخرى للاختلال: نزيف الكفاءات:
عدد هام من الباحثين اختاروا خدمة الوطن من داخله بكل ما أوتوه من قدرات وبالقدر القليل الذي خُوِّلوه من وسائل مهما كانت متواضعة، وقبلوا تجرع الواقع الذي شخصنا جانباً منه، طواعية أو كرها. لكن عدداً هائلاً من الأطر والباحثين والمفكرين، فضلوا، طواعية أو كرهاً، الهجرة.
أخطر من ذلك أن الأجيال الحالية من الدارسين والباحثين والطلبة الجامعيين استفحل لديهم هاجس الهجرة بما يجاوز حجمه لدى الأجيال السابقة. مما يفيد أن ظاهرة هجرة الأدمغة لا تزيد إلا استفحالاً. وقد رمزنا لها بهجرة أفواج بكاملها من خريجي الدراسات الهندسية وإبرامها عقود عمل طويلة الأمد. ونضيف لذلك أن عدداً هائلاً من حملة البكالوريا لا حلم لهم اليوم سوى الهجرة، بدعوى إتمام الدراسة في الخارج، على نفقة الأسر طبعاً. لكن نسبة ضئيلة جداً منهم تعود للوطن بعد إتمام الدراسة (على فرض إكمالها).
وهذا يقودنا لمعاودة إثارة ذات التساؤل بذات العمق والإلحاح: من يساعد من على المستوى الدولي؟
إن المثبطات المعددة جزء من مشاكل بنيوية عميقة أسهمت مجتمعة، للأسف، في تراجع مراكز البحث وتقاعسها عن القيام بالأدوار المنتظرة منها لقيادة قاطرة التنمية في بلدانها، والتفاعل مع مكونات المجتمع السياسي والمدني، والتأثير في بلورة القرارات، وفي تأطير المواطنين، وفي رسم مشاريع مجتمعية طموحة.
والتشريح الذي قمنا به لدور ووظائف المراكز الجامعية لم يكن المقصود منه البكاء على واقع ليس فوقه مرارة، بقدر ما كان إسهاماً في استجلاء إحدى أخطر عوامل تعثر برامج التنمية، وتشخيصاً مقتضباً لأسباب اختلال العمل الفكري الأكاديمي وتعطيل وظائف الجامعة، وبيان الجدلية الحتمية بين الاثنين.
فهل إلى حل من مسار؟ هل من فسحة أمل؟
? مبحث ثالث:
التحديات كبرى إنما تجاوزها ليس مستحيلاً
ألم يحن الوقت لنعتبر التعليم، ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة للتنمية: تنمية الثروات البشرية، أكبر رأس مال المغرب، وتأهيلها لتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية وسياسية مستدامة ومتكاملة؟
هذا تطلع مشروع لكنه لا يمكن أن يتحقق إلا إذا شمل حسن الإعداد كافة الجامعات والتخصصات وكافة الطلبة والمتكونين، من دون استثناء. ولبلوغ أسمى هذه الغايات يلزم، باعتقادنا:
- وضع استراتيجيات للتعليم مع ضمان الاستمرارية في تنفيذها، بما يحقق بناء الفكر والشخصية، وتطوير المناهج، وتثبيت قيم الخلق والمبادرة، وبما يُوجِد المناخ الملائم للإبداع وتطوير وتحسين النظريات وتطبيقاتها.
- تبني قواعد بيداغوجية مقبولة.
- إعادة النظر في طرق التدبير داخل الجامعة.
- ترشيد النفقات.
- رفع ميزانية البحث العلمي.
- تفعيل الالتحام والشراكة.
- إعادة الاعتبار للعلم.
أولاً: وضع استراتيجية للتعليم مع ضمان استمراريتها:
يجب أن نتوقف عن الاعتقاد بأن التعليم مسألة سياسية. بل هو استراتيجية حيوية يجب أن تضمن فيها الاستمرارية وترصد فيها الغايات البعيدة. لذلك فبرامج التعليم والأهداف المتوخاة منه وآليات التنفيذ يجب أن تشكل موضوع خطط متوسطة وطويلة الأمد. بمعنى أن تتولى صياغتها هيأة أو لجنة أو مجلس دائم ومستمر في الزمن، سواء على المستوى الوطني أو على مستوى الجامعة. مزية ذلك تفادي تعرض البرامج للارتجاج عند كل تغيير سياسي.
وكيما تأتي استراتيجية التعليم متجانسة مع التطلعات الإنمائية يلزم إشراك كافة الفاعلين في البرامج الجامعية وفي متابعة تنفيذها. عدد هؤلاء الشركاء يتحدد من خلال السياسة التعليمية، أي الهدف الذي تضعه الحكومة في أولوياتها وترصد التعليم لتحقيقه.
ثانياً: تبني قواعد بيداغوجية مقبولة:
مهمة المراكز الأكاديمية ليست مجرد التعليم والتلقين والتعبئة والحشو، وإنما تتقلد مهاماً خطيرة للغاية، وهي أصبحت مؤهلة أكثر مما مضى لتحسين أداءاتها، بحكم الصلاحيات المفوضة لها تشريعياً. ويمكن اختزال الوسائل في التالي:
- بناء الفكر: في معنى تثبيت روح تحليل المعلومة وتنظيمها وتخزينها بشكل علمي سليم، والإيمان بأنها ليست مطلقة، وأنها -ليس فقط تقبل- بل تستدعي التطوير والزيادة عليها والتطلع إلى أكثر منها. وهو السبيل الوحيد لتوظيف المعلومات واكتساب المهارات والمرور إلى مرحلة الخلق والإبداع.
- بناء الشخصية: بما يضمن الثقة في النفس. وذلك بجعل التدريس مجالاً للمناقشة وتثبيت روح الحوار وقبول الرأي الآخر والرد عليه علمياً، والإقناع والاقتناع...
- تحسين المناهج: لم يبق من شك في أن الحاجة ملحة ومستعجلة لتطوير مناهج التكوين في الجامعة انطلاقاً من الأهداف التي يجب أن تختطها في انسجام مع الاستراتيجيات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية التنموية.
- تثبيت قيم الخلق والإبداع والمبادرة: لن نحتاج لكثير بيان لإثبات أن الطالب عندما يصل إلى الجامعة يكون قد حاز قدراً من المعارف والمعلومات، وأن المطلوب من الجامعة استثمار معارفه هذه، وتعليمه كيفية توظيفها وصقلها. وهذا لا يتأتى إلا إذا أشرك الطالب في عملية التكوين وأضحى أكثر إيجابية مما هو عليه الأمر الآن، أي فاعلاً في العملية البيداغوجية وليس مجرد متلقٍ سلبي، مجرد مستهلك لنظريات وفكَر بلورها الآخرون نيابة عنه.
فالغاية من التكوين الجامعي إعداد الأطر. وإذا لم يحصل بناء الفكر والشخصية بشكل علمي سليم، فمعناه أننا سنستمر في تزويد مجال التشغيل بأطر من مستوى رديء، غير قادرة على الإبداع وتوظيف معارفها، مرشحة لإلقاء كل ما تعلمته وراء ظهرها، مستعدة للانصياع والانسياق، وفي هذا تعميق واستمرارية للجهل وسوء التدبير والخنوع والبيروقراطية...
وما دام كل هذا إلى الآن غير وارد، على الأقل في عدد من التخصصات وفي الكليات ذات الاستقطاب المفتوح (وللعلم فهي التي تكوِّن أكبر عدد من الطلبة: حوالي 92%)، فمعناه أن عملية التكوين داخل الجامعة ستظل تعاني من الاختلال وستستمر في الانعكاس سلبياً على كل التطلعات التنموية. مما يبرر ضرورة واستعجال التدخل وّإعادة النظر في طرق التكوين.
- إيجاد المناخ الملائم للإبداع وتطوير المعارف وتطبيقاتها: أسلفنا أن مهمة التكوين الجامعي هي صقل الفكر وإشراك الطالب وتثبيت روح المبادرة والإبداع لديه. وأسلفنا أيضاً أن الدول ذات السبق، سواء من الدول المتقدمة أو الدول النامية التي حققت قفزة تكنولوجية تستحق الإكبار -في تعاملها مع القطاعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية- أضحت الجامعة فيها مشتلاً أو مختبراً تستنبت فيه الإبداعات من كل تخصص، ومنها تنطلق وتطوَّر وتجرب الإبداعات والاختراعات والتحسينات، ومنها أيضاً تنطلق وتُطور النظريات القانونية والسياسية والاجتماعية. وهو ما يجب أن نتطلع إليه وأن نوجد آليات تطبيقه.
فالحاجة ماسة لتكوين خريجين قادرين على المبادرة والإبداع والخلق والاندماج والتفاعل والتكيف مع سوق العمل ومع متطلبات المجتمع الآنية والمستقبلية.
وإذا أحسن التوجيه والتكوين، أكيد أن الانعكاسات ستكون إيجابية على التشغيل وعلى المردودية وعلى الحد من العطالة وعلى التطور التكنولوجي والاستجابة لتطلعات الحكومة واستراتيجياتها التنموية.
ثالثاً: إعادة النظر في طرق التدبير داخل الجامعة:
أضحت الحاجة ملحة لجامعة مواطنة مندمجة في محيطها. وهذا لا يمكن أن يتأتى مع الاستمرار في اعتماد طرق التسيير الإدارية الكلاسيكية التي تعتبر إحدى عوامل الاختلال والتأخر الذي عرفته الدول النامية. وهذا يقتضي:
- هجر طرق التسيير التقليدية وتبسيط المساطر.
- إعطاء المثل في التفاني والإخلاص وحب العمل، سيما من كبار المسؤولين.
- تخليق الإدارة ببث الأخلاقيات ومحاربة السلوكيات السلبية المستشرية.
- اتخاذ القرارات في شفافية ونزاهة.
- جعل القرارات تنطلق من الأسفل في اتجاه الأعلى (وليس العكس) وتنبني على التقييم الميداني لا النظري الصرف.
- تحقيق فلسفة وأهداف اللامركزية واللاتمركز.
- تقوية ثقافة التنسيق والتعاون والتكامل ونشر ثقافة عمل الفريق.
- تحميل كل عنصر المسؤولية، وإشراكهم في القرارات.
- تحقيق التواصل بين المنتمين للجامعة فيما بينهم ومع الآخرين.
- تسهيل الوصول للمعلومة.
- تحفيز الموظفين والأساتذة وخلق تشجيعات جديدة.
- اجتثاث البيروقراطية وبطء الأداء، والحد من سلبيات النمطية والرتابة والرداءة والثبات الممل.
- بث روح التنافسية الشريفة وقياس المردودية ومكافأة الجودة والتفوق.
- فتح فرص لتحيين المعارف ومواكبة التغيرات سيما في تقنيات الاتصال.
- رعاية الجوانب الإنسانية (أنسنة الإدارة).
- الاستغلال الجيد لوسائل الاتصال.
- تحمل هيأة التدريس مسؤولياتها إذا كان عدد ساعات التدريس محدوداً، فالغاية هي ترك مجال للبحث وإغناء العلم والفكر. لذلك فهيأة التدريس باعتبارها مؤهلة للتفاعل والتأثير، مطالبة بإعطاء المثال في تحمل مسؤولياتها البحثية وغيرها. وإن من حسن تدبير الجامعة أن تأخذ هذه المسألة في الاعتبار وتحمِّل كلاًّ مسؤوليته وتوجد آليات لذلك...
هذه نماذج للإجراءات المستعجلة التي تفرض نفسها من أجل الدفع بالإدارة العربية عموما. والجامعة بما لها من دور ريادي مثالي يجب أن تكون أول من يعطي درساً في الرفع من مردودية التدبير الإداري وفي توظيف العلوم الإدارية لهذه الغاية.
رابعاً: ترشيد الإنفاق:
إن مقارنات عدة أجريت بين قيمة ما تنفقه الدول المتقدمة والدول التي حققت نتائج مرضية في العقود الأخيرة (كالتي مثلنا لها أعلاه) من جهة وبين الدول النامية من جهة أخرى، فأظهرت أن نسبة ما تنفقه الدول النامية (ومنها المغرب) من دخلها القومي لا يقل كثيراً عما تنفقه تلك الدول. ومع ذلك فالمردودية متباينة جداً بينهما.
فالمسألة ليست في مقدار ما ننفق بل في طرق توجيه الإنفاق وفي كيفية تدبير الأموال وفي تحديد الأولويات وترشيد الإنفاق، إلى جانب خلق موارد إضافية.
لذلك نعتبر أنه حان الوقت لنتساءل عن كيفية صرف موارد التعليم، وعن أسباب عدم المردودية، وعن مواطن الخلل. وأن نتصدى للمثبطات وأهمها سوء التدبير وهدر الطاقات والوقت من دون احتساب المردودية.
وحان الوقت أيضاً لنتعلم أخلاقيات التعامل مع المال العام وبث روح المسؤولية عنه والكف عن اعتباره مالاً مباحاً.
خامساً: رفع ميزانية البحث العلمي:
على الحكومة أن تخصص على الأقل 1% من الدخل الفردي للبحث العلمي إن أرادت فعلاً تحقيق نسبة لا بأس بها من النمو، والاندماج في الاقتصاد العالمي والتعود على جعل العلم قاطرة للتنمية.
وهذا بطبيعة الحال مجرد حد أدنى في انتظار أن تصبح للخزينة العامة القدرة على تخصيص قسط أوفر للبحث العلمي.
وانطلاقاً من سنة أقامتها الحكومة الحالية وهي خلق بند rubrique لأول مرة مخصص للبحث العلمي. فعلى مستوى الجامعات أيضاً، من الضروري إضافة بند البحث العلمي إلى بنود ميزانياتها.
عدا ما كررناه أكثر من مرة وهو عدم الاكتفاء بمخصصات الميزانية العمومية وإنما فتح علاقات تعاون والتحام مع كل الفاعلين من القطاعين الخاص والعام وشبه العمومي.
سادساً: تحقيق الالتحام والشراكة:
إذا كانت مراكز البحث العلمي لدينا لم تصل بعدُ لمرحلة الإنتاج والإبداع وتنويع مواردها، فلأنها لم تدخل بعدُ مرحلة الشراكة الفعلية مع القطاعات القادرة على تمويل بعض أنشطتها.
وإذا كنا نتوق لأن يصبح الفكر الرائد الأول لكل مشروع مجتمعي طموح، فلا بديل لنا عن الانخراط في شراكات مع قطاعات الإنتاج والتنمية والتخطيط والتشريع، بما يتيح للمراكز الجامعية بأن تتحول إلى مشاتل للإبداع والاختراع وتحسين الإبداعات وتطوير النظريات والمبادئ، وعموماً لبناء الفكر، ليس فكر الطلبة والباحثين فحسب وإنما الفكر الوطني برمته.
سابعاً: الجامعة قاطرة التنمية الجهوية:
لا مستقبل للتقدم إذا لم ينطلق من الأسفل في اتجاه الأعلى. بمعنى أن تقدم المركز لا يؤدي ثمراته إذا لم يصحبه تقدم مواز على مستوى الجهات بكاملها(4).
أما وأنه حصلت البرهنة في أكثر من موضع على أنه لا تقدم من دون علم، فإن التنمية الجهوية بدورها لا يمكن أن تتحقق إذا لم تتول الجامعة قيادة مسيرة التقدم.
وهي تستطيع أن توظف آليات وأدوات عدة، لعل من أبرزها الشراكة والالتحام مع الإدارة الجهوية وتنسيق الجهود، وتوظيف البحث العلمي لفائدة التنمية، ومساعدتها بهذه الطريقة على رسم سياسة تنموية مدروسة دراسة جيدة تعتمد على المقاربات الشمولية للقطاعات وللظواهر.
ثامناً: الجدلية بين الأمن القومي وإدماج الجامعة في محيطها:
إن الأمن القومي الفعلي بحسب المنظومات العصرية لا يمكن أن يتحقق إلا باندماج الجامعة في المحيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وإن الدراسات تثبت بالأرقام، أنه كلما زاد الإنفاق على التعليم والتكوين الفني ومحو الأمية والبحث العلمي والصحة وعموماً على الجوانب الاجتماعية؛ قَلَّتْ الحاجة للإنفاق على الأمن والتسلح...
هذا على مستوى الأمن الداخلي. أما الأمن الخارجي فحاجته إلى العلم أكبر. وإذا كان لا بد وأن نستشهد بمثال التسلح، فيكفي أن نشير إلى أن أمن البلدان حتى البارحة كان يعتمد قوة البدن وحجم الفيالق العسكرية وتدريباتها الميدانية... وهو الآن يرتبط أكثر بقدرات البلد العلمية. ولا يعني هذا أنه اُستُغني عن السلاح، بل لا زال التسلح هو المحور وما زالت الدول تحتاج للتسلح. لكن العتاد العسكري أصبح يعتمد التكنولوجيا بالأساس. وإذا لم تدرب الطاقات الوطنية على المعدات المتطورة، ولم تَخْبر أسرار التكنولوجيا الحربية الحديثة ولم تسند كل ذلك بالعلم والمعرفة فلا نفع يرجى من اقتنائها لعتاد عسكري يظل معطلاً في غياب الطاقات القادرة على تشغيله وصيانته. بمعنى آخر، إذا لم تبادر البلدان لاستثمار العلم والمعرفة وتأهيل طاقاتها البشرية فستظل التبعية جاثمة، قدراً لا انعتاق لها منه، وهذا وحده كاف لنسف الأمن. وبديهي أن المراكز الجامعية هي المؤهلة لإنتاج المعرفة التقنية (know How). فهي وحدها تستطيع تفكيك الآلات من أي صنف كانت، سيما المتطورة ودراستها وإتقانها، ثم المرور بعد ذلك إلى فترة الإبداع والإنتاج. وهذا ينطبق على باقي المجالات.
إعادة الاعتبار للعلم:
هذه المسألة في واقع الأمر غاية ووسيلة: فهي غاية من حيث أن التدابير والخطوات التي سطرناها أعلاه تؤدي بالضرورة إلى إعادة الاعتبار للعلم. وهي وسيلة من منطلق أن إعادة الاعتبار للعلم وجعله في قلب السياسات التنموية، يؤدي إلى تحقيق تنمية حقيقية مستدامة. على اعتبار أن المقاربات والسياسات والاستراتيجيات يجب أن تعتمد العلم والحقائق والإحصائيات التي لا مداراة فيها ولا احتشام.
وإذا عقد العزم على ذلك فإن التعاون بين الجامعة وبين الجهات المفيدة من خدماتها يحقق إيجابيات كثيرة لكلا الطرفين مع التذكير بأنه لا تعاون إذا لم يستفد الأطراف جميعهم. ويمكن اختزال هذه الإيجابيات في التالي:
- إفادة الجامعة من المشكلات التي تعرضها الجهات المتعاقدة معها في توجيه وتطوير بحوثها.
- استثمار الملكات العلمية عالية التخصص التي تتوفر عليها المؤسسات الجامعية (شبه المعطلة الآن). مما يسمح للمدرسين بتطوير وتحيين معارفهم وتحسين مناهج التدريس والتأطير وتوجيه البحوث.
- الإفادة من المعدات والتجهيزات والمختبرات... التي تتوفر للجامعة وللجهات المتعاونة معها واستثمارها بشكل جيد.
- رفع مهارات الأساتذة والمؤطرين بفعل الممارسة، بما ينعكس إيجابا على مناهج التكوين والتأطير وتوجيه البحوث وعلى معنويات الكوادر.
- تثبيت الثقة وروح التنسيق والتعاون بين هيآت التدريس والبحث وبين الجهات المتعاقدة من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
- توفير موارد جديدة للجامعات ومصادر إضافية للمدرسين الباحثين.
- توفير فرص للإبداع والاختراع والابتكار مع ضمان حقوق الملكية العلمية وإيجاد وسائل وآليات استغلال الإبداعات:
- نقل الخبرات والمعارف في مجال التحكم في التكنولوجيا ثم توطينها وتوفير الجو المناسب لذلك.
- خلق فرص جديدة للشغل.
- بناء استراتيجيات التنمية على أسس متينة.
هذه أمثلة فقط عما يجب أن يُؤتى من إجراءات ومن خطوات، وما يجب أن يوظف من آليات. وجامعها الاعتراف للجامعة بالمكانة المرموقة التي يجب أن تكون لها بامتياز، وغايتها وضع الجامعة في قلب الاستراتيجيات التنموية وتوظيف الجامعة بصفتها دينامية ركيزية في كل مشروع مجتمعي طموح.
? الخاتمة
تجاوزاً للإكراهات والمثبطات التي أبرزنا بعضها، ولتحقيق الإيجابيات والآمال التي تطلعنا إليها، من الضروري رسم خطوط سياسة محكمة تأخذ في الاعتبار جل ذلك، ومن الضروري وضع آليات للتطبيق تضمن النتائج أي التنفيذ، وتعمل على إنجاح المخطط. توخياً لهذه المقاصد، نقترح كخطوات أولى:
- التوعية والتحسيس، ويجب التوجه هنا إلى كل المعنيين بالتعاون بدءًا من المؤسسات الحكومية والتشريعية والقضائية، مرورا بقطاعات الإنتاج ووصولاً إلى المجتمع المدني والمواطن العادي. والتوعية يجب أن تركز على بيان نفعية وحتمية البحث العلمي ومدى لزوميته لتحقيق تقدم فعلي مستدام.
- إعادة هيكلة الجامعة بما يوفر الشروط والأدوات الضرورية لضمان تعاون مثمر وفعال بينها وبين محيطها. وإعادة الهيكلة يجب أن تشمل الجوانب البيداغوجية والتدبير الإداري والمالي والتنظيم القانوني وتحديد وإضافة صلاحيات تخول لها القيام بالدور الريادي المنتظر منها.
- بناء الجامعة شخصيتها المستقلة وقيامها بما تتقنه وبما يتلاءم مع محيطها الاجتماعي والاقتصادي، لا بما تقوم به الجامعات الأخرى، واستجابتها لاحتياجات وطموحات الجهة التي تندمج فيها.
- اعتماد التعاقد بين الجامعة أو المؤسسات التابعة لها وحتى وحدات البحث والتكوين وبين الجهات المفيدة من خدماتها العلمية. والتعاقد يمكن أن يكون لمدة قصيرة أو طويلة:
- تعاقد قصير المدة في الأمور العاجلة التي تتطلب معالجتها أقل من ستة شهور، كالقانون المالي أو وضع آليات تنفيذ برنامج معين.
- وتعاقد طويل الأمد في القضايا والملفات ذات الطبيعة المتواصلة التي تتطلب سنة أو أكثر، كصياغة الاستراتيجيات والتصاميم التفصيلية الطويلة أو المتوسطة المدى...
- جعل الجامعة ورشة تتدارس فيها مختلف برامج التنمية، وتُعالَج فيها، ميدانياً، الظواهر والمشكلات ويقاس مقدار انحسارها أو استفحالها، في أفق التنسيق بين البرامج التنموية وبين الواقع كما هو لا كما قد يتخيل.
- وضع حد للانفصام بين الجامعة وباقي القطاعات التنموية وبعث جو الثقة والإيمان بضرورة التعاون. لغاية ضمان التواصل واستمرارية التفاعل بين الجامعة وعلمائها وباحثيها من جهة وبين الجهات المتعاونة معها. والتواصل والتعاون المستمر يمكن تحقيقهما بعدة طرق:
- إجراء الخبرة لفائدة القطاعات المعنية.
- ضمان التكوين المستمر والتكوين السريع المكثَّف، لإفساح المجال للعاملين في القطاعات المتعاونة لاستكمال التكوين أو تحيين المعلومات أو تقريب معارفهم من خصوصيات وحاجيات عملهم.
- خلق مكاتب خبرة أو مكاتب استشارية كما سميناها أعلاه بالمؤسسات الإنمائية développeurs.
- عقد اللقاءات العلمية والندوات في المواضيع التي تجيب على احتياجات القطاعات المتعاونة، وباشتراك معها.
- جعل التكنولوجيا محوراً أساسياً وغاية جوهرية في البرامج الإنمائية، واعتماد وسائل خَبْر أسرار التكنولوجيا ونقلها وتوطينها، وتوظيف الجامعة بما تملكه من قدرات وكوادر وتجهيزات لتحقيق هذه الغاية الهامة والمستعجلة....
الهوامش:
?* أستاذة القانون الخاص بالرباط.
?(1) يراجع كتابنا >الأطفال المهمشون: قضاياهم وحقوقهم< ط 1 إيسيسكو 1999، وهو موشّى بأرقام وإحصائيات في الموضوع.
(2) هذا الموضوع شكل بالنسبة لنا دراسات في مناسبات عدة، نحيل عليها في أماكنها، تجنباً للإطالة. ونحن شخصياً لطالما كنا محلاًّ للقرصنة، سيما وأننا كنا من أوائل إن لم نقل أول من خاض في مواضيع حديثة مثل الأوثانازيا ونقل وزرع الأعضاء، والدعم الطبي للإنجاب والاستنسال وتحاقن الدم والقانون الطبي وقانون الصحة...
?(3) يراجع كتابنا: مدخل للعلوم القانونية (مطبعة المعارف 1999)، وقد أفردنا فيه مكاناً بارزاً للأدوات العلمية والأكاديمية التي وظفها المستعمر في المغرب العربي وكيف أنشأ مدارس ومعاهد لدراسة خصوصيات المجتمعات المغاربية في أفق السيطرة عليها، وكيف استغل التنوع العرقي وتنوع الأعراف والتقاليد لخلق الشقاق وإضعاف المقاومة... نذكر منها مثالاً ذا دلالة هامة، وهو أنه في نهاية القرن التاسع عشر، أسس المستعمر الفرنسي ما أسماه آنذاك بمدرسة الجزائر Ecole d’Alger، كنافذة أطل عبرها على أسرار وخبايا التشكيلات الاجتماعية، وأحكم من خلالها قبضته على الجزائر ثم تونس فالمغرب. وتم كل ذلك تحت تبرير احترام الهوية وتدوين الأعراف المتجذِّرة، حفظاً لها من الضياع وحماية للناس من التعسف...
(4) لدينا بحث معمق في موضوع التخصيص والجهوية ودورهما في تحقيق تنمية مستدامة، وفي موضوع العلاقة كما يجب أن تكون بين السلطة المركزية والإدارة المحلية أو الجهوية. ولضيق المجال عن التفصيل نحيل عليها في أماكنها.