شعار الموقع

الحوار مع الآخر .. شروطه ومعوقاته

نزاري سعاد 2019-05-18
عدد القراءات « 1402 »

الحوار مع الآخر.. شروطه ومعوقاته

التعصب نموذجًا

نزاري سعاد*

* تحضر دكتوراه تخصص علم اجتماع، جامعة 08 ماي 1945، قالمة – الجزائر، البريد الإلكتروني: snezzari@ymail.com

 

مقدمة

الإنسان وحب البقاء معركة حياة أو موت تحدٍّ فرض عليه الكفاح منذ أن وُجد على الأرض، وقد تمكن الإنسان باجتهاده العقلي والجسدي من تسخير الطبيعة لخدمته، فلم تتوقف طموحاته عند هذا الحد؛ لأن غريزة حب التملك والسيطرة والاستغلال قد تتغلب على الفطرة الإنسانية السليمة.

من هنا كانت نقطة الانعطاف في رحلة شقاء جديدة، عندما دخل الإنسان في شبكة علاقات اجتماعية الغرض منها تأمين احتياجاته، ودرء الأخطار التي يتعرض لها؛ لأن علاقة الإنسان بمجتمعه هي علاقة ديناميكية يملؤها التفاعل، ونتج عن هذا الاحتكاك أن دخل في صراع مع أخيه الإنسان.

فالمتتبع لتاريخ العلاقات الإنسانية يجدها مليئة بالتوترات والصدامات العنيفة سببها الجهل وسوء الفهم، وقد أفرزت عداوات وأحقادًا، تغلب فيها حوار القوة بدلًا من حوار العقل، ولغة الدم والتجريح على الإصغاء، هذا لا يعني أن تاريخ العلاقات الإنسانية كله أسود، بل ساد العالم فترات من السلم والإخاء نتيجة للتقارب الإيجابي بين الشعوب.

لكن أكثر ما كان يتحكم في تصرفات وسلوكات الإنسان مرة نحو الخير ومرة نحو الشر، هو الإنسان نفسه وما أنتجه من أفكار باسم العلم والمعرفة، التي يرى فيها المفكر الألماني هابرماس أنها تتشكل تبعًا للمصالح التي تبلورت من أجلها، وبسببها عرفت البشرية سلسلة من الصراعات الداخلية والخارجية لا زالت لحد الآن تؤرق العالم، نتيجة لأفكار هدامة ومفاهيم ملغومة بالأيديولوجيات والحسابات السياسية والاقتصادية وكذلك الدينية... إلخ. لهذا فقد أصبحت إشكالية العلاقة مع الآخر، محورًا أساسيًّا في أبحاث ودراسات العلماء والباحثين في الشأنين الحضاري والديني، محاولين الكشف عن طبيعة هذه العلاقة.

وفي ظل المتغيرات العالمية الجديدة بعد سقوط المرجعيات الفكرية القديمة، وحدوث خلل في ميزان القوى العالمية، أدت هذه التحولات إلى رواج الكثير من المفاهيم والأطروحات منها: أطروحة نهاية التاريخ، والعولمة، وصدام الحضارات، وحوار الحضارات، وتعارف الحضارات... إلخ.

إلَّا أن أطروحة حوار الحضارات قد أخذت الحيز الأكبر من اهتمام الكثير من الباحثين على الصعيدين الدولي والعربي، غير أن الغرب السبّاق إلى طرح فكرة حوار الحضارات، استند في أول الأمر إلى الهدف الديني، حيث تم التركيز على الحوار المسيحي - الإسلامي، ثم ظهر في المجالين السياسي والاقتصادي في صيغة الحوار الأوروبي - العربي، وحوار الشمال جنوب.

لكن المصطلح الأكثر تداولًا على صعيد السجال الفكري العالمي والعربي، هو حوار الحضارات، حيث تميزت الساحة الفكرية بالعديد من النشاطات من مؤتمرات وندوات وكتابات صحفية، في دلالة على أهمية هذا الطرح وضرورته في الوقت الراهن، خاصة وأن والعالم يعيش حالة من الغليان في ظل تعدد أزماته ومشكلاته، وتأكدت هذه القضية إثر الظروف التي أعقبت نهاية الحرب الباردة وصدور أطروحة صدام الحضارات.

وبالرجوع إلى التراث الإسلامي نجد أن فكرة الحوار وُجدت قبل وجود الإنسان، وكشف عن ذلك القرآن الكريم في حوار المولى عز وجل مع إبليس الرجيم، عندما خلق آدم C، قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[1].

وفي ظل هذه الظروف المأساوية التي عرفتها البشرية، فرض الحوار نفسه كضرورة ملحة لحل النزاعات المستمرة، فالكل مدعو إلى سماع بعضهم بعضًا، ليعرف كل طرف ما عند الآخر، إذا أرادوا البقاء في عالم يسوده السلم والأمان، والانتصار لروح الإنسانية والتسامح بدلًا من العصبية التي لا تؤدي إلَّا للتفرقة ونشر روح العداء والكرهية، ومن ثم إلى تدمير القيم الإنسانية، وسلب الأمن والاستقرار في المجتمع.

لكن الملاحظ على المستوى الدولي والعربي أن أزمة الحوار تعد شائكة ومتشابكة، وما تعانيه المجتمعات من اضطرابات في هذه الفترة بالذات لدليل واضح على عمق الأزمة، حيث نفتقد لثقافة الحوار على كل المستويات، والملفت للنظر والانزعاج أننا نفتقد لثقافة الحوار على مستوى أفراد النخبة.

التعصب الذي كان وما زال داءً ومرضًا، إنه الخطر الداهم، ومن هنا تأتي أهمية الكشف عن هذا الورم الخبيث من أجل استئصاله وحماية جسد المجتمعات من آثاره المدمرة، وقد أصبح ظاهرة متفشية الأمر الذي أدَّی إلى ظهور صراعات مختلفة بين الناس، فازدادت الأحقاد واتسعت الفجوة بينهم، وکانت مصدرًا لتعاسة البشر وحاجزا للتفاهم والتقارب.

وما يعرفه العالم اليوم من حروب وصراعات تكاد تفتك بحياة الإنسانية جمعاء، لدليل واضح على أن التعصب أصبح يشكّل خطرًا، ما يستدعي منا كباحثين أن نركز جهودنا لدراسته، محاولين بذلك معرفة العوامل التي أدَّت إلى تفشي هذه الظاهرة الخطيرة.

انطلاقًا من المعطيات المذكورة تطرح التساؤلات الآتية:

- هل يمكن أن يتحقّق الحوار في ظل الاختلافات الجوهرية بين الأنا والآخر؟

- ما هي معوقات الحوار مع الآخر؟

- كيف يؤثر التعصب في تحديد طبيعة العلاقة مع الآخر؟

- كيف نعيد لثقافة الحوار بعدها الحضاري والإنساني؟

الحوار مع الآخر.. أهميته وشروطه

إن الاختلاف بين البشر مسلَّمة ينطلق منها الإنسان عند التعامل مع الآخرين، فالتباين والاختلاف والتعدد سنة إلهية، لكن الاختلاف ليس بالضرورة أن يكون نزاعًا أو صراعًا، وإنما هو لتبادل المنافع والخبرات والرأي والفكر، إن الحوار يكتسب أهميته البالغة من كون الوجود الاجتماعي الإنساني لا يتحقق إلَّا بوجود الآخر المختلف، ومن أن الإنسان لا يحقّق ذاته الإنسانية ولا ينتج المعرفة، إلَّا بوجود الآخر والتفاعل معه.

تكمن أيضًا أهمية الحوار في تبادل وجهات النظر بين المتحاورين كي يعرف كل محاور وجهة نظر الآخر، من أجل معرفة الحق والحقيقة أو نشر الوعي بين البشر في شتى المجالات.

ورغم أهمية الحوار مع الآخر، يجب أن نعيد إحياء بُعدٍ غائب عن ثقافتنا ومعاملاتنا هو بعد الحوار الداخلي بين أبناء أمتنا، إن إهمالنا هذا لجانب من ثقافتنا هو مظهر من مظاهر الإهمال التي تلف علاقتنا كلها بموروثنا الحضاري والأخلاقي، يقول محمد عمارة: «إذا كنا نريد حل مشكلاتنا والخروج بالأمة الإسلامية من النفق المظلم، فإنه لا سبيل إلى تحقيق هذا الأمل إلَّا بالحوار الذي نتفاعل به مع واقع الحياة، أخذًا وعطاءً».

أهداف الحوار مع الآخر

ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها لتحديد أهداف الحوار، وهي أن الحوار وسيلة موصلة للحقيقة التي تحمل في طياتها وظيفة ذات أبعاد ودلالات سامية، والحوار بهذا الأسلوب يتطلّب من المحاور التسلح بالمعرفة، والإثبات بالحجة، لإيصال وتبليغ الحقيقة لمن يحاوره، ويكون هذا عن طريق النقد البنّاء، فالنقد يساعد على طرح رؤى وأفكار وصيغ وتساؤلات تفعل الحوار، وتدفع الجميع نحو المزيد من التدبر والتفكر، واستخدام الأدوات المعرفية قبل دحض المقولات ورد الحجج وكشف الانحرافات[2].

لقد آن الأوان للفكر الإسلامي المعاصر ودعاته أن يدع الانغلاق على الذات، ويخرج من قوقعته، ويخوض الحوار مع كل الأطراف المخالفة، بل حتى المعادية والحاقدة فلعل الحوار العلمي الهادئ الهادف يجعل المتردد يقتنع، والخائف يطمئن، والمتوتر يهدأ، حتى الحاقد والمعادي، قد يخفف من حقده وعدوانه[3].

وللحوار شروط ومبادئ ينبغي مراعاتها لإدامته وتعميم فوائده على جميع أطرافه، بما يحقّق السلم والعدل والمساواة والتفاهم بينهم، وتتمثل هذه الشروط في:

1- يقوم الحوار على أساس التوازن في المصالح، فالجميع يجب أن يدرك أن الحوار مع الآخر ينطلق من مجموعة مصالح متوازنة وأنه غير خاضع لأي لون من ألوان الذل والضعف، فهذه المصالح المتوازنة هي التي تخلق مناخًا من التفاهم المشترك

2- يتحقق الحوار حين تتكافأ أطرافه، ودون هذا التكافؤ لا يكون الحوار ناجحًا، أو لا يكون إطلاقًا.

3- الاقتناع بأن الحوار هو البديل الأمثل لمواجهة التعصب بكل أشكاله والصدام والصراع.

4- ينبغي قبول الآخر بكل ما يحمله من خصوصية حضارية وثقافية، والتحاور معه والبحث عن منهجه وفهمه[4].

في هذا الشأن ينبّه بعض الباحثين إلى أن معرفة شروط الحوار، هي بمثابة الأساس الذي تقوم عليه ثقافة الحوار، فتحديد هذه الشروط يدفع بالحوار إلى الأمام ويلبسه ثوب الأمان، ويحقق الأهداف المتوخاة من ثقافة الحوار[5].

وحين انخرط الدكتور محمد خاتمي رئيس الجمهورية الإيرانية السابق في حوار الحضارات، اقترح شروطًا مهمة للحوار الحضاري وذلك ردًّا على أطروحة صدام الحضارات، من هذه الشروط:

1- أن ننصت للآخر كما نتحدث إليه بالضبط، فالإنصات فضيلة علينا أن نتحلّى بها، وفي سبيل ذلك لا بد أن يبادر الإنسان إلى امتلاك لون خاص من الأخلاق وتهذيب النفس والرياضة العقلية.

2- إحداث تغيّر جذري في الأخلاق السياسية، فالتواضع والالتزام بالعهود والمساهمة الفاعلة من أهم المتطلبات الأخلاقية لتحقيق الحوار في مجال السياسة والعلاقات الدولية.

3- لا يتحقق الحوار إلَّا في ظروف تتدخل في تكوينها عناصر نفسية وفلسفية وأخلاقية خاصة، ومن هنا نحتاج إلى أحكام وقناعات عامة مسبقة، لا يمكن تحقيق الحوار في مضمونه الدقيق دونها أبدًا.

4- التكافؤ في الاستحقاق، رغم أن التسامح ضروري لتحقيق المراحل الأولية للحوار، إلَّا أن علينا إدراك أن ثمة بنى شاسعة بين ما دعت إليه مرحلة الحداثة من صبر وتحمل سلبيين، والتكافل أو التعاون الإيجابي الذي تدعو إليه ديانات الشرق وفلسفاته.

5- ظلت الإنسانية تسعى على مر العصور إلى تحقيق السلام، فالإنسان يتجنب في حد ذاته مستويات الصراع والصدام، ويميل نحو السلام القائم على العدل، وتوفير الاحترام المتبادل الذي يبديه كل طرف حيال الآخر هو أساس الحوار الذي يبدأ حين يتم إلغاء ممارسة الهيمنة[6].

يضيف الدكتور محمد خاتمي نحن المسلمين بكل ألوان الطيف الثقافية المتعددة في دائرة الحضارة الإسلامية، لا بد لنا أن يفهم بعضنا بعضًا بصورة جيدة، كي ننأى عن التفرق والتشتت في حوارنا مع الآخر، نحن بحاجة إلى أن نعرف العالم كما هو، وان نتزود بمعطياته المدنية بأصح صورة، ونحن بحاجة إلى خيار واعٍ مدروس كي نبتعد عن الأضرار والآثار السلبية للتقلبات العالمية السريعة، وهذا لا يتيسر إلَّا بفهم صحيح وحوار، وبمنهجية الحوار بين الثقافات والحضارات[7].

ويرى الباحث الجزائري عمار جيدل أن الشرط الأساسي للحوار الحضاري، هو مبدأ الحرية الذي يعتبر مطلبًا لجميع أطراف الحوار، حيث لا يتم اختيار الحوار كمسلك حضاري إلَّا لمن أحس بحريته وعايشها وعاش بها، كما لا يمكن الحديث عن الحوار مع من لا يقدّر في نفسه هذه القيمة (الحرية) الإنسانية السامية، ومن ثم لا يمكنه مباشرة الحوار الفاعل المؤثر في صياغة مشروع الحاضر والمستقبل[8].

وللحوار الحضاري الناجح شروط أخرى، قد حددها بعض الباحثين في بعض النقاط التالية:

1- تحديد المصطلحات بدقة: فلا بد للحوار الحضاري الذي يرجى منه تحقيق أهدافه، من مصطلحات واضحة ومسلمة بين المتحاورين، ليكون الحوار منصبًا على أمور محددة ومتفق عليها، وهذا من أهم خطوات البحث العلمي والحوار الحضاري.

2- البدء بنقاط الاتفاق: فعلى المتحاورين من أهل الحضارات المختلفة، أن يفتتحوا نقاشهم بالبديهيات والمسلمات، فالحديث على هذا النحو من شأنه يثري الحوار، ويجعل بداياته هادئة، وهذا في حد ذاته مؤشر إيجابي على احتمالات نجاح الحوار.

3- الاعتراف بالآخر واحترامه: لنجاح الحوار الحضاري، اعتراف كل المتحاورين بالآخر واحترامه كذلك، أما إذا كان أحد الطرفين لا يعترف بالآخر أصلًا ولا يحترمه فلا جدوى من الحوار، وهو حينئذٍ ضرب من السخرية والإهانة.

4- معرفة الآخر بواقعية وتجرّد: إن معرفة الآخر دون تهوين منه ولا تهويل له هي نصف الطريق إلى نتيجة إيجابية كانت أم سلبية، ثم إن لغة الحوار قد تختلف من حالة لأخرى ومن حين لآخر، فالحوار مع القوي المعاند غيره مع الضعيف المسالم، والحوار مع المثقف والعالم غيره مع الجاهل المكابر، ولكل منهم أسلوبه ولغته ولهجته وخطابه.

5- توثيق المعلومات بالأدلة الواضحة الساطعة: لذا يجب أن يعزو لمناقشة الأفكار إلى مصادرها، وأن يولي الاستشهاد والاقتباس ما يستحقان من عناية، وأن يستعين بذكر الإحصائيات التي تخدم رأيه والمراجع التي اعتمد عليها في الموضوع محل البحث[9].

من هنا كان من الضروري عند أي حوار مع الآخر التأكد والتثبّت من صحة أية مقولة تطرح للنقاش والحوار، لقد ساعدنا وبحكم اطِّلاعنا على بعض أدبيات هذا الموضوع (الحوار بصورة عامة والحوار الحضاري بصورة خاصة)، اتضح لنا من نتائج بعض الدراسات، أن ثقافة الحوار مع الآخر مهما كانت صفته أو طبيعته، تكاد تكون غائبة أو مغيبة إلى حدٍّ ما على المستوى المؤسساتي، بدءًا من الأسرة الخلية الأولى لتكوين المجتمع.

وهذا رغم ما تزخر به الثقافة الإسلامية من قيم ومبادئ تدعو كلها للحوار والتسامح من أجل التعايش، لذلك نحن أمام استشكال مهم، وهو: كيف نعيد لثقافة الحوار بعدها الحضاري؟

كيف نعيد لثقافة الحوار بعدها الحضاري

يعتبر الحوار من أهم مميّزات الثقافة العربية، التي كانت بعيدة كل البعد عن التعصب والانغلاق، فهي تتميّز بدرجة انفتاح على الآخر واحترام الرأي المضاد، وحين نحتكم إلى التاريخ عبر رواياته وأخباره وشواهده، يزداد الأمر وضوحًا إزاء عدة معالم نقرأ منها: أنها ثقافة حوارية من الطراز الجيد تقبل التعددية، تنطلق من الاختلاف وتنتهي إلى التسامح والتفاهم مع الآخر.

أنها ثقافة إنسانية بدأت من الإنسان، وانتهت إليه فلم تعرف الانشغال بالأجناس، أو مولد العلماء قدر انشغالها بثقافاتهم، ونشأة الفكر لديهم، ودليل هذا ما تمتع به علماء العصر العباسي مثلًا ومبدعوه من جمع رائع بين موروث البادية العربية في صفائها وبين ضجيج حضارة العباسيين وصخبها الحضاري موزعًا بين عناصر عربية ومشاركات فارسية ويونانية وهندية وغيرها، لينتهي الأمر لصالح البعد الإنساني في ثقافتنا، لأنها ثقافة الحوار مع الآخر[10].

يمكن أن نعيد لثقافة الحوار دورها الحضاري في بناء وتنمية المجتمعات الإنسانية، انطلاقًا من ثقافتنا العربية الإسلامية التي هي في الأساس ثقافة حوار وتعايش مع الآخر، وذلك من خلال تفعيل دور المؤسسات التي تعتبر البنى الأساسية في بناء وتكوين أي مجتمع، من هذه المؤسسات:

1- العائلة وثقافة الحوار: يولد الفرد وينمو ويترعرع ثقافيًّا وتربويًّا في أحضان الأسرة التي يفترض أن تعلّمه أسلوب الحياة النزيهة والشريفة ماديًّا ومعنويًّا وسلوكيًّا، حيث يتفاعل مع مجموعة من الأوامر والنواهي التي تضمن له سلامة الانتساب إلى عائلته وإلى وطنه وإلى مجتمعه الكبير أي الإنسانية، فيتعلّم الاحترام والحوار والتسامح، وفق قانون أخلاقي، يحترم من خلاله الآخرين ويتواصل معهم، والذين هم أيضًا مطالبون باحترامه كذات بشرية تتمتع بحقوق وعليها واجبات.

لكن الملاحظ على الأسرة العربية أنها تتميز بثقافة حوارية هرمية تقوم على أساس العمر كما تقوم على أساس الجنس، توجب عليهم الطاعة شبه المطلقة، ويتم التواصل تقليديًّا بين الكبار والصغار ليس أفقيًّا بل عموديًّا، فيتخذ من فوق إلى تحت طابع الأوامر والتبليغ وتوجيه التعليمات والتخويف والتهديد والتوبيخ والشتم وتوليد الشعور بالذنب والقلق، ويقترن هذا التواصل من فوق إلى تحت بالعقاب والحرمان والغضب والصفع والإخضاع، فهذا الواقع التربوي لا يؤهّل الأسرة بأن تصنع طفلًا قادرًا على التفكير الحر، وعلى الحوار مع الآخر واحترامه. وحتى تستطيع العائلة مسايرة الأحداث والمشاركة في بناء مجتمع إنساني متزن ونزيه، وتكوين جيل صالح لنفسه ولعائلته ولوطنه ولأبناء جنسه لا بد وأن تؤسس لنفسها ثقافة سليمة تقوم على الاحترام وحماية الفرد وحثه على الجد والجدية والتعاون والمحبة والتسامح والحوار والتربية الحسنة، وتحضيرهم للمشاركة في القضايا الإنسانية الكبيرة في إطار ثقافة الحوار والتفاهم.

2- المدرسة وثقافة الحوار: المطلوب من المدرسة أو المنظومة التربوية ككل، أن تعمل على زرع وتأسيس وتدعيم ثقافة الحوار بين الأفراد، وذلك بتبني برامج ومناهج تعليمية وتربوية نزيهة هدفها تكوين رجال الغد قادرين على التفكير والتحليل والمساءلة وفق أسس معرفية وموضوعية خالية من الأيديولوجيات المزيفة والصراعات الإثنية الضيقة، التي أصابت المنظومة التربوية والتعليمية.

3- المؤسسات الدينية وثقافة الحوار: تقوم المؤسسات الدينية بدور مهم في تأسيس ثقافة الحوار بين الناس، فالمؤكد أن الديانات السماوية التوحيدية جاءت لتخرج الإنسان من الظلمات إلى النور وتحرّره من كل أنواع الظلم والاستبداد والعبودية والشر، لم تكن في يوم من الأيام لتناقض بعضها بعضًا أو ليتصارع بعضها مع بعض، ولا يمكن الحديث عن التقارب إلَّا إذا استطاع المتدينون تجاوز الخلافات والاختلافات الأيديولوجية الدينية التي لا تمت إلى هذه الديانات بأي صلة، فهي من وحي وإبداع المتطرفين الذين انحرفوا عن الفعل الديني السليم وأكسبوه قيمًا وأوصافًا متطرفة تكفيرية والتي تعتبر الآخر المختلف دينًا وعقيدة عدوًّا وكافرًا.

4- النشاط الثقافي والفني وثقافة الحوار: يتميز النشاط الثقافي بدور ريادي وأساسي في نشر وتدعيم ثقافة الحوار والتقارب بين الشعوب، وذلك وفق منهجين اثنتين:

المنهجية الأولى: تتمثل في النشاط الثقافي والفني والجمالي داخل الوطن والموجه للمواطنين أجمعين باختلاف شرائحهم الاجتماعية، حيث تسعى الهيئات والجمعيات والمؤسسات المشرفة على هذا النشاط لاختيار وبرمجة الأعمال الفنية والإبداعية والأنشطة الثقافية ذات المضامين الغنية والزاخرة بالقيم الأخلاقية والإنسانية الداعية إلى الخير وإلى المحبة وإلى الحوار، وتفادي الأعمال الفنية التي تحمل بين طياتها ما قد يحيي أو يثير النعرات الإثنية والمعرفية والعصبية والعنصرية.

المنهجية الثانية: تتمثل في التبادل الثقافي بين الدول وبين الشعوب بتنظيم التظاهرات الثقافية والفنية ذات الطابع الدولي، فيتم التفاعل الثقافي الذي هو شكل من أشكال الحوار من أجل التقارب والتعاون ثقافيًّا وفنيًّا وجماليًّا، ومن هذا المنطلق يصبح التفاعل بين الإنسان والآخر مقبولًا ومطلبًا فكريًّا.

هـ- وسائل الاتصال والإعلام وثقافة الحوار: لا يمكن لأحد أن ينكر دور وسائل الإعلام والاتصال في نشر وتدعيم ثقافة الحوار داخل الوطن الواحد وبين أبنائه أو بين الأوطان المختلفة وأبنائها المختلفين، وقد تعدّ هذه الوسائل من أنجح وأقوى الوسائل المادية والمعنوية في التقارب بين الشعوب، وخاصة مع ما تعرفه اليوم من تطورات وثورات علمية وتكنولوجية هائلة، فلم تعد تحدّها حدود مكانية أو زمانية، فالخبر أو المعلومة تسافر في زمن قياسي من شعب إلى شعب آخر.

6- المنظمات الوطنية والدولية وثقافة الحوار: إن عددًا من المنظمات والهيئات السياسية والثقافية والعلمية، تأسست أصلًا من أجل نشر وتدعيم ثقافة السلم والسلام في العالم، والعمل من أجل فضّ النزاعات والحروب القائمة هنا وهناك بين الدول، ومساندة الشعوب في تقرير مصيرها والحصول على الاستقلال، كما ظلت تسعى جاهدة إلى دعوة الشعوب إلى التآخي والاحترام والتقارب والتعايش السلمي

لقد أحست هذه المنظمات بأن الحوار والتحاور أصبح ضرورة ملحة، في خضم هذا العالم الذي انتشر فيه الظلم والاستبداد والاستعباد وديكتاتوريات الأنظمة السياسية التي زرعت الرعب والعنف والإرهاب بين الشعوب[11].

التعصب وإشكالية الحوار مع الآخر

سنحاول أن نسلّط الضوء على التعصب باعتباره ظاهرة بحثية أصبحت تشكل خطرًا على البشرية بتعدد أنماطه وأشكاله، فهي تعد ظاهرة قديمة متجددة، حيث يعتبر ابن خلدون أول باحث شخَّص الظاهرة وعلاقتها بالسلطة، وهذا ما سنعرفه لاحقًا.

تحليل وتحديد مفهوم التعصب

حظي مفهوم التعصب باهتمام الكثير من العلماء والباحثين في ميادين متعددة: كالفلسفة، علم الاجتماع، علم النفس وعلم النفس الاجتماعي، فاعتبروه ظاهرة بشرية خالصة تنتمي إلى مجال العلاقة بين إنسان وإنسان، ويمكن أن يعالج بمناهج وأساليب متعددة، تبعًا للزاوية التي نتأمله منها، ففي استطاعة علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم البيولوجية أن تسلّط الضوء على ظاهرة التعصب، فمن منظور علماء النفس الاجتماعي يعرف كل من كرتش وكرتشفيلد التعصب: أنه هو تلك المعتقدات والاتجاهات المتعلقة ببعض المساوئ التي يوجهها فرد أو جماعة ضد أقلية عنصرية أو قومية[12].

تشير الكثير من الدراسات والبحوث في مجال علم النفس الاجتماعي إلى أن ظروف البيئة وعملية التنشئة الاجتماعية، تلعب دورًا هامًّا وبارزًا فى تكوين التعصب، وليس كما يتصور البعض من أنه غريزة طبيعية، فالإنسان لم يخلق متعصبًا ولكنه اكتسب هذه الخصائص من البيئة التي قامت بتنشئته وتطبيعه اجتماعيًّا.

فقد أشارت بعض الدراسات إلى ارتباط أساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة ببعض أشكال التعصب لدى الأبناء، ويرجع علماء الاجتماع التعصب إلى المجتمع وظروفه وتقاليده وقيمه الاجتماعية وعاداته الجامدة التي لا تتلاءم مع متطلبات العصر وحاجات الإنسان المعاصر، بينما يرى علماء الاقتصاد أن أسباب التعصب تكمن في الظروف المادية والاقتصادية.

ومنه يتضح أن أسباب التعصب متشابكة ومتداخلة، وتعمل كل هذه الأسباب بدرجات متفاوتة، قد يزداد أثرها على شخص ويقل أثرها على شخص آخر، وهذه العوامل هي كالاتي:

1- عوامل اجتماعية واقتصادية: تتعدد العوامل الاجتماعية والاقتصادية المسببة للتعصب، وسيتم التركيز على بعض هذه العوامل التي قد يكون لها ارتباط قوي وفعال، منها:

- الإحباط الناجم عن العوامل الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية.

- الصراع الاجتماعي القائم بين الجماعات الاجتماعية من جانب، وبين الفرد والمجتمع من جانب آخر.

- العوامل الخارجية التي يتعرض لها الفرد كالضغوط وعوامل الصراع والإحباط، وأيضًا الظروف الاجتماعية كالحرمان والتغير الاجتماعي، تلعب دورًا في اللجوء إلى التعصب، ومن ثم فإن التعصب ينجم عن التفاعل بين الدوافع اللاشعورية للفرد وبين الظروف الاجتماعية المحيطة به.

2- عوامل معرفية: توصلت بعض الدراسات إلى تأثير الفروق الفردية في القدرات المعرفية والأنماط المعرفية، في القابلية العامة للتعصب، ويبدو أن انخفاض المستوى التعليمي يمكن أن يجعل الفرد أكثر قابلية للتعصب، ويمكن أن نفسر ذلك بأن التعليم قد يجعل الفرد أكثر قدرة على التفكير الناقد، ومن ثم أقل ميلًا إلى التعميمات المفرطة التي غالبًا ما تقود إلى التعصب.

كما أن أثر التعليم لا يقتصر فقط على مجرد تقديم المعلومات أو التعارف، ولكنه يتيح أيضًا للفرد فرصا للتفاعل مع أفراد من جماعات مختلفة أو ذوي خلفيات متنوعة، ومن خلال هذه المعلومات والخبرات، فإن الفرد قد يعيد تقييم اتجاهاته ومعتقداته، ومن هنا تأكيد المهتمين على ضرورة تهيئة فرص التعليم للجميع[13].

3- عوامل أسرية: تعتبر الأسرة من أهم المؤسسات التربوية والاجتماعية التي ما زالت تحتفظ بدورها الحيوي في عملية التعليم والتعلم، رغم التغيرات المتلاحقة التي طرأت عليها والتي لم تقلل من شأنها ودورها الفعال في وظيفتها، وللأسرة وظيفة اجتماعية هامة في حياة أبنائها تنعكس آثارها في حياتهم المستقبلية والحاضرة، وهي النافذة التي من خلالها يرى الطفل العالم الخارجي وينطلق منها إليه.

وعليه فإن التعصب تحدده المعايير والقيم الاجتماعية التي يتعلمها الأطفال من والديهم ومعلميهم وسائر مؤسسات وعوامل التنشئة الاجتماعية، ويفسر رواد نظريات التعلم الاجتماعي نشأة التعصب على أنه سلوك مكتسب من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، وأن الطفل من خلال الأسرة يكتسب مثل ذلك التعصب ويستجيب طبقًا له حتى يشعر بأنه مقبول من الآخرين.

حيث أشارت نتائج العديد من الدراسات إلى وجود ارتباط بين اتجاهات الآباء العنصرية والعرقية وتلك الاتجاهات نفسها لدى الأبناء، وأن الأبوين ينقلان تلك الاتجاهات إلى الأبناء بشكل غير مباشر من خلال المحاكاة أو التقليد، فالتعصب عند الطفل ليس موروثًا ولكنه مرتبط بشكل كبير بالأسرة التي يعيش فيها، وأن الإنسان لم يخلق متعصبًا ولم يخلق متحاملًا، ولكنه اكتسب ذلك السلوك من خلال عملية التطبيع الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية في البيئة التي يعيش فيها[14].

4- عوامل مدرسية: تأتي المدرسة بعد الأسرة من حيث الأهمية في التربية والتنشئة، فالطفل في المراحل الدراسية المختلفة، يتأثر في الغالب بالجو الاجتماعي الذي يعيشه في المدرسة، لذا فإنها تعد عاملًا عظيم الأثر في تكوين الفرد العلمي والتربوي السليم، فالمدرسة لها أثرها الفعّال في سلوك الأطفال وتوجهاتهم في المستقبل، كما أنه ومن خلالها نستطع أن نكتشف عوارض الانحراف مبكرًا لدى الأطفال مما يهيِّئ الفرصة المبكرة لعلاجها قبل استفحالها، وبهذا فإن المدرسة تكون أول حقل تجريبي للطفل يمارس فيه سلوكه بعيدًا عن رقابة أسرته وأقربائه».

تسهم العوامل المدرسية بشكل كبير في كثير من المشكلات السلوكية كالإدمان والتطرف، وتسهم بشكل فعّال في تعليم التعصب[15]، وقد يكون ذلك بأشكال مختلفة، على سبيل المثال المناهج الدراسية التي تشوّه الحقائق والتي تنطوي على اتجاهات صريحة نحو الجماعات المختلفة يمكن أن تساعد على خلق التعصب.

وهناك جملة من الوظائف يمكن أن تقوم بها المدرسة والنظام التعليمي بشكل عام كإجراءات وقائية وعلاجية فاعلة لظاهرة التعصب هي على النحو الآتي:

* مساعدة الطفل في تنمية مفهوم ذات إيجابي يقوم على فهمه لتفرّده وقيمته الذاتية.

* أن ننمّي في الطفل قبول وتقدير الاختلافات في الأفراد والثقافات.

* تعليم الطفل ضرورة أن تقوم أحكامه بشأن الأفراد والجماعات على المعلومات الدقيقة وليس وفقًا لمجموعة من القوالب النمطية.

* مضاعفة فرص التعلّم لكل الطلاب، بعبارة أخرى ضمان تعليم عالٍ المستوى للجميع.

* مساعدة الطفل في تنمية الفهم والاتجاهات بما يسمح له أن يتعايش بشكل طيب في عالم متعدّد العرقيات والثقافات.

5- عوامل ثقافية: إن تأثير العوامل الثقافية في تكريس التعصب لا يقل عن العوامل السابقة، فالكثير من الأيديولوجيات العنصرية لا تستند إلى أسانيد علمية، وقد بدأت هذه الظاهرة تتسع في الانتشار مع زيادة الفقر الروحي، وافتقاد الأمن الثقافي، وطغيان المادة، والتقدم العلمي الرهيب، وزيادة حجم المعلومات، وأمام كل ذلك وجد الشباب نفسه محاصرًا بعالم أفقده كثيرًا من جوانبه الإنسانية، ودفع به إلى عالم العنف بمختلف أشكاله وصوره.

وقد ينغمس الأبناء أو الشباب في براثن التطرف والتعصب أو الانحراف عندما يحاولون مسايرة تلك المتغيرات الثقافية والاجتماعية، وهو ما يسمى بالتعصب والتطرف الفكري أو الثقافي، وهناك الكثير من مقومات البيئة الخارجية تساعد وتسهم في استمرار التحامل والتعصب، ومن هذه المقومات وسائل الاتصال والتواصل المنتشرة والمتداولة كوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والأمثال الشعبية المتداولة والفكاهات وغيرها[16].

6- عوامل عرقية: العرق (Race)، مصطلح بيولوجي، وهو عبارة عن جماعة من البشر تقوم بينهم روابط على عوامل أخرى غير العوامل الوراثية. ويطلق هذا المصطلح على نعت معين لشعب من الشعوب مثل العرق الإنكليزي أو العرق اليهودي أو العرق الفرنسي وهكذا، إذ يشير إلى اللغة المشتركة والدين والإقامة بين بعضهم بعضاً ويكرّسون الاختلافات عن الشعوب الأخرى، بهدف تأسيس عرق منفصل، وذلك عندما تفصل الحواجز التي استمرت لآلاف من السنين إحدى الجماعات عن الجماعات الأخرى. وقد سيطرت دراسات العرق لفترة طويلة على الأنثروبولوجيين، إلَّا أن كثير منهم كفّوا عن تصنيف الشعوب على أساس عرقي[17].

الخاتمة

لقد تعددت الطروحات فيما إذا كان الحوار مع الآخر ضرورة تفرضها الظروف الراهنة، أم هو خيار بالإمكان الاستغناء عنه، وهذا ما تؤكده حلقات النقاش والحوار ضمن ما يعقد من ندوات وملتقيات وطنية ودولية، وهذا دليل واضح على أهمية الموضوع وحساسيته.

وبما أن الغرب دائمًا السباق إلى طرح الأفكار ونحن لا نملك إلَّا ردّة الفعل، فردّة الفعل هذه تتمثل في عرض بعض الآراء والأفكار لباحثين في هذا الموضوع، ومن بين الطروحات البارزة، ما قدّمه الباحث السعودي زكي الميلاد من تصور للحوار مع الآخر، فهو يعتبره ضرورة، لكي يفهم بعضنا بعضًا، ونتعرف على وجهات نظر كل طرف من خلال منهجية سليمة للحوار، والمنهجية التي نريدها تظهر في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[18].

وليست مهمة الحوار إلغاء نقاط الاختلاف حتى نصل إلى اتّفاق، وأن نؤسس للاختلاف على أسس علمية محكمة، ونجردها من العصبيات وتحريرها من التزييف السياسي والتاريخي، فأي تقارب من خلال الحوار، لن يتحقق دون تدارس مسائل الخلاف، والبحث عن منشئها، وكذلك ضرورة أن يخرج الحوار من إشكاليات الماضي ورواسبه والنظر إلى مصلحة الأمة في هذا التقارب، ويذهب زكي الميلاد إلى أبعد من ذلك إلى طرح رؤية جديدة لفكرة الحوار في صيغة نظرية جديدة عرفت بـ(نظرية التعارف)، حيث يرى أنه دون التعارف لا يمكن أن يحقق الحوار التقدم والتطور الذي نسعى إلى تحقيقه.

ويؤيده في هذا الرأي الدكتور هشام نشابة، في الدعوة إلى الحوار مع الآخر، مبررًا ذلك، أن البشرية لم تعد تتحمل حروبًا عالمية، فأكّد أن حضارة الإسلام في جوهرها حضارة حوار لا حضارة صراع.

والدعوة للحوار البناء الموضوعي هو لتحقيق التآلف والتكامل بين الحضارات، فلكل حضارة أو مجتمع خصوصية، وبفضل المثاقفة والاحتكاك، تستفيد البشرية من منجزات الآخر، والأخذ بما هو إيجابي ومفيد لمجتمعاتنا مع مراعاة الخصوصية الثقافية، الدينية، والحضارية للمجتمعات العربية.

 

 



[1] سورة ص، الآيات: 75-77.

[2] مريم آيت أحمد، جدلية الحوار قراءة في الخطاب الإسلامي المعاصر، ص43.

[3] محمد شهمات، الإسلام والغرب بين إشكاليات الصراع الثقافي وآفاق الحوار المنشود مقاربة تحليلية نقدية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، شعبة الدراسات الإسلامية، جامعة محمد الخامس، الرباط أكدال، المغرب، 2007، ص ص 76- 78.

[4] شروط الحوار المثمر بين الثقافات والحضارات، أعمال الملتقى الدولي، الجزء الأول، منشورات المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر، المنعقد في: 24-26 مارس2003 بالجزائر، ص413.

[5] روجيه غارودي، في سبيل حوار الحضارات، ترجمة: عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة، بيروت لبنان، 2007، ص 107.

[6] محمد خاتمي، كيف نواصل مشروع حوار الحضارات؟، منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق، 2002م، ص ص 9-10.

[7] عمار جيدل، كيف نواصل مشروع حوار الحضارات، المرجع نفسه، الجزء الأول، ص 143.

[8] عبد الله التطاوي، الحوار الثقافي مشروع التواصل والانتماء، القاهرة - مصر: الدار المصرية اللبنانية، ط1، 200م، ص ص 25- 26.

[9] معن محمود عثمان ضمرة، الحوار في القرآن الكريم، أطروحة لاستكمال درجة الماجستير في أصول الدين بكلية الدراسات العليا جامعة النجاح الوطنية، نابلس، فلسطين، 2005، ص ص 172- 177.

[10] مسعود حايفي، حوار الأديان بين الواقع والحلم.. الحوار الإسلامي المسيحي تاريخه واقعه معوقاته وآفاقه، دمشق، سوريا: دار الأوائل للنشر والتوزيع والخدمات الطباعية، 2012، ص- ص254- 251.

[11] محمد سعيدي، حوار الشعوب في ظل التعايش الديني والحضاري والثقافي، مجلة الفكر المتوسطي، الصادرة عن مخبر حوار الحضارات والديانات في الحوض المتوسط، العدد الأول، 2012، ص ص 23- 39.

[12] عبد الحافظ سلامة، علم النفس الاجتماعي، اليازوردي ، الأردن ، 2007، ص 82.

[13] هاني الجزار، في أسباب التعصب نحو رؤية تكاملية، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2006، ص ص 85- 104.

[14] سعد عبد الرحمن، مشكلة التعصب والتحامل، عالم الفكر، العدد 1، المجلد 1، الكويت، 1970، ص ص111-112.

[15] حامد زهران، علم النفس الاجتماعي، القاهرة: عالم الكتب، 1977، ص179.

[16] حامد جميل عطية، تأثير التعصب على تماسك البناء الاجتماعي، دراسة ميدانية للحالة العراقية، دراسة مقدمة إلى  معهد البحوث والدراسات العربية جامعة الدول العربية للحصول على دكتوراه في العلوم الاجتماعية، القاهرة ، 2010، ص 76.

[17]  حسين صخر الحاج، نظرة إلى مفهوم العرق عرق أم أثنية، مجلة تحولات، لبنان، العدد 15، 2006، ص 21.

[18] سورة الزمر، آية 18.