شعار الموقع

تاريخ الأفكار .. فوكو ودولوز ، الايبستيمي وصورة الفكر

حموم لخضر 2019-05-18
عدد القراءات « 1400 »

تاريخ الأفكار..

فوكو ودولوز، الإيبستيمي وصورة الفكر

 

الدكتور حموم لخضر*

* شعبة الفلسفة، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة مستغانم، الجزائر .

 

 

 

 

مقدمة

الفلسفة المعاصرة وخاصة فلسفة الاختلاف تعمل من أجل نقد الأفلاطونية وتجاوز الميتافيزيقا التي أقامتها للتمييز بين عالم المثل وعالم الظاهر، وبين العقل ولا معقوله، وكذلك تسعى إلى تجاوز الفلسفة الذاتية، فلسفة الوعي والتمثّل الذي يدمج الاختلاف في مبدأ الهوية والتشابه.

وباعتبار أن ميشال فوكو وجيل دولوز ينتميان لتيار فلسفة الاختلاف، فسنرى أهم النقاط التي يلتقيان فيها في سعيهما إلى نقد الفلسفة الحديثة ومنطق التمثل. سواء من حيث مرجعيتهما الفكرية وروافدهما الفلسفية، ومفهومهما الجديد للفلسفة والنسق الفلسفي، والتطرق كذلك للمناهج التي يدخلان بها على الفلسفة من أجل تجديدها، أو من حيث استثمارهما لفلسفة كانط، خاصة اهتمامه بمسألة الحاضر وشروط الإمكان لديه.

كل ذلك من خلال جهودهما في سبيل نقد وتجاوز الذاتية الديكارتية وما تفترضه من مسلمات (الوعي، اليقين، الحضور)، نحو فصل المعرفة عن اليقين والتطابق والتماثل، وإخراج المعنى من عالم التمثل والحضور إلى آفاق الاختلاف والغياب، الغيرية والآخر.

أولًا: في المرجعية الفلسفية

عمل فوكو ودولوز على تجاوز الفلسفة الذاتية ومنطق التمثل لديها، كما وصلنا مع هيغل، فعصرنا «كله سواء من خلال المنطق أو من خلال الإبستيمولوجيا، وسواء من خلال ماركس أو من خلال نيتشه، عصر يحاول أن يفلت من هيغل»[1]، ذلك أن الحقيقة مكتملة مع هيغل، سواء على محور الذات أو الوعي أو التاريخ من منظور النسق الفلسفي التقليدي.

فحسب فوكو، إن الذات الديكارتية ذات شاملة معيارية، فهي تطرد من ذاتها كل ما ليس معقولًا، كما أن الفردية أصبحت خاضعة للشمولية والكلية، وعليه طالما أن الذات لدى ديكارت «شاملة وغير تاريخية، لأن ديكارت هو كل الناس، في أي مكان وأي زمان، علينا أن نُنَمّي أشكالًا من الذاتية برفض نموذج الفردية الذي فرض علينا طوال قرون عدة»[2].

لقد كانت الفلسفة تحاول «أسطرة –أسطورة- العلاقة بين الذات والعالم، عبر إضفاء خاصية اللامتناهي على أحد الطرفين أو كليهما، وهو ما كانت تفعله تارة المثالية، وتارة أخرى التجريبية»[3]، أي ما فعله عصر الأنوار ليس سوى تأكيدًا لسلطة المتناهي، بل نَقْلَهُ «من حامل إلهي وفوقي إلى حامل إنساني ومحايث، فليس المهم من يحمل الخطاب، إن كان المثل الأفلاطوني، أو الإله القروسطي، أو إنسانوية التنوير»[4]، فاللامتناهي ظل هو هو، من المثال الأفلاطوني إلى الذات الإلهية في القرون الوسطى، إلى الذات الديكارتية وإنسان عصر الأنوار، وصولًا إلى المطلق الهيغلي

يستثمر في ذلك فوكو ودولوز ما جرى من ثورات معرفية وتاريخية مهمة معاصرة لهما، نذكر منها: الثورة اللغوية خاصة مع دي سوسير وما تبعها من تطبيقاتها في البنيوية، وكذلك الثورة الإبستيمولوجية، خاصة مع باشلار ومفهوم القطيعة الإيبستيمولوجية، والتحليل النفسي مع فرويد، والثورة التاريخية خاصة مع مدرسة الحوليات وبروديل، والجينيالوجيا لدى نيتشه.

هذه الجهود والثورات كلها تندرج في سياق نقد الذاتية ومنطق التمثل، لقد حاول كل هؤلاء أن يبينوا أن «المعاني لا تصدر عن ذات سيكولوجية أو ترنسندنتالية، وإنما تتولد في اللغة ومنظومات القرابة ومختلف المنظومات الرمزية، كما أن الذات ليست فاعلًا وإنما حصيلة مفاعيل»[5].

لكل ذلك لم تعد الذات كوحدة مؤسسة للوعي والمعرفة واليقين، بل انفتحت على ما كانت تقصيه من ذاتها، على الطبقة الاجتماعية مع ماركس، والرغبة واللاشعور مع فرويد ولاكان، وعلى اللغة مع سوسير، وانفتحت على الجسد مع نيتشه.

لقد سعى الفكر الفلسفي ابتداء من نيتشه إلى نقد التمثيل والحضور واليقين المعرفي من خلال فهم جديد للغة وللمعنى، لا يستمد من الحضور، ولا من اليقين، بل اتسع مجاله إلى اللاوعي، وأصبح ينتج فيه، حيث «يقرأ نيتشه الميتافيزيقا، بما هي طريقة في التفكير والاستدلال، كخطاب يتأسس على وحدة العقل والمعنى والحقيقة؛ وهذه الوحدة تجد دعامتها في منطق الهوية والتطابق، وهو منطق متمركز حول مفهوم الذات ومشتقاته من المفاهيم، كالعقل والماهية والحقيقة، خطاب مُوجه ضد الاختلاف والصيرورة والرغبة»[6].

فنيتشه كان يدرك أن إحراجه الجديد للفكر الفلسفي، وتناوله غير المعهود لمقولات ومفاهيم الميتافيزيقا لن يُفهم في عصره، بل في المستقبل (الحقبة المعاصرة)، ذلك أن فلسفة الاختلاف المعاصرة ارتادت حقولًا لم تكن معهودة في إطار الحقل الفلسفي التقليدي، من هنا خروجها عن العقل والوعي الرسمي، وطرقها لأبواب وحقول ظلت إلى عهد قريب بمنأى عن التناول الفكري والاشتغال الفلسفي، وخارج عالم الميتافزيقا.

بل «إن البحث عن إمكانات جديدة للفكر الفلسفي قد دشنه نيتشه، ويجب أن يتابع اليوم بالموازاة مع التجديد الحاصل في الفنون الأخرى مثل المسرح والسينما»[7]. ويقول فوكو: «أما ببساطة نيتشوي أحاول قدر الإمكان أن أعمل على عدة نقاط بالاعتماد على نصوص نيتشه، وكذلك أطروحات مضادة له، ومع ذلك تبقى نيتشوية»[8].

يضيف فوكو: «إن نيتشه وبتاي وبلانشو مثلوا بالنسبة لي أساليب للخروج من الفلسفة»[9]، ويقول دولوز: «لقد اشتغلت طويلا في تاريخ الفلسفة وقرأت حول هذا المفكر وذاك، لكنني خرجت من تاريخ الفلسفة بفضل اشتغالي بمفكرين اعترضوا على هذا التصور التقليدي لتاريخ الفلسفة، وأخيرًا أخرجني نيتشه الذي قرأته متأخرًا من كل هذا»[10].

نيتشه أخرج دولوز من قبضة تاريخ الفلسفة، بل تاريخ الميتافيزيقا الذي يسجن الفكر والحياة بواسطة قيم ومثل متعالية، يخترعها، ثم ما يلبث أن يفرضها كقانون، كنسق ومذهب يتعارض مع الحياة وقواها الحية النابضة، فالجينيالوجيا النيتشوية مكنت دولوز من الخروج عن الإطار المغلق لتاريخ الفلسفة في خمسينات القرن الماضي، والذي «لم يكن يخرج عن الهاءات الثلاثة للفلسفة الفينومنولوجيا: هيغل، هوسرل، هايدغر»[11].

لذا يبدو تأثير نيتشه وكذلك باطاي وبشلار واضحًا على فوكو ودولوز سواء من خلال منهجهما الفلسفي أو جهازهما المفاهيمي، وكذلك من خلال المواضيع والميادين التي تطرقا لها. لقد كان نيتشه هو من أنار الدرب لدولوز ولغيره من فلاسفة الاختلاف، لقد شقّ طرقًا لم تسلك من قبل للنشاط الفلسفي، وقدم بذلك أساليب تعبير فلسفية جديدة، لا تكتفس بالفلسفة ومباحثها التقليدية، بل تنفتح على الشعر والآداب وبقية الفنون الأخرى كالمسرح، والسينما فيما بعد، هذا يجسد التعدد والاختلاف الذي تنشده الفلسفة المعاصرة، لكي تستعيد الفلسفة حيويّتها التي كادت أن تفقدها بفعل استحواذ الإعلام التسويق التجاري وأشكال التفكير الأخرى على المفهوم.

وانطلاقًا من هذا لم تعد الحقيقة، كما يرى علي حرب وليدة مفاهيم كالمطابقة والوحدة، الحتمية والبداهة، والمطلق واليقين، بل في علاقة العقل بلا معقوله والمعنى باللا معنى، لقد فقدت الحقيقة أمنها المعرفي واليقيني، وأصبحت تفهم كما يلخص ذلك على حرب لا من خلال مفهومات الجوهر والتطابق والوثوق والإثبات، إنما من خلال مفهومات مغايرة مثل الإنتاج والتوليد والإجراء والمفاضلة والسلطة والممارسة، وحتى اللعب، وحتى مع الإبستيمولوجيا والرياضيات الأكسيومية، لم تعد الحقيقة مرتبطة بالحتمية والبداهة، بل تعود إلى اللانظام والاحتمال، الصدفة، الافتراض والاختلاف[12].

ثانيًا: في تجديد الفلسفة

لم يبحث جيل فوكو ودولوز في الفلسفة عن معنى الجوهر والماهية، الذات والحرية والوجود، بل تَتبّعا بالحفر والتنقيب والتفكيك نمط تشكّل العقلانيات حتى أكثرها إيغالًا في التجريد، ولم يعد مجال بحثهما هو الماورئيات والمقولات والمواضيع الميتافيزيقية، بل ستبرحُ الفلسفة معهما خاصة وتيار الاختلاف عامة مكانها المعهود لتنزل إلى السجون والمستشفيات وساحات المحاكم، وقاعات العرض السينمائي ودور المسرح ومعارض الرسم، ومصحات التحليل النفسي.

لم تعد الفلسفة رؤية موحدة للوجود، تُنظِر له ولمجالات المعرفة والأخلاق والسياسة، يقول فوكو عن المعنى الجديد للفلسفة: «لقد مرت تلك الحقبة الكبرى من الفلسفة المعاصرة، حقبة سارتر وميرلوبونتي، حيث كان على نصّ فلسفي، أو نظري ما أن يعطيك في النهاية، معنى الحياة والموت، ومعنى الحياة الحسية، ويقول لك: هل الله موجود أم لا؟، وما تكونه الحرية، لقد تكوّن لدينا انطباع بأنه لم يعد من الممكن ترويج مثل هذه الفلسفة، والتي قد تكون في حالة تشتت إن لم تكن قد تبخرت فعلًا، وبأنّ ثمة عملًا نظريًّا يغلب عليه بشكل أو بآخر طابع التعدد، وهكذا فالنظرية والنشاط الفلسفي يظهران في ميادين الأسطورة أو في ميدان تاريخ الديانات أو ميدان التاريخ عامة... وفي هذا النوع من تعدد العمل النظري، إنما تكتمل في النهاية، فلسفة لم تجد بعد مفكرها الوحيد وخطابها الموحد»[13].

أي إن الفلسفة لم تعد ذلك النشاط الذي يتبلور في نسق أو مدرسة أو مذهب، بل هي حصيلة نشاطات مختلفة تتناول مباحث الوجود من خلال ميادين متنوعة وانطلاقًا من رؤى متعددة ومختلفة، حيث في النهاية لا تنصهر في نسق واحد ولا في مدرسة وحيدة، فالثورات الفكرية والمعرفية التي تطرقنا إليها سابقًا، جعلت من فلسفة الاختلاف نقطة التقاء أبرز التوجهات الفكرية المعاصرة، واستثمرتها من أجل تخليص الفكر من التناول الموسوعي والشامل لموضوعاته، وبالتالي فتحه على الحاضر، والمتعدد والمختلف.

«فإذا ما كان ثمة على وجه الاحتمال نشاط فلسفي اليوم، وجدت فلسفة لا تكون مجرد نوع من النشاط النظري الداخلي للرياضيات أو اللسانيات، أو الأثنولوجيا أو الاقتصاد السياسي، إذا كان ثمة فلسفة مستقلة، متحررة من كل هذه الميادين، أمكننا تعريفها على النحو التالي: بأنها نشاط تشخيصي، حيث يشخص المرء الحاضر معناه أن يقول ما هو الحاضر، أن يقول فيما يختلف حاضرنا اختلافًا جذريًّا عن كل ما عداه، أي عن ماضينا، ولا ربما كانت هذه المهمة الموكلة للفلسفة الآن»[14].

لن يتأتَّى ذلك -حسب فلسفة الاختلاف- إلَّا بفتح النشاط الفلسفي بصفة عامة على ميادين ظلّت بعيدةً عن الاستكناه الفلسفي، بل فتح الفلسفة على اللافلسفي، على الحياة وممارساتها.

الفلسفة كنشاط تشخيصي، معناه تشخيص الحاضر والكشف عن مساراته، من خلال مساءلة الفكر الفلسفي، وتشتيت أنساقه وفتحه على أسئلة جديدة، ومناطق كانت مرذولةً ومرفوضةً، عمل الفكر الفلسفي هو أشكلة كل ما هو مألوف وبديهي، ذلك أنه «ليس عمل الفكر أن يدين الشر الذي قد يسكن كل ما هو موجود، بل أن يستشعر الخطر الذي يكمن في كل ما هو مألوف، وأن يجعل كل ما هو راسخ موضع إشكال، تفاؤل الفكر، إذا أردنا أن نستعمل هذه الكلمة، هو أن يعرف أنه لا وجود للعصر الذهبي»[15].

إننا إزاء كوجيتو جديد، حيث الذات تفكر حيثما لا توجد وتوجد فيما هي لا تفكر، إنه سؤال جديد حسب فوكو: «كيف يمكن للإنسان أن يفكر بما لا يفكر فيه؟... كيف لهذا الإنسان الذي يستطاع بسهولة وصفه بأن لديه فكرًا، وأنه ربما هو الوحيد الذي يمتلكه، أن يكوّن علاقة أساسية لا تمحى مع اللامفكّر فيه»[16].

هو سؤال الفلسفة المعاصرة التي لا تسعى إلى سجن الفكر والوجود في قوالب جاهزة وماهيات متعالية وجواهر صافية من شوائب المحسوس واللامعقول والأوهام والجنون والمهمش، بل لتفصل بين الوعي وما يقبع في اللامُفكر فيه، أي تلك المنطقة المستبعدة من مجال التفكير وميدان العقل، أي ما تقصيه الذات من أمرها وهي تفكر، وهي كذلك تدّعي التنوير والتقدم والحرية، إنه سؤال كينونة الإنسان المعاصر الذي لم يشفَ من جرحه الغائر بسبب مآسي الحرب العالمية.

حيث لم يكن الممكن اليوم حسب دولوز، أن نكتب نصًّا فلسفيًّا أو نمارس الفلسفة كما كان الأمر في السابق، فضد «فكرة المنهج الفلسفية، يطرح بروست فكرة الإرغام والصدفة، فالحقيقة هي نتاج لقاء مع شيء ما يرغمنا على التفكير، والبحث عمَّا هو حقيقي، فصدفة اللقاءات، وضغط الإرغامات هما موضوعا بروست الهامين، والعلامة هي ما يشكّل موضوع اللقاء، وما يمارس علينا ذلك العنف. كذلك فإن صدفة اللقاء هي ما يضمن ضرورة ما يتم التفكير به»[17].

فكل شيء منتظم ضمن العلامات وأنظمتها التي تظهر من خلال أشخاص، مواد، أو مواضيع، حيث لا يمكننا أن نكتشف أية حقيقة، ولا نستطيع تعلّم أي شيء، ما لم نفك رموز هذه العلامات والعمل على تأويلها. إن الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة لا يفعل ذلك إلَّا مرغمًا ومجبرًا. ولا يبحث عنها إلَّا من خلال لقاء ما، وارتباطها بعلامة ما.

فما يسعى إليه هو تأويل، فك رموز، ترجمة، ومن ثَمَّ العثور على معنى العلامة، كما يفعل الغيور، تحت ضغط أكاذيب المحبوب، فهناك دائمًا عنف علامة يُرغمنا على البحث، ويحرمنا من الاستقرار، ذلك لأن الحقيقة ليست قائمة بالتوافق، ولا بالإرادة الحسنة، لكنها تفضح نفسها عبر علامات لا إرادية.

بل لا يكفي -حسب دولوز- أن تكون الفلسفة تشخيص أعراض وعلامات فقط حسب ما يرى نيتشه، بل إن العلامات نفسها تحيل على أنماط حياة وإمكانات وجود، فالحياة متدفقة ونابضة. ففي عمله حول رواية بروست «البحث عن الزمن الضائع» يولي دولوز أهمية للعلامة عوضًا عن الكلمة، فالنص مليء بالكلمات وما يغيب هو العلامات، لذا يجب البحث عنها بغية تأويلها وتفسيرها.

فالعلامات هي أكثر مرونة من الكلمات وهي ما يُمكّن من فتح النص على آفاق جديدة تظل الكلمات تعجز عن بلوغها، بل ينبغي التعلّم من العلامات، لأنها هي مدار الإبداع، حيث «لا يستطيع الإنسان أن يكون نجّارًا ما لم يكون له إحساس اتجاه علامات الخشب، ولا يستطيع أن يكون طبيبًا ما لم يكن يملك إحساسًا بعلامات المرض، إن الموهبة استعداد أولي تجاه العلامات»[18].

فهذه الأعمال تقتضي وجود موهبة لممارستها، لكن أن تكون نجارًا مبدعًا أو طبيبًا ماهرًا يجب أن تتقن تلقّي العلامات ومن ثمة تأويلها، فالإبداع هو حالة يشترك فيها كل حسب اختصاصه سواء كان المرء كاتبًا أو فنانًا أو طبيبًا أو نجارًا... إلخ، هذه الحالة تتعلق بحسن تلقّي العلامة وفك رموزها، فالأمر يتعلّق بالتعلّم وليس بالذاكرة.

كما يرى دولوز أن الفلسفة هي فن تكوين وإبداع وصنع المفاهيم؛ «الفلسفة هي إبداع المفاهيم، لم تعد الفلسفة معرفة المبادئ الأولى، ذلك التعريف الإغريقي الأرسطي، الذي لم تزحزحه أعتى ثورات العقل وانعطافاته الكبرى، حتى كانط لم يبارح هذه الترسيمة... هذا التعريف، الذي يزعزع كذلك من مواصفات كل تعريف منطقيًّا، ينقل الفلسفة من طوبائية البحث عن الحقيقة إلى حيز أدوات البحث، إذ إن المفاهيم لم تكن مفردات للحقيقة، بقدر ما تصير أدوات أو مفاتيح تتعامل مع أجواء الحقيقة»[19].

ولكن المفاهيم ليست جاهزة كالثمار في انتظار الفيلسوف أن يقطفها بل ينبغي ابتكارها ونحتها نحتًا، حيث تحمل في النهاية توقيع مبدعيها كجوهر أرسطو، وكوجيتو ديكارت، ومونادا ليبنتز، وشرط كانط، وديمومة برغسون.

كما أن الفلسفة ليست تأملًا ولا تفكيرًا ولا تواصلًا، ذلك أن التأملات هي الأشياء ذاتها من حيث النظر إليها في إطار إبداعاتها الخاصة، ليس التأمل والتفكر والتواصل ميادين معرفية، وإنما هي آلات لتشكيل كليات داخل الميادين حيث إن الكليات لا تفسر أي شيء، بل هي في حاجة للتفسير.

لقد كان للفلسفة دائمًا منافسون منذ السفسطائيين، أما في العصر الحديث التقت بعلوم الإنسان وعلى الأخص السوسيولوجيا والإيبستيمولوجيا واللسانيات والتحليل النفسي، لكن ذلك راجع إلى الفلسفة التي أهملت نشاط إبداع المفاهيم وانحصر عملها في الكليات.

والتفكير ليس شأنًا خاصًّا بالفلسفة فقط، وليس لميادين كالرياضيات والفيزياء انتظار الفلسفة لتفكر عنها، وتفكيرهم في ميادينه الخاصة لا ينتهي بالضرورة بالتفلسف. الفلسفة هي إبداع المفهوم الذي يتميز بأنه فريد وخالص، كما أن المفاهيم ليست معزولة ولا توجد بشكل فوضوي بل يجب أن تبدع داخل حدس خاص بها أو حقل أو مستوى أو مسطح لا يختلط بها، لكنه يأوي بذورها والأشخاص الذين يحرثونها.

إنه مسطح المحايثة، ليس هو مفهومًا ولا مفهومًا كليًّا يجمع المفاهيم الأخرى، بل المفاهيم أحداث، ومسطح المحايثة هو أفق هذه الأحداث، أفق مطلق لا نسبي، دون مساحة ولا حجم معرض دائمًا للتقطيع، لكن المفاهيم هي التي تبني هذا المسطح قطعة قطعة ولبنة لبنة، وتشغله دون أن ينقسم هذا المسطح أو أن تنمحي وحدته، كما أن مسطح المحايثة يؤمن الاتصال بين المفاهيم وفق ترابطات تتزايد باضطراد، إن مسطح المحايثة هو صورة الفكر ومادة الكون، ذلك أن مسطح المحايثة ليس مفهومًا فكريًّا أو مفكرًا به، بل هو ما يشكل طريقة معينة في الفكر التي تحددها إبداعية المفاهيم فوق سطحه تجاه قضايا معينة وفي عصر معين.

فالفلسفة تقيم مسطحًا للمحايثة يعمل عن طريق الحركات اللامتناهية والتي ترسم لها المفاهيم الإحداثيات المكثفة، ويقوم المسطح باعتباره مقطعًا من الكاووس السديم بالاستعانة بالمفاهيم، السديم باعتباره مجال السرعات اللامتناهية وليس غياب التحديدات، إنه استبدال الجينيالوجيا بالجيولوجيا أي التكوين بالتنضيد والمراكمة، «إنه استبدال الجينيالوجيا بالجيولوجيا أي التكوين بالتنضيد والمراكمة، أو يمكن القول: إن «دولوز أعطانا ميتافيزيقا للسديم»[20].

ثالثًا: في المنهج

1- فوكو.. الإيبستيمي، الأركيولوجيا – الجينيالوجا كمنهج تاريخ جديد

يلتفت فوكو إلى الممارسات الخطابية كمحور جديد من محاور التفكير الفلسفي، لقد أصبح الخطاب موضوعًا من موضوعات البحث تنتج حوله معارف تتعلق به لا بسواه، أي أصبح إجراء من إجراءات الحقيقة، وهنا يبرز تأثير البحوث اللغوية واللسانية المعاصرة على فوكو، فالخطاب هو «مجموعة من المنطوقات (Enoncés) بوصفها تنتمي إلى نفس التشكيلة الخطابية، فهو ليس وحدة بلاغية أو صورية، قابلة لأن تتكرر إلى ما لانهاية، بل هو عبارة عن عدد محصور من المنطوقات التي نستطيع تحديد شروط وجودها»[21].

وعليه فالمنطوق هو الوحدة الأساسية في الخطاب هو ذرة الخطاب، ويتميز عن القضية المنطقية والجملة والفعل اللساني، لأنه شرط سابق عنها، وعلية يعمد فوكو إلى التنقيب (الأركيولوجيا) عن شروط ظهوره وانتظامه كمعطى تاريخي؛ لأن المنطوق لا يحلل انطلاقًا من قواعد، بل في إطار نسق عام للمنطوقات، ما يسميه فوكو بالتشكيلة التاريخية، وهي ليست قواعد خارج الخطاب، ولا تستنبط من قوانين الفكر أو النشاط الذهني للذات المفكرة، وإنما تتحدد بميادين تجريبية ووظائف خاصة بها.

يلخصها فوكو في ما يسميه القبلي التاريخي، الذي يتكون من نسق الموضوعات والمنطوقات والمفاهيم والاستراتيجيات، فهي عناصر متفرقة ومتشابكة ومتداخلة (مؤسسات، تقنيات، تنظيمات)، بينها علاقات خاصة وثابتة تشكلها الممارسة الخطابية، كإجراء يُمكن من بناء الموضوعات التي يتكلم عنها وعبرها، وصياغة المنطوقات التي يؤسس من خلالها وظائف متعددة لذوات ممكنة، وتشكيل المفاهيم التي يوزعها عبر مواقع مختلفة ويؤسس بينها علاقات ثابتة.

واختيار النظريات أو تأسيس استراتيجيات يسمح -على أثرها- بإنشاء روابط بين الخطابات المتعددة بينها وبين الممارسات غير الخطابية، كالمؤسسات والتنظيمات والرغبات والممارسات اليومية، فالقبلي التاريخي هو هذه الأنساق (الموضوعات، المنطوقات، المفاهيم، الاستراتيجيات) كقواعد تشكل وتنظم وتؤسس الخطاب كممارسة تقطعها جملة من العلاقات مع الممارسات الخطابية وغير الخطابية الأخرى، أي «إبراز شروط انبثاق المنطوقات، وقانون تواجدها مع منطوقات أخرى، والشكل النوعي لنمط وجودها، والمبادئ التي تستمر وفقها في البقاء وتتغير وتندثر»[22].

الأركيولوجيا هي التي تُعنى بالوصف الخطابي للمنطوقات، وإبراز تشكل المفاهيم وتكون الموضوعات والاستراتيجيات التي ترافقها، فهي من خلال القبلي التاريخي الذي يتشكل من هذه الوظائف، لا تبحث عن الأصل ولا تحفر للعثور على الجواهر والماهية، بل فيما قبل التاريخ الذي سمح بنشوء المعارف وتكون المؤسسات، أي ما سمح للمنطوقات بالظهور والعمل.

وتتميز الأركيولوجيا عن فلسفة التاريخ، فهي ليست روح العصر ولا وجهه، «فلا تتحرى البحث عن التجانس والتزامن، ولا تعمل على تجميد سيولة الزمن وحركيته، وتعويضها بالوحدات الرتيبة والأشكال الثابتة، إنما ما تريد رسمه هو حركة التعاقب وأنماطه والصيغ المختلفة التي يتخذها، والمستويات المختلفة للتحول»[23].

فالأركيولوجيا لا تعطي أهمية للاتصال والاستمرار كما يفعل التاريخ التقليدي، بل تحاول تحديد منظومة التحولات التي هي قوانين التغير والانفصال، فهي ممارسة تاريخية تكشف عن أنماط تكون الخطابات وتعاقبها وتشابكها، وهوة الاختلاف التي تفصل بينها.

لقد كان التاريخ التقليدي دائمًا يسعى إلى إبراز الاتصالات، حيث قام بأداء أدوار كبيرة في الثقافة الغربية، فكان «ذاكرة، أسطورة، وعيًا نقديًّا للحاضر، واستشفاف المصير الإنساني، واستباقًا للآتي ووعدًا بالعودة»[24].

من هنا يؤكد فوكو أن تاريخ الأفكار والمعارف لا يخضع فقط للقانون العام للتقدم البشري، كما أن الوعي البشري أو العقل الإنساني ليس هو المتحكم في قوانين تاريخه بمعنى من المعاني، بل لقانون الإبستيمي (L’épistémè)، أي «مجمل العلاقات التي تربط في وقت معين بين الممارسات الخطابية التي تفسح مجالًا لأشكال إبستيمولوجية ولعلوم، وعند الاقتضاء لأنظمة معقدة... الإبستيمية ليست نوعًا من المعرفة أو نمطًا من العقلانية يُعبر باختراقه العلوم الأكثر تنوّعًا عن الوحدة المطلقة لموضوع ما، لعقل ما أو لعصر ما، إنها مجمل العلاقات التي يمكن اكتشافها بين العلوم في وقت معين، عندما نحللها على مستوى الانتظامات الخطابية»[25].

فهو ليس نظرة للعالم أو نظرية في الوجود، وليس أيضًا صورة تاريخية تمنح للمعارف معاييرها وبديهياتها الخاصة، أو بنية فكرية تتحكم في جملة التصورات التي ينسجها الأفراد حول وجودهم، إنه لا يستند إلى فلسفة الذات ولا إلى فلسفة التاريخ التي تتحكم في تواصل التاريخ وغائيته، ولا يبحث في الأصل ولا في البدايات.

لذا زاوج فوكو بين الأركيولوجيا والجينيالوجيا؛ خاصة في كتبه المتأخرة، لأن استعمال التاريخ جينيالوجيا يعني «استعمالًا ضد أفلاطون، عندئذٍ سيتحرر التاريخ من التاريخ الذي يتعالى عليه»[26]، ليهتم بالأحداث وندرتها، وبالمواقع التي لا يُنتظر أن يحدث فيها، فالجينيالوجيا «تستخف بالحفاوة التي يحظى بها الأصل بما هو فائض في النمو الميتافيزيقي»[27].

كما أنها تتخلى عن البحث في الأصل، وتتخلى عن البحث في الماهيات والجواهر، بل تقف متأنية عند البدايات بكل تفاصيلها، أي عند النسب والانحدار والمصدر، لأن «البحث عن المصدر لا يُؤسس، إنه يربك ما ندركه ثابتًا، أو يجزِّئ ما نراه موحّدًا ويجعلنا ندرك المطابق لذاته غير متجانس... إن القوى المتحكمة في التاريخ لا تسعى نحو مرمى بعينه، ولا تخضع لعلاقات آلية، وإنما لصدف الصراع»[28]، فالتاريخية التي تتحكم فينا حسب فوكو هي تاريخية عرجاء، «تاريخية حربية، لا لغوية، والعلاقة علاقة سلطة لا علاقة معنى»[29].

فمن خلال منهج الأركيولوجيا – الجينيالوجيا كما يرى مطاع صفدي، سيغدو التاريخ مع فوكو ذا بعدين جهويين، فهو من حيث جينيالوجيا لا يُهمل عامل الزمن، بل يلتقيه عبر فعالية ونمط التكوين للممارسات الخطابية وغير الخطابية، وهو من حيث كونه أركيولوجيا يكتشف الطبقة الحفرية التي تقوم عليها هذه الممارسات الخطابية وغير الخطابية، لقد حول فوكو تاريخ الأفكار من رصد الوحدات الثابتة وتجذير مقولي الوعي والاتصالية، إلى معول يهدم مفاهيم الهوية والتطابق والجوهر، ويكرس الاختلاف والانفصال على أنقاض المقومات الأنثروبولوجية والميتافيزيقية لنظريات المعرفة[30].

وعليه سنبين كذلك مع دولوز أوجه التشابه ونقاط التلاقي مع فوكو في نقدهما لتاريخ الفكر الكلاسيكي، والمناهج التي اتبعاها في ذلك، خاصة فيما يخص مفهومي الإبستيمي وصورة الفكرة.

2- دولوز: نقد صورة الفكر.. التجريبية المتعالية والجذمور

إن البقاء ضمن دائرة الفلسفة الديكارتية والهيغيلية، هو ما كان يرفضه دولوز، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، لأنه كان يرى فيه تقوقعًا داخل تاريخ الفلسفة، حيث إن الفلسفة كانت تكتفي بمداخل إلى ديكارت وكانط وهيغل وهوسرل وهيدغر، لقد شكل تاريخ الفلسفة سلطة داخل الفلسفة والفكر عامة، حيث ما كان يُمكن التفكير دون قراءة هؤلاء الفلاسفة «فتاريخ الفلسفة كان يمارس دورًا قمعيًّا في الفلسفة، بل إنه الأوديب الفلسفي، حيث لم يكن ليجرؤ أحد على التكلم باسمه الخاص ما دام لم يقرأ هذا أو ذاك»[31].

لذلك، بدأ دولوز أعماله بتاريخ الفلسفة، لما كان هذا الأخير يفرض نفسه، وحيث لم يكن دولوز يتوفر بعدُ على الوسائل والإمكانات التي تخلصه من قبضة هذا التاريخ، وبالتالي الكتابة لحسابه الخاص؛ أي وضع فلسفة خاصة به، فهناك «فرق أن تكتب في تاريخ الفلسفة وأن تكتب في الفلسفة»[32].

فتاريخ الفلسفة يفرض عليك أن تنطلق من الأسماء الكبيرة واللامعة فيه، وأن تعود إليها، وأَلَّا تتجاوز المناطق التي حددها لك للاشتغال الفلسفي، حتى يكون فكرك منسجمًا مع ما يهتم به هذا التاريخ؛ كالأنساق الفلسفية الكبرى والمقولات الميتافيزيقية، المذاهب والأيديولوجيات... إلخ.

أما أن تكتب في الفلسفة؛ يعني هذا -حسب دولوز- أن تكون مُبدعًا، لا يعني هذا إبداع الأفكار الصحيحة، بل الأفكار الجديدة، حيث «لا ينبغي أن نبحث عمَّا إذا كانت فكرة ما صحيحة أو خاطئة، بل ينبغي البحث عن الأفكار المختلفة والجديدة، كشيء يمر بين الاثنين لا يكون في الأولى ولا في الثانية»[33].

حتى وإن كان دولوز قد بدأ أعماله في تاريخ الفلسفة، فهو لم يشتغل على المفكرين والفلاسفة الذين اُعتبروا في ذلك الوقت أقطابا في تاريخ الفلسفة، كأفلاطون وديكارت وكانط وهيغل، بل كان يهتم بمفكرين وفنانين وأدباء كانوا مغمورين ومُهمشين، كانوا يبدون للغير أنهم يشكلون جزءًا من تاريخ الفلسفة، ولكنهم ينفلتون منه جزئيًّا أو كليًّا أمثال: سبينوزا وهيوم وبرغسون وبركلي، نيتشه، مارسيل بروست.

ومع ذلك كانت هذه الأعمال المنتمية إلى تاريخ الفلسفة والتي قدمها دولوز عن هؤلاء المفكرين والأدباء والفنانين، لا تنفصل عن فكره الخاص ولا عن اهتمامه، المنصب في تلك الفترة على نقد صورة الفكر (Image de la Pensée) التي كانت سائدة في ذلك الوقت، والتي كانت تقصي كل ما هو مختلف، ولا تسمح بتفكير الاختلاف، حيث يقول دولوز عن اهتمامه واشتغاله بهؤلاء المفكرين، «لقد ألفت كتبا كانت بمثابة بلورة لفكري الخاص، كان اهتمامي مركّزًا على إبراز ممارستهم للفكر بوصفه مُعارضًا لصورة الفكر التقليدية»[34].

ويضيف دولوز: «يهمني هيوم وبرجسون وبروست كثيرًا، لأن لديهم عناصر عميقة لصورة جديدة في التفكير، وهناك شيء عجيب في الطريقة التي يقولون لنا بها: لا يدل تفكيركم على ما تعتقدونه»[35]، لكن هذا الاهتمام بنقد صورة الفكر سيظهر بشكل أكثر وضوحًا مع بداية تأليفه لكتب خاصة به، مثل: الاختلاف والتكرار ومنطق المعنى.

مفهوم صورة الفكر ظهر لدى دولوز منذ كتابه نيتشه والفلسفة، حيث إنه لا يقصد به طريقة معينة في التفكير، بل هو ما يفترض الفكر وهو ما يسبق التفكير، فنحن «نعيش على صورة معينة للفكر، حيث تكون لدينا قبل أن نفكر فكرة مبهمة عَمَّا يَعنيه التفكير، عن وسائله وأهدافه»[36].

صورة الفكر هي نظام من الإحداثيات والاتجاهات، أي التوجه في الفكر، مثل الافتراض في الفلسفة، هذا الافتراض ليس فهمًا لا فلسفيًّا، بل «هو فهمٌ قبل فلسفي، إن صورة الفكر هي التي توجه خلق المفاهيم فهي تشبه الصرخة في حين أن المفاهيم غناء»[37]. كما أن صور الفكر لا تتعارض فيما بينها «لكن تعين اتجاهات وممرات، ذلك أن الفكر ذو خاصية طوبولوجية»[38].

هو مفهوم ظل منذ البداية يُؤطر مسار دولوز الفكري، حيث يقول دولوز: «أعتقد أن الأهم كان بالنسبة لي هو البحث عن صورة للفكر، وذلك ما حاولت تحليله في الاختلاف والتكرار ثم في بروست والعلامات»[39]، ويضيف: «أعتقد أن ما كان يهمني على أي حال، هو وصف ممارسة الفكر عند كاتب ما؛ من حيث تعارضها مع صورته التقليدية التي وضعتها الفلسفة في الفكر وشيّدتها لإخضاعه ومنعه من الاشتغال»[40].

ويميّز دولوز مفهوم صورة الفكر عن المنهج، وعن النسق والمذهب، لأن صورة الفكر نفسها تخضع لصيرورة واحدة تشمل المفاهيم وبقية عناصره الفلسفية، «لقد كانت هناك صورة للفكر عبر التاريخ، وقد تغيرت كثيرًا، فصورة الفكر ليست بمثابة المنهج، بل هي أعمق من ذلك، هي التي تفترض نسقًا من الإحداثيات والحركات والتوجهات التي تمثل ما يعنيه التفكير... صورة الفكر هي بمثابة صورة خفية له، حيث ينبغي له أن يعمل عبر تطوره وتفرعه وتحولاته على إبداع المفاهيم الجديدة، لا تخضع لضرورة خارجية، بل للصيرورة التي تندرج فيها كل مسائل الفكر»[41].

مسطح المحايثة هو مدار الفلسفة الجديدة التي عمل دولوز على إرسائها، تلك الفلسفة الجديدة تخط مسارًا ومنهجًا جديدًا، سماه دولوز التجريبية المتعالية وفلسفة الجذمور، وهما:

أ- التجريبية المتعالية

يُمكِّن مفهوم التجريبية المتعالية حسب دولوز من تجاوز التعارض بين المثالي والواقعي، المجرد والتجريبي، الذي كانت تقيمه صورة الفكر التقليدية، فالتجريبية المتعالية تتجاوز التجربة المباشرة لتصل إلى اللامتناهي في التجربة، أي المتعالي فيها، ذلك ما يعنيه دولوز بمسطح المحايثة، الذي لا يقبل كل ما هو مفارق، متعالٍ، متراتب.

فدولوز يُرجع الفضل إلى برغسون، الذي انتبه إلى أن الميتافيزيقا ظلت تؤسس للوجود من خلال التشابه والتمثيل وتراتبية الوجود، حيث تراعي الاختلافات في الدرجة دون الاختلافات في الطبيعة، إذ يجب «تجاوز التجربة نحو شروطها، لكن هذه الشروط ليست عامة ولا مجردة، ليست أوسع من المشروط، إنها شروط التجربة الواقعية»[42].

ويضيف دولوز عن التجريبية المتعالية أنها تتعارض مع «فلسفة الذات والموضوع، التجريبية المتعالية تحوي عنصرًا وحشيًّا وقويًّا، ليس الإحساس بوصفها تجريبية بسيطة، بل الانتقال من إحساس أول إلى التالي، بل صيرورة وافتراضية»[43].

لكن ذلك لا يعنى تجاوز التجربة نحو المفاهيم، لأن المفاهيم ستُبقينا ضمن حدود الشروط الممكنة كما هي عند كانط، بل التجربة الواقعية بكل خصوصياتها وتمفصلاتها التي تتعلق بهذه الخصوصيات وفْقًا للاختلافات في الطبيعة، وتكون بذلك التجريبية المتعالية «قادرة على طرح المشكلات، وعلى تجاوز التجربة في اتجاه شروطها الملموسة، وفي تلاقيها، وفي تقاطعها مع الواقع الذي تقوم به، وعلى ربط الشرط بالمشروط، بحيث لا تعود هناك أي مسافة»[44] .

أي البحث عن الخطوط المتباعدة والاختلافات في الطبيعة التي تقبع فيما وراء «منعطف التجربة حسب التعبير البرغسون، ثم العثور مجددًا على نقطة التقاء هذه الخطوط. فبرغسون -حسب دولوز- هو الذي يدعو إلى فتح الفلسفة على اللاإنساني، فتجاوز الشرط الإنساني، هو معنى الفلسفة، لأن شرطنا يحكم علينا بأن نحيا بين التجارب غير المحددة جيدًا. فالتجريبية المتعالية «هي تجريبية لأنها ملتصقة دائمًا بالمحايثة، ومتعالية لأنها وعلى الرغم من محايثتها، تنفتح على اللامتناهي، على السديم... إن التجريبية المتعالية في تحديد دولوز هي إعادة النظر في تاريخية المفهمة، أي في الإطار الذي يتم فيه نحت البناء المفاهيمي، بناء يؤسس لمنطق جديد هو منطق الاختلاف»[45].

التجربة المتعالية هي شرط التجربة الواقعية التي تعمل على ربط الفيلسوف بالراهن، حتى لا تبقى المفاهيم الفلسفية مخلوقات من طبيعة فضائية. ذلك أن الفلسفة يجب أن تكون راهنة، حيث لا تبقى في مستوى البحث عن الحقائق وتحليلها، وأَلَّا تبقى مرتبطة بالقضايا والمقولات الميتافيزيقية، بل يجب ممارسة الفلسفة، كتشخيص للحاضر، كما يرى ذلك فوكو: «ما هي وضعيتنا الراهنة؟ وما هو المجال الحالي للتجارب الممكنة»[46].

الفلسفة كممارسة تعكس جلّيًا نمط الصيرورة والارتحال والتفكير بنمط آخر، حتى تتجاوز الفلسفة المهمة الكلاسيكية التي وسمتها منذ قرون، تلك المهمة المتعلقة بالبحث عن القيم الشمولية والبنيات الصورية، والذات المؤسسة المفكرة، فالتجربة المتعالية كمنهج جديد لدى دولوز «تقوم باكتشاف المتعدد، وتسمح بممارسة الفكر كإبداع للمفاهيم»[47]، من خلال صياغة الإشكاليات الآنية للحدث، قصد الكشف عن معناه وقيمته، بل وتفرده الفلسفي.

لذا سيزاوج دولوز كذلك في منهجه هذا (التجريبية المتعالية) بمنهج جديد هو الجذمور خاصة بعد لقائه بفليكس غوتاري، كما فعل فوكو مع الأركيولوجيا والجينالوجيا؛ إنها ميزة النسق الفلسفي المفتوح والمتجدد دومًا.

ب- الجذمور

لقد ظل الفكر الفلسفي الكلاسيكي يفترض وجود وحدة أصلية وينطلق منها، إذ تصير هذه الأخيرة ثنائية يظل العالم يرزح تحت قسمتها الأولية، وبالتالي يظل يفتقد المتعدد الحقيقي الذي يشكل الفكر والوجود معًا.

إن الفكر الكلاسيكي -حسب دولوز- لم يفهم قط المتعدد، بل ظل ينطلق من «وحدة رئيسية قوية ومفترضة ليصل إلى الاثنين وِفْق منهج ميتافيزيقي»[48].

ذلك أن مفهوم الوحدة في الفكر التقليدي لا يظهر دائمًا إلَّا في ظل وجود التعددية، من خلال الاستيلاء الدال على السلطة، وتأسيس علاقات أحادية المعنى ومزدوجة العناصر، فالواحد يظل ينقسم حسب قانون المنطق الثنائي للتمييز داخل الذات، أما الجذمور فهو ليس رؤية مُؤسِّسَة ومُوحدة للعالم والأشياء، بل هو ما يعمل على تحرير الفكر من الواحد والأساس، وفتحه على الاختلاف والمغايرة والتعدد، ذلك «إنه لمن الغريب أن يكون كاتب مثل مارسيل بروست، الذي يظهر كمثقف خالص، هو الذي يقول بوضوح تام: تعاملوا مع كتبي مثل النظرات المصوبة إلى الخارج فإذا لم تساعدكم استعملوا نظرات أخرى، إن عليكم أن تجدوا بأنفسكم أجهزتكم التي هي بالقوة أجهزة معركة، النظرية لا تعمم وإنما تتعدد ولقد تعددت»[49].

إن فكر الجذمور لدى دولوز هو ضد كل نموذج بنائي أو تكويني، أو نموذج تمثيلي كما هو الحال مع منطق الشجرة - الجذر، الذي يدور حول نفسه وفْقَ مراحل متتالية، ففكر الشجرة – الجذر يتلخص في منطق الاستشفاف والتوالد، سواء تعلق الأمر باللسانيات أو التحليل النفسي، فموضوعه هو اللاشعور المعروض وفق رموز مشفرة وموزع على محور توليدي وداخل بنية عميقة.

أما منطق الجذمور فهو خريطة وليس ورقًا شفافًا، لذا «يتعين رسم الخريطة وليس تقليد الرسم»[50]، فالخريطة تعمل على تجريب الواقع وتشييده عكس الورق الشفاف الذي يعيد إنتاج اللاشعور المنغلق على ذاته، إن الخريطة تمكّن من إزالة الحواجز وخلق الروابط وزيادة التماسك. إنها تعمل مثل الشبكة، لذلك هي تشكل جزءًا من الجذمور، فهي منفتحة دومًا وقابلة للتواصل على مستوى كل أبعادها، وقابلة للتفكيك والقلب والتحول والتمزق والتكيف مع التركيبات الجديدة، ويستخدمه الفرد والجماعة والتشكيلة الاجتماعية كما يُمكننا رسمها على الحائط وتصورها كعمل فني وبنائها كنشاط سياسي. كما أن الخريطة تشبه الجذمور الذي يتوفر على مداخل متعددة كخطوط الهروب، وممرات التنقل وأماكن للسكن كما هو الحال مع جحر الفأر وممرات النمل.

فالصورة الجذمورية للفكر تتخلى عن مبادئ الصورة التقليدية للفكر مثل مبدأ الهوية والواحد، الكلي والذاتية، والمركز والقسمة الثنائية والقطائع الدالة والغائية التاريخية كذلك.

وبالمقابل تؤكد هذه الصورة الجديدة للفكر على التعددية والاختلاف، الانفتاح على الهامشي، على الترحال والصيرورة. الجذمور يعتمد على حركات الترحال وحركات إعادة التموطن النسبية والمتحفزة دومًا والمتشابكة، من خلال البحث عمَّا هو ذري وجزئي.

لقد ظل منطق الشجرة - الجذر مهيمنًا على ساحة الفكر الغربي طويلًا، من علم النباتات إلى البيولوجيا والفلسفة، فالغرب يرتبط بعلاقة خاصة مع الغابة وقطع الأشجار وتربية الحيوانات وانتقاء سلالاتها.

وفي المقابل هناك منطق آخر، منطق الشرق الذي يرتبط مع السهل والبساتين، مع الواحة والصحراء وليس الغابة والأشجار، إنه فكر البدو والرُّحَّل، هو ما يوفر وسطًا ملائمًا لفلسفة المحايثة وذلك في مقابل فلسفة التعالي لدى الغرب، «فالفلسفة إنشاء وبناء بقدر ما هي تفكير، وهذه الإنشائية تأخذ اليوم شكل امتداد ومحايثة أفقية لقضايا الواقع، امتداد جذموري Rhizomatique يفرض على الفكر أن يعيد النظر في مفاهيمه كل لحظة»[51].

تلك هي الصورة الجديدة للفكر التي سعى دولوز إلى بنائها، هي صورة جذمورية، أي الجذمور في مقابل الشجرة، والجذير في مقابل الجذر، الرؤية الأفقية للفكر عوضًا عن الرؤية العمودية، الاستناد إلى أفق الجغرافيا للتخلص من الرؤية التاريخية التطورية والغائية وأسر الجدل، إنه أفق الترحال والسفر والتيه عند الحواشي والمهمش والمقصي، صورة جديدة تعمل من خلال التجاور والشبكة والأفقية من أجل تجاوز النظام الهرمي والتراتبي والمتعالي للفكر التقليدي.

لذا يعتبر مفهوم صورة الفكر لدى دولوز مفهومًا محوريًّا، ويمكن القول: إنه يُعادل في ذلك أهمية مفهوم الإيبستيمي لدى فوكو، وذلك في البناء الفلسفي لكليهما، مع الاختلاف بينها في أن مفهوم صورة الفكر هو ذو طابع جغرافي طوبولوجي أكثر منه تاريخيًّا كما هو الحال مع مفهوم الإيبستيمي، ولا يتعلق بمرحلة تاريخية محددة، بل يشمل ما يُسميه دولوز إحداثيات مسطحات وأفق وتوجهات الفكر عامة.

لكنهما يستخدمان هذين المفهومين كلٌّ من جهته في معارضة ونقد التاريخ التقليدي للأفكار، الذي يؤكد على العقل والاتصال والغائية وسلطة الذات ويهتم بالأنساق الفلسفية الكبرى والمقولات الميتافيزيقية، المذاهب والأيديولوجيات. ويقصي من دائرته خطاب اللاعقل والمهمش واللاوعي واللاشعور، كذلك يرفضان التاريخ التمثيلي للفكر وطابعه العمودي الذي يحيل إلى التعالي الذي يميّزه، وهذا ما جعلهما يبحثان عن آفاق جديدة للفكر؛ عن الامتداد والأفق، في ميادين الجنون والسجن والرغبة والسلطة والأدب والرسم والسينما.

رابعًا: استثمار فلسفة كانط في شروط الإمكان..
بين القبلي التاريخي والتجربة المتعالية

في قراءته المميزة لأعمال ميشال فوكو يبيّن دولوز[52]، أنه إذا كان كانط قد نقل الثنائية الديكارتية التي تعارض بين الذات والموضوع، أي بين الفكر والامتداد، إلى ثنائية جديدة تقيم التعارض بين ملكتين هما الفهم والحساسية، أي التجربة والعقل، لقد زحزح كانط حسب دولوز الثنائية من الصعيد السيكولوجي إلى الصعيد الإبستيمولوجي[53]، من خلال البحث عن شروط الإمكان.

فإن فوكو قام بالأهم وهو دفع هذه الثنائية إلى الصعيد الأنطولوجي، من خلال ثنائية تمثل نمط الوجود وهي الرؤية والعبارة، ويقوم دولوز «بقراءة فوكو بوصفه مساهمًا في تشييد صورة جديدة للفكر تنسجم مع ما يجري في بقية الحقول... ويجد دولوز في فوكو وفي مؤلفاته السند الأقوى لما يقوم به»[54].

إن منهج فوكو حسب دولوز يتمثل في دراسة الجهازيات العينية (Dispositif) التي تتكوّن من المواضيع المرئية والمنطوقات القابلة للصياغة، من خلال التمييز بين آليات الرؤية وآليات التعبير أو منحنيات الرؤية ومنحنيات التعبير (Les Courbes de la Visibilité et Courbes de la Prononciation).

أي إن كل حقيقة تتحدد من خلال توزيعها لبعدين أساسين هما: الرؤية والعبارة، كما أن لكل تشكيلة تاريخية تحديدها ونظامها الخاص بتوزيع المنطوقات والرؤية، أي ما يرى وما يعبّر عنه، هذا التحديد هو ما يسمح بإمكان هذه المرئيات والمنطوقات قبليًّا، لكن شروط الإمكان، لا ترجع إلى الذهن المستقل عن التجربة كما هو الحال مع كانط، بل شروط ذات بعد تاريخي، «القبلي ذاته تاريخي»[55].

فالمنطوق وكأنه ما قبلي «يحاول فوكو إعطاءه كيانًا (Statut) فلا يظهر على أنه مجرد إعلان عن مقدم الخطاب أو حضوره، بل كشيء يسمح بقياس امتداد الحدث وإمكانياته داخل المعالم الأثرية»[56].

إن شروط الإمكان لدى فوكو لا تعود إلى الذات المؤسسة، ولا إلى الذات المتعالية، بل إلى شروط خارجية هي شروط تاريخية، فالرؤية والعبارة هما «نظيران لأشكال الحساسية ومقولات الفهم، مع الفرق، أن القبلي الذي كان كانط يسنده على طبيعة الإنسان، يصبح مع فوكو تاريخيًّا»[57]. ليس القبلي متعاليًّا، بل هو ما يسمح للمنطوقات بالظهور والعمل، والذي يسمح بنشوء المعارف وتكوّن المؤسسات، أي إبراز شروط انبثاق المنطوقات.

لكننا نلاحظ أن ما قام به دولوز مع التجربة الواقعية هو نفس ما قام به فوكو مع القبلي التاريخي، فشروط الإمكان تزحزحت مع دولوز لتصبح بمثابة شروط التجربة الواقعية، ونلاحظ هنا أن لا فرق بين مفهوم القبلي التاريخي لدى فوكو ومفهوم التجربة الواقعية لدى دولوز، أي بين الأنطولوجيا التاريخية والتجربة المتعالية، بل «هذا ما يبرهنه فوكو: مثالًا الطفرة التي تجعل الصورة الكلاسيكية للفكر ممكنة، فبدلًا من تاريخ للآراء -كما هو سائد في التصور التقليدي- يقوم فوكو بدراسة للمعرفة وشروطها، ليست الشروط التي تجعلها ممكنة بشكل عام، بل التي تجعلها واقعية ومتعينة في ذلك الوقت»[58].

حسب دولوز نحن طالما لبثنا عند حدود الكلمات والأشياء، فإننا سنتوهم أننا نتكلم عمَّا نراه، ونرى ما نتكلم عنه، ونعتقد أن الأمرين مرتبطان، ذلك لأننا نظل عند حدود المستوى التجريبي ولا نتجاوزه، «لكن بمجرد ما نتغلغل في الكلمات والأشياء، نكتشف العبارات والرؤى، فيرتفع الكلام والرؤية إلى مستوى أعلى (مفارق)، و(قبلي)، حتى إن كلًّا منهما يبلغ حدّه الخاص به، الذي يفصله عن الآخر، مرئي لا سبيل إليه إلَّا بالرؤية، ومعبر لا سبيل إليه إلَّا بالكلام، ومع هذا فإن الحد الخاص الذي يفصل كليهما، يُعد في الوقت ذاته الحد المشترك الذي يجمعهما والذي يتخذ وجهين غير متماثلين: كلام أعمى ورؤية صامتة»[59].

خاتمة

هذه كانت بعض النقاط المشتركة التي أمكننا ملاحظتها في المرجعية الفكرية والمنهج الفلسفي لدى فوكو ودولوز، وكذلك في الجهاز المفاهيمي لكليهما، ذلك أن جهودهما كانت منصبة من وجهة نظر فلسفة الاختلاف على نقد الفكر الفلسفي الكلاسيكي، الذي يرتكز على التمثل وفلسفة الذات، وذلك من أجل تحرير الفكر من المنغلق ومن الشمولي والكلي، ومن النموذج والمثال والمتماثل والوحدة والأساس، لينفتح على اللافلسفي، والهامشي والمختلف. فالاختلاف يخلص الفكر الفلسفي من كل انغلاق منهجي ونسقي، من الواحد لصالح المتعدد والفريد، الذري والهامشي... إلخ.

هذه النقاط يمكن تلخيصها في نهلهما من فلسفة نيتشه والثورات المعرفية واللغوية والتاريخية والإبستيمولوجية المعاصرة، كذلك نظرتهما الجديدة للفلسفة التي تنفتح على المجالات المستجدة في ساحة الفكر، وذلك دون رؤية مُوَحدة ولا أحكام مسبقة ولا غاية مقصودة، ومهمتها كتشخيص للحاضر، وبالتالي تغير مفهوم النسق الفلسفي، أي لم يعد ذلك المعمار الفلسفي المهيكل والمغلق الذي لا يمكن النظر إلى مباحث الوجود والمعرفة والأخلاق دون الرجوع إلى الأساس الذي بُنِي عليه والمسلمات التي افترضها، ذلك أن النسق حسب فوكو ودولوز هو مجموعة من المفاهيم في تغيير مستمر نتيجة ارتباطها بالأحداث لا الماهيات، ومن هنا فهي تختلف عن الكليات والمقولات التي تؤدي بالنسق إلى الانغلاق والشمولية كما هو الحال في الفلسفة التقليدية.

هذا بالإضافة إلى منهجهما الفلسفي الذي يزاوج بين الجينيالوجيا النيتشوية، والنقد الكانطي (شروط الإمكان) وذلك لتجاوز الانسداد الذي حصل لكليهما، ففوكو تجاوز المأزق البنيوي الذي انتهت إليه الأركيولوجيا، بالاعتماد على الجينيالوجيا، خاصة في أبحاثه المتأخرة حول السلطة الحيوية والاهتمام بالذات (الجنس)، كذلك الأمر مع دولوز الذي فتح لقائه بفليكس الأبواب أمامه للخروج من مباحث الفلسفة المحضة –التجريبية المتعالية- إلى الآفاق الواسعة، في ميادين الرغبة والأدب والفن عبر فلسفة الجذمور والترحال والتعدد، لكن هذا لا ينفي أنه هناك نقاط اختلاف عديدة بينهما في تناولهما لميادين الرغبة والسلطة.

 



[1] ميشال فوكو، نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، بيروت: دار التنوير، ط 1، 1984، ص 46.

[2] ميشال فوكو، حول نسبية الأخلاق لمحة عن العمل الجاري، مقابلة مع هيوبرت دريفوس وبول رينيو، ضمن ميشال فوكو، مسيرة فلسفية، ترجمة: جورج أبي صالح، بيروت: مركز الإنماء القومي، ص 193.

[3] مطاع صفدي، مغامرة الاختلاف والحداثة، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت - لبنان: مركز الإنماء القومي، العدد 46، 1987، ص 7.

[4] مطاع صفدي، خطاب التناهي، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت - لبنان: مركز الإنماء القومي، العدد 60-61، 1986، ص8.

[5] عبدالسلام بنعبد العالي، التراث والاختلاف هايدغر ضد هيغل، بيروت - لبنان: دار التنوير للطباعة والنشر، الدار البيضاء - المغرب: المركز الثقافي العربي، ط 1، ص112.

[6] محمد أندلسي، نيتشه وسياسة الفلسفة، الدار البيضاء - المغرب: دار توبقال للنشر، ط 1، 2006. ص 192.

[7] Gilles Deleuze: Différence et Répétition. Ed. P.U.F, 11 éditions, Paris, 2003, P.04.

[8] Michel Foucault: le retour de la moral, interview; in Les Nouvelles lettres , 28/06/-05/07/ 1984.

[9] ميشال فوكو، حوار، فوكو مخترق حدود الفلسفة، ترجمة: محمد ميلاد، مجلة العرب والفكر العالمي، باريس - بيروت: مركز الانماء القومي، العدد التاسع،1990، ص 160.

[10] Gilles Deleuze: Pourparlers.1972-1990, éditions de  Minuit, Paris, 2003, P.15.

[11] Isabelle Ginoux: Friedrich Nietzsche, in Aux Sources de la Pensée de Gilles Deleuze. éditions  Sils Maria asbl .Mons .Belgique. Éditions Vrin, Paris. France .2005.P.122.

[12] راجع في هذا المضمار كتب: حرب علي، نقد النص، نقد الحقيقة.

[13] ميشال فوكو، تشخيص الحاضر، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا، ضمن دفاتر فلسفية، التفكير الفلسفي، الدار البيضاء - المغرب: دار توبقال، ط 1، 1991م، ص ص 80-81.

[14] المرجع السابق، ص81.

[15] ميشال فوكو، حول نسبية الأخلاق، ضمن ميشال فوكو، مسيرة فلسفية، مرجع سابق، ص204.

[16] ميشال فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع صفدي وسالم يفوت وآخرون، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990م، ص ص267-269.

[17] Gilles Deleuze: Proust et Les Signes, Ed. Quadrige- P.U.F, 3è me éditions, Paris, 2006., P..25.

[18] Ibid., P.10

[19] جيل دولوز وفليكس غيتاري، ما هي الفلسفة؟، ترجمة ومراجعة وتقديم: مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي، بيروت - لبنان: مركز الإنماء القومي، الدار البيضاء - المغرب: المركز الثقافي العربي، ط 1، 1997، ص5.

[20] Mireille Buydens, L’images, Deleuze, Foucault, Lyotard, éditions Vrin, Paris, 1997.P53.

[21] ميشال فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة: سالم يفوت، الدار البيضاء - المغرب: المركز الثقافي العربي، 1986، ص111.

[22] المرجع السابق، ص 68.

[23] المرجع السابق .ص101.

[24] ميشال فوكو، الكلمات والأشياء، مرجع سابق، ص 300.

[25] ميشال فوكو، حفريات المعرفة، مرجع سابق، ص176.

[26] ميشال فوكو، الجينيالوجيا والتاريخ في جينالوجيا المعرفة، ترجمة: أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، الدار البيضاء - المغرب: دار توبقال للنشر، ط 1، 1988م، ص 69.

[27] المرجع السابق، ص 51.

[28] المرجع السابق، ص ص 53-59.

[29] ميشال فوكو، الحقيقة والسلطة، حوار مع فونتانا، في نظام الخطاب، ترجمة : محمد سبيلا، بيروت: دار التنوير، ط 1، 1984، ص 70.

[30] مطاع صفدي، الحداثة البعدية، مقدمة لترجمة كتاب: ميشال فوكو، الكلمات والأشياء، مرجع سابق، ص ص 11-13.

[31] Gilles Deleuze: Pourparlers. op.cit, P.14.

[32] Gilles Deleuze: Deux Régimes de Fous .Textes et Entretiens 1975-1995.éditions préparée  par  David Lapoujade . Éditions Minuit. Paris 2003. P 280.

[33] Gilles Deleuze. Claire Parnet: Dialogues, éditions Flammarion, Paris ,1977, P.16.

[34] Ibid, P.22-23.

[35] Gilles Deleuze: L’île déserte et autres textes. Textes et entretiens 1953-1974 (Édition et préparée par David Lapoujade) Paris : Éditions de Minuit, 2002, P.193.

[36] Ibid,  P. 193

[37] Gilles Deleuze: Pourparlers, Op.cit, P.203.

[38] Clet Martin –Jean: La Philosophie de Gilles Deleuze .éditions petite Bibliothèque Payot, Paris, 2005, P.203

[39] Gilles Deleuze: Deux Régimes de Fous, Op.cit, P. 339.

[40] Gilles Deleuze: Dialogues, Op.cit, P: 22.

[41] Gilles Deleuze: Pourparlers, Op.cit, P.P:202-205.

[42] Gilles Deleuze:Le Bergsonisme ;Ed. Quadrige- P.U.F, 2004, P.17.

[43] Gilles Deleuze: L’immanence: une vie. In revu Rue Descartes, Ed. P.U.F. 1ere édition, Paris, 1998. P.03.

[44] Gilles Deleuze:Le Bergsonisme Op.cit, P.23.

[45] عمر مهيبل، من النسق إلى الذات قراءات في الفكر الغربي المعاصر، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2001، ص ص 182-186.

[46] ميشال فوكو، كانط والثورة، ترجمة: يوسف الصديق، مجلة الكرمل، العدد 13، 1989، ص 71.

[47] Gilles Deleuze: Deux Régimes de Fous, Op. cit ,P. 339.

[48]- Ibid. P .11.

[49] جيل دولوز، في: المثقفون والسلطة : حوار بين جيل دولوز وميشال فوكو، ترجمة: عبد الجليل بن محمد الأزدي في : جيل دولوز، الفوضوي المُتَوَّج وتكرار الاختلاف، مراكش- المغرب: المطبعة الوراقة الوطنية، ط 1، 2009، ص ص 72-73.

[50] Gilles Deleuze .Félix  Guattari: Mille Plateaux, capitalisme et schizophrénie 2, éditions de Minuit, Paris, 1980. P .20.

[51] مصطفى لعريصة، دولوز قارئًا لفوكو، مجلة مدارات فلسفية، العدد 2، الرباط: الجمعية الفلسفية المغربية، الموقع الإلكتروني للمجلة، يوم 15/01/2011. philosophiemaroc.org/madarat_02/madarat02_07.ht

[52] جيل دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ترجمة: سالم يفوت، لبنان، المغرب: المركز الثقافي العربي، ط 1، 1987، ص .ص 57-68.

[53] علي حرب علي، نقد النص، بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط 2، 1995م، ص 231.

[54] جمال نعيم، جيل دولوز وتجديد الفلسفة، المغرب، لبنان: المركز الثقافي الغربي، ط 1، 2010م، ص ص156-157.

[55] جيل دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراء فوكو، مرجع سابق، ص68.

[56] محمد علي الكبسي، ميشيل فوكو، دمشق - سوريا: دار الفرقد، ط 2 ،2008م، ص21.

[57] جيل دولوز، فن فوكو، ترجمة: الصديق بوعلام، جريدة الأنوال المغربية، تاريخ 02/07/1988م، ص 06.

[58] Gilles Deleuze: L’ile déserte et autre texte, Op.cit, P.129.

[59] جيل دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، مرجع سابق، ص73.