شعار الموقع

موقع المدرسة بين سؤال الحقيقة وشرعنة إعادة الإنتاج والعنف الرمزي

سعيد الركراكي 2004-10-14
عدد القراءات « 536 »

أسئلة ورهانات؟

>لماذا يقاتل الناس من أجل عبوديتهم، وكأن الأمر يتعلق بخلاصهم؟!<
سبينوزا.

1ـ في ضمور سؤال المنهج في الخطاب السوسيولوجي المعاصر حول المنظومة التعليمية والتربوية عندنا وضمن السياق العالمي.

يدرج هذا المقال ضمن أفق البحث في موضوع سقف النظر الموجه لآليات إنتاج وإعادة شروط الخطاب السياسي الرسمي وغير الرسمي حول المسألة التعليمية والتربوية. وعليه، لا بد من التوضيح هنا أننا نطمح بطرحنا لهذه القضية إثارة بعض الأسئلة المحورية التي قد تسعف في فهم ما آلت إليه الأوضاع المدرسية في تردٍّ وتعثرات قاتلة تتمرغ على إثرها في وحل الصراعات السياسوية الرخيصة. كما سينصب اهتمامنا، بشكل خاص، على إثارة بعض القضايا العامة، نفترض أن لها صلة بعناصر هذه الإشكالية العامة، لذلك، ففي معالجتنا لهذا الموضوع، سنقف بداية للإشارة إلى أنه مازال سؤال المنهج محدوداً في الفكر السوسيولوجي المعاصر حول المنظومة التعليمية والتربوية في البلدان المسماة نامية، ومازال المهتمون به لم ينتبهوا إلى أن المعرفة -في أي مجال من مجالات المعرفة- دون منهج هي بمثابة ركام كبير من المعلومات المفككة، الفاقدة لأي معقول وعقلاني، وشبكة من المفاهيم الجاهزة كما يفعل أصحاب الخطاب السوسيولوجي العفوي الذي يرد على هؤلاء الذين يكتسحون عالم النقد بلا ممارسة حقيقية، فقط يوهمون الآخر، بأن الصراعات قائمة على تصفية حسابات سياسوية مجانية، في شكل مشادات كلامية عدوانية لا فائدة من ورائها سوى التجريح والازدراء يقوم به هذا الطرف ضد الطرف الآخر من أجل شيطنته ومن ثمة إقصاؤه وإبعاده عن دائرة ممارسة التأثير، مما يترتب عنه بالنتيجة الانفراد السلطوي بمقاليد الأمور المؤثرة في صناعة القرار السياسي والثقافي وغيرها.

إن هذا الغياب المكشوف لسؤال المنهج يرجع في تقديرنا الخاص المتواضع إلى طغيان الهم الكمين في تجميع المعطيات العامة، وحضور هاجس التكديس والحفظ والتلقي السلبي، وافتقاد بعد المسافة النقدية اللازمة تجاه الموضوع المدروس، إن هذه الأسباب متداخلةً أو منفصلةً، قد تكون إذن من بين الأسباب المباشرة التي افتقدت الفكر السوسيولوجي المعاصر ومنهجه، وانعكست عليه سلباً، فاتصف بالبساطة والاختزال وقصر النظر، وافتقد خصائص الصرامة النظرية والمنهجية معاً. وما لم ينفتح هذا الفكر على الإبداع المنهجي الرصين، سيبقى مجرد خطاب ذي نزعة ثقافية لا يمت إلى ما هو معرفي بصلة، إلاَّ بحبل من التناقضات والمفارقات والالتباسات والمفاهيم الغائمة، وسيظلُّ غير قادر على منافسة خطابات منهجية ومعرفية متعارف عليها كونياً، والتي تشكل البنية الفكرية التحتية أو النموذج المعرفي الكامن للخطاب السوسيولوجي المعاصر. لاشك أن هذا الأمر سيفضي إلى النيل من حرية القدرات العقلية وإعاقتها عن النمو السليم مما يتسبب في ضمور الملكات العقلية العليا كالتحليل والتركيب والتقويم، والاقتصار على قدرات الحفظ والاستظهار والفهم والتأويل، أي هبوط مستوى الحماس للمعرفة والبحث والتنقيب والتبحر، ولذلك يبدأ التقاعس والميل إلى التقليد وعدم التجريد والجري وراء الألقاب المؤسسية واليافطات أكثر من تحقيق الأعمال وإبداع المنجزات، ويكون من النتائج الوخيمة لذلك توقف وانحسار المؤسسات التربوية والتعليمية عن أداء وظائفها الضرورية داخل المجتمع العام. وهذا لا يعني أننا نعترض على هذه الدراسات والأبحاث، أو أننا نقدح في مضامينها وآليات اشتغالها، وإنما نروم انتهاج مقاربة تفكيكية تجتهد في الكشف عما هو مطمور وتسبر غور دقائق التلبيسات التي انبنت عليها الممارسة التعليمية والتربوية في بلداننا.

والجدير بالذكر، أنه ليس هاجسنا الأكبر، من إثارتنا لهذا الموضوع، من حيث إنه يشكل موضوعاً شائكاً ومعقداً، هو تسليط الضوء الكافي وتقديم الجواب الشافي على الإشكال بكامله؛ لسبب بسيط وواضح يتمثل في أنه من غير الممكن إطلاقاً في حيز محدود كهذا المقال البحثي دراسة وفحص وتأكيد كل الفرضيات القوية المؤطرة للإشكالات المعرفية والمنهجية والإيديولوجية المرتبطة بموضوعنا، لذلك نستطيع القول: إننا لا نروم في الانشغال هذا (أي المنظور السوسيولوجي النقدي كزوايا للقراءة والمقاربة التفكيكية) تقديم إجابة محددة ووحيدة الاتجاه، إيماناً منا بالمشروعية المعرفية لتعدد الإجابات واختلاف الطرائق وتباين التشخيص والتشريح لجوانب هذه الإشكالية العامة، قصد فتح آفاق جديدة للتأمل والتفكير وتوسيع دائرة السؤال السوسيولوجي وتكريس الحوار المعرفي المسؤول والملتزم، ووعياً منا بتعددية وتباين أبعاد ودلالات الظواهر الاجتماعية، ومن ثم فإنه لا بد من وجهة نظرنا، الأخذ بالمكتسبات تعدداً موازياً في زواياً القراءة وتنوعاً في المقاربات والمناهج. ولعلنا لا نعدو الصواب إذا قلنا: إن الأساس الموضوعي الذي سيؤطر رؤيتنا للموضوع، هو من طبيعة إشكالية أساساً؛ ذلك أن هذه الرؤية الإشكالية تمثل لنا تحدياً جوهرياً وقلقاً ممضاً، وبالتالي إنه بالأهمية بمكان الابتعاد، قدر الإمكان عن حمأة البلاغة الأيديولوجية وعن الحشو اللفظي الفارغ من أي محتوى معرفي والفاقد لأي معنى، وعن أرضية التصورات التمجيدية والتبجيلية التي عادة ما تطرح حول الاستراتيجية التعليمية والتربوية في علاقتها الصريحة أو المضمرة بالسيرورات الاقتصادية والاجتماعية بالبلدان المسماة نامية أو التي هي في طريق النمو، حتى يتسنى لنا القيام بقراءة نقدية منفتحة ومبدعة في آن معاً، بل العكس من ذلك تماماً، سينحصر هذا العمل البحثي في إثارة الانتباه لبعض من المشكلات والمعوقات والإنغلاقات المرتبطة بالمؤسسة المدرسية والتي كثيراً ما يتم مناقشتها بطرق انفعالية تحت قوة تأثير مقتضيات >الجاهزية الاجتماعية< الأمر الذي يضفي على النقاش العمومي طابعاً إيديولوجياً خالصاً.

بخلاف ذلك إن الفحص المعرفي الصارم الذي يعتمد على أدوات الحفر الأركيولوجي (أي الذي لا يختزل ذاته في نماذج تبسيطية يستهلكها الحس المشترك) والمساءلة النقدية الكاشفة هما الكفيلان وحدهما لتعميق وتكثيف النقاش النظري ثم تطويره لبلوغ ما هو منشود بشكل أفضل، وكذلك تبيان ضرورة تحرير هذا النقاش من ثقل وضغط التأويلات العتيقة التي عفا عليها الزمن والتي كانت قد كُوِّنت حولها، وذلك بغية إقامة تصور شمولي، بهذا القرار أو ذاك، وإرساء رؤية نسقية يعبران بحق وجدارة عن القوى الاجتماعية المبدعة القادرة على تحقيقه وتجسيده على أرض الواقع لخدمة عملية تغيير الواقع التعليمي والتربوي في الاتجاه المرغوب فيه.

من هذا المنطلق تبرز الأهمية المعرفية والمشروعية السياسية لنقطة الانطلاق هذه، نظراً لما نشهده في الوقت الحاضر، من شبه غياب لخطاب علائقي حول المؤسسة المدرسية في بلداننا -مع ورود بعض الاستتناءات- نقصد النموذج التونسي تحديداً -لكن الاستثناء لا يقاس عليه كما تؤكد القاعدة المنطقية- يتناول مسألة التمفصلات العلائقية بين التربية والبناءات الاجتماعية المتنوعة، ويبرز بعض المعالم العامة المكونة لأطروحة إعادة الإنتاج، أي إعادة إنتاج النظام الاجتماعي السائد، ببنياته وهياكله ومؤسساته وأطره، من خلال إعادة إنتاج النظام الثقافي المهيمن، أي من خلال أدوات العنف الرمزي وعلى رأسها المؤسسة المدرسية، الأمر الذي يترتب عنه فسح المجال على مصراعيه أمام الضجيج الإيديولوجي والعجيج السياسي والتطرق التنظيري، الشيء الذي يوهمنا بأننا نثير المشكلات الحقيقية، بينما لا نقوم في نهاية التحليل، سوى بحجب الرهانات المحسوسة لحياة الناس داخل الصيرورة التاريخية للمجتمع. ومن أجل إبراز ضوابط وحيثيات هذا الضجيج المضلل والمظلل في الآن ذاته، والذي له قوة نفوذ وامتداد داخل المجتمع، لا نظير لهما، سنقوم باستخراج، ولو بشكل عام، بعض المنطلقات الأساسية التي تؤسس وحدة السوسيولوجي العفوي ومأزقه.

فبازدحام هذه القناعات، ليس بوسعنا انتهاج مسلكيات هذا التحليل المتداول، لأنه قد سادته، في تقديرنا الخاص نزعتان اثنتان، إحداهما وصفية تقريرية إنشائية والثانية تقنية. وتجنباً للوقوع في الآفة الأولى، والثانية، دون أي ادعاء بالإحاطة المعرفية نقترح مساءلة الحقيقة الموضوعية أو النظرية، والأمر سيان، التي تحكم أوضاع النظام التعليمي والتربوي في السياقات العربية والإسلامية. على أن هذا النظام، السالف الذكر، لا يشكل في واقع الأمر، سوى مجال اجتماعي عام للتمايز الاجتماعي والتراتب الفئوي، ورهان اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي وإيديولوجي يقوم بدور رئيسي، في إشاعة الوعي الزائف والنظرة المبتورة في جميع قطاعات الحياة الاجتماعية، وفي تكريس واقع نفسي - ثقافي مأزوم ومتصدع ومتفكك مما يفضي في نهاية الأمر إلى تنميط الحياة ووهم التحكم الكامل فيها. لذا كانت جهة النقد، وفق هذا المنظور، عتبة أولى موصلة إلى شرعية الاقتراب من صحة التفكيك كما هو مصوغ في نطاقه الابستمولوجي المعلوم.

وتأسيساً على ما سبق، يمكن القول: إن المؤسسات المدرسية تسهم في إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل ومن خلالها إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية السائدة من خلال إعادة إنتاج شروط الثقافة المهيمنة. التي تمررها المؤسسة المدرسية كأداة رئيسية من أدوات الحفف الرمزي داخل المجتمع. وبذلك فهي تحافظ على أمنه واستقراره، في الوضع الذي هو فيه، شأنها في ذلك شأن المصالح الأمنية والعسكرية، وأن مشكلة التعليم، ما هي في واقع الأمر، سوى انعكاس مباشر لاختيارات تخص الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتي غالباً ما تقوم على التفسيرات السطحية التي لا تلامس عمق الحقيقة، كما ترتكز هذه الاختيارات على ترويج خطاب ديماغوجي مخصص للاستهلاك السياسي يتكلم باسم كل الناس ممارساً بذلك نوعاً من أنواع الوصاية الآبائية على الكلية الاجتماعية دون أن يكون لذلك سند حقيقي في الحياة الواقعية للأعضاء الاجتماعيين.

ونستطيع التأكيد بدون تردد، أنه إذا كانت السوسيولوجيا، العلم الذي يفسر الظواهر الاجتماعية تبعاً لنظريته الشمولية والنسقية، فإن سوسيولوجية التربية، تعتبر بحق العلم الكفيل بتحليل الظواهر التربوية، التي تتشكل منها >أزمة< التعليم في بلدان >العالم الثالث<، خاصة عندما نعلم، أن الظواهر التربوية، هي ظواهر لا تحدد من خلال عوامل محدودة، وإنما تتشكل مع البنية الكلية للمجتمع. من هذا المنظور تكون سوسيولوجية التربية، الأداة الملائمة لدراسة وتحليل متغيرات أزمة التعليم في بلداننا. وما يؤكد هذا الطرح، أن المؤسسات التعليمية في أي مجتمع من المؤسسات تحتضن أكبر عدد من الجماعات البشرية، على اختلاف انتماءاتها السوسيوثقافية والسوسيواقتصادية، الأمر الذي يؤهل السوسيولوجيا كعلم إنساني أكثر من غيره من العلوم الأخرى، لدراسة المجتمع المدرسي. لا شك أن ظهور علم الاجتماع التربوي ارتبط بالتطورات الحاسمة في المجال الديمغرافي والاقتصادي التي حدثت في المجتمعات الصناعية. إن تحول التعليم إلى ظاهرة مؤسساتية ارتبط بالاستجابة لهذه التطورات الكبرى التي عرفها الغرب. يقول آلان غرا: >هكذا تاريخياً فإن الموضوع الأول للبحث الذي بتته سوسيولوجية التربية هي المؤسسة، أي المدرسة، وكل ما يمكن أن يشكل محيطها، وغالباً ما اتّسع تعريف المؤسسة إلى دراسة التنظيم أو النسق الذي كان في مجموعه في خدمة التعليم<.

يظهر أيضاً أن ميلاد سوسيولوجيا التربية بتعاظم المشكلات الاجتماعية والثقافية التي نجمت على التعليم المؤسسي، وكذا بالصراعات التي دارت من حوله بين القوى الاجتماعية التي تتناقض مصالحها المادية والرمزية، بغية السيطرة على الامتيازات الثقافية والاجتماعية التي يمكن اكتسابها من التعليم. من الملاحظ، أن وعي السوسيولوجيين الأوائل والارتباط العميق بين النظام المدرسي والنظام الاجتماعي أدى بهم إلى دراسة الآليات التي تتحكم بها البنيات الاجتماعية في النظام التعليمي. ولم يقتصر البحث على مستوى التحليل الوظيفي، إنما ركز الباحثون أيضاً على دراسة التغيرات التي تشهد على النظم المدرسية حينما تحصل تحولات حاسمة في البنيات الاجتماعية، وهو ما يبرز في أعمال دوركهايم Dur Kheim ذات المنحى التاريخي مثل >التطور البيداغوجي في فرنسا<. على خلاف دوركهايم الذي توصل إلى أن المدرسة تختص بترسيخ التربية المافوق طبقية، وإلى توحد الجماعات داخل بناء وطني موحد، بهدف الإدماج الثقافي والأخلاقي، وهي تمثل قهراً اجتماعياً غير منقسم، وإذا كانت الثقافة لديه أيضا عبارة عن ملكية غير منقسمة خاصة بتراث المجتمع ككل، فإن >بيير بورديو وباسرون< يعتبران -عكس ذلك- أن التربية المدرسية هي بمثابة عنف رمزي لأنها تفرض تعسفاً ثقافياً يخدم مصالح الطبقات المهيمنة، والتي تضعها علاقات القوة في موقع الهيمنة، إذ لا تنبع التربية من المجتمع ككل، خاصة إذا كان ينقسم إلى طبقات، ولا تكون موحدة، بل توجد ثقافات منقسمة ومتصارعة لأن وراء كل ثقافة قوة اجتماعية.

انتقاد بورديو وباسرون لدوركهايم، بهذا الصدد، يرجع أساساً إلى اعتباره أن الثقافة موحدة، وهو بذلك يماثل بين وضع الثقافة في المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة، فالرأسمال الثقافي يكون عادة في المجتمعات الأولى غير منقسم، فهو يمثل ملكية مشتركة بين أعضاء القبيلة مثلاً بينما يحصل انقسام ثقافي في المجتمعات، باعتبارها مجتمعات طبيعية، ومن ثم يمدد دوركهايم التصورات الإثنولوجية الخاصة بالمجتمعات التقليدية، لتتناول الظواهر النوعية المميزة للمجتمعات المعاصرة. فكيف تعتبر المدرسة في مجال تتحقق فيه سلطة العنف الرمزي؟ وكيف تكون التربية عملية تدجين وسيطرة في الوقت الذي كان يعتقد أنها عملية تقود إلى تفتح الشخصية لكي تنفتح على محيطها فقط؟ وكيف يفرض الفعل البيداغوجي التعسف الثقافي المهيمن؟ وما هي الآليات التي تضمن سيادة هذه الهيمنة؟ وكيف يصبح النظام التعليمي الحقل الذي تتحقق فيه أو ضمنه هيمنة الطبقات العليا، خاصة وأنه ليس مجال السيطرة المادية؟ وبالتالي كيف يتصور ارتباطات النظام التعليمي بالبنيات الاجتماعية؟.

هكذا يتضح بجلاء أن أسئلة تربية المستقبل تختلف عن أسئلة تربية الماضي، إذ تستدعي أسئلة جديدة والانفتاح النظري الحقيقي على أسئلة الحياة ومصير الإنسانية والقادرة على فتح آفاق التحول والتطلع إلى سؤال الحقيقة الذي لا يقبل التورط في متاهات الممارسات السياسوية ولا يطيق سوى ملامسة الأسس العقيمة لحاجات الإنسان الوجودية والمتطورة على الدوام، مما قد يفضي إلى إعادة النظر جذرياً في الكثير من القضايا العلائقية السائدة في الوسط المدرسي وإنتاج رؤية جديدة عن العلاقة البيداغوجية والتواصل في ضوء تربوي جديد.

فهل بالإمكان جعل استراتيجيات تربيتنا المعاصرة تقوم بإشباع هذه الحاجات الإنسانية المتنوعة؟ فما هي الركائز التي تقوم عليها بعض نظريات التربية المعاصرة وما استراتيجياتها في الأمد المنظور؟ أسئلة كثيرة أثيرت وتثار وستثار حول أسس الحقل التعليمي والتربوي وحقيقته النظرية مع توالي الأبحاث والدراسات حوله وتعدد المقاربات والمقاربين لمحتوياته البيداغوجية وأهدافه التربوية.

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة المركزية وغيرها كثير في أفق تركيز الاهتمام العميق على قضايا شائكة من مثل الكشف عن العلاقات القائمة بين مسألتي التكوين والإنتاج، وفي هذا السياق سيكون من الأليق التنبيه إلى أننا سنتوسل بشكل كبير جداً، في تأسيس هذه المقالة البحثية على بعض المقترحات النظرية والمنهجية كما تمت بلورتها من قبل عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي العملاق بيير بوديو ورفيقه في النضال المعرفي ج. كلود باسترون، خصوصاً في مؤلفهما الأساسي الموسوم بـ>إعادة الإنتاج< والذي يشكل بلا ريب أحد الإسهامات الأساسية من أجل إعادة تحديد المكانة المعرفية للسوسيولوجيا المعاصرة النقدية، لقد كان >بورديو< يطمح -انطلاقاً من كتابة المعنون بـ>الورثة< Les héritiers مروراً بمؤلفه الموسوم بـ>السيطرة الذكورية< La domination وكتابة المعنون بـ Homo acadimicur >الإنسان الأكاديمي< إلى إبراز آليات توزيع وإعادة توزيع السلطة وبالأخص منها السلطة الثقافية داخل المجتمعات المعاصرة كما كان يسعى إلى توضيح مواقفه السياسية والثقافية من حيث أنه مثقف ملتزم، فضلاً عن ذلك، فقد استطاع هذا المفكر الفذ أن يبدع عتاداً مفاهيمياً قوياً وأن ينحت مصطلحات جديدة مثل مفهوم السمت أو التطبع Habitus، ومفهوم الحقل Champ، ومفهوم العنف الرمزي -Violence symbolique- ومفهوم الرأسمال الثقافي Capital symbolique، ومفهوم السلطة الرمزية Pouvoir symbolique وغيرها كثير الخ...؛ كمفاهيم أساسية تسند المحاور الكبرى لأبحاثه السوسيولوجية الضخمة التي أنجزها في جميع الحقول المعرفية تقريباً.

2ـ في نظام العلاقات القائمة بين المؤسسة المدرسية وبنية المجتمع العام؟

وإسناداً إلى ما سبق ذكره، تعتبر المدرسة إذن -كأي مؤسسة اجتماعية أخرى- واقعاً تنتجه الخطابات الاجتماعية التي تحمله وتتحدث عنه، لا توجد هناك مؤسسة بدون خطاب؛ إذ يتم صنع المؤسسة المدرسية بما نقوله عنها وبما تقوله هي عن نفسها، زد على ذلك، أن المدرسة لا تشكل بالنسبة لمجموع القوى الاجتماعية الحاضرة شيئاً آخر سوى مجال التكوين، الشيء الذي يفسر الإحالة المستمرة إلى إيديولوجية التنمية كإطار مرجعي دائم.

إنه حسب هذا المنظور ندرك مدى تحويل >السياسة التربوية< إلى مسألة متواضعة وخجولة: فالعلاقة بين نظام التكوين ونظام الإنتاج هي علاقة تأثير متبادل؟ غير أنه يوجد انطلاقاً من هنا تعقد كمي لتحليل هذه الظاهرة والكشف عن نظام العلاقات القائمة بين المؤسسة المدرسية وبنية المجتمع العام، وذلك بوضع بين قوسين المنطق العميق الذي يضبط تحولات النظام التعليمي في ارتباط مع البنية الاجتماعية والاقتصادية، ويجعل كأمر واضح بالبداهة، طلباً اقتصادياً يدرك كشيء مستقل عن علاقات القوى الاجتماعية، وبإقحام، بشكل بريء تماما، وتحت غطاء الوظيفة التقنية، الوظائف الاجتماعية للنظام التعليمي وبالأخص وظائف إعادة الإنتاج وشرعنة بنية العلاقات الاجتماعية. لا غرابة إذا كانت هذه النزعة المثالية للمصلحة العامة تجعل من خصائص البنية وسمات اشتغالها تفلت منها والتي يدين بها كل نظام تعليمي إلى مجموع العلاقات التي تربطه بالأنظمة الفرعية الأخرى، بمعنى نظام الوظائف التي تقوم بنيته الموضوعية النوعية على بنية العلاقات الطبقية، في كل مرحلة تاريخية محددة. لا مجال للاستغراب أيضاً إذا كانت الأحادية الإيكونوميترية المفرطة تجعل هذا النظام التربوي بشكل خاص، بوصفه مالكاً لسلطة مفروضة لترسيخ تعسفية تاريخية معينة، وأخيراً لا مجال للاندهاش كذلك، إذا كان هناك تحالف بسيط قائم بين نزعة تطويرية محاسباتية ونزعة إصلاحية يجبر خطاباً تفاؤلياً موهوماً لا يعرف سوى هفوات بالنسبة إلى عقلنة نموذجية، ليس بإمكان هذا الخطاب الإصلاحي أن يميز بين علاقة الخصوصية البيداغوجية والفردية التاريخية لنظام التعليم.

ومن غير ابتعاد عن سياق ما نحن بصدده يمكن أن نلمس هذا الذي ندعيه، بتقديمنا حالة المغرب المعاصر كنموذج تمثيلي. ففي هذه الحالة النموذج نلمح وجود واقع مشترك ناتج بقوة عن فعل المواجهة القائمة بين نظام تعليمي تولد عن أثر سير دولة الرعاية Etat providence والواقع الاقتصادي الجديد المتسم بطابع العلاقات السلعية، إذا انتهت الدمقرطة المتنامية للمدرسة إلى السلفية، إذا انتهت الدمقرطة المتنامية للمدرسة إلى المساس بالحدود المسموح بها من قبل العلاقات الاقتصادية المرتكزة أساساً عل قاعدة المردودية والفعالية كمبدأين أساسين لا مندوحة عنهما داخل لعبة السوق. لذلك نجد أن العديد من الإصلاحات التي عرفها النظام التعليمي، قد قامت وتقوم بإخفاء سيئ لهدفها الواقعي المتمثل أساساً في قدرتها على تكييف النظام المدرسي مع واقع السوق. كما نجد بالفعل أن الإصلاح البيداغوجي -الأكثر لطفاً كما هو الحال، مثلاً بالنسبة للاختيار السالف الذكر، بمثابة موضة في مغرب اليوم- يتسجل داخل سيرورة واسعة لإخفاء الطابع الأداتي على المدرسة، لفائدة اقتصاد يبحث باستمرار عن حل ما لمواجهة اختلالاته. لقد أضحى الضغط الاقتصادي على المدرسة قوياً جداً، في اللحظة التي نجد فيها، أن تطلعات شرائح واسعة من المجتمع مازالت تغذي أمالاً معقولة في تحسين أوضاعها السوسيواقتصادية، باعتبارها المدرسة أداةً للترقي الاجتماعي والحراك المهني يضمن لها مركزاً مهماً في هرمية الدولة وإدراراً اقتصادياً محترماً. من هنا يتضح بجلاء، أنه انطلاقاً من هذه المؤشرات الدالة على بعض من الخلل في المنظومة التعليمية، هو ما يستوجب ضرورة القيام بمراجعة شاملة وجذرية لمضامين المناهج والبرامج التعليمية وأهدافها التربوية، لما لهذه المراجعة من دور بارز وحيوي في داخل المنظومة التعليمية، وباعتبار البحث فيها بحثاً في المنهج والمفاهيم وأشكال التفكير والنماذج السلوكية، ولما لهذا البحث كذلك من أثر كبير في توجيه الفكر السوسيولوجي المعاصر من النظرة الأحادية الضيقة إلى المالية المنفتحة على كل الآفاق الواسعة الممكنة.

3ـ هل العقلنة الاقتصادية والدمقرطة شيئان مرتبطان بشكل آلي؟

إننا لن نجانب الصواب إذا أكدنا أنه لم يسبق أبداً لمسألة غايات التربية أن شُخِّصت، بشكل تام، مثلما شهده اليوم، وذلك بتبيان دور الإسهام الذي تقدمه الجامعة إلى مسألة النمو الوطني، غير أن الاهتمامات الأكثر غرابة عن هذا المنطق ظاهرياً كالانشغال بدمقرطة الولوج إلى المدرسة والثقافة، تستلهم أكثر فأكثر العقلنة الاقتصادية وتكتسي -مثلاً- شكل إدانة تبذير الطاقات، لكن هل تعتبر العقلنة الاقتصادية والدمقرطة شيئين مرتبطين بشكل آلي؟

إن المقياس التقنوقراطي للمردودية المدرسية يفترض النموذج الفقير لنظام معين الذي حينما لا يعرف غايات أخرى سوى تلك التي سيستقيها من النظام الاقتصادي، فإنه لا يقوم سوى بالاستجابة بشكل أقصى كمًّا وكيفاً، بأقل تكلفة، إلى الطلب التقني للتربية، بمعنى إلى حاجات سوق العمل. والحالة هذه فإن الخطاب الرسمي يدعي التبرير بالإشارة إلى أن مؤسسات التكوين لا تتوفر حالياً على تكوين ملائم لمتطلبات النظام الاقتصادي. هذا التكوين يظل مجرد حجر الزاوية لسياسية النمو السريع. ونظراً لأن فعالية النظام التربوي تعتبر ضعيفة جداً، مما يجعل أغلب >الفاشلين مدرسياً<، أو المطرودين لا يأخذون تكويناً أساسياً يؤهلهم لمزاولة مهنة معينة، من هنا تهدف البرامج إلى تزويد التلميذ بعناصر ثقافية كتعلم الحساب (الجبر) والإعداد والتقنية الخ...

لهذا لا بد لمضمون التعليم أن يترك مكاناً ما لتعليم أو لتنمية مجموعة من المعارف التقنية القابلة للاستعمال عند انتهاء مدة التمدرس، وذلك من أجل وضع حد للانعكاسات السلبية على المستوى العام لتأهيل اليد العاملة. كذلك فإن غياب التنسيق والتوافق فيما بين مختلف الأجهزة المكلفة بالتكوين المهني والتعلمي، والتشتت الحاصل على المستوى البشري والمالي؛ لا تشكل عاملاً أساسياً للإسراع بحل المشكل. يُصاحب هذا النقص الكمي باختلالات بين مستويات التأهيل ومضمون التكوين المتاح. هكذا فبغياب التكوين المهني وتوحيده، سيكون من الصعب بالنسبة للمشتغلين أن يتعرفوا، بشكل دقيق، على الهدف المرغوب فيه، الشيء الذي يترتب عليه اختلال فيما بين حاجات السوق وإنتاج دورة التكوين.

ونود أن نضيف شيئاً هنا وهو أن أبناء الطبقات السائدة يضطلعون بمهمة احتكار الاستفادة من الوسائل الثقافية كالمسرح والسينما وموسيقى الجاز؟ فهم طلاب محظوظون لأنهم يحصلون على معارف ومهارات تقنية في هذه المجالات، لا يستطيع الطلاب المغبونون امتلاكها، نظراً لأصولهم الاجتماعية الدنيا، وذلك لأن اللامساواة تجاه الثقافة لا تظهر إلا في المجالات التي يغيب فيها تعليم منظم. ونتيجة لذلك، فالسلوكات الثقافية تخضع للحتميات الثقافية، أكثر مما تخضع لمنطق الأذواق والميولات الفردية.

يتوصل الباحثان بورديو وباسرون إلى اعتبار الثقافة المدرسية أقرب إلى ثقافة النخبة، ومن ثم، فإن الأطفال البورجوازيين لا يجدون صعوبات كبرى في التعامل معها، نظراً للاستعدادات السالفة الذكر، بينما يفتقر أبناء الطبقات الشعبية للوسائل والإمكانات التي تساعدهم على امتلاك هذه الثقافة إلا بجهد جهيد وبصعوبة بالغة. إن تركيز بورديو وباسرون على أطروحة التفاوت الثقافي جعلتهما لا يثقان في إمكانية ترجمة المساواة الاقتصادية في مجتمع محدد، إلى مساواة ثقافية أو اعتبار الأولى مدخلاً لتحقيق الثانية، لأنه من الممكن بالفعل، أن تتحقق المساواة في الوسائل المادية الاقتصادية، دون أن يقوم النظام الجامعي من التوقف عن خدمة اللاتكافؤ، بتحويل الامتياز الاجتماعي إلى موهبة أو استحقاق فردي. لهذا فالمساواة الصورية للحظوظ والفرص إذا تحققت فإن المدرسة لا يمكنها أن تضع كل مظاهر الشرعية في خدمة شرعية الامتيازات.

كان طموح بورديو وباسرون، هو إنتاج نظرية سوسيولوجية تفسر منطق نسق التعليم المعاصر بفرنسا، في كتابيهما >إعادة الإنتاج< وقد اتجها إلى تعميق تصوراتهما النظرية وذلك عن طريق مفهوم الإرث الثقافي الذي ينتقل بخفاء، والذي يتضمن أن أبناء الطبقات المهيمنة يرثون تفوقهم، كما يرث أبناء الطبقات المغبونة ضعفهم، إن المنطق المفاهيمي الذي تدور حوله نظرية العنف الرمزي، يتمحور حول ثلاثة عناصر أساسية، هي مفهوم الرأسمال الثقافي، ومفهوم الشرعية، ومفهوم علاقات القوة. ولإدراك مفهوم الرأسمال الثقافي يمكن القول: إنه يتوزع إلى شكلين مرتبطين: الرأسمال المدرسي المكتسب بواسطة الشهادات والدبلومات، والرأسمال الذي يمر عبر توظيف الرأسمال الثقافي الموروث.

وعلى ضوء ما سبق يمكن القول: إن النظام الديمقراطي ليس نموذجاً ثابتاً يراكم نفس المعطيات طيلة مساره في الزمن، وإنما ضرورة تتفاعل مع محيطها العام، فكم الوارد أن تعتري هذا النموذج أو ذاك لحظات من الفتور أو التراخي، أو يستنفد طاقته ووسائله، أو تلحقه عيوب ومفاسد نتيجة انحراف الممارسة والسلوك. ولذلك لا يكون النظام الديمقراطي فعالاً إلا بقيامه على الحاجة إلى تحسين أدائه بما يتلاءم مع الطارئ والمستجد، وعلى إعداد المواطن وعياً وممارسةً باعتباره المعني الأول بالاختيار الديمقراطي. ولن يكون هذا الإعداد سلمياً إلا بالانتباه إلى دور القدرة لديهم على المساهمة في بناء مجتمعهم والمشاركة في صنع القرار والتأثير فيه، هذا علاوة على تقوية الحس النقدي عندهم والشعور بالمسؤولية بما يدعم الديمقراطية ويجنبها الالتفاف على تطلباتها الأساسية.

ويبدو لنا من جهة أخرى، كما يذهب إلى ذلك آلان تورين، أن الديمقراطية لا تقتصر على مجموعة من الضمانات الدستورية، أي على حرية سلبية، إنها نضال تخوضه ذوات فاعلة، في ثقافتها وبحريتها، ضد منطق هيمنة النسق، إنها سياسة الذات، بحسب التعبير الذي أطلقه >روبير فريس< إن التغير الكبير الذي حصل هو أن الذات كانت في بداية العصر الحديث، عندما كانت الكائنات البشرية بمعظمها أسيرة المجموعات الضيقة النطاق والخاضعة لوطأة إعادة الإنتاج بدلاً من الخضوع إلى وطأة قوى الإنتاج، تثبت وجودها عن طريق التماهي بالعقل والعمل، بينما أخذت الحرية في المجتمعات التي تجتاحها تقنيات الإنتاج والاستهلاك والموصلات الجماهيرية تفك ارتباطها بالعقل الأدائي، تحت طائلة الارتداد عليه أحياناً، وذلك من أجل الدفاع على مجال معين للإبداع يكون الوقت نفسه مجالاً للذاكرة، أو من أجل خلق هذا المجال وإيجاده بعد أن لم يكن، ومن أجل ذات تكون في الوقت ذاته كينونة وتعبيراً، انتماءً ومشروعاً، جسداً وذهناً، هكذا تصبح المسألة الكبرى بالنسبة للديمقراطية هي صبغة الحياة السياسية التي تزود العدد الأكبر بأكبر قسط من الحرية، هي الصبغة التي تحمي أوسع تنوع ممكن وتعترف به.

 

الهوامش:

?* باحث من المغرب.