شعار الموقع

التطرف الديني ومسألة الهوية الثقافية .. مراجعات وتأملات

علي مبارك 2019-05-19
عدد القراءات « 715 »

التطرّف الديني ومسألة الهوية الثقافية

مراجعات وتأمّلات

الدكتور علي بن مبارك*

 

* جامعة قرطاج، تونس. البريد الإلكتروني: benmbarek.alii@yahoo.fr

 

مدخل: التطرّف.. الإشكالية والطبيعة

تثير مسألة «التطرّف» عدّة إشكاليات تتعلّق بدلالات هذا المصطلح وسياقاته الثقافيّة والسياسيّة وخلفياته الصريحة والضمنية، ولعلّ ما زاد في ضبابيّة هذا المفهوم كثرة استعماله وندرة ما كُتب فيه من بحوث علمية دقيقة، فكثرة الاستعمال قد تفقد المصطلح دلالاته ومعانيه المخصوصة، فمنذ عقود من الزّمن والنّاس غربًا وشرقًا يتحدّثون عن التطرّف، ويقترحون التعاريف، ويصنّفونه إلى أنواع وأقسام ويحذّرون منه، ويبحثون عن حلول لتجاوزه وتذليل الصعوبات المتعلّقة به، ولكن ما المقصود بالتطرّف؟

عندما نتابع ما كتب في هذا الموضوع منذ عشرين سنة أو تكاد، نجد فوضى من المعاني والدلالات المتعلّقة بالتطرّف، متباينة أحيانًا ومتناقضة أحايين أخرى، فالمعنى يتغيّر بتغيّر مقام التلفّظ وسياق الخطاب والخلفيات السياسيّة والأيديولوجية المتحكّمة فيه، فقد يُوصف الطرف نفسه بأنّه متطرّف، وأنّه غير ذلك من قبل جهات مختلفة وأحيانًا من الجهة نفسها، فيتغيّر الوصف والتوصيف بتغيّر المصالح وتجدّد السياق، حتّى إنّ النضال من أجل الحرية والتحرّر أصبح عند البعض تطرّفًا يمسّ بالأمن والسلام، وأصبح بعض المتطرّفين في عرف آخرين رموزًا للسلم والعطاء الإنسانيّ.

ومهما حاولنا تدقيق المصطلح لغةً واصطلاحًا، فإنّ معنى التطرّف يظلّ رخوًا طيّعًا يمكن توظيفه بعدّة أشكال، وجدير بالذّكر أنّ «التطرّف» صار حديث السّاعة، لا يخلو خطاب من ذكره أو التلميح إليه أو التعليق عليه، يتنافس الإعلاميون في بيان مواضع التطرّف وأخبار المتطرّفين على سبيل الحقيقة حينًا والمجاز أحيانًا، بل ربّما طغى المجاز وهيمنت الاستعارات، فأصبح المشهد غامضًا، وبات الحديث عن الإرهاب والتطرّف ساذجًا يستخف بعقول الناس.

وهذا ما نلاحظه بجلاء في التجربة التونسية الرّاهنة، فبعد قيام ثورة جانفي 2011م دخلت البلاد في حرب ضروس مع التطرّف والمتطرّفين في الجبال والمدن والمساجد، ولكن لا أحد إلى اليوم يفهم المقصود من التطرّف، وأصبح المواطن يشعر بأنّه أمام صور رسمت لا يفقه كنهها إلَّا قلّة قليلة من أصحاب القرار.

ولم يكن هذا الاضطراب مرتبطًا بالخطاب الإعلاميّ فحسب، بل أسهم السياسيّون في تزكيته وتفعيله، فرجال السياسة في عالمنا الإسلامي على مختلف توجّهاتهم ينتقدون التطرّف ويندّدون به ويحذّرون من تداعياته، ولكنّهم نادرًا ما يتمثّلون هذه المسألة في سياقاتها المختلفة.

ولم يكن حديث السّاسة عن التطرّف إلَّا حديثًا وظيفيًّا براغماتيًّا، بل قد يهدفون أحيانًا من خلال خطاباتهم إلى التكسّب من خلال هذه القضية أو التزيّن بها في المحافل الدولية، ويجد المواطن نفسه أمام خطابات سياسيّة رنّانة تدغدغ العواطف وتلعن التطرّف، ولكنّ المفارقة أنّ بعضهم ينتقد التطرّف ويمارسه بطريقة أو بأخرى، ويحارب المتطرّفين ويمدّهم بالعون والدعم.

ولا نبالغ إذا قلنا بأنّ التطرّف صار لغزًا محيّرًا، نتحدّث عنه كثيرًا ولا نفهمه إلًّا قليلًا، وبقدر ما تجابه الحكومات والمنظمات والجمعيات والأفراد التطرّف، تزيد هيمنته وتتضاعف خطورته، تنفق من أجل محاربة التطرّف أموال طائلة، وتعقد من أجل الحدّ منه ملتقيات ومؤتمرات وندوات، ولكن ذلك لم يحل دون تطوّر هذه الظاهرة وانتشارها في أشكال متجدّدة.

ولم تستطع مراكز البحوث في العالمين الإسلامي والعربيّ أن تحسم هذا الأمر، وأن تقدّم لنا دراسات شافية كافية عن التطرّف وثقافته، وكلّ ما نجده محاولات مبعثرة هنا وهناك دون تنسيق.

ندرك من خلال هذه المقدّمة التأليفيّة الموجزة أنّ البحث في مسألة التطرّف ما زالت تنقصه الجرأة والشجاعة، وما زلنا نتحاشى وضع إصبعنا على الداء الحقيقيّ، نحلّق في مدارات الظاهرة دون أن نلج إليها، ولكن هل يمكن أن نتبيّن العلّة ونبحث عن شفاء صاحبها دون تشخيص حقيقيّ لها؟

من العبث تجاوز مرحلة التشخيص والتفكيك، فهذا الإجراء يسهم في فهم الظاهرة وتمثّلها والإحاطة بخلفياتها وسياقاتها، ومن المضحكات المبكيات أنّ التطرّف استفاد كثيرًا من هذا الوضع الضبابيّ، فالأفكار المريضة تستثمر حالة الفوضى، وتجعل منها مصدر قوّة لها.

لا ندّعي الإلمام بمختلف جوانب هذا الموضوع المعقّد الشائك، فهذا طموح يتجاوز طبيعة هذا المقام، وقصارى جهدنا أن نقف عند المسائل المحورية المتعلّقة بالتطرّف، وسنحاول الإجابة عن مجموعة من الإشكاليات الأساسية، ستكون بمثابة محاور اهتمام نعتمدها في بناء هذه المطالعة: كيف يمكن أن نفهم التطرّف بعيدًا عمّا حفّ به من اضطرابات وتشويهات؟ ما الدلالات الممكنة للتطرّف؟ وما خلفياته السيكولوجية والاجتماعية والثقافية والسياسية؟ كيف نفهم التطرّف من زاوية ثقافية؟ وما درجاته؟ وكيف نفكّك خطابه؟ وما المسائل الأخرى المتفرّعة عنه والمتعلّقة به؟ كيف السبيل إلى استبدال ثقافة التطرّف بثقافة الاعتدال والاختلاف والتنوّع؟

أوّلًا: التطرّف والهويّات القاتلة: الدلالات والخلفيات الثقافيّة

التطرّف في عرف اللغة الوقوف في طرف الطريق والابتعاد عنه، وتطرّف في أفكاره بالغ فيها، ويقابله في هذا المستوى من الدلالة التوسّط، وهذا نلاحظه في قول الشاعر:

كانت هي الوسط المحميّ فاكتفت

بها الحوادث حتّى أصبحت طرفا

ونفهم من خلال هذا الشاهد اللغويّ بأنّ التطرّف اتّخاذ لموضع واختيار لموقع يكون نقيض ما يتّخذه الناس وضديد ما يعتقده الجمهور، فالتطرّف موقف انفعاليّ من الثقافة والجماعات والأفراد، وهذا الموقف غالبًا ما يكون عدائيًّا.

ولكن قبل أن نتعمّق أكثر في دلالات التطرّف، لا بدّ أن نتحدّث عن المستويات الممكنة للتطرّف، فقد يشمل هذا السلوك الأفراد والجماعات والمؤسسات والحكومات، كما يشمل عدّة مجالات تتعلّق بالدّين والفكر والسياسة والاقتصاد، ولعلّ أهمّ هذه المجالات ما تعلّق منها بالتطرّف الدينيّ وما ارتبط به من خلفيات ثقافية، فالتطرّف الدينيّ أصبح حديث الساعة، وتحوّل إلى شبح مفزع يخيف المسلمين وغيرهم على حدّ سواء.

وازداد التطرّف الدينيّ شيوعًا وانتشارًا بعد ثورات الربيع العربيّ وما لحقها من تغيّرات اجتماعية وسياسيّة وما نتج عنها من فوضى، وانتهى الأمر بظهور حركات دينيّة متطرّفة في تونس وليبيا وسوريا والعراق، تقتّل النّاس وتدمّر العمران والمعمار، وتحرق المزارع، وتقطّع الرؤوس.

وساهم التطرّف الدينيّ الرّاهن في تشكيل صورة قاتمة عن الإسلام والمسلمين انعكست أساسًا في وسائل الإعلام الغربيّ، واستُغلّت هذه الصورة من قبل أطراف سياسية متطرّفة في أوروبا وأمريكا لتشويه صورة الإسلام وتنفير الناس منه.

ولنا أن نعترف منذ البداية أنّ التطرّف الدينيّ يعكس أزمة خطيرة عاشها الفكر الإسلاميّ (وما زال)، وآية ذلك أنّ «نشوء التطرّف لا يأتي من فراغ بل هو نتيجة خلل ما يصيب منظومة القيم والمبادئ التي تحكم العلاقة الإنسانية في بعض وجوهها»[1].

وهذا يعني أنّ التطرّف حركة تمرّد على «المنوال النموذجي» الذي يوجّه ثقافة الشعوب وجهة متوازنة ومطمئنة، ولئن كانت المجتمعات المتقدّمة راسخة في مناويلها المرجعيّة، فإن المجتمعات الإسلامية تعيش مخاضًا ثقافيًّا وتحوّلات اجتماعية وسياسية عصيبة، وهذا الأمر يجعل من المنوال المرجعيّ هشًّا غامضًا قابلًا لعدّة تأويلات، ويجعل من الهوية المنبثقة عنه هوية مضطربة وعنيفة وربّما قاتلة في بعض الأحايين.

وعلى هذا الأساس لا يمكن الفصل بين مسألة «التطرّف» وإشكالية الهوية، وما التطرّف في حقيقته إلَّا تحوّل في طبيعة الهوية ذاتها، إذ تحوّلت من هوية مبدعة تبحث عن سبل الحياة إلى هوية قاتلة تجلب الدمار والخراب، وآية ذلك «أنّ الهوية يمكن أيضًا أن تقتل وبلا رحمة»[2]، إذ قد ينتج عن بعض الهويات فكر دمويّ وخطاب إقصائيّ وعنف رهيب، و«النزاعات الوحشية قد تتغذّى من وهم الهوية»[3].

ولكن كيف تستحيل الهوية مجالًا للتطرّف؟ وكيف تحوّلت هذه الثقافة من ثقافة حياة وإبداع إلى ثقافة موت وشقاء؟

اقترن التطرّف في الثقافة الإسلاميّة قديمًا وحديثًا بما يسمّيه روّاد علم الاجتماع الثقافي بالتخلّف الثقافي الذي يعني أنّ «البناء الثقافيّ لم يعد متماسكًا كما كان من قبل، ومن ثمّ تنعكس آثاره على كفاءة تأديته لوظيفته في إشباع حاجيات أفراد المجتمع»[4]، وتصبح ثقافة المجتمع معتلّة ومختلّة.

دخلت الحضارة الإسلامية في دائرة مغلقة، إذ أقفلت أبواب الاجتهاد، وأحكمت غلقها، فَسَادَ الاتِّباع الساذج والتقليد الأعمى، وهيمن الجهل والتخلّف، وانقطع التواصل، فانغلقت كلّ مجموعة دينية على نفسها، تعيد صياغة مقولاتها تلخيصًا وشرحًا و«تهميشًا»[5]، دون تطوير أو تهذيب، وأصبحت كلّ مجموعة تعتقد أنّها تمثّل الحق كلّ الحقّ، وأنّها الفرقة الناجية دون غيرها من أهل الإيمان، وأنّ غيرها من المسلمين في الدرك الأسفل من النار.

إنّ المتتبّع لتاريخ الأديان بصفة عامّة وتاريخ الأديان التوحيدية بصفة أخصّ، يلاحظ أنّ هذا التوصيف الثقافي يخصّ كلّ المنظومات الدينية، فاليهود زمن الأسر وبعد سقوط ملكهم انغلقوا على ذاتهم واكتفوا بتقاليدهم الشفوية، ثمّ انقسموا بدورهم إلى مجموعات دينية، تلعن كلّ واحدة منها غيرها، وكذلك حال المسيحيين عندما تحوّلوا في القرون الوسطى إلى مجموعات منغلقة تحاكم العلم والعقل والإبداع وترفض الاختلاف والتنوّع.

ويعتبر الانغلاق على الذات دليلًا على وجود تخلّف ثقافيّ (Retard culturel)، ويعتبر هذا الضرب من التخلّف نتيجة طبيعية لتحوّل الأمّة من حالة قوّة وعلم إلى وضع ضعف وجهل، ولقد توصّل علم اجتماع الثقافة إلى أنّ «النتيجة الحتمية لظهور التخلّف الثقافي والانحلال أو التفكك الاجتماعي، هو أنّ البناء الثّقافي لم يعد متماسكًا كما كان من قبل، ومن ثمّ تنعكس آثاره على كفاءة تأديته لوظيفته في إشباع حاجيات أفراد المجتمع وتوجيههم التوجيه المحكم في تفكيرهم واتّجاههم وسلوكهم ومن ثمّ يصبح المجتمع في حالة «مرضية» يظهر فيها الكثير ممّا يعرف في علم الاجتماع بالمشكلات الاجتماعية»[6].

والملاحظ أنّ البناء الثقافي الإسلامي أصبح مختلًّا مضطربًا لا يفي بحاجيات معتنقيه من أبناء مختلف المجموعات الإسلامية، وهذا ما يفسّر شيوع حالات التمرّد على المؤسّسات الرّسمية الدينية والسياسة.

هذا التحليل المبدئي قد يساعدنا على الإجابة عن سؤال ينتابنا دائمًا يتعلّق بوجود مفارقة غريبة بين إجماع علماء المسلمين ومراجعهم على حرمة تكفير أهل القبلة وانتشار ثقافة التكفير بوتيرة تصاعدية تدعو إلى الحيرة والرهبة.

وعلى هذا الأساس يكون خطاب التكفير وجهًا من وجوه هذه الأزمة الثقافية، وعلامة من علامات الأمراض الاجتماعية المطروحة على الساحة الإسلامية، بل لعلّه أخطر هذه الأمراض وأشدّها فتكًا، لأنّه يدمّر المجتمع من الداخل ويعزله عن محيطه الخارجي في الآن ذاته.

شهدت الثقافة الإسلامية انزياحًا خطيرًا، فتحوّلت من ثقافة تقوم على الاختلاف والتعدّد والتنوّع واحترام الآخر، إلى ثقافة متوحّشة ترفض الآخرين ولا تؤمن إلَّا بطريق واحد للخلاص وتحصيل الثواب، وزعم كلّ فريق أنه الفرقة الناجية التي اختارها الله دون بقية الخلق لتمثّل الحقيقة المطلقة وظفر الجنّة وحسن المآب.

أكد بعض الباحثين أسطورة الفرقة النّاجية وارتباطها فحسب بالذّاكرة الدينيّة المذهبيّة[7]. ولقد انتقد محمّد أبو زهرة حديث[8] «الفرقة النّاجية» أشدّ انتقاد، وتحدّث عن تداعياته السلبيّة في مختلف العصور الإسلاميّة[9]، واجتهد عبد المتعال الصّعيدي في دحض هذه المقولة وتصحيحها معتبرًا أنّ كلّ الفرق الإسلاميّة ناجيّة ومعنيّة بالخلاص[10].

كما أكّد القرضاوي أنّ «الحديث لم يرد في أيّ من الصّحيحين برغم أهمّية موضوعه دلالة على أنّه لم يصحّ على شرط واحد منهما»[11]، ورأى القرضاوي في هذا الحديث «تمزيقًا للأمة وطعن بعضها في بعض، ممّا يُضعفها جميعًا، ويقوّي عدوّها عليها ويُغريه به»[12]، وبناء على ذلك لا يمكن الوثوق بهذا الحديث والتسليم بمعانيه[13].

ولعلّ من أخطر تداعيات هذا الحديث، ظهور ظاهرة الغلوّ في التعصّب المذهبيّ والطّائفي، وانتشار ثقافة التكفير والتفسيق والتبديع، ولكنّ المشكلة أنّ التعصّب لم يكن غير تعصّب لرجالات المذهب وأصحابه، وهو ما يعني أنّ «التعصّب للمذهب هو تعصُّب للفرد، تعصّب لصاحب المذهب بالذّات لا تعصّب للإسلام، ولا لمبدأ من مبادئه»[14].

وقد يستحيل التعصّب عصبيّة و«الدّعوة إلى العصبيّة أيًّا كان شكلّها ومظهرها هي الدّاء الدّفين الذي ذهب بوحدة الإسلام»[15]، دخلت الأمّة منذ غلق باب الاجتهاد في دائرة مغلقة تقوم على التقليد والاتّباع وترفض كلّ تفكير وإبداع، وأصبح كلام الرجال لا يقلّ قدسية عن كتاب التنزيل، وانتشرت الفتاوى[16]، وهيمنت على عقول النّاس ووجّهت سلوكهم وجهة مريبة أدّت في أغلب الأحيان إلى التطرّف والغلوّ فيه، واستفادت هذه الفتاوى من ثورة الاتصال في العصر الحديث، إذ هيمنت الفضائيات والمواقع الدينيّة التي تشجّع على التطرّف وتدعو إلى الكره والقطيعة بين المذاهب والأديان والجماعات.

ولا نبالغ اليوم إذا قلنا: إنّ الفضائيات ومواقع الواب تلعب دورًا أساسيًّا في تكريس ثقافة التطرّف الديني وتزكيته، والطريف أنّ الزمن الرّاهن أصبح أكثر تشدّدًا وتطرّفًا وتخلّفًا فكريًّا من العصور الإسلاميّة الأولى، وأصبح قصارى طموحنا اليوم أمام هيمنة التشدّد الدينيّ أن نعود إلى سماحة الإسلام وعدالته وعقلانيته كما كان سائدًا في عصوره الأولى، إذ دعا القرآن إلى الاختلاف واستعمال العقل، واحترام الآخرين مهما كانت معتقداتهم وأفكارهم.

وحينما دخل المسلمون في غياهب التقليد والتراجع الثقافيّ، استبدلوا كلّ ذلك بقيم جديدة تقوم على تعطيل العقل وتحريم التفكير ومحاربة الاختلاف وإقصاء الآخر، وأصبح كلّ من يخالف أقوال هذه الجماعة أو تلك كافرًا زنديقًا يجوز قتله والتشنيع به.

ارتبط التطرّف الدينيّ بالتكفير، ولذلك عرفت عدّة حركات دينيّة بأنّها حركات متطرّفة وحركات تكفيرية، وليس من اليسير تناول مسألة التكفير في هذا المقام المخصوص، فهذا المبحث متداخل ومتعدّد المداخل، وعرف هو بدوره مجموعة من الانزياحات الخطيرة وصلت حدّ تكفير المسلم الملتزم بتعاليم دينه بعلّة التباين في الفكر والطرح.

جدير بالذكر أنّ استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية[17] الصادرة عن الإيسيسكو سنة 2004م نبّهت إلى مخاطر انتشار خطاب التكفير، وأكّدت أنّه لا يوجد «أثر للتكفير أو التفسيق أو التبديع في مذاهب الفقه الإسلاميّة»[18]، ولئن اقترحت استراتيجيّة الإيسيسكو «البحث عن صيغ فكريّة تنتقل بمسائل الخلاف من «خانة الأصول» التي يؤدّي الخلاف حولها إلى «كفر وإيمان» إلى «خانة الفروع» التي معايير الاختلاف فيها هي «الخطأ والصواب» ميدان أساس للتقريب»[19].

فإنّ تشخصيها للعلّة (الأزمة) لم يكن دقيقًا؛ إذ إنّ ثنائية الخطأ والصواب ثنائية سجاليّة بامتياز لا تساعد على تجاوز ثقافة التطرّف، فالاعتقاد بوجود رأي خاطئ وآخر مصيب يجعلنا نتوهّم أنّ الحقّيقة واحدة تكمن عند طرف مخصوص وعلى الطرف الثاني أن يقبلها ويسلّم بدلائلها وحججها.

وهذا ضرب من الوهم والإيهام، فالحقّيقة المطلقة لا يعرفها إلَّا الله، وما اجتهادات البشر إلَّا تمثّلات تحاول أن تصوّر الحقّائق وتيسّر فهم النّاس لها، ولذلك وجب الاختلاف فيها والاعتدال في طرحها.

أدرك المسلمون اليوم فضاعة التطرّف الدينيّ وما ارتبط به من تكفير، وانتابهم فزع وهم يشاهدون على شاشات التلفزيون أشخاص يذبحون بطرق بشعة بعلّة مخالفتهم الإسلام، ونذكّر أنّ الإسيسكو أصدرت من خلال إحدى ندواتها سنة 1996م إنذارًا مخيفًا يحذّر من «طاعون التكفير» المقبل على العالم الإسلاميّ[20].

ولذلك كان لا بدّ من البحث عن حلول عمليّة لتجاوز «محنة التكفير»[21]، فالسّاحة الثقافيّة الإسلاميّة مزروعة بألغام التكفير، وعلى رجل الفكر أن يحسن «تحديد نطاق هذه الألغام الفكريّة – التكفيرية»[22].

ويتطلّب هذا العمل «اعتماد منهاج التدرج في تطبيق خطة إزالة هذه الألغام الفكريّة – التكفيرية من الكتب التراثية، وخاصّة الذي يدرس منها في الحوزات العلميّة والجامعات الإسلاميّة، وذلك بحذفها من الطبعات الجديدة»[23].

ويكاد محمّد عمارة يحصر التكفير في الجانب المعرفيّ التعليميّ، ولذلك دعا إلى مراجعة البرامج الدراسيّة والمحتويات التعليميّة المعتمدة في المدارس الدينيّة السنيّة والشّيعيّة، وهذا المنشود التّقريبيّ مفيد نظرًا إلى تخلّف البرامج التعليميّة المعتمدة وعدم استجابتها لرهانات العصر والتّواصل الإنسانيّ، وإحياء العلوم الإسلاميّة (وخاصّة علم الكلام) دون مراعاة سياقاتها الحضاريّة التي تنزّلت فيها.

إنّ محاولة ضبط سيكولوجيا التكفير ليس أمرًا هيّنًا لأنّ المسألة معقّدة يتقاطع فيها السّياسيّ مع الدّيني، ويتشابك فيها الذّاتي مع الموضوعي، وعلى هذا الأساس فإنّ دراسة ظاهرة التكفير في علاقته بالتطرّف الدينيّ تحتاج مزيدًا من البحث الجدّي والمتعمّق يساهم فيه عالم الدّين والمفكّر وعالم النفس وعالم الاجتماع والأنثروبولوجي وخبراء التربية وأخصائيّو الإعلام والتّواصل...

ولقد لاحظنا أنّ تناول بعض الباحثين المعاصرين[24] لمسألة التكفير في الخطابات المعاصرة، كان تناولًا عاطفيًّا عقديًّا بالأساس لا يقف عند الأسباب الحقّيقية، ويحصرها في بعد مخصوص دون التعمّق في بقية الأبعاد[25].

ولا يمكن إنكار الرّافد السّياسيّ قديمًا وحديثًا لخطاب التكفير لأنّ التكفير يولّد الفرقة، والفرقة قد تدفع النّاس عن التفكير في أمور الحكم والحاكم، ولكنّ من التعسّف أن نحصر المسألة في بعدها السّياسيّ أو الدّيني[26]، بل هي تتجاوز ذلك لتتحوّل إلى مسألة ثقافيّة معقّدة نحتاج من أجل تمثّلها إلى تفكيك بنية المجتمع وتحليل نفسيته، وإخضاعه إلى دراسة إجرائية جادة نرى إرهاصاتها عند بعض المفكرين المعاصرين.

لقد أصبحت الثقافة الإسلامية بعد منع التفكير والاجتهاد ثقافة مأزومة كحال كلّ الثقافات المنغلقة على نفسها، ومن سمات الثقافات المأزومة المبالغة في تقديس الذات، واحتقار الآخرين، والتعصّب لآراء الجماعة ورحالاتها، والنزع نحو استعمال العنف بكلّ أصنافه، وكلّ هذه الصفات تتعلّق بطريقة أو بأخرى بمظاهر التعصّب.

ثانيًا: مظاهر التطرّف

لا يمكن بحال فصل تعريف التطرّف عن بيان مظاهره وتجلّياته، فالأمران متداخلان يُسهمان بطريقة أو بأخرى في إبراز دلالات التطرّف في بعده الديّني، ولنا أن نتساءل في هذا المستوى: كيف يبدو التطرّف؟ وكيف نميّز المتطرّف عن غيره؟ ما معالمه الصريحة والضمنية؟ وما الظواهر الأخرى المتعلّقة به والمتشابكة معه؟

ذكرنا سابقًا أن التطرّف نتاج طبيعيّ لكلّ ثقافة منغلقة ترفض التفكير والتجديد، أنتجت الثقافة الإسلامية القائمة على التقليد فكرًا دينيًّا متطرّفًا يعتقد أنّ طريق الخلاص واحد لا يتعدّد، والحال أنّ الإسلام واحد ومتعدّد، ومن سلك ذلك الطريق ظفر بالإسلام وفاز بالجنة وكان مقرّبًا من الرّسل والصالحين، ومن اتخذ طريقًا آخر وتبنّى طرحًا دينيًّا مخالفًا، فقد ظلّ سواء السبيل وخرج عن الدين، وأبيح ماله وعرضه.

وتصل إلى مسامعنا اليوم صيحات من هنا وهناك تحصر الدين في هذا المذهب أو تلك الجماعة أو ذلك الأمير، وتفرض على الناس ذلك المسلك، ونسيت أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، وأنّ رحمة الله تشمل خلقه كلّهم، فهو الرحيم الرحمن والغفور المنّان.

تعتقد الثقافة المأزومة أنّ الآخر شرّ كلّه، فهو المتآمر دومًا الحاقد دون ملل أو كلل، ولا بدّ أن ندافع عن هويتنا الثقافية والعقدية ضدّ هذا العدوّ الخالد المتربّص بنا.

وعلى هذا الأساس عاشت الثقافات المأزومة أمراضًا عويصة تتعلّق بالذات والآخر في الآن نفسه، إذ صنعت هذه الثقافات لنفسها سياجًا ناريًّا ملغمًا بالحقد والسخط والكراهية، وأوهمت نفسها بتشكيل هوية لها لا تخصّ غيرها، ثمّ صنعت لكلّ مخالف في الدين أو المذهب أو الفكر صورة نمطية سلبية لا تعكس حقيقته ولا تيسّر التواصل معه، فكانت القطيعة وكان وهم التواصل ووهم الهوية.

تنظر الثقافة المتطرّفة إلى الآخر بكلّ أصنافه نظرة خوف وتردّد وتشكّك وتحقير واستهزاء، فصاحب الفكر المتطرّف يعتقد أنّه يمثّل الحقّ كلّ الحقّ وأنّ غيره يمثّل الباطل كلّ الباطل، ولا توجد منطقة وسطى بين الوضعين، ولذلك يصنّف النّاس إلى قسمين: مؤمن وغير مؤمن، فالمؤمن من قبل بأفكار الجماعة وآراء رجالاتها، بينما ينتفي الإيمان عن كلّ من رفض فكر الجماعة وإن كان مسلمًا محسنًا.

وهذا ما رصده بجلاء يوسف القرضاوي في كتابه «ظاهرة الغلوّ في التكفير»، إذ نقل لنا بألم الحال الذي وصل إليه بعض الشباب ممّن يحملون الفكر المتطرّف، فقد وصل بهم الحال إلى «حدّ جعلهم يرفضون الصلاة مع إخوانهم في العقيدة والفكر، وشركائهم في الاضطهاد والمحنة، وأساتذتهم في الدعوة والحركة»[27].

وإذا كان هذا حال المسلم مع أخيه المسلم، فكيف سيكون الأمر مع من لا يلتزم بالدّين أو يعتنق دينًا آخر، ممّا لا شكّ فيه أنّ الأمر سيكون كارثيًّا، وهذا ما رصده العالم بأسره من خلال ما اقترفه من ينتمون إلى ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق من جرائم ضدّ المسيحيين واليزيديين وغيرهم ما أبناء الديانات الأخرى.

ينعكس التطرّف على نفسيه معتنقه، فيظهر عن قصد أو دونه خوفًا مبالغًا فيه من الآخر، ورغبة لا توصف في الانتقام منه، كما يظهر تشدّدًا في مواقفه وألفاظه وسلوكه، ويختار من الألفاظ ما يقزّم الآخر، فيلعن ويفسّق ويبدّع ويكفّر، ويجحد فضائل الآخرين فلا يذكرها أو يستهين بها، وإذا انتقده منتقد وجرّح في كلامه غضب غضبًا شديدًا، وأظهر خشونة في التعامل وفظاظة وأساء الظنّ به واعتبره عدوًّا متآمرًا على الإسلام.

ويعكس هذا السلوك غلوًّا حذّرنا من مخاطره الرسول الأعظم، إذ جاء في حديثه: «يا أيّها الناس، إيّاكم والغلوّ في الدّين، فإنّه أُهلك من كان قبلكم بغلوّ في الدين»، وفسّر ابن منظور الغلوّ في الدّين بأنّه «التشدّد فيه وتجاوز الحدّ»[28].

ويعنى الغلوّ بهذا المعنى أن تجعل من اليسر عسرًا، وأن تحوّل رحمة الدين إلى نقمة، وأن يقترن الدين فالفزع والخوف والكراهية والقتل والتعنيف، بعد أن كان يزرع بذور الأمل والأمن والسعادة والطمأنينة.

كما يعني الغلوّ في التطرّف أن تجعل من الفروع أصولًا، وأن ترشّح فروع الفروع، فتسموا بها إلى مكانة مقدّسة، وتعتمدها فكرًا إسلاميًّا رسميًّا، لا يمكن التشكيك فيه أو التقليل من أهميته، وفي هذا الإطار تندرج هيمنة «العقل الفقهي» في الثقافة الإسلامية، فالفقه علم الفروع، ويقوم أساسًا على الاختلاف والتعدّد، ولكنّه أصبح يمثّل الدّين وينافسه أحيانًا.

وأصبح المؤمنون يتعصّبون للمذهب الفقهي أكثر من تعصّبهم للدين في حدّ ذاته، أسهم هذا الاهتمام بالفروع وفروعها في نشوء التعصّب الدينيّ، وآية ذلك أنّ أصول الدّين ومقاصده الكبرى واضحة ويكاد يتّفق عليها المسلمون كلّهم، لا نبالغ إذا قلنا: إنّ مقاصد الإسلام تعكس قيمًا كونية لا اختلاف فيها، فالإنسان مطلقًا يبحث عن العدل والأمن والحرية، ويرغب في العلم والعمل، ويتوق إلى حفظ النفس والعرض والمال.

وكلّما ابتعدنا عن الأصول والمقاصد التأسيسيّة واهتممنا بالفروع والهوامش فتعصبنا لها، ازددنا اقترابًا من التطرّف الدينيّ، فالتطرّف يترعرع في بيئة فكرية لا أصول فيها ولا قيم، ويزدهر في ثقافة لا تهتمّ بالكونية، وتئد نفسها في منظومة فكرية محلية مخلّقة تستنفر الذاكرات وتتلذّذ بأحاديث العجائب والخرافات.

اقترن التطرّف بمجموعة من الظواهر الأخرى، ارتبطت به، ودلّت عليه، استفادت منه وأثّرت فيه، وأصبحت جزءًا منه، ارتبط التطرّف بالتعصّب والعنف والإرهاب والجهل والظلم، فالتعصّب لغة «المحاماة والمدافعة»[29] بمعنى «أن يدعو الرّجل إلى نصرة عصبيّته»[30].

ولا يعكس هذا المعنى اللغوي حقيقة الظاهرة التي ترتبط بالتطرّف، فالتعصّب للدين والدفاع عنه أمر طبيعيّ في عرف الأديان والحضارات، فـ{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[31].

وذهب الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية مذهبًا طريفًا جاء فيه: «الفرح: الرضا والابتهاج، وهذه حالة ذميمة من أحوال أهل الشرك، يراد تحذير المسلمين من الوقوع في مثلها، فإذا اختلفوا في أمور الدين الاختلاف الذي يقتضيه اختلاف الاجتهاد، أو اختلفوا في الآراء والسياسات لاختلاف العوائد، فليحذروا أن يجرّهم ذلك الاختلاف إلى أن يكونوا شيعًا متعادين متفرّقين يلعن بعضهم بعضاً ويُذيق بعضهم بأس بعض»[32].

تُخفي هذه الآية الكريمة عبرة، مفادها أنّ التعصّب للفكرة ورفض آراء الآخرين مطلقًا، يؤدّي إلى دمار الجماعات وانقراضها، فالتعصّب بهذا المعنى يحجب الرؤية أمام المؤمنين، ويمنعهم من النظر إلى الآخرين والتعرّف عليهم والتواصل معهم، إذ «يميل المتعصّب إلى العنف وتتّسم شخصيته بالعدوان وعدم تقبّل العزلة الاجتماعيّة»[33].

ويبدو من المفيد فهم ظاهرة التعصّب من زاوية نفسية فردية وجماعية، فالثقافات المأزومة تنتج نفسيات مصدومة وغير سوية، فالتعصّب وضع غير طبيعي يتناقض مع العقل وخياراته الكبرى، ولذلك كلّ الثقافات تنتقد التعصّب، لأنّه يؤدّي بالضرورة إلى التطرّف والغلوّ.

ويبدو أنّ هناك علاقة بين التعصّب والمرض العقلي، فالمريض ببعض الاضطرابات العقلية، قد ينمو لديه اتجاه تعصّبيّ كتبرير لسلوكه المرضي، فالتعصّب مرض، ومن السهل أن يقع صاحبه بين براثن الأيديولوجيات العنيفة التي تنزع إلى الكراهية والقتل[34].

وهكذا ندرك أنّ التعصّب أحد أبرز مظاهر التطرّف الدينيّ، والغلوّ في التعصّب يجعل المتطرّف نارًا حاقدة تحرق الجميع بدون استثناء ولا تأبه بالحياة.

وإذا كان التحمّس للفكر الدينيّ والتعصّب لرجالاته لا يتجاوز حيّز الفكر، فإنّ السيطرة على التطرّف ما زالت ممكنة، فالأفكار المريضة يمكن معالجتها بالفكر والوعي والثقافة البنّاءة، ولكنّ المشكلة تكمن في تحوّل الأفكار المريضة إلى ممارسات غير مسؤولة، ترعب الناس، وتدمّر البلدان، وتفسد طعم الحياة، عندها يستحيل التطرّف إرهابًا وعنفًا، وتتحوّل الأفكار إلى دماء وأحزان، ويصبح الدّين مصدر رعب بعد أن كان رمز الأمن والحياة.

ومن العبث أن نعتقد أنّ العنف سلوك فرديّ شخصّي لا علاقة له بثقافة الجماعة، فالعنف «تراث اجتماعيّ، يتلقنه كلّ مجتمع وينقله وينشره»[35]، فالعنف ليس أفعالًا فحسب، بل هو أساسًا خطاب يؤدّي إلى أفعال، هو أقوال فعلية كما يسمّيها اللسانيون.

وهذا يعني أنّ التطرّف خطاب قبل كلّ شيء، يمكن رصده في الخطاب الديني فوق المنابر وفي الفضائيات الدينية، كما يمكن رصد خطاب التطرّف في الخطابات السياسيّة والنصوص الصحفية والبرامج الإذاعيّة السمعية البصرية والبرامج الدراسية والإبداعات الفنية...

فالتطرّف الدينيّ ليس مجرّد موقف عدائي تجاه دين أو فكر أو شخص، بل هو صرح ثقافيّ تتآزر عدّة عوامل في بنائه وتوجيهه الوجهة المنشودة، وهذا يعني أنّ ظاهرة التطرّف ظاهرة مركّبة لا يمكن فهمها وحلّ ألغازها إلَّا من خلال عدّة مداخل.

ركّز القرآن الكريم على مبدأ «التعارف» باعتباره أسّ الحضارات وأساس التواصل بينها، ولكنّ المسلمين استبدلوا في عصور الانحطاط ثقافة التعارف بطبقات مظلمة من الجهل والتجاهل والتجهيل، إذ عاش المسلمون قرنًا من الزمن في عزلة، لا تعرف طوائف بعضها بعضًا، ولا تتواصل فيما بينها، وساد التطارح والتناظر، وانتشرت الفتن والحروب، وتشتّت المسلمون حتّى أصبحوا لقمة سائغة في فم الاستعمار، وعانت الذل والقهر بسبب تشتُّتها وجهل أهلها.

ولذلك اعتبرنا التطرّف مسألة ثقافية معرفية بامتياز، ولا يمكن أن نهمل البعد السياسي في بناء ثقافة التطرف والتعصّب، ومردّ ذلك أنّ «الصلة بين التعصّب الثقافيّ الأعمى والطغيان السياسيّ يمكن أن تكون وثيقة جدًّا، وعدم تماثل القوّة بين الحاكم والمحكوم»[36].

ونجد أنفسنا نتحدّث بالضرورة عن خلفيات التطرّف الدينيّ، وأساس الخلفيات السياسيّة، وندرك من خلال قراءة التاريخ الإسلاميّ بمختلف حقباته دور رجال السياسة في تشويه معالم الثقافة الإسلاميّة وتوجيهها وجهة جديدة تقوم على الغلوّ والتعصّب والعنف. استطاع السّاسة أن يكرّسوا الجهل وينشروا الخرافات ويفتّنوا بين النّاس، وعمّ الاستبداد والقهر، فزاد تذمّر النّاس وسخطهم.

وجدير بالذّكر أنّ التطرّف ما زال ينشط في أغلب أرجاء العالم الإسلاميّ، على مستوى الفكر دون الممارسة، فباستثناء بعض الممارسات الإرهابية في بعض الدول العربية فإنّ التطرّف ما زال فكرة، ولذلك من الخطأ أن نقتصر في محاربتنا التطرّف الفكريّ على القوّة والقمع، «لأنّ الفكرة لا تقاوم إلاّ بالفكرة... واستخدام العنف في مقاومتها لا يزيدها إلًّا توسّعًا»[37].

وهنا يتنزّل دور علماء الدين والباحثين الجامعيين والأخصّائيين النفسيين في دراسة ظاهرة التطرّف، وتذليل الصعوبات المتعلقة بها.

ثالثًا: من ثقافة التطرّف إلى ثقافة الاعتدال: مراجعات

من المفيد أن نراجع أنفسنا ونسائل ذواتنا ونمحص ثقافتنا التي توجّه سلوكنا وتشكّل تصوّراتنا وتمثّلاتنا، لا ننكر وجود تطرّف دينيّ في كلّ أرجاء المعمورة وخاصّة في دول العالم الإسلاميّ.

ونستطيع أن نتابع مظاهر هذا التطرّف وأشكاله من خلال الفتن القائمة هنا وهناك، وحروب الكلامية التي نرصدها في وسائل الإعلام ومنابر السياسة، ولكنّ المشكلة لا تكمن حسب رأيي في الممارسات الناتجة على التطرّف -على خطورتها- فحسب، تكمن الخطورة الأعظم في المنظومة الثقافية التي تنتج التعصّب وتبرز التطرّف بكلّ أصنافه، وتبرّره تبريرًا دينيًّا من خلال تأويل النصوص وتطويعها.

نحارب التطرّف ونحافظ على الثقافة التي تحتضنه وترعاه، نحذّر الناس وأنفسنا من أهل التطرّف، وما زلنا نمنع التفكير ورفض الآخر، ونتغنّى بفرقة ناجية وملّة فائزة تظفر بالخلاص والنجاة دون بقية الخلق، ننتقد التطرّف ومازلنا نحافظ على فكر دينيّ مشوّه يحقّر المخالف ويتَّهمه بالكفر، ويخصّ قومًا برحمة الله ولطفه دون بقية الخلق.

ولا ندّعي في هذا العمل المقتضب أن نقدّم ثقافة بديلة، وهذا عمل أنجزه غيرنا من روّاد الإصلاح والفكر المستنير في العصر الحديث، ولكن قصارى جهدنا أن نقترح مجموعة من المداخل تتعلّق بضرورة التحرّر من وهم المركزية العقدية والإقرار بمشروعية الاختلاف، ووجوبه دون شروط أو قيود.

كما تتعلّق هذه المداخل بسيادة الحرية ورفع شعار «لا إكراه في الدّين» باعتبار أنّ الإسلام واحد ومتعدّد في آن على مستوى المدارس الفكرية، نختم هذه المداخل الإصلاحية بحديثنا عن المنظّمات التي تعنى بالثقافة وأهمية تفعيل دورها.

1- ضرورة التحرّر من وهم المركزية العقدية

انتقد القرآن ظاهرة الاستعلاء الديني، ووهم امتلاك الحقيقة المطلقة دون بقية الخلق، فالحقيقة لها عدّة وجوه، تعكس كلّها رحمة الله ولطفه وهذا المعنى تؤكّده الآية الكريمة {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[38].

إنّ ثقافة الاعتدال تقوم أساسًا على قناعة مفادها أنّ تصوّراتنا كما هو حال تصوّرات غيرنا صحيحة ولكنّها تحتمل الخطأ. وهذا السلوك الثقافي لا بدّ أن يرتبط بالتربية في كلّ مستوياتها إذ علينا أن نربّي النّاشئة على عدم التعصّب والاعتراف بالخطأ واحترام آراء الآخرين والأخذ بها عند اللّزوم. ولذلك عمل الوحي الإسلامي على تربية الرّسول على الحكمة والاعتدال فخاطبه: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين}[39].

وتؤسّس هذه الآية لثقافة الحوار من منظور إسلاميّ، فالحوار الناضج والمسؤول لا بدّ أن يعتمد «الحكمة» بما هي علم تتّفق كلّ الثقافات على منهجه وصرامة أدائه، كما تتسلّح الحكمة بحسن النية والنصيحة الصادقة القائمة على المحبّة.

نجد اهتمامًا كبيرًا اليوم بالحوار الدينيّ والمذهبي، وتنفق في سبيله أموال طائلة، وتعقد من أجله ندوات ومؤتمرات وملتقيات، ولكن لا فائدة من حوار لا يحقّق سعادة الإنسان ولا ينفع البشر ولا ينقص من وتيرة التعصّب والتطرّف.

وهذه يعني أنّ التشدّد والتعصّب والتهكّم يؤدّي حتما إلى القطيعة ويولّد البغض والخصام ولذلك نبّه القرآن الرسول {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[40].

2- مشروعية الاختلاف وحق المؤمن في التفكير

يعتبر القرآن الاختلاف حقيقة إنسانية وحاجة طبيعية، لا يمكن قمعها أو تجاهلها، وعلى هذا الأساس خلق الله البشر في ألسن وثقافات وجنسيات مختلفة، وفي هذا الإطار تتنزّل دعوة القرآن {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[41].

ولذلك بيّن القرآن أنّ الإنسان أدرك منذ أن أوجده الله على وجه الأرض، أهمية الحوار مع الآخرين من أبناء الملّة الإسلامية أو غيرهم من أتباع الملل الأخرى إذ {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ}[42].

ونستنتج من خلال هذه الآية القرآنية أنّ البشر وإن اختلفت معتقداتهم وثقافاتهم ومذاهبهم، فإنهم متقاربون في الأسس الرمزية والقيم الإنسانية النبيلة.

وهذا يعني أنّ مشروعية التواصل بين المجموعات الإسلامية المتعدّدة، تكمن أساسًا في تجاوز ثقافة التطرّف والإقصاء البحث عن القيم الدينية الأصيلة التي أرسلها الله رحمة للعباد، فهجرها البعض تشبُّثًا بالفروع وربّما بفروع الفروع، فالمنشود الثقافي الذي نبتغيه يكمن في البحث في الأصول المغيّبة والرّجوع إلى ينابيع الدّين الأصيلة.

وهذا يعني أنّ الاختلاف في المذهب والرأي والموقف لا يلغي الوحدة بين المسلمين، بل ربّما يدعّمها إذ إنّ اختلاف المسلمين في توحّدهم، وتوحّدهم في اختلافهم، ولذلك اعتبر القرآن الاختلاف آية من آيات الخالق، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ}[43].

وإذا كان القرآن قد أقرّ بأنّه {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}[44] فإنّه لا مبرّر أن نرفض حق الاختلاف، وأن نصرّ على امتلاك الحقيقة الدينية دون غيرنا من المنظومات والمقاربات {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[45].

ولذلك خلقهم الله متباينين في رؤاهم وتصوّراتهم، وهو ما يجسّده نصّ الآية الكريمة {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[46].

إنّ تأكيد القرآن على مشروعية الاختلاف ووجوبه، باعتباره سنّة من سنن الكون، وآية من آيات الخالق، جعل من مقولة الحقيقة الدينية المطلقة مقولة هشّة لا تستجيب لخطاب القرآن، ولا تعكس تاريخية المعتقدات الدينية ونسبيّتها.

وعلى هذا الأساس بيّن القرآن أنّ الحقيقة المطلقة لا يعلمها إلَّا الله، وعلى الإنسان أن يجتهد في تمثّل هذه الحقيقة بحسب وضعه التاريخي وسياقه الثقاف، ولا يقدر على حسم هذه الاختلافات غير الله فهو فقط من يحكم بين المختلفين من بعد اختلافهم[47].

هذا التأكيد على نسبية الحقيقة الدينية ومشروعية الاختلاف، قابله على مستوى التطبيق والتشريع حصر للحقيقة في فكر واحد، ووصاية مارسها بعض المفسّرين والفقهاء والأصوليين والمتكلّمين والسّاسة فأصبح كلّ {حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[48]، بل أصبح الانتماء إلى المذهب في بعض مراحل التاريخ الإسلامي أقوى أنواع الانتماء وأقدسها، ممّا نتج عنه صراعات دامية وفتن أضرّت بالخلق والعمران بحسب الاصطلاح الخلدوني.

3- «لا إكراه في الدّين» وسيادة الحريات

أكّدت الثقافة الإسلامية الأصيلة حرّية المعتقد، ولذلك كان بيان القرآن واضحًا «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...}[49].

وهذا يعني أن الله لم يجرِ «أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار»[50].

ولئن حاول بعض المفسّرين والأصوليين والفقهاء إثبات نسخ[51] هذه الآية بآية بديلة لها تدعو إلى الجهاد والقتال، فإنّ دعوة القرآن إلى احترام معتقدات الغير وعدم إلزامهم بتغيير معتقداتهم تظلّ ثابتة في آي القرآن.

ولقد قرأ محمد السمّاك هذه الآية قراءة طريفة ذهب فيها أنّ «الـ«لا» هنا نافية وليست ناهية، أي إنّها لا تعني لا تكرهوا في الدّين ولكنّها تعني لا يكون أصلًا بالإكراه»[52].

واستجابة لهذا الخيار القرآني، تمّ تحديد مهام النبيّ وضبطت مجالات تدخّله، فالرّسول غير معنيّ بهداية الخلق وإدخالهم إلى الحق {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن}[53].

وحدّدت مهمّة الرّسول محمّد K في الدعوة والتبليغ والتذكير بتجارب الأوّلين وعلى الله الجزاء والحساب والمصير، وهذا ما تؤكده عدّة آيات[54] من قبيل {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}[55].

ولقد أكّد القرآن في أكثر من موضع ضرورة الاختلاف والتباين بين البشر، كما بيّن الوحي أنّ الله لا يرغب في المماثلة بين كلّ الناس {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}[56].

ونلاحظ أنّ الوحي القرآني خاطب الرسول في أسلوب استنكاري ينتقد الإكراه ويؤكّد أن {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. ولا نبالغ إذا اعتبرنا الإكراه في الدين تحريفًا للوحي الإسلامي وجهلًا بحقيقة الله ومقاصده من خلق الخلق، وهذا ما عبّر عنه القرآن في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[57].

وهكذا نلاحظ أنّ القرآن أكّد على حرية المعتقد وأنكر على الرسول وغيره من المؤمنين الإكراه في الدين وفرض الأفكار الدينية المخصوصة على الآخرين، ولكنّ هذه المعاني الإنسانية كادت تختفي لأنّ القرآن لا يتكلّم بل نطق به الرجال كما يقول الإمام علي بن أبي طالب، فحرّفوا وغيّروا وأوّلوا آي القرآن تأويلات غريبة وعجيبة تدعو إلى الكراهية والعنف[58].

واستعماله ضدّ المخالف وإن كان مؤمنًا مسلمًا، وهمّشوا آيات الحِلم والتسامح بما هي آيات تنفتح على مشاغل الإنسان في تعدّده وإطلاقيته.

4- الرّفق مناعة ضدّ التطرّف

أكّد القرآن على مسألة الرّفق إلى درجة تشدّ الانتباه وتثير في الباحث الفضول والتساؤل، ولعلّ المدخل اللّغوي المعجمي ييسّر لنا تمثّل هذا الحضور إذ إنّ «أصل الرفق في اللغة هو النفع، ومنه قولهم: أرفق فلان فلاناً إذا مكّنه مما يرتفق به، ورفيق الرجل: من ينتفع بصحبته، ومرافق البيت: المواضع التي ينتفع بها، ونحو ذلك»[59].

ولعلّ التأكيد على الرفق في المعاملات بين البشر بما في ذلك المسلمين أفرادًا وجماعات، يرجّح مقولة المصلحة بما هي منفعة الناس ومقصد التشريع.

وعلى هذا الأساس اعتبر القرآن الرفق خيارًا استراتيجيًّا ومحورًا أساسيًّا في العلاقات الإسلامية – الإسلامية، وفي هذا الإطار تندرج مخاطبة الوحي الرسول {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ}[60].

فاقترنت في هذه الآية الرحمة بالعفو والاستغفار والشورى لتؤسّس لنمط من العلاقات يقوم أساسًا على احترام الآخر وتقديره وخفض الجناح[61] بما هو «كناية عن اللين والرفق والتواضع»[62] والصّفح[63] عنه إن أخطأ أو زلّ.

ولقد ربط القرآن هذه المفاهيم التأسيسية بمفهوم آخر محوريّ يتعلّق بالتذلّل ويذكّرنا بتذلّل المحبّ أمام محبوبه، وعلى هذا الأساس خاطب القرآن المؤمنين محذّرًا إيّاهم من الارتداد عن الدين متوعّدًا بتبديلهم بقوم {أذِلَّةٍ على المؤمِنين أعِزَّةٍ على الكَافِرينَ}[64].

وقد بحثنا في فهم بعض المفسرين لمقصد الوحي بأذلّة فإذا هي عند البغوي تعني «أرقّاء رحماء»[65]، وعند ابن عطية «معناه متذلّلين من قبل أنفسهم غير متكبرين}[66]، أمّا ابن الجوزي فقد نقل لنا تفسيري الإمام عليّ بن أبي طالب والزجاج إذ ذهب الإمام عليّ إلى أنّ الآية تصف المسلمين بأنّهم «أهل رِقَّة على أهل دينهم»، بينما يذهب الثاني بأنّ «جانبهم ليّن على المؤمنين»، وهذه المعاني ذاتها نجدها عند غيرهم من المفسرين[67].

وممّا لا شكّ فيه فإنّ التركيز على الرّفق والتسامح والحلم والتّضامن والتآزر بين المسلمين مهما كانت مذاهبهم وأفكارهم سيقرّبهم أكثر من بعضهم، ويجعلهم أكثر انفتاحًا على الآخر، هذه القيم التقريبية في حقيقتها قيم إنسانية عامّة، بتحقّقها يتراجع الصراع العقدي والحضاري وتخفت أصوات التكفير والتبديع وخطابات أهل الغلوّ والتعصّب والتطرّف.

خاتمة

ندرك من خلال هذه الجولة الثقافية خطورة ما وقع من انزياحات في الحضارة الإسلاميّة، فالمركزية العقديّة أصبحت أساس تفكير الجماعات الدينيّة، وأصبح التطرّف الدّينيّ يعكس نظرة إقصائيّة وتقزيميّة للآخرين، وأصبح الحديث عن الاختلاف يثير الشبهات، ويغضب عددًا كبيرًا من المحافظين، فهم يعتقدون أنّ وحدة المسلمين تكمن في توحيد مواقفهم وأطروحاتهم وآرائهم الفقهية والكلاميّة، والطرق إلى الله مضبوطة ومحدّدة من حاد عنها حاد عن الصّراط المستقيم، ويجب مخاصمته وتفسيقه وربما تبديعه وتكفيره.

وفي ظلّ هذه الثقافة الحاقدة ينشأ التطرّف ويترعرع، ولكنّنا على يقين بأنّ التطرّف عمومًا والتطرّف الدينيّ بصفة أخصّ، لن يدوم وإن أظهر قوّة وبأسًا، فالتطرّف حدث عرضيّ يناقض طبيعة الإنسان ويعارض تعاليم الأديان على اختلافها وتباينها، فالإنسان اجتماعيّ بطبعه، والعمران يقتضي اعتدالًا في الفكر والسلوك.

ولذلك حارب الإسلام التطرّف والغلوّ، ورأى في هذا السلوك خراب للعمران، فمتى يستفيق المسلمون من سباتهم العميق؟ ومتى تتحرّر الثقافة الإسلامية من شوائبها؟ ومتى تختفي ثقافة التطرّف وذهنية الإقصاء لتسود قيم الإسلام السمحة الدّاعية دومًا إلى الرفق والتسامح والاعتدال.

 


 

 



[1] مصطفى ملص، قراءة في واقع ظاهرة التطرّف وفي كيفية التعاطي معها، رسالة التقريب، العدد 83، ص 32.

[2] أمارتيا صن، الهوية والعنف، ترجمة: سحر توفيق، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة كتاب عالم المعرفة، العدد 352، يوليو 2008، ص 18.

[3] المرجع نفسه، ص 11.

[4] محمّد السويدي، مفاهيم علم الاجتماع الثقافي ومصطلحاته، الدار التونسية للكتاب، تونس، 1991، ص136.

[5] نقصد بذلك وضع الحواشي والهوامش.

[6] محمد السويدي، مصدر سابق، ص136.

[7] انظر: عمر بن حمادي، حول حديث افتراق الأمّة إلى بضع وسبعين فرقة، كراسات تونسيّة، مجلد 24، عدد 115-116، ثلاثيّة 1-2، سنة 1981، ص ص 287-358.

[8] «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنّة وسبعون في النّار، وافترقت النّصّارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النّار وواحدة في الجنّة، والذي نفس محمّد بيده لتفترقنّ أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنّة واثنتان وسبعون في النّار»، أخرجه: أبو عبدالله محمّد بن ماجه، السنن، كتاب الفتن، باب افتراق الأمّة، حديث رقم 3992، دار إحياء التراث العربي، [د.ت]، ج2، ص 1322.

[9] يقول محمّد أبو زهرة: «ولقد حفظ التّاريخ من أثر ذلك في الماضي ما قوّض شمل الإسلام وجعل بأس المؤمنين بينهم شديدًا، حتى لقد وجدنا المذابح تقام بين فريقين، لأنّ كلتيهما تعتقد أنّ الأخرى على ضلال، ولقد حدث والتتار غير المسلمين يدقّون أسوار بغداد دقًّا ويذبحون المسلمين على طريقتهم.... والمذابح بين السنيين والشّيعيّين حتى لقد ذكر المؤرخون في ذلك أقوالًا وأقاويل»، محمّد أبو زهرة، الوحدة الإسلاميّة، رسالة الإسلام، العدد 38، ص 139.

[10] عبد المتعال الصعيدي، التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة ودراسة علم التوحيد، رسالة الإسلام، العدد 11، ص 312.

[11] يوسف القرضاوي، مبادئ أساسيّة فكرية وعملية في التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة، إيسيسكو 1996، ص 170.

[12] يوسف القرضاوي، المصدر نفسه، ص 171.

[13] إسماعيل الدفتار، حديث افتراق الأمّة في ميزان القبول والردّ، مؤتمر الدوحة لحوار الأديان، الدوحة، 21-22 يناير 2007م.

[14] محمّد جواد مغنية، الفرق بين الدّين والمذهب، رسالة الإسلام، السنة 8، العدد 1/29، يناير 1956، جمادي الآخرة، 1375، ص 50.

[15] محمّد أبو زهره، المجتمع القرآني، رسالة الإسلام، العدد 31، ذو الحجة 1375هـ، يوليو 1956، ص 248.

[16] درسنا دور الفتاوى في صناعة التطرّف في مقالنا: علي بن مبارك، دور الإفتاء في التقريب بين المذاهب الإسلامية، مجلة الحياة، جمعية التراث، غرداية الجزائر، العدد 18، جويلية 2014، ص ص 38-52.

[17] تعرضنا إلى هذه الاستراتيجية في كتابنا: علي بن مبارك، الحوار التقريبي بين المذاهب الإسلامية: التجارب والإشكاليات والآفاق، الرباط: مؤمنون بلا حدود للدراسات والبحوث، 2017، ص ص 131-140.

[18] أعمال «استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلاميّة»، الرباط: منشورات المنظمة الإسلاميّة للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، 2004، ص 21.

[19] الإيسيسكو 2004، المصدر نفسه، ص 21.

[20] المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالرباط، أبحاث الندوة الثانية: التّقريب بين المذاهب الإسلامية، من 27 إلى 29 أغسطس 1996، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، 1997، ص 192

[21] محمّد عمارة، التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة رأي وتعقيب، رسالة التّقريب، العدد 36، ص ص 285-296.

واعتبر محمّد عمارة التكفير لغمًا مغروسًا في جسد الأمّة الإسلاميّة يمكن له أن يتفجّر في كلّ حين وكلّما سنحت الظروف بذلك، وعلى هذا الأساس اعتبر عمارة التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة عمليّة نزع للألغام الفكريّة – التكفيرية «التي تقصم وحدة الأمة بالتكفير لفريق من الفرقاء أو مذهب من المذاهب، لأن التكفير هو نفي للآخر، يقصم وحدة الأمة.. وهو خطر لا علاقة به بالفقه، الذي هو علم الفروع، ولا بالاجتهادات والأختلافات الفقهيّة، التي هي ظاهرة صحية، تثمر الغنى والثراء في الأحكام، واليسر والسعة للأمة كلها في تطبيق هذه الأحكام» محمّد عمارة، المصدر نفسه، ص 293.

[22] محمّد عمارة، المصدر نفسه، ص 294.

[23] محمّد عمارة، المصدر نفسه، ص 294.

[24] انظر على سبيل المثال: محمّد عبد الحكيم حامد، أئمة التكفير: ظاهرة التكفير في العصر الحاضر أصولها الفكريّة وطرق العلاج، القاهرة: دار الفاروق للنشر والتوزيع.

[25] من ذلك ما ذهب إليه يوسف القرضاوي في كتابه «ظاهرة الغلوّ في التكفير» إذ حصر السبب الرئيسي لظاهرة الغلوّ في التكفير تكمن في معاملة الحكومات القاسية والعنيفة للشباب المسلم، عابدين، مصر: طبعة مكتبة وهبة، 1990.

[26] يمكن الاستفادة من كتاب «التكفير بين الدّين والسّياسة» لمحمّد يونس، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 1999 (سلسلة مبادرات فكرية).

[27] يوسف القرضاوي، ظاهرة الغلوّ في التكفير، مرجع سابق، ص ص 3-4.

[28] ابن منظور(جمال الدّين محمد بن مكرم)، لسان اللّسان: تهذيب لسان العرب، بيروت: دار الكتب العلمية، 1993، ج2، ص 279.

[29] ابن منظور، المرجع نفسه، ص 181.

[30] ابن منظور، المرجع نفسه، ج2، ص180.

[31] الروم: 32.

[32] انظر تفسيره في موقع التفاسير: www.altafsir.com

[33] حامد عبد السلام زهران، علم النفس الاجتماعي، القاهرة: عالم الكتب، 1984، ص 189.

[34] رتشارد مكلفين، مدخل إلى علم النفس الاجتماعي، ، ترجمة: ياسمين حداد، موفق الحمداني، فارس الحلمي، عمّان: دار وائل للطباعة والنشر، 2002، ص256.

[35] مجموعة مؤلفين، المجتمع والعنف ، ترجمة: الياس زحلاوي وأنطوان مقدسي، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1993، ص 84.

[36] أمارتيا صن، مرجع سابق، ص 111.

[37] يوسف القرضاوي، مرجع سابق، ص 21.

[38] سورة سبأ: 24.

[39] سورة النحل: 125.

[40] سورة آل العمران: 159.

[41] سورة الحجرات: 13.

[42] سورة البقرة: 213.

[43] سورة الروم: 22.

[44] سورة البقرة: 148.

[45] سورة هود: 118.

[46] سورة المائدة: 48.

[47] وهذا ما تؤكّده الآيات التالية:

- سورة آل عمران: 55 {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

- سورة المائدة: 48 {إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

- سورة الأنعام: 164 {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

- سورة الحجّ: 69 {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

[48] سورة المؤمنون: 53.

[49] سورة البقرة: 256.

[50] حسب تفسير الزمخشري (ت 538 هـ) «الكشاف» عن موقع http://www.altafsir.com/Tafasir

[51] قالوا بأنّها منسوخة «لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أكره العرب على دين الإسلام، وقاتلهم، ولم يرضَ منهم إلَّا بالإسلام، والناسخ لها قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ} عن تفسير الشوكاني (ت 1250هـ/ 1834) «فتح القدير» (ن، الموقع).

[52] محمد السماك، مقدمة إلى الحوار الإسلامي المسيحي، بيروت: دار النفائس، 1998، ط1، ص 13-14.

[53] سورة الكهف: 29.

[54] كذلك يمكن أن نستدلّ بالآية 20 من سورة آل عمران {... فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، والآية 117 من سورة «المؤمنون»: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، والآية 107 من سورة الأنعام: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ...}.

[55] سورة الرعد: 40.

[56] سورة يونس: 99.

[57] سورة الأنعام: 35.

[58] يمكن الاستفادة في هذا الإطار من مداخلة عبد المجيد الشرفي «الإسلام و العنف» في الملتقى الإسلامي المسيحي الأوّل (ص187-206)، وكتاب محمد الحداد، الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح، بيروت: دار الطليعة، 2006.

[59] محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، 2005، ص251.

[60] سورة آل عمران: 159.

[61] سورة القلم: 4 {واخفِضْ جَنَاحَكَ للمُؤمنِينَ}.

[62] تفسير الرازي: عن موقع www.altafsir.com

[63] سورة الحجر: 85 {فاصفَحِ الصّفحَ الجَمِيل}.

[64] سورة المائدة: 54.

[65] البغوي (ت 516هـ)، تفسير معالم التنزيل www.altafsir.com

[66] ابن عطية (ت 546هـ)، تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: www.altafsir.com

[67] من قبيل: الطوسي (ت 460هـ/ 1067) في «تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن» ابن عبد السلام (ت 660هـ) في تفسيره، والنسفي (ت 710هـ) في «تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل»، وغيرهم...