شعار الموقع

سمت النص الصوفي

عبدالقادر فيدوح 2019-05-19
عدد القراءات « 963 »

سَمْتُ النص الصوفي

من بلاغة الصورة إلى شعرية السِّمة

الدكتور عبد القادر فيدوح*

 

* كلية الآداب، جامعة قطر، من الجزائر. البريد الإلكتروني: afidouh@hotmail.com

 

 

 

أولًا: مبلغ المطلوب في سَمْتِ النص ونوعه

1- تباريق تجلّي المطلوب

تبدو القصيدة المعاصرة في تحدِّيها الواقع، عبارة عن إشارات دالة، بوصفها علامة تدفع بالمتلقي إلى خلق دلالات متجدِّدة بتجدُّد مؤولها؛ لأن من أحد مكونات الشعر العاصر استبدال الرؤيا بالصور البيانية؛ بالنظر إلى أن رؤيا الخلق الإبداعي تستمد طاقتها من اكتناه عالم اللغة والفكر، رغبة في اكتشاف جوهر العالم بعد استبطان مضمرات جزئياته وكلياته، بعيدًا عن النسق الدارج بمرجعياته المستنفدة.

وإذا كانت الرؤيا الشعرية المعاصرة تتجاوز التصوير بالمجاز والاستعارات؛ فلأن عالم اليوم بات يتخفَّى وراء الكلمات إلى أن أصبح المعنى فيه ملغزًا، وإسقاطه من دائرة المنطق، بعد أن تفكّكت المفاهيم والقيم؛ الأمر الذي غيَّب المعنى الحقيقي؛ الأمر الذي جعل الوعي -برمته بما فيه الإبداع- غير قادر على الفهم، وهو ما أطلقنا عليه في كتابنا (دلائلية النص الأدبي) بـ«القصيدة السمة»؛ أي بتحويل الرؤيا الشعرية من «الصورة» إلى «السمة»؛ حين انتقلت القصيدة في نظرنا من النمطية المشار إليها في المرجعية الإبداعية في قصيدة الصورة، بمحمولاتها الدلالية، إلى القصيدة السِّمة التي تقوم بالكشف عن أنظمة العلامات، وهي أنظمة قوامها الإبانة عن الجنوح الذي تمارسه الذات، وتسهم في تشكيل المعنى عبر القيمة الدلالية المرتبطة بالكلمة التي تستمد شرعية سماتها من العبارة اللغوية، أو البياض الباني.

ولقد أصبح الفكر البشري مع بداية الألفية الثالثة يتيح لحركيته أن يتفرّد بالنزعة الذاتية في تنظيم عالمه المستقل، ولعل الاستقلالية المقصودة هنا «هو توسّع النشاط غير المشروط في حدوده اللامتناهية والمرنة لرؤيته المعرفية والسلوكية».

ومن هنا سادت السِّمة الأساسية التي تُميِّز الفكر الإنساني في توجُّه الممارسة التلقائية، ضمن توحّدها مع جميع حساسية المناهج، وهو ما يتيح للنص الأدبي -كغيره من المعارف الأخرى- أن يتشعَّب، انطلاقًا من فكرة «خلية النص الرحمية».

ولذلك فإن هوى حلم الإنسان المعاصر تقمَّص محاولة الهرب من المشهد الخارجي البهيج، والدخول في عالم ملكوت الفيض الداخلي، إلى حيث عالم الممكن في لا محدودية رغباته، والتطلُّع إلى ما وراء حدوده المعرفية بتكسير كل المنهجيات في إجراءاتها الرتيبة، والتي كان من شأنها أن غربت كيان الذات المستشرفة على ما تتوق إليه في عالمها المثالي الذي أقصيت منه.

والنص في مكوّناته، كانت تحكمه روابط سببية وفق نظام اجتماعي ينبغي احترامه، وشيء طبيعي أن يكون التفكير عمومًا يصبّ في صيرورة الموضوعات الخارجية في صورتها الشكلية، ما دام القانون العرفي ثابتًا، لذلك كانت حدوده ضاربة في مسار نمط القواعد التقليدية.

غير أن مدلولات واقع سيمياء النص ترفض هذه الرؤية الخارجية بحكم اعتمادها التصوّر المتحزِّب للفكر. وهو ما تؤكّده بنية تطوّر الطبيعة البشرية التي خوّلت للإنسان دوره الفعّال في الإبداع الذي يشترط فيه توافر حرية التخيّل، بالقدر الذي تنتج من خلاله أساليب تتعارض مع السائد المقيّد بقانون السبب والنتيجة؛ لذلك لم يعد للدراسات الأدبية بمفاهيمها القديمة تلك الرؤية المرشدة في صياغة التراكيب الأسلوبية؛ لأن الأمر على النحو الذي بقيت عليه القصيدة الصورة شأوًا بعيدًا أظهر عجزه في حقل المناحي المعرفية التي تأثّرت هي الأخرى بالدورات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية.

وهو ما جعل هذه المفاهيم آخذة في الزوال، أو في تطوّر مستمر، تبعًا لتعقيدات روح العصر، من منظور أن المجتمع اليوم كيان متشابك العلاقات ومتداخل الأجزاء، ولعل هذا ما جعل نسيج المجتمعات الحديثة تفقد الروابط والقيم الانضباطية، وحتى مركز الجماعة الذي كان يُسيِّر الضمير الجمعي لم يعد له ذلك التوجُّه الرقيب على سلوك الناس في واقعنا المعاصر، وهو المآل الذي أدَّى إلى تنوُّع في العضوية التي ينتمي إليها كل فرد تبعًا للتغيُّرات الطارئة على المجتمعات.

ولذلك، تزايدت حرية الإنسان من خلال إثبات شخصيته، التي كانت في يوم ما تسير نحو ضغط معين، وفي ذلك انعكاس لطبيعة الرؤية الموضوعية في الشؤون الفكرية التي تحدّد البناء التصوري في خيالات الناس المرتبطة أساسًا -في افتراضاتنا على الأقل- بالمعرفة السوقية التي تتَّخذ عنوانًا لها تباعًا في المعرفة الفكرية. ولكن، فوق ذلك كله، فإن استرداد المسؤولية على عاتق الفرد -لتحديد شخصيته- قائمة على الأخذ بالمنافسة التي تُؤهِّل صاحبها في استخدامها إلى التعامل مع مقاييس حرّة جديدة، في كل مرة تتناسب واختياراته في أوسع مجالاتها.

ضمن هذا الإطار، ومن هذا التوجُّه، يمكن عدّ السِّمة في صورتها السيميائية التي نطرحها بديلًا للصورة على أنها أداة متحرِّرة في حركة تفاعلها مع النص الأدبي، بفعل تمركزها على معطى الظاهر والباطن، من حيث كونها تشغل كل فضاءات النص الحاصل، وإعادة بنائه، وفق ما يرتبط بفاعلية الاستنباط الذي يعتمد على واقع القراءة في إجراءاتها غير المشروطة للفهم التأويلي.

ومن هنا، يمكن تقدير «القصيدة السمة» على أنها لا تملك الصفة المطلقة في أدواتها الإجرائية لتأكيد الغاية، أو إظهار الحقيقة التي يبرزها النص في معطاه الخارجي، وإنما ابتعادها عن المعنى المطابق صفة مميّزة لها، سواء تعلّق الأمر بمظاهرها الدلالية، أو بمخططاتها البيانية، ضمن علاقات تجمع بعضها ببعض وحدات متمايزة مستقلة.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن الحلم المشرئب لكل فنّان يعدُّ صورة يانعة في حقل خواطر الذهنية الإبداعية في مراهناتها على استشراف المستقبل، فمن باب أولى أن تكون الدراسات النقدية فاتحة على الفرضيات، من منظور أن كل فرضية احتمالية نزعة لوجود الذات، أو للتعبير عن الذات، ومن هنا، تتعزّز فكرة القصيدة السِّمة، بوصفها تستند إلى مبادئ فضِّ التجربة الذاتية في واقعها الافتراضي، وفي ملابساتها التي تكتنفها، لذلك تستأهل الفحص الدقيق للتصوّرات المرتقبة.

وهذا يجعل من الميسور التسليم بأن الأمر على هذا النحو إنما يدفعنا إلى ترجيح استعمال مصطلح السِّمة بديلًا للصورة، ظنًّا منا أن النص بدأ ينحو في اتّجاه اللامحور، أو قل في ذلك: إنه وُجِّه توجّهًا حرًّا على غير الوجهة القصدية التي وسمته عبر مراحل تطوّره.

ومن هنا، فالمبدأ الذي بمقتضاه تلوح القصيدة السِّمة، أنها تتوازى مع القصيدة الصورة في توافقها الخفي بين ظاهر الشيء وشعور الفنّان، غير أن القصيدة الصورة تتعامل مع المجاز من حيث كونه مجموعة علائق، توجّه الأخيلة الشعورية، بفضل قوة إدراك الرؤية المتغذية من المناحي العاطفية التي يجلوها تأمُّل الفنَّان.

في حين أن الأمر يختلف نسبيًّا مع القصيدة السِّمة التي تتجاوز حدود التصوّر الخيالي في قوته الإدراكية إلى براديجم جديد، بسياقات مستحدثة بصفتها علامات في آلية نزوات لا واعية، تفسِّر النص على أنه ممارسة متغايرة جذريًّا مع كل ما سبقها، وكل ما سوف يلحق بها، إنه اختزال جمالي لنزوات بيولوجية أوبيو–كيمائية، وممارسة ثورية تكسر القواسم التي تساوم عليها السلطة السياسية؛ أي اللغة.

وكل هذه المنظومة من التضادات تتعلّق بهاجس تجاوز البنية الرمزية «اللغة، الشفرة، الشرائع» عبر سياقات معقدة، ونفي منهجي قادر على تأمين احتمالات لحرية الكاتب أو القارئ[1].

وهنا، ينبغي أن نبذل كل ما في وسعنا لتوظيف مؤهلاتنا وخبراتنا الثقافية في تلقيحاتها المتساوقة، حتى نقترب من ذات مستوى المبدع، المفتِّت للانفعالات الباطنية التي تغيب عن تصوّراتنا نحن في كيفياتها المعرفية.

ومن ثم، فإن استعمال السِّمة في استخراج ملامح الرؤية الشعرية لا تبرهن بأدواتها الإجرائية -المستخدمة في تحليل النص- على استدعاء النتيجة، أو الاحتكام إلى الرأي الفصل، بقدر ما توضّح سبل الملابسات، وطرح الإشكالات؛ ضمن طرائق معرفية متداخلة، وفق ما يسطّره منهجها الحر للتوغل في البنيات الإشارية للمكونات الحضارية، ووفق ما يرتبط بعلامات النص وشفراته المفتوحة في إسقاطاته المتعدّدة.

ومن هنا، يكون التركيز «على صوغ علم علامات تحليلي، أو التحليل الدلالي (La sémanalyse) الذي لا يتمحور فقط حول استنطاق مدلول اللغة، إنما يتوكأ على معطيات نستقيها من علم النفس التحليلي والرياضات، ومجمل المفاهيم الضرورية للقبض على النص كممارسة ذات تعبيرية هادفة».

ولذلك ليس من غرض القصيدة السِّمة الانشغال بمعرفة الحقيقة، أو الاحتفاظ بالمرجعية، وإنما تكسير المنهجيات، واعتماد الرغبة في نشوة التقبُّل من الشروط الضرورية لاستكشاف المفاهيم الجمالية، اعتقادًا منا أن هذه المفاهيم الجمالية تسير في خطوط متوازية في تعاملها مع القصيدة السِّمة، وليس بالضرورة أن تكون متقاربة أو متساوية الفهم، بقدر ما ينبغي أن تكون صورة الفهم الجمالي في مضمونها الدلالي قائمة على الذائقة اللامتناهية بالدخول في نص لاحق مفتوح.

ومن ثم يمكن تعداد القصيدة السِّمة أنها تحاول التسلُّط على المعنى من حيث هو في جميع مجالاته، التشاكلي، والتبايني، والانزياحي، والتقايني، والرمزي، أو نحو ذلك من المصطلحات التي تأخذ حيّزها في القصيدة من سلطة اللغة.

وإذا كان فهم النص باللغة قاد إلى ما أسماه بعض النقاد[2] بـ«أيديولوجيا اللغة؛ من منظور أن مذهب اللغة، لا اللغة نفسها، استطاع عبر صياغته المتماسكة أن يجعل العالم قاطرة تجرّها أحصنة اللغة، فتحوّل النص، وتاليًا العالم، إلى بحيرة من الوحدات الصغرى والكبرى، وتحوّل الخطاب حول اللغة إلى أن يكون هو اللغة نفسها، إذا كان الأمر كذلك مع من تبنّى أيديولوجية اللغة، فإن هيدغر عدَّ اللغة بيت الوجود، ما يعني عزل اللغة عن أيديولجيتها. وما ربط هيدغر اللغة بالشعر سوى دليل على أن معنى اللغة لديه هو معنى الإنشاء الكتابي للوجود، وليس معنى حلولها محلَّ الوجود[3] في رؤاه التي تخاطب القوة المفكرة والقوة المتخيلة.

وفي اعتقادنا، إن القصيدة المعاصرة هي نسيج بين هاتين القوتين في ضوء نسيج من السبك تحكمه الرؤيا وسكب الإشارات باللغة؛ لأن كلًّا من الرؤيا والإشارة يصدران عن التأمّل.

وفي ضوء هذا التصوّر تكتسب القصيدة السِّمة صفة التضايف مع منزع الكشف الصوفي، وحالة التجاور بين الشاعر والمتصوف في ضفيرة النسيج المشترك بالحدس عن أسئلة الكون، رغبة في احتواء سمة الوجود أمام غياب اليقين، بمناقبه ومثالبه بدلائل العبارة.

ولعل نبض اللغة في بنية النص، يتشوّف كينونة الرؤيا التي تنهل من المعين الفكري والنبع الوجداني، ومن الرؤية الفنية والإشراق الصوفي، حيث اجتماع العقل والحس/ اليقين والتطلّع، في كل ما يكتب من رؤيا كشفية تشكّل المنحى الباطني سِمَتَه الأساس، ولا يقف على معناه إلَّا من وقف على أسرار الإشارات الدالة بمنظور السِّمَةِ التي اقترحناها بديلا للصورة.

ولعل استنادنا إلى وظيفة السِّمة نابع من كونها وسيطًا دلاليًّا لإنتاج معانٍ دالة من إسنادات الصورة المجازية التي من شأنها أن تسهم في استثارة المتلقي، وحمله على التروي في التأمل باستنتاج أنواع الدلالات المستنبطة، وليس أدل على ذلك من روائع كتابات المتصوّفة، أو من سار في فلكهم من الشعراء المعاصرين الذين يسبحون في دلالاتهم داخل اللغة، ومن خلال ابتداع العبارة الموحية ببهاء الإشارة التي تستهوي رغائب المتلقي؛ بالنظر إلى ما نجده من انزياح displacement وتكاثف condensation، بعمق دلالاتها، وفيض معانيها.

من منظور أن الرؤيا الشعرية جاءت لتصوير حس الفجيعة والمحتوى المأساوي لجدلية الذات في صراعها المحتوم مع الكون، وتعبيرًا عن صرخة القلب، وأنَّة الروح، في مواجهة مشكلاتها المصيرية، وقلقها الوجودي في ثنائية تقابلية تتأرجح بين الطموح والانكسار.

والحال، أن مورد فيض السِّمة الشعرية، وبديعها، لدى بعض الشعراء المعاصرين هو من قبيل تجاوز الصيغة الصورية النهائية التي رسمها الواقع بوصفه نمط حياة، في السكون النهائي بالاغتراب، إلى مضرب اعتناق اللانهائي في المطلق، حيث الانجذاب إلى الأنس بالروح، فيما تعبّر عنه رؤى الشاعر من عناصر متكافئة بين تحسس حقائق القيم المغيَّبة والرغبة في السمو بإنسانيته الرفيعة، وما بين محاولة التبرير لغياب اليقين والبحث عن جوهر الحقيقة، يكتنه الشاعر المتصوّف عالم الرؤيا الكشفية، بوصفها الوامض المتوهّج لاستجلاء علاقته بالكون.

2- المدرك الباطني

لقد دلّت نقلة الإنسان من «التكيُّفات البيولوجية الفطرية» إلى «التكيُّفات الحضارية الواعية» عن تجربة الذات في محاولة تجاوز غريزتها، والتطلُّع إلى مداعبة أسرارها الباطنية في صراعها المرير مع مقتضيات البيئة الاجتماعية. ولا شك في أن الذات الشاعرة في إيقاعاتها الجوهرية قد تمثّلت مقولة الصوفية في يقينها العميق، وذلك عبر وجود المعنى الإنساني الملتحم بالحقيقة العليا، التي تستلهمها المدركات الباطنية في مقربها من الممكن وتحويله إلى معتقد أصيل.

ولعل الذات هنا، قد تجد في المعتقد الصوفي مخرجًا لها من مأزقها. والواضح «أن هذا الميدان خير ميدان تتفتح فيه ذاتية الشاعر وفرديته، فهو ينفصل عن المجتمع ظاهريًّا، ليعيش آلامه -التي هي نفسها آلام المجتمع- بوجود مأساوي، ثم إن هذا النوع من التصوّف محاولة للتعويض عن العلاقات الروحية، والصلات الحسية التي فقدها الشاعر، وتلطيفًا من حدّ المادية الصلب الخشن»[4].

وهذا شعور طبيعي تستلطفه الذوات الظمأى لمعانقة الكلي، واحتضان المجهول، وتمثّل المعنى، مقابل شعورها بالإحباط، وإحساسها الدائم بالغربة النفسية، والنفي الوجودي.

والشاعر لا يرى، وإنما يدرك بإحساسه المفعم مَرَامَه بارتقائه إلى المبادئ العليا، ويحدس الوقائع بما يمتلك من حس، لا يشترك فيه مع غيره الذي ينظر إلى الأمور بطريق المعرفة الاستدلالية في ظاهرها، وهو لا يبصر وإنما يتبصَّر باطن الشيء الذي تتَّحد به، ولذلك غالبًا ما تبدو له الأشياء على غير ما هي عليه في العيان، ومن ثمّ نجده -أيضًا- يوغل ببصيرته فيما وراء الشيء ليستبطن مكنوناته، وهي المقولة التي استطاع ابن عربي أن يرى من خلالها في داخل الأشياء «أرواحًا لطيفة غريبة فيها استجابة مودعة لما يراد منها، هي سر حياتها، وتلك الأرواح أمانة عند تلك الأشياء، محبوسة في تلك الصور، تؤدّيها إلى هذا الروح الإنساني الذي قدرت له»[5].

فالأشياء، إذًا، تمتلك جوهريتها فيما يكتنفها من جدل جمالي تقيمه ضمن علائقها الداخلية، ولذلك فهي لا تبدو للشاعر كما هي في الظاهر، بل بما هي إسقاط لوجدانيته وانفعالاته، ولذلك كلّه ظلّت الذات المبدعة نقيضًا دائمًا، ملازمًا لواقعها، بما هو واقع مرئي ثابت، لا يتغيّر، مما ضاعف لديها الشعور بالقصور وضيق الرؤيا؛ الأمر الذي أفضى بها إلى البحث عن ملاذ روحي تعوض به إحباطاتها، وانهزاماتها، وفشلها في وصل عالمها الأرضي بما ينتج منه.

ومن ثمّ، يمكن عدّ الرؤية الصوفية في الشعر العربي بوجه عام هي بحث مستمر عن الرمز الإنساني في معناه الأسمى، ومحاولة وصل الذات بهذا المعنى لتأصيل جوهر إنسانية الإنسان -من صفة، وخلق، وعمل- بوصفه امتدادًا روحيًّا لأصالة الذات في نشدانها العليائي، والمثال، عبر جدلها الدائم مع الواقع القائم على العيان، والاستبصار، والتأمل.

والحقيقة أن الشاعر، أو المتصوّف، كليهما يرفض التعامل مع تلك التأثيرات العيانية التي تنزعها حواسنا من حيث المظهر الخارجي؛ لأنها تغرق صاحبها في النظرة النفعية، وكأن العمل الإبداعي في هذه الحالة يدرك من أجل العمل، في حين ينبغي التعامل مع حركية الإبداع -بحسب منظورها- من حيث التأمل بما ينطوي عليه العيان والاستبصار، وتجاوز الاستجلاء إلى الرؤيا الكشفية، من منظور أن الفن في تذوقه الجمالي قائم على «الانتقال من الإرادة إلى المشاهدة»، أو من الرغبة إلى التأمل بحسب الرؤية الحدسية (intuitionism) البرغسونية، نسبة إلى (Bergson) التي تستثير نار الوجدان على حين فجأة في دقة خصائصها، وعمق دلالتها.

وأن كلًّا من الشاعر والمتصوف يتعامل مع الباطن، والمضمر، والخفي عندما يتحد مع الموضوع الذي يشغل باله، وذلك حتى تتم عملية تماثل الرؤية الانفعالية التي من شأنها أن تتسبب في دفقة المشهد الشعوري؛ حينذاك يستجيب كل من الشاعر والمتصوف للملكة الحدسية، بعد محاولات مريرة للتخلّص من الجسد؛ أي الانفلات من عالم المحسوسات، والاحتفاء بعالم المثل، الممكن الانكشاف.

إن ارتباط الشعر بالرؤيا الكشفية، هو -بحسب رونيه شار (CharRené)- كشف عن عالم يظل في حاجة إلى الكشف. وهنا تقع الصوفية في تماس مع الشعر؛ لأنها استبطان منظم لتجربة روحية، ومحاولة للكشف عن الحقيقة، والتجاوز عن الوجود الفعلي للأشياء[6].

ومن هنا وجد الشعراء منفذًا إلى عالم الصوفية الممتلئ، محاولين الهروب من عوالمهم المحيطة بهم، أملًا في الخلاص، وبحثًا عن المعادل الوجداني لكياناتهم المفعمة بالسمو والامتلاء، وبوصفها -أيضًا- الملاذ الروحي لها، «فالواقع الموجود في العالم الخارجي المحيط بنا يصبح في أناة ذاتيتنا وأخطائنا، وبقوة هذا الألم والعمل المبذولين في الخبرة فإننا نصل إلى لذة من الحقيقة بالنسبية؛ أي إننا نصبح واقعيين نسبيًّا»[7].

هذه المرارة التي تعتمل في كيان الشاعر هي نصيبه من خيبات العالم المتكرّرة، حين يتم إحباط الأنا في مواجهة انكسارها الناتج من أي عجز، أو تراجع عن المواجهة، لكن الذات هي وحدها التي تقاوم وترفض أن تستسلم، فهي تمتلك وعيًا عميقًا بذاتها وبالعالم. ومن ثمَّ، فالشاعر -مثله مثل الصوفي- يلج الأعمق، والأسمى، والأنبل، في محاولة تخطيه عوالم الحس المتدنية، واعتلائه عوالم الأبدية المتعالية، حيث تنبجس حقائق الروح المثلى بكل معانيها وتجلياتها.

ولا شك في أن هذا الوعي غير مُنْحَبِس، بل هو منفتح على الدوام على اللامتناهي، «والإنسان العارف، الكامل، كامن في وعيه هذه اللانهائية. فليس هناك شيء خارج الذات. العالم كله في الذات، ووعي الذات هو وعي العالم، فالذات والعالم وحدة، وليس لوعي الذات حدود، فهي لا تعي المنتهى وحسب، وإنما تعي كذلك اللامتناهي»[8].

ومن هنا، كان إدراك الشاعر متوجهًا إلى البحث عن الوجه الآخر الموجود، انطلاقًا من مبدأ الهوية المتغايرة الذي يقول به أدونيس، والذي لا يفصل بين الثنائيات مثل: الصورة/ الهوية، الوجود/ الماهية، الذات/ الموضوع، بوصفها قيمًا تحمل مركب الكينونة الباطنية لحقيقة الذات. انطلاقًا من أن الذات لا تدرك حقيقتها إلَّا بنقيضها، ونقيضها هو الوجه الآخر لذاتها، ولذلك يقوم مبدأ الهوية باللانفصال، وحينئذٍ يكون «الشكل الصحيح للوجود ليس في المعنى منفصلًا عن الصورة، أو في الصورة منفصلة عن المعنى، وإنما هو مركب المعنى والصورة، ووحدتهما»[9].

وتبدو هذه الفكرة أكثر تأصيلًا عند ابن عربي الذي ينمِّي مقولة «اللامتناهي»، بوصفها «الاسم الآخر لمقولة وحدة الوجود»، وهي فكرة فلسفية يبني عليها ابن عربي تصوره حول وحدة الوجود التي تعني تلاحم المتضادات في كيان موحد، ونحن نُلفي انعكاس ذلك على النص الأدبي بوصفه كونًا قائمًا بذاته، حيث يشكل الإنسان جزءًا من هذا الكون بمسعى الانتقال من القوة إلى الفعل، ومن الغيبة إلى المشهد.

إن الرؤية بالوجدان والقلب -دون عدّ ذلك تماهيًا عاطفيًّا سلبيًّا- هي المعادل الكشفي لدى الصوفية لكيان الذات الشاعرة في محاولتها المريرة؛ لمعانقة العالم وقواه الباطنية المثلى، واقترانها بمبادئ التمرّد، والمغايرة، وملاحقة المضمرات الخفية، بوصفها تشكيلًا جوهريًّا لحقيقة مثالية ضائعة.

ومن ثمّ، يمكن تصنيف مظاهر الصوفية الوجودية إلى أنماط، أولها يتمثّل في الصوفية الوجودية التي تعمل على تمرس الذات بقصد تمردها على واقع يتكرر باستمرار، وذلك عن طريق التسامي. بينما يتمثل النمط الثاني في الصوفية السريالية، أو البحث عن حقيقة كبيرة ضائعة، في حين تكمن الصوفية الثورية في امتزاج روح التمرد، بأبعاد ثورية، من أجل إعادة خلق الواقع.

وتستمد الصوفية مصدر طاقتها من التسامي الروحي عن طريق تلاشي الوجدان البشري في الكينونة الإلهية المطلقة، بينما تستمد الوجودية طاقتها من ينبوع الذات البشرية في حد ذاتها، على اعتبار أنها مصدر الطاقات برمتها. ومن ثمّ يكون الإنسان خالق نفسه، أو إله ذاته، كما يزعم الوجوديون، غير أن كلًّا من الصوفية والوجودية تشتركان في سعيهما، بتجاوز وجودهما، إلى الوجود المطلق، ولذلك ظل في يقين الوجوديين أن «التعالي شعور صادر عن تجاوز الإنسان لوجوده نحو وجود الآخرين، ويؤكد كيركجارد (Kierkegaard, soren) أن الإنسان يتعالى -هو كذلك- بغية التوصل إلى ذات الخالق، وتجاوز عالمه، وعالم وجوده الذاتي، عبر تجربة ذاتية ممكنة»[10].

وفي ذلك تأكيد على قدرة الإنسان ويقينه بما يحصل لتحقيق ذاتيته، وحينذاك يكون الإنسان في نظر الوجودية قوة عظيمة تمتلك مصيرها وفق مبدأي الحرية والاختيار. ومن هنا كان رفضها للواقع مبنيًّا على أساس «إرادة القوة» التي لا يتمتع بها إلَّا الرجل العظيم الذي تبناه نيتشه (Nietzsche) في مشروعه الفلسفي.

والوجودي يتسامى عندما تكتمل فيه روح هذه الإرادة، وما عدا ذلك فهو مجرّد عبث، لكن الصوفي يقتبس من بواطن الأشياء لهيبها، ويقتنص أسرارها، ويلامس كوامنها، ولا يقنع أبدًا بظواهرها، بغية استشراف اتساع مداها «المابعدية».

والتوغل في العمق صفة مميّزة للصوفية، ليس لمجرد إشباع نزوة (الماوراء - مادي) وحسب، بل هي نزوة (ميتافيزيقا - الروح)، وقد يعني ذلك أن «الإنسان في الفكر الصوفي لا يعيش حالة من اللاوعي، أو السلبية، بل إن الإنسان هو الحقيقة الأكثر حياة في هذا الوجود»[11].

لقد أراد الخطاب الصوفي أن يتوغل بالوعي الإنساني نحو أعمق معاني السمو على تفاهة الحياة وماديتها وحطّتها، وأن يخلص «الأنا» من سجنه، ويخرجه من هشاشة الواقع، ويحلّق به في سماوات المطلق اللامتناهي، بغية تجديد النبض الروحي، وارتقاء أعلى درجات الصعود نحو المتعالي.

ولا شك في أن تجربة «الأنا» المريرة -في شَدِّ فَتْلِها وقوّة عزيمتها- هي قبس من روحه المستخلص، ومن فيض المطلق الإلهي في انبثاقه الذي من شأنه أن يبثها أسراره، وذلك حينما يباشر الكشف عن استسرارية عظمة الكون الأعلى، لحظة مداعبة الروح في صمته.

وإذا كان التملص من الذات هو نتيجة لحرمانها من موطنها الأبدي، وإقصائها من سرمديتها، فإن وعي الذات لذاتها قد أفرز نزعة وجودية تُعنى بالنزوع إلى قيمة الإنسان، وتفرده، ومعايشة الواقع وجدانيًّا.

ولعل من سماتها «إدراك التجربة المعاشة» من حيث كون الذات وحدها هي من يملك الوجود لأجل ذاته، وأن سعيها مشروع لا نهاية له. بيد أن تأكيد الذات من خلال المبادئ، والقيم، يحتم عليها الخوض في البحث عن معنى الحياة، والأمثلة على ذلك في شعرنا العربي -قديمه وحديثه- كثيرة جدًّا، نكتفي بهذا المقطع لأمل دنقل الذي عبّر عن مرارة تجربته في علاقتها بالوعي الوجودي، في قوله:

وأنا كنت بين الشوارع... وحدي!

وبين المصابيح... وحدي!

أتصبب بالحزن بين قميصي وجلدي.

قطرة... قطرة؛ كان حبي يموت!

وأنا خارج من فراديسه...

دون ورقةِ توت![12]

والمقطع من قصيدة «سِفر ألف دال» الشجية، سواء من حيث علاقتها بالزمان أو الوجود، وكأنها صورة لسيرته في وقعها المرير، والمسيَّجة بالمآسي حدَّ الموت، ويمكن اعتبار هذه القصيدة أنها سلكت مسالك الإبداع الوجودي، وعكست جوهر كينونة الواقع، انطلاقًا من «أن الفن العظيم، أو الفلسفة العظيمة هي محاولة للتعبير عن حقيقة يستطيع الإنسان استيعابها، أو لمحها على الأقل، هنالك قيم أبعد من الحدود الضيقة للوعي الإنساني، ومن الممكن أن نعي هذه القيم في الومضات الصوفية»[13].

لقد برهن الشعر العربي منذ ابن الفارض، وابن عربي، وأدونيس، وصلاح عبدالصبور، عن وعيه العميق لدروب الوعي اللامتناهية والتي لا يمكن رصدها، ولكن يمكن تصورها من حيث كونها تجلياتٍ لا ندركها إلَّا بالعقل الباطن، ولا نعيها إلَّا بالوجدان.

هذا الهُيام الوجداني المنبثق من كيان مفعم بالشوق الأزلي الذي لا ينضب، والمتدفق بحرارة المتعالي الأبدي الذي يحتضن كل وجدان العالم المثلى، هو طريق الصوفي العربي ابن الفارض مثال العلو الروحي والذي يجد متعته في متابعة الحقيقة الكلية الخبيئة، بما هي انسجام يدغم روحه في رحاب المطلق، ويغمرها:

وهِمْتُ بها في عالمِ الأمرِ حيثُ لا

ظهورٌ وكانت نشوتي قبل َنشأتي

بها مثلَما أمسَيتُ أصْبَحتُ مُغرَماً،

وما أصبحتْ فيهِ من الحسنِ أمستِ[14]

فهو لم يصبح ليجد نفسه في معانقة الأبدي اللامرئي، وإنما هي نشوة أصيلة ما قبلية جُبلت عليها النفس.

ويبدو أن التجربة الصوفية في الشعر العربي المعاصر بكل محمولاتها هي فعالية الواقع ومجاهدته، وقد فضّل الشاعر إقصاء ذاته من مجالاته التي تبدو له متناهية، وفجّة، ومنغلقة، ومما يبدو أن هذا الإقصاء من العالم ناتج من صدمة وجودية، أفرزتها صدمة الحضارة الجديدة، بخاصة حضارة العولمة، ولكن عوض أن يتشيَّأ الشاعر، ويتهشّم، راح يخلق من ذاته كونًا عظيمًا يتوحَّد به في سكون الخلق، ولعل في قول أدونيس ما يبرهن على قمة الحس الصوفي المتعالي عن هشاشة الواقع:

وُحّدَ بي الكونُ فأجفانُهُ

تلبس أجفاني؛

وُحّدَ بي الكونُ بحرّيتي

فأينا يبتكر الثاني؟[15]

ويبدو أن هناك حدودًا فاصلة بين عالمه الداخلي [الباطن] وعالمه الخارجي [الظاهر]، فالداخل الذي يضيق ويتقلّص لم يجد كماله وتمامه، وإشباعه في الخارج الذي يتكلّس ويتراجع، فاتّسعت الهوة بين العالمين، وتفاقمت أزمة الذات أمام تيْهها، وفقدان توازنها، ومن ثمّ جاءت دعوتها للانسحاب من الحياة، ونشدان الموت في عالم يقدّس المحسوسات ويغيّب الروحيات.

إن الشاعر منهك بالحزن على الدوام، وكأنه درامي بطبعه، وبما أنه لم يكن بإرادته امتلاك قدره، فهو يُجابه مصيره إما بالتملص، أو بالتسامي، عن طريق الإبداع، بحثًا عن قيم جديدة تبحث فيها الذات عن معادلها الفكري، والروحي، والوجداني، أو للتخفيف من حدة المعاناة التي تسبّبها غريزة التطلُّع في الإنسان الرابضة في لا وعيه، و«أناه البدئي»، ومما يضاعف إحساسه بالمرارة إدراكه اليقيني بـ«أن في النظام البدئي لوجودنا الحيوي يقع وريد المتعة، ووريد المعاناة جنبًا إلى جنب، ويربطنا كل منهما بالحياة رباطًا أقوى بسبب وجود الآخر»[16].

وكلما اقترب الصوفي من ذاته تنكّر لها، وكلما تعمَّق فيها أدركها أكثر، وسما بكيانه إلى مواطن لا يصلها الحس، ولا يلامسها، حتى تنال حظها من الدهشة في تجربة التعالي العسيرة، «فنحن حين نرتفع فوق كل شيء، فإنما نرتفع أيضًا فوق الفراغ والعدم، والارتفاع والعلو بمعناهما الأصيل، ارتفاع وعلو على الشيء وضده، أو على الكل والعدم، على السواء»[17].

وذلك أن التعالي هو نقيض العدمية التي تعمل على تجريد المُثل من مثاليتها، وتخلع عنها قيمها العليا، ولا شك أن في الإنسان نزوعًا إلى المثال، وليس أدلّ على ذلك من قول نيتشه ( Nietzsche) «أنا أنظر إلى الأسفل لأنني بالأعلى، وأنتم تنظرون بطاقة لا متناهية من الاكتفاء الذي لا ينضب». وبذلك ينتزع الإنسان قيم السمو والتعالي من إرادة الذات في تجاوز ذاتيتها وذوات الآخرين.

وكما كانت الوجودية قوة من أجل الحقيقة، فإن الصوفية هي خوض في الحقيقة، ولذلك تلتقي كل منهما في مبدأ المواجهة، مواجهة الواقع، وتخطّيه، من حيث كونه ضربًا من السخف والتدني، وأن بإمكان الذات التسامي على حطته والقدرة على الصراع بـ«لا» بما فيها من إمكانات مذهلة يستوعبها اللاوعي الباطني لتكون ملاذها وخلاصها المنتظر، يقينًا منها أن «التعالي هو في جوهره انفتاح للفكر، واتّساع لآفاقه، وتجاوز لكل الحدود»[18]. وعلى الرغم من محدودية الكائن إلَّا أنه يمتلك شعورًا باللاتناهي واللامحدودية.

وإن دهشة المتعالي نفسها لا تنفصل عن جزئيات الواقع، حتى وإن تواصلت مع كليات المطلق، وقد أكد أفلوطين (Plotinus) أن تجربة المتعالي هي انطلاق من الذات وعودة إليها على حد ما جاء في قوله: «أما إذا وصلت بملكة المعرفة عندك إلى اللامحدود، لأنه ليس من هذه الأشياء، فاستند إلى هذه الأشياء نفسها، ومنها شاهد»[19].

ذلك أن الفيلسوف يدرك الشيء من نقيضه، وهو بذلك يدعونا إلى معرفة الكلي من خلال الجزئي، ومعرفة اللاواقع عن طريق الواقع؛ أي تخيُّل الشيء ليس بما هو، إنما بما يوحي به من نقائض، وهو إذ يجعل من الأشياء الواقعة تحت البصر كأساس للتبصُّر فمعنى ذلك أنه «لا يتسنَّى للإنسان أن يرى الرؤية الحقة حتى يغوص بكليته في هذه الأرض، ويملأ عينيه من هذا الواقع المحسوس»[20] بكل تجلياته، وتناقضاته، واحتمالاته، وتوقعاته، ومهما حاول الإنسان التعبير عن نفسه فهو يظل رهين الثالوث الأزلي، المتعالي؛ أو الفوق Le Dessus، أو الداخل le Dedan، أو الخارج Le Dehors.

ثانيًا: وقفة السالك وأسرار المقام

1- نور السر في الإشارة والعبارة

استوعب الشاعر التجربة الصوفية في رؤاها المتسامية، بعد معاناة شديدة من رفض الحياة الدنيا، وما يحيط بها، فما كان منه إلَّا دفع دواعي الذات إلى البحث عن البديل في أفق آخر، لم يجد له مسوغًا في غير نور السر في الإشارة -بالتعيين والتضمين- بوصفها مركز الكشف ضمن نسق المطلوب عن رؤيا الأحوال، وسياق المقصود في معاملاتها التي تُفصح عن مكامن الأجواء النفسية، وترنو إليه الأحوال، فيما تستوجبه الاستعدادات لاحتضان المرتقب المأمول، وبحسب ما يعطيه الأمل من أفق ملائم للحياة المرجوة.

وفي ضوء ذلك يعدّ شعر أديب كمال الدين تصويرًا تأمليًّا يتجاوز به الواقع، بحثًا عن جوهر اليقين في تجلياته الروحانية، والأنس بما يجلي عنه الشجن، والإيناس فيما احتوته معاني الحروف المتبصّرة بأمور الحق في صفاته، ولو بصورة رمزية، قد لا ترقى إلى مطالب حروفية الحلّاج على سبيل المثال.

والفرق بين الشاعر والمتصوف في هذا المقام، يكمن في الدلالة الاحتمالية، ففي حين يعتمد أديب كمال الدين على ترميز الحرف الصوفي في صورته التضمينية الداعية إلى القدرة الإيحائية بالتماثل الصوفي، تأتي حروفية المتصوفة بوجه عام لتشكّل دلالة ما يخاطب به المتصوف الحق؛ ليصبح مقصود العبارة بينه وبين ذات الحق حقائق ثابتة، وكأنهما معًا «علم الحق»، وهو ما لم تسوغه رؤيا العبارة في شعر أديب كمال الدين الذي ينطلق من وضعية الحيرة المؤدية إلى إماطة اللثام عن المعنى الكامن بطريقة رمزية في حروفه.

ولعل في هذه الرؤية الكشفية؛ للعبارة الصوفية -التي نتوخاها في شعر أديب كمال الدين- ما يومئ إلى الإشارة المتبصّرة بالتوهج المستعر في دواخله، ولم يكن ذلك كذلك لولا مسوغات مشاعر الحرمان من الآخر -بجميع تفريعاته- الذي قسا عليه، وزرع فيه بواعث الغربة؛ مما خلق لديه غربة الذات وهجر المقام، فلم يكن له من بدٍّ، والحال هذه، إلَّا أن يسترشد بإشراقاته التنويرية المستقاة من خفايا الحرف في مدلولاته الصوفية.

ما يعني أن تجربة الشاعر بغربتها المترامية الأطراف أدَّت إلى انهيار مظاهر كيانه الوجودي، في مقابل أنها أسهمت في بسط صورة الحق بخياله الكشفي، أملًا في الخلاص، وبحثًا عن المعادل الوجداني لكيانه المفعم بالسمو والامتلاء، من خلال الملكة الحدسية للتخلص من مرارة الواقع الموبوء.

هذه المرارة التي تعتمل في كيان الشاعر هي ما أوَى نصيبه من خيبات العالم المتكررة، ولن يثبت ذلك إلَّا حين يتم إحباط الأنا في مواجهة انكسارها؛ الأمر الذي ينتج منه العجز أو التراجع عن المواجهة، لكن الذات هي وحدها التي تقاوم وترفض أن تستسلم، فهي تمتلك وعيًا عميقًا بذاتها وبالعالم[21]، كما في قوله:

ليسَ كَمِثلي إنْ أرادَ البكاءْ

أنهارُ بحرٍ أُطفِئتْ في رمادْ

أو شجرٌ ممتلئٌ بالثمرِ الناضجِ قد

ضُيّع وَسْطَ الوهادْ

أو وردةٌ موعودةٌ بالحُبّ قد أُحْرِقَتْ

أو قُبْلةٌ قد حُوصرتْ

مثل بريءٍ يُقادْ

بين صهيلِ الحرابْ.

ليسَ كَمِثلي إنْ أرادَ الرّحيلْ

كثبانُ رملٍ تختفي في رياحْ[22].

يبدأ المقطع بفعل النفي «ليس» في صيغة الماضي الدالة على الحال، الملحق به أداة التشبيه بالمماثلة، حيث يكون المشبّه والمشبّه به متعدّدًا، وهو ما يطلق عليه بتشبيه الجمع، وكأن في إظهار صفات التعدّد -من غير حال الشاعر مع جواز الكل- جاء لتأكيد نفي الحالة النفسية التي لم يعد فيها البكاء والحسرة يفيد من اتساع تعاظم الجور، واستشراء الفساد والتعسف.

وإذا أضيف إلى هذا المستفتح الشاق من الصفات الدلالية في باقي الجمل الشعرية، تبيّن اجتثاث التواصل مع الحلم، وهي الصفات المعبّرة عن الأسى في صور: «البكاء/ الرماد/ الضياع/ الوِهاد/ المحاصرة/ الانقياد/ الحِراب/ الرحيل/ كثبان رمل تختفي في رياح». كله صور دفعته للبكاء فيما أهاجه من كآبة أثارت فيه دافعة إيجاد البديل.

وكأن هذه الصفات تحدّ من نيل المطلوب، أو من احتواء فضاء الرؤيا، أو من تملّك اتساع الحلم، ومع ذلك يبقى المسعى من دون جدوى بالنظر إلى امتلاء الشاعر بالحس الصوفي الذي غمر به حياته بالكشف عن عالم يظل دومًا في حاجة إلى كشف؛ ولذلك فالشاعر مثله مثل الصوفي يلج الأعمق، والأسمى، والأنبل في محاولة تخطيه عوالم الحس المتدنية، واعتلائه عوالم الأبدية المتعالية، حيث تنبجس حقائق الروح المثلى بكل معانيها وتجلياتها، ولا شك في أن هذا الوعي غير منحبس، بل هو منفتح على اللامتناهي، باستمرار[23] كما في قصيدة «محاولة في أنا النقطة»:

أنا النقطة

أنا بريقُ سيفِ الأصلع البطين

أنا خرافة ُالثوراتِ وثورات الخرافة

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم

أنا ألف جريح

ونون فتحتْ لبّها لمن هبّ و دبّ.

لاحظ،

.....

فيّ احتوى العالمُ الأكبر

وهي الزمن المتمرد:

فيّ تجمهر الماضي

وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرة حاشدة.

......

أنا النقطة

عرفتُ الحقيقة وعجنتها بيدي.

آ...

ما أشدّ حزني

ما أعمق دمعتي التي وسعتْ آلامَ البشر

ما أفدح خطيئتي: خطيئة المعرفة

ما أعظم زلزالي وخرابي الكبير

أنا النقطة[24].

والضمير، هاهنا، مشحون بدلالات مكونات النفس والروح، ومفعم بالتوحُّد مع رؤيا الشاعر الكونية؛ وما تركيزه على ضميره إلَّا بباعث الإحاطة بالضمير الجمعي، وبأصل كل ما يتفرّع من مجازات التعظيم لهذا الوعي الجماعي، أضف إلى ذلك أن توظيف الضمير بهذه الإفاضة يحمل مكانة رفيعة في أعمال الشاعر -على وجه العموم- الأمر الذي يعكس قيمة الضمير المشترك لأصالته، بوصفه عالي الكعب، وعظيم القدر.

وهو شأن كل مبدع خلَّاق يُشرق بجلال أفكاره وعنفوان رؤاه، واستعلاء تصوّره، وليس ذلك بعزيز من شاعر منفتح على إبداع المجازات، وأوسع الآفاق، كونه موصول الرحم بأصله، وثقافته الدينية، وليس أدل على ذلك من تعظيم قدر الضمير الجمعي في هذا المقطع، من منظور أن الضمير «أنا» يمتاز من الناحية السيميائية بعلاقة ارتباطية عضوية مع الذات المتكلّمة الفاعلة والمنتجة للفعل، مشكِّلًا بنية كبرى تتألّف من محورين أساسيين في العملية التخاطبية / أنا/ الذات المتكلّمة، والآخر الذي يأتي في درجة تراتبية أقل من ذات مصدر الخطاب.

ولعلّ وظيفة «الضمير أنا» تتداخل مع الوظيفة الإيحائية التي تشير إلى المحتوى كقطب يمثّل نواة دلالية رئيسية متعالية بعلو ألف المدّ «أنـ(ـا)، فشكل الضمير يحيل إلى صاحبه كذات موازية لهذا الألف الواقف والمعانق للسماء. فالضمير يعلن عن صاحبه، وتستند إليه الذات المتكلّمة؛ لتشكّل في مجموعها ظاهرة إشارية للرفعة، والعلوّ، والغلبة، والبقاء»[25].

يا حروفي وملابسي وأصابعي

....

أنا المسافر الذي سُرق حلمه

....

أنا الذي عرفت الحقيقة

قبل أنْ تبيع نقاطَها في السوق الكبير

وعرفتُ الظنون

قبل أنْ تشتري نونَها من أصباغ المكياج.

أنا الذي أعرفُ ما سيحدثُ لي ولكم يا أصدقائي

فلمَ لا تعترفون بأخطائكم لي

وتكتفون بإيماءةِ الرأس الجميلة

حين أصطفي لكم النبوءات؟[26]

ولعل السمة الدالة في هذا المقطع تعبر عن الشعور بالاستلاب، واختطاف الحلم، وفي ذلك إدراك نفسيٌّ/ روحي أضفى على وعي الشاعر الانطباعَ بأنه محمّل بأثقال سلب الإرادة، التي يمكن أن يشترك فيها الوعي المخلص، لذلك يشعره بوخز الضمير، وكأنه يقدم صوب المراد فيما آثره لهذا الوعي من ترقب مأمول.

وفي هذا وعي بالمسؤولية في بناء ذات الضمير بالقيم التي توجِّه المصير، وتهدي الخطيئة التي تخالف جلبة الإنسانية وراحة الضمير، على أمل الوصول إلى سواء السبيل، ومن هذا القبيل كان الشاعر ساعيًا إلى البحث عن الوجه الآخر للوجود الأسمى: (أنا الذي عرفت الحقيقة) بوصفها جوهر الوجود، في مقابل ملاحقة المضمرات الخفية بوصفها تشكيلًا جوهريًّا لحقيقة مثالية ضائعة:

والألفُ: أنا: مجهول في هيئة شاعر،

والباءُ حبيبةُ قلبي ضاعتْ في دائرة الحوتْ.

.....

لا معنى لي إلَّا في حرفي.

مرّتْ سنة عارية من عمري، مرّت عشرون.

الحرفُ أنا: متهم بجنونِ الراء، صهيلِ الألف..

بكاءِ الباءِ، ربيعِ الكافِ، نزيفِ الحاءِ، صمودِ العين.. انتبهوا

إذ تسرقني النونُ إلى عريي اليومي، أضيع وأفنى

انتبهوا رأسي فوق الرمح إله يبحثُ عن معنى![27]

يبدأ الشاعر في هذا المقطع بالتنسُّك بحرف الألف، وهو ليس حرفًا عاديًّا، ولكنه يمثّل -في نظر الشاعر- قيمة رمزية مستمدة من كونه «قَيُّوم الحُروفِ» به «نفهمُ الوجودَ، ونكتشف مُعَمَّيَاتِه ومُلابساتِه، فالوجودُ حرفٌ، والحرفُ وجودٌ، فَهُمَا مَعًا يَتَمَاهَيَانِ، وهما معًا يتبادلان الأدوارَ في مرآة الحياة والذاكرة والدين والأسطورة والمخيالِ، وفي فضاء الترميز بالقوة القَوَوِيَّةِ والتجريدِ المتعالي... فالوجود حرفٌ لا تكون الكتابةُ إلَّا به، والخَلقُ كتابة، والكتابةُ غرسٌ، والغرسُ نفْسٌ، والنفسُ وجودٌ، وهكذا تبتدئ دائرة الوجود بالحرف وتنتهي به وإليه[28].

وهي المساحة التي جسَّدها المتصوّفة لتعزيز رؤاهم بالحرف ودلالاته الرمزية التي تُشير إلى علْم البدء كله. «والمنظومة الصوفيّة الرّمزيّة التي تتّخذ الحرف رابطة وجوديّة ومسلكًا للتقريب بين العبد والرّب، ومنظومة الإبداع الشّعري الذي يستثمر المساحات الرّمزيّة اللامتناهية حتّى يتّخذ الحرف رابطة تصل بين إنسان وإنسان، ذلك أنّ الإنسان هو «الحقيقة الأساسيّة التي نستطيع إدراكها في العالَم، فهو يتّصف بالحضور والقرب والامتلاء والحياة، وفي الإنسان وبه وحده يصبح كلّ ممكن واقعًا، لهذا فإنّ إهمال الوجود الإنسانيّ أو تغافله معناه الغرق في العدم»[29].

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن معنى الحرف في هذا المقام تجعلنا نقرُّ بوجود تداخل في سماته، بين رمزيته في شعر أديب كمال الدين، وأيقونته في مفهوم المتصوّفة، وكأنهما وجهان لعملة واحدة إلَّا فيما ذكرناه سابقًا من حيث الاختلاف بين المعنى والرتبة، أو المقام، ما يعني أن الحدود بين توظيف دلالة الحرف تكاد تكون مشتركة، نسبيًّا، من حيث إن الحرف عند الشاعر تندمج فيه الذات، ليكون الحرف هنا مطيَّة لسيرته التي تحاول أن تتجاوز الواقع، وبما تحمله دلالات التطلُّع والحلم بالانعتاق، وبحدود المعنى الذي يُستثنى منه الحلول في ذاته تعالى، وفيما لا يمكن للعقل تجاوزه، إلَّا من حيث استعمال الحرف مطيَّة، في حين يتماهى الحرف مع الذات المتكلّم عنها -وهي هنا ذاته تعالى في صفاته- فيما يمكن أن يتجاوز حدود العقل، ومنزلة الخليقة، إلى المطلق في ذاته تعالى، وهو ما يطلق عليه بالحلول في وحدة الوجود، كما عند المتصوّفة، وما بين المطيَّة في حدّ التنسُّك والتماثل في حدّ الحلول، صفات مشتركة، في الوسيلة بالتضمين، ومختلفة في القصد بالتضاد.

ولعل في استعارات المقطع السابق ما يفي بتوضيح الرؤيا الحسية من أجل البحث عن الأكوان الممكنة، وحضرة الوجوب في حقيقة الرؤية الروحية العلوية، التي تسعى إلى الاطمئنان بالنفس في الكون المطلق بالمشايعة، ففي حين جاءت رؤية واجب الواقع الممكن بعلّته في هذه المفردات: (لا معنى/ سنة عارية/ متهم بجنونِ/ صهيلِ/ بكاءِ/ نزيفِ/ صمودِ/ عريي/ أضيع) على وجه الاستعارة بين العزم على سلوك طريق واجب الممكن، بما في الواقع من علل التجافي والاستلاب، جاءت العبارة الصوفية في استعاراتها، بخاصة في الحروف الماثلة؛ للدلالة على واجب الوجود في ذاته تعالى بنور بصيرة الحرف، وعلى وجه التحديد في هذا المقطع، ففي الاستعارات الأولى صور تشبيهية، في حين هي في الثانية تنزيهية، تأتي في العبارة الصوفية رمزًا لصفات ذات الجلال على حدّ قول ابن عربي:

إِنَّ الْوُجُودَ لَحَرْفٌ أَنْتَ مَعْنَاهُ

وَلَيْسَ لِي أَمَلٌ فِي اٌلْكَوْنِ إِلاَّهُو

الْحَرْفُ مَعْنًى وَمَعْنَى الْحَرْفِ سَاكِنُهُ

وَمَا تُشَاهِدُ عَيْنٌ غَيْرَ مَعْنَاهُ[30]

وقد استعمل الشاعر أديب كمال الدين الحرف هنا لما له من قدسية دالة على السمو، وليس على التماثل الذي به صورة الحق، كما هي عليه الحروف عند الصوفية التي تعني عندهم سر الوجود الذي تحتويه الحروف، على نحو ما توضّحه هذه الرسمة البيانية التي تختزل صورة الحروف في سياقه الصوفي المحض؛ لإعادة توازنه النفسي، وتوثيق سماته الروحية، كما ورد في المقطع السابق:

رقم

صفة الحرف

الدلالة القدسية

1

الضمير  في(حرفي)

قوة وسُلطة

2

الراء

وهي دولة الحق

3

الألف

وهي سلطان الحق

4

الكاف

وهي كاتب الحق

5

الحاء

وهي حافظ الحق

6

العين

وهي رؤيا الباطن

 

أضف إلى ذلك، يأخذ الحرف مساره القدسي النسبي في شعر أديب كمال الدين؛ لإظهار كيفية تبصُّره الكون، وتأمُّله المستقبل فيما يطلبه الاستعداد الواعد؛ لكي ينبلج الوجود على الوجه الأمثل، بما تستدعيه رفعة الحياة، بحثًا عن ملاحقة الأفق كما في رأي أدونيس: «نحن لا نَقبض على الأفق، بل نتنسّمه ونستبصِر فيه. وإذ نَكتب عنه، نكتب تنسُّمَنا واستبصارَنا، لا المعنى ذاتَه»[31].

وغالبًا ما نجد في شعره الجمع بين الارتباط بالسمو لرسم إنسانية الإنسان في واقعه، والتعاهُد مع القدسية التي تتّصف بالصفات الروحانية للخليفة الإنساني ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ المكمون في السر، حتى يكون وقاية للظاهر والباطن، وعبرة محمودة.

الرحمن

خَلَقَ الأكوانَ وسلّمني مفتاحَ الأرضِ وبايعني.

لكنْ عذّبني الجندْ

إذ آلمني أرقُ الليلِ المطعون، فشرّدني السلطانْ.

فبأيّ أقترحُ الليلةَ معراجي..

وأقودُ مماليكي، شمسي وغيومي نحو الله؟

الرحمن

خَلَقَ الإنسانْ

آتاهُ الحكمةَ طيّعةً والبلبلَ والهدهدْ.

لكنّ الأرضَ انذهلتْ والمأساة اتسعتْ وتعرّتْ

والغربة قد كبرتْ.

فأشيري يا كلمات الرحمةِ..

إنّ الإنسانَ بحُسبانْ[32].

2- شفرات البرزخ

هناك مضامين وجدانية وروحانية تستلهم كيان الصوفي، وتقع في تماس مع مدلولات تجربة الشاعر الإبداعية، وتمدُّه باليخضور. وهذه المضامين الذاتية هي المشترك «المعنوي/الرؤيوي» بين الشاعر والصوفي، على اعتبار أن كليهما مولع باقتناص المطلقات، ووعي الكليات واستيعابها.

الأمر الذي جعل من الصوفية أن تكون بـ«مُقْتَرَب (من) الوجود والحياة، أو منهج شمولي يحاول (استيعاب) كل ما هو كائن على الإطلاق. فالصوفية نمط حياة، أو شكل من أشكال انكشاف الإنسان في الزمان»[33] الذي باستطاعته أن يدرك مأزق الذات والوجود معًا.

غير أن هناك جوانب أخرى تشترك فيها الصوفية -بوصفها خطابًا منهجيًّا لتحليل النصوص وتأويلها- مع القراءة الحداثية التي تطمح إلى مقاربة النص استنادًا إلى شفرات المنهج الصوفي، وأهم هذه الشفرات:

أ- فيض البرهان/ كشف الكشف

إن القصيدة لا تُفصح عن ذاتها، بل هي تتوارى خلف أستار وحجب، ولا تتجلَّى إلَّا في شكل احتمال، أما الوارد فيها فهو محض علامات دالة، تختبئ وراءها مدلولات جمَّة، ومحمولات متعدِّدة، ومن ثم كان النفاذ إلى مستوياتها العميقة يتطلَّب، بالضرورة، سبلًا ملتوية، وطرائق متنوّعة، لا تختلف من حيث إمكاناتها، وتصوُّراتها، وفرضياتها، وحسب، ولكن أيضًا من حيث كونها أشكالًا غير ثابتة تنزع إلى التحوّل، في الهيئة والشكل، والتنوّع في الصور، والتلوُّن في الدلالات، فكما تتعدَّد مستويات النص، كذلك تتعدَّد مستويات التقبل والتحليل.

ولا شك في أن فيض البرهان، أو كشف الكشف، هو أحد السبل المؤدية إلى فضاءات النص، وفجواته، والتواءاته؛ لأنه كما هو معلوم في خطاب الصوفية «يشاهد من الشيء جوهرَه الصافي. فهو نظرة باطنية مَلَكية، تُخلِّص الأشياء من أعراضها وشوائبها وما فضل عن صميمها، ابتغاء البلوغ إلى نواتها الأولى، أو ينبوعها الأصلي»[34].

فإذا كانت القصيدة رؤيا، فإن الوصول إلى مضمراتها الخفية يحتاج إلى مثل هذه الطاقات الكشفية، ويقترن الكشف بالتفكيك في كثير من التصوُّرات والرؤى، بحيث يبدو أن كلتيهما تدعوان إلى تشريح البنى العميقة للنص لاستخلاص المعنى الضمني، فالتفكيك إدراك ضمن النص، دون التقيُّد بنماذج ثابتة في التعاطي معه، ودون أن يبقى أسير المتون الخارجية، وكما يقول جاك دريدا (Jacques Derrida): إن حركات التفكيك لا تتناول البنى والهياكل الراسخة من الخارج، ولا يمكن أن تصبح ممكنة وفعّالة، وتضرب ضربات صائبة، إلَّا إذا سكنت هذه البنى من الداخل وتلبستها[35].

إنه حفر في الجوف، وخوض في المنطق الأكثر عمقًا، وبذلك فهو يرتبط من المنظور الصوفي بما يمتلكه الحس من إدراك وتصوُّر، وليس بما يُمليه العقل الذي لا يتوافر إلَّا على احتياط أقل.

ويعمل الكشف على تنشيط القوى لحركية الذهن في القدرة على الإحساس بالظواهر النفسية المختلفة، وتفعيل طاقة الذاكرة بدافع الاحتفاظ على التجارب السابقة «فالكشف، في الحق لا يقل أبدًا عن كونه استنفارًا للطاقة الاحتياطية الجاثمة في الذهن البشري. إن الجهد البرهاني، أو العلمي، لا يملك أن يستهلك جملة الطاقة النفسية أو الدماغية؛ بل هو لا يكاد أن يفيد إلَّا من جزء يسير من طاقة العالم الجوَّاني الشديد الزخْم والغزارة»[36].

هناك، إذاً، فائض في الطاقة الجوَّانية للوجدان البشري، يظل يلهم الذات على الدوام، أما البذل البرهاني فهو لصيق بالجانب البرَّاني للظواهر، وكأن النص -في نظر الصوفية- قطعة من وجدان لا دخل لسلطان العلم فيها، بحيث لا يلج أعماقه إلَّا من تمرَّس على التعامل مع المعنى الإنساني، النابع من جوهره الخبيء، «أما النقد العملي أو التطبيقي فيصير نوعًا من كشف الكشف؛ أي هو استبارٌ للنص وشهادة عليه»[37].

ينبغي إذاً على القارئ أن يكشف عن مضامين النص الباطنية التي تنقلنا إلى عالم اللاتناهي في تفتُّحه المطل على مبدأ التجلِّي، وتجعلنا نتَّحد بصفاته ضمن وثبات كشف المضمرات، والمستورات، عن طريق التذوق «بالعمق الميتافيزيقي»، ووفق آليات الحدس، والاستبصار، والموقف، وهي من الموضوعات الصوفية التي تجمع في مضامينها «الشوق، والذوق، وصقل النفس، والتنقيب عن الألطاف والنشوات، وكل ما هو جميل ونبيل. وقد قال أحدهم: عشقُ الجمال قنطرةٌ إلى الله. ولقد دفعهم (المتصوِّفة) ذوقهم وشوقهم إلى الولع باللغة العالية، من جهة، وإلى التولُّه بالسفر والترحال، من جهة أخرى، وذلك ابتغاء الالتقاء بكل ما يصلح غذاءً لنفوس همُّها الأول والأخير أن تتحوَّل من الجَلَف إلى الهَيَف، لا قصدَ لها إلَّا أن تصير جديرة بمجاورة الله»[38].

ب- اللغة/ الرمز

يستند المنهج الصوفي إلى مقولتي «اللغة» و«الرمز» بوصفهما مقولتين فلسفيتين وذهنيتين يشتركان في أداء الوظيفة الرامزة، وتوصيلها وفق شفرات دالة تحتمل التأويل والاحتمال. ولذلك سلكت الصوفية مسلك الرمز لما يحمله من طاقات الغموض، والإبهام، والإيحاء، بقصد استلهام عوالمها الغامضة بوصفها مؤشرات على الباطن الخفي، والداخل المستتر الذي لا تستوعبه إلَّا الطاقات الكشفية.

أضف إلى ذلك أنه «كيان مفتوح لا تستهلكه الشروح؛ أي إنه يكتم سرًّا لا يبوح به إلَّا جزئيًّا، وبالتدرُّج، كما أنه لا يبوح به إلَّا عن طريق الكشف، لا عن طريق البرهان، ما دام الرمز لا يشعُّ فحواه إلَّا وفقًا لمبدأ التلويح»[39]، فالبرهان سبيل العقل، ودليل العلم، أما الكشف فهو سبيل التأمُّل والوجدان.

وفي هذا المجال يؤسّس أدونيس -بوصفه نموذجًا لهذا التفكير- نظريته على أساس «الماوراء نص» وكأن الرمز لديه هو الوجه الآخر للنص، أو هو النص اللامرئي، أو المحتمل، أو الخفي، ولذلك فهو يقول: «الرمز هو ما يتيح لنا أن نتأمَّل شيئًا آخر وراء النص، فالرمز هو قبل كل شيء معنى خفي، وإيحاء. إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، أو هو القصيدة التي تتكوَّن في وعيك بعد قراءة القصيدة، إنه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالمًا لا حدود له، لذلك هو إضاءة للوجود المعتم، اندفاع نحو الجوهر»[40].

فالنص على هذا النحو غير قادر على الوجود؛ لأن حركيته منعدمة، ووجوده مجهول، لكنه ينبعث فور مداعبة القارئ «لراموزه» الصموت. وقد كان أدونيس رائد الترميز، حين يلغم نصوصه الشعرية بكومة من أيقونات ذات دلالات متعدِّدة، لا يمكن أن تستوعب محمولاتها كاملة إلَّا الذات المبدعة التي تمرَّست على مداعبة اللغة[41]، ومساءلة مكوناتها الأصيلة:

                 في الجرح أبراج وملائكة

نهر يغلق أبوابه، وأعشاب تمشي

رجل يتعرَّى،

يفتت ريحانًا يابسًا ويملل

ثم ينقط الماء فوق رأسه[42]

وهكذا يكفُّ النص عن كونه استجابة لواقع أو ضرورة، ويستغني الشاعر عن الفكرة أو الصورة في سبيل الحصول على «الكونية الشعرية». فكما يتَّحد الشكل والمضمون اتحادًّا كليًّا في الموسيقى، كذلك تمتلك القصيدة نشوة الاتحاد من حيث كونها رؤيا للكون وللحياة، غير مجزَّأة، بل هي كلية، وعليها أن تمتنع عن كونها «لحظة انفعالية» وتسمو إلى أن تكون «لحظة كونية».

ولا شك في أن هذا السمو إلى الكونية لا تستوعبه إلَّا لغة تسعى إلى احتواء المطلقات الجمالية، والروحية، والفكرية، والوجدانية، بكليَّاتها «لَا لأن اللغة ماهية العقل البشري، وحسب، بل لأنها الأنا الوحيد الذي يسعى الإنسان بواسطته من أجل احتواء هذا الاتساع اللامتناهي، أو المفتوح على المطلق، والمسرَّح واللامحدود»[43].

وكذلك من أجل تجسيد أعظم لتأملاته، وحدوسه، وتطلُّعاته، ورؤاه. واللغة هنا شأنها شأن الرمز، تعلو ولا يُعلى عليها، فهي ليست خاصية فنية أو جمالية وحسب، ولكنها ميدان للتجاوز والتخطِّي من جهة، ومجال للاحتمال والممكن من جهة أخرى، «وكما حطَّم الصوفي الحواجز والحدود التي تفصل بين الأشياء، فجعل منها عالمًا واحدًا يذوب بعضه في بعض، ويغْني بعضه عن بعض، كذلك كان شأنه مع اللغة ومدلولات ألفاظها، حيث تنزاح قوالب الألفاظ، ويتداخل بعضها في بعض وتكاد تتحوَّل جميعها إلى نغم واحد»[44].

والشاعر ليس أقل حظًّا من الصوفي في استخدام الرموز اللغوية في كل محمولاتها، وشحناتها، وكثافتها للإيحاء بجملة الأفكار التي تراوده، والمعاني التي يهجس بها، والقيم التعبيرية، والوجدانية، التي يتفجَّر بها المعنى الباطني. اللغة إذاً، مؤشِّر على الظاهر، والمستتر، والممكن، والمحتمل، والمعلوم، والمجهول، إنها -إلى جانب ذلك- احتواء للكون في «لا تناهيه»؛ لأن «اتساع الممكنات لا يقبل التناهي».

واللغة الصوفية هي ذلك «اللامعقول الممكن» في تعاطيها مع «الأكوان الممكنة»، تحليلًا وتركيبًا بحسب مفهوم (David lewis) والتي لا تتعارض مع «المستحيل الممكن» كما عبَّر عنه العالم الفيزيائي Michio Kaku.

ولعل هذا ما يجعل اللغة الصوفية استثنائية حين تنفلت من المعقولات برمتها لتعبِّر عن وجودها في سياقه المبهم، كما أنها لا تتمظهر إلَّا في شكل «التجلي»، وهذه هي اللغة الرامزة، أو اللغة الرمز، التي تخلب قلوب المتصوِّفة، «ثم إن تولّه الصوفيين باللغة الاستثنائية، وصلادة الأسلوب العاري، وجودة التعبير الرفيع، هو أساس رصين لكتابة عربية كثيفة أو مركبة، أو قل: كتابة عميقة الغور من جهة، ومشحونة بالقدرة على المباغتة والخلب، من جهة أخرى»[45].

وقد رافق الشعراء مثل هذا الوله منذ الرومانسية إلى الرمزية، والسريالية، ويزداد ولهًا واستغراقًا ونشوة بجمالية الرمز، وسحره، وسلطانه، على الحس، والفكر، والشعور. وهكذا ظلّت اللغة بمثابة الحامل الأسمى لمعنى الوجود بكل متناقضاته التي تشكّل جوهر كل جمالية في الحياة.

ج ـ الخيال / البرزخ

ليس البرزخ في مصطلح الصوفية حَيْداً بالذات، أو غيًّا بها، أو تماهيًا عاطفيًّا منها، بقدر ما هو طاقة وجدانية تتفجَّر بالمدهش واللامنظور، وتطفح بالمحسوس والمعقول.

والبرزخ في مثل هذه الحال لا يهبط إلى درك العالم السفلي فيجرِّده من فعاليته وينعدم، ولا يرتفع إلى درجة الواقع الأسمى فيفقد معقوليته، وإنما «حسّ باطن بين المعقول والمحسوس» كما تصوَّره ابن عربي. سماته التلوُّن، والتغيُّر، والتبدل، بحسب أحوال النفس عبر ترحالها، وتنقُّلها، وسفرها، وهذا ما يمنح النصوص الأدبية الإشراق، ويمدّها باليخضور، وينفي عنها صفات الثبات والرتابة. وهو إذ يستحضر الغائب ويبتكر المجهول «يصور ما ليس بكائن» إنه مجال مفتوح على فضاءات لا متناهية من الحرية.

لقد أراد ابن عربي أن ينفي عن الخيال صفة التجريد المطلق، وكذا الحسية المطلقة، وهو ما جعله يضعه بين المنزلتين، على اعتبار أن «علم الخيال هو علم البرزخ»، ذلك أن غريزة التذوق الإنساني لا تصل إلى عمقها الوجداني إلَّا بما تقتنصه المخيلة من الواقع، وتحوله الطاقة الجوانية، في تأملها الباطني، للذات المبدعة إلى فيض من العلامات المتعالقة، والمتشاكلة، كونها متعدِّدة المعاني والدلالات.

وعلى النقد الأدبي أن يغوص في مفهوم البرزخ أكثر ليمتاحَ منه نظرية لجمالية الخيال، ويوسّع من مقدرته الكشفية حتى تدركه الأذواق، والأسماع، والأذهان، ويصل إلى أقاصي الوَجد، وينفتح على جميع الممكنات. فإذا تمكَّن الناقد المعاصر من تمثّل مقولة الخيال لدى الصوفية تمثُّلًا واعيًا، يكون بوسعه حينها مقاربة النصوص مقاربة واعية ومتمكنة.

د- الحامل السيميائي/ التأويلي

تتجسّد فاعلية الفهم التأويلي -ضمن مستويات نظرية القراءة- في صرف الظاهر، وتمكين الباطن، بالتقلُّب في الأحوال إلى الاستقرار، باعتباره مؤشِّرًا عليه، واعتماد مبادئ الحدس والرؤيا التأمُّلية في فهم النصوص وفق دلالاتها المختزنة.

كما تتجسَّد هذه الفاعلية أكثر في إسهام المتلقي في تحليل معادلة التأويل، ليس بوصفه «أنا متقبلة» وحسب، ولكن بصفة أيضًا «أنا فاعلة» توحي بمقدرتها على تفكيك النصوص بما تمتلكه من رؤى بحيث تُعلن كل قراءة جديدة عن ولادة جديدة للمعنى، أو الدلالة المتضمنة، أو التي تم إسقاطها على النص «فالشرط الجوهري لمعادلة التأويل هو معرفة حياة العمل في وعي أجيال متعددة من القراء»[46]؛ مما يكسب المعنى الواحد دلالات متباينة، ويجعله غير منغلق، ولكنه مفتوح على إمكانات تأويلية ممكنة ومحتملة، بإمكانها فسح المجال لظهور معانٍ متعدِّدة ومتنوِّعة.

وقد اتَّخذ مفهوم التأويل قديمًا مأخذ الجد، حيث فكرة الصراع بين الظاهر والباطن شائعة في حقل معارف القدامى، بخاصة عند المتصوّفة، ويمكن اعتبار ابن عربي أحد الأقطاب البارزين الذين اهتموا بقضايا التأويل، وجعلوا له مخرجًا على المستوى الوجودي بفكرة البرزخ، وعلى المستوى الإنساني برحلة المعارف الخيالية من أجل الكشف عن جوهر المعرفة.

إن خصوصية «التأويلية» تكمن في البحث عن الأنساق العامة التي تتجلَّى في اكتناه الذات المبدعة، بوصفها الكيان المرجعي لاستحضار تصوُّر نتاج الضمير الجمعي في تعامله اليومي؛ ذلك أن التأويلية لا ترتبط «بالماحدث» كإطار مرجعي ثابت، وإنما نزوعها إلى شبكة الاحتمالات صفة متداولة «للمايحدث» لاستكشاف البعد التأملي، بحيث يخلق من النص الأول نصًّا ثانيًا، يتشظَّى في النص الآخر، فتقترب النصوص فيما بينها لتشكّل مجريات التناص، من خلال تفكيك الصورة الكلية إلى وحدات جزئية، يكون التأويل فيها متساوقًا مع وحدة الرؤيا الممكنة، ووحدة نتاج تفاعلات المحصِّلات الخبرية المتساوقة، والمتصارعة؛ لتوليد أشكال جديدة من التأويلات.

ومن ثم، فإن سياق التأويل لا يحكمه مقياس «الرؤيا» الموجهة لمعرفة الحقيقة، وإنما يعتمد بالأساس على سياق منطق الباطن، هذا المنطق في طُرُق استنباطه لا تحدُّه مفاهيم مسبقة ولا تحيط بالمتلقي دوافع خارجية لتؤثّر فيه، بل غياب «النهج الضابط» يصبح شرطًا أساسيًّا للمعرفة غير المتحيِّزة، ومن هنا يسلم القارئ سلطانه للعالم المجهول في أثناء عملية القراءة التي هي في عداد «التأويل التوليدي» من أجل خلق التأليف الثاني[47].

هناك مستويات خبيئة ولا مرئية، تمنحها التأويلية لفاعلية الاستنباط، بما تحمله من سمات الانجلاء، وتواظب على استحضار غيبيات دلالاتها، فيما خفي من معاني الصور ومستورها، بوصفها الأسلوب الأوحد لاستقراء منهجي له خصوصياته وتصوُّراته في منظور «نظرية القراءة»، ولذلك يكون الاستنباط التأويلي ذا «فعالية شديدة الصلة بمقولات اللاتناهي، والتفتُّح، والخيال المطلّ على الغياب، والذي من شأنه أن ينادي النائيات والمتباينات، بل قل: إن التأويل تطبيق إجرائي لمبدأ التجلِّي الذي هو التفتُّح إياه، على وجه الدقة والتماهي»[48].

وحتى نفيد من جوانب شتى من التجربة الصوفية سواء ما تعلّق «بالموضوعات الذاتية بكل ما تحمله من مظاهر الاغتراب، والقلق، أو ظاهرة الانسحاب من الوجود، أو التمرُّد على الواقع إلى واقع أسمى، أو البحث عن الجوهر المفقود، أو نشدان المثل المطلقة، أو ما يتعلّق كذلك «بالموضوعات المنهجية» مثل الكشف، والرمز، والتأويل...».

حتى نفيد من ذلك ينبغي اتّخاذ -هذه التجربة- كإجراء عملي وتطبيقي في الدراسات التحليلية. فقد اتّضح أنه بإمكان الصوفية أن تصبح منهلًا يتشرب منه النقد العربي الحديث، من حيث مفاهيمه وأدواته الإجرائية، ورافدًا يُهتَدى إليه، ويسترشد به، ويستقي من هذا الموروث العظيم كثيرًا من القضايا المتعلّقة بالمعنى والمبنى، أو ما يعرف في المفاهيم الحداثية بالبنى العميقة، والبنى السطحية.

وعلى النقد العربي أن يُعيد النظر في تصوُّراته وأدواته، ورؤاه، وما يشترك فيها مع الصوفية، فيتجنَّب بعضها اجتنابًا واعيًا ومركّزًا. ويأخذ ببعضها مأخذ الجد لتنمية المشروع، والمساءلة لبلوغ الغاية، والوعي لبعث الفهم وسلامة الإدراك.

ثالثًا: الاستبطان الدلالي

إن أي عمل أدبي لا تكتمل فعاليته إلَّا بمشاركة فعّالة من قارئ مطلع، وذلك عبر حلّ الشفرات المستخلصة، والتي غالبًا ما توظّف في النصوص بقصد التمويه والانحراف عن المعنى الحرفي لها، وهو ما يتوافق مع القراءة الدلالية الاستبطانية المفتوحة، كونها لا تنتهي إلى معنى محدَّد، ولكنها تعكف على ملاحقة المضمر الدلالي في جميع تمظهراته ومستوياته الترميزية والتشفيرية.

وهكذا فإن سبل الكشف عن صيغ معارج المعنى غير محدّدة، كما أنها قابلة للتحوّل أو الإخفاق، على اعتبار أن كل نص له متصوّر ذهني غائب، أو وهمي في وعي المتلقي، يتشكل لديه من تراكم الخبرات القرائية، والمخزون الذاكري، وما تضيفه قدراته الإبداعية من خلق وابتكار.

ومهما تعدّدت الرؤيا التحليلية للنص، وتنوّعت معارج معناه، تبقي ثمة مفاهيم قابلة للاستيعاب، وقابلة لتمرُّس القارئ السيميائي على التعامل معها، منها ما يرتبط بالسياق التداولي أو النحوي، ومنها ما يرتبط بالسياق البنيوي الدلالي للنص.

ومن ثمَّ فإن «هذه التحاليل الدلالية بلا شك ليست إلَّا طريقة توضيح، وبناء، وتنظيم، للحس الداخلي اللغوي الذي يُفهِمنا المساحة الأسلوبية لرسالة لفظية على مستوى الكلمات. وهكذا فإنها تسمح بقياس جمهور العمليات الذهنية على أساس من التقريبات والتمييزات التي نقوم بها باللاوعي عند فك النصوص»[49]، سعيًا مِنَّا إلى رصد التباينات الدلالية، والإيحائية، والعلائق الداخلية، وملاحقة المتناهيات، وضبط المتباعدات، وتقريب النائيات، بقصد متابعة الأيقونة الشعرية التي لا يقذف بها النص خارج تخومه، وإنما داخل أغواره.

تمتلك الذات الشاعرة حسًّا ماورائيًّا تمتزج فيه الرؤيا بالقلب؛ أي بالمدركات الباطنية في أشد حالاتها هدوءًا وسكينةً، وتعبّر عن هذا الحدس بانفعالاتها الوجدانية النابعة من كيان يذوب في مسافات لا متناهية من اللاوعي، كلما طرأ عليها طارئ جواني، يحرّك فيها دوافع الرغبة في الإمساك بلحظات الخلود السرمدية، وتجريد العالم من حسيته.

وفيما تصل كيانها بوجدان العالم الكلي تنفصل عن عالمها الجزئي «الأصغر»، محاولة منها لإيجاد منفذ لتعاستها، وحسّها المأساوي، في عالم يضيق باستمرار، ولا يتّسع لهاجس المتعالي المطلق الذي هو صفة مميّزة للمتصوّفة، ومخرج وجداني للذات الشاعرة من مأزقها الوجودي.

ولما كان الشعر حالة من حالات الوجد، وشكلًا من أشكال العاطفة، فإن إحساس الشاعر بالوجود يتجاوز «أناه» ليرتقي دائمًا نحو الأسمى. وهذا الإحساس تصعده الانفعالات الوجدانية وليس الانفعالات الوجودية أو الواقعية، ففي حين يكون الانفعال الواقعي معيشًا بوَسَاطة «الأنا»، بوصفه واحدًا من حالاته الباطنية، فإن الانفعال الشعري يكون محسوبًا على الشيء.

إن الحزن الواقعي تعيشه الذات على طريقة «أنا أوجد» باعتبار هذا تحويلًا للذات نفسها، ويكون العالم الخارجي السبب الرئيس لهذا التحويل، وعلى العكس من ذلك فإن الحزن الشعري يدرك كصفة للعالم[50].

رابعًا: المُفيض في تجليات صوفية

الاحتفاء بالمرأة في الإبداع وافر، والتغزُّل بها أوفر، وأكثر حظًّا، بيد أن آلاء إفراط الحب بها روحًا، والولع بها عشقًا ساميًا، كان من خاصة الشعراء العظماء من أمثال: الحلّاج، وابنِ عربي، وابنِ الفارض، والمقدسي، وسعدِ الدين الشيرازي، وسنائي غزنوي، وفريدِ الدين العطار، وجلالِ الدين الرومي، وغيرهم كثير من الذين جاوزوا الحدَّ في وصف لوازم الحب إلى وصفه بما يشبه متعة النجوى، ولذة القرب إلى الورع، وجلال المشاهدة بالتقوى.

ومن ثم كان ولعهم بالمرأة -من قبيل المجاز- من الصفات المائزة لبلوغ المراد في الحب الأزلي؛ لذا تعدّ صفات المرأة في جوهرها الروحي وسيلة لاستبدال كيان النشوة بكيان الجسد الحسي، ولذلك أولوها الاهتمام البالغ، والواصل إلى غايته في الوحدة الدائمة للفناء، والانشغاف بعظمة الخالق، كما رأوا فيها الوجد المحض، المنقدح في القلب، وإذكاء جذوة الإلهام، وهو ما عبّر عنه -مثلًا- الحارث بن أسد بن عبد الله المحاسبي البصري في قوله: «المحبة ميلك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثار له على نفسك وزوجك ومالك، ثم موافقتك له سراَ وجهراَ، ثم علمك بتقصيرك في حبه».

لقد أفاض الدارسون الحديث في هذا الشأن بما يوفِّي الغرض؛ ولكن حسبنا هنا أن نقف عند «تجليات صوفية» لنزار قباني، هذا النص الذي استطاع أن يستلهم صورة المرأة في شعر التصوُّف، الآخذ بشقيه القديم والحديث، بكل ما تحمله الأنظمة الدلالية داخل النسق الصوفي في تركيبته الروحية. نجتزئ بقوله منها[51]:

عندما تسطع عيناك كقنديل نحاسي،

على باب ولي من دمشق

أفرش السجادة التبريز في الأرض وأدعو للصلاةْ..

وأنادي، ودموعي فوق خدي: مدد

يا وحيدًا.. يا أحد..

أعطني القوة كي أفنى بمحبوبي،

وخذ كل حياتي..

عندما أدخل في مملكة الإيقاع، والنعناع، والماء،

فلا تسعجليني..

فلقد تأخذني الحال، فأهتز كدرويش على قرع الطبولْ

مستجيرًا بضريح السيد الخضر وأسماء الرسولْ..

عندما يحدث هذا..

فبحق الله، يا سيدتي، لا توقظيني.

واتركيني..

نائمًا بين البساتين التي أسكرها الشعر، وماءُ الياسمينِ

علني أحلُم في الليل بأني..

صرت قنديلًا على باب ولي من دمشق..

«تجليات صوفية» ليست صوفية السالك الذي يسلب صفاته من الحياة، اعتزالًا، أو انطواءً بالوسائل الطرقية في أداء الشعائر (كالراية، والعصا، والمسبحة، والدف، والطبل، وما شابه) على العكس من ذلك، إنها صوفية المُفيض في تجليات فضائل الحق بقدر استطاعته، مأخوذًا بطاقة روح محبوبه، الهائم به، من قبلُ ومن بعدُ، سواء في الوجود الحسي (الظاهر) أو في الوجود الروحي (الباطن)، وفي كلتا الحالتين معًا كانت صاحبته متجلِّية في صورة المقصود، ففي الحالة الأولى ارتقى بها إلى مقصود الإعلاء من شأنها، بينما في الحالة الثانية، أراد لها أن تكون إجابة لسؤاله بالاستقامة والانحناء إلى الطاعة في ذات الحق، وتسامي الروح.

كان تألُّق نزار في جميع دواوينه عن المرأة يمثل «فيلوصوفيا الحب»، حين كانت حبيبة «الواحد» مع نفسه في الارتقاء بها إلى مصاف المرأة النموذج في كل شيء، بدءاً من زَغَب خدّها إلى بِزّة قَوامها، ومن فَتْل قدّها إلى رضابها «المسك»، ومن تبسُّم ثغرها إلى تبلسم وجهها، حيث تجلَّت فيها حكمة المحبة في خصائص تبعيضاتها، بينما كان حبُّه لها في تجليات صوفية مستمدًا من الـ«فيلوصوفيا التقوى»، المسكون بها بقرينة الحكمة النورانية في معالمها الروحية، وأرقى مستوياتها المعنوية.

لقد رفع نزار من سمو مكانة المرأة إلى ما يعتوره من وجد داخل «مملكة الإيقاع»، إشارة إلى انجذابه -في الاتصال- بسِتر وهج الحال، وغياب القلب عن الخَلق، وكأن طلب الاستجارة من حال الشاعر المجذوب يمثّل طلب الصلة الروحية بين الخلق في ذات المريد بالوجد، والحق في ذات صفاته تعالى في حضرة «ضريح السيد الخضر وأسماء الرسول» وهي خاصية كل مُغيث في أن يشد الحقُّ أزر المستجير، والأخذ بيده إلى حالة التقوى بلا كلفة.

وإذا كانت المرأة -دومًا- حاضرة في قاموس نزار بوصفها «أنثى» مجدولة القِوام، وبهاءً متألّقاً، كما يحلو للكثير من الدارسين وسمَها «بنظرة الأنوثة»، أو نسقًا معرفيًّا كما نتصوُّره، فإنها هنا في هذا النص تمثّل المرأة النموذج في التجلّي، والمرآة العاكسة لرؤيا نزار، يبحر بصفاتها في فضاء الكون، وبجوهرها يعرف حضوره الأكمل، إنها في «تجليات صوفية» فتح آخر غير الصورة السابقة لها في عالم الأدران، فتحٌ فكَّ به أسْرها لتتحوَّل من شوق الجسد إلى شوق الورع، من البحث عن الصنع في الخَلق، إلى البحث عن الكشف في الحق، حيث المحل الأرفع، والأسمى؛ وإذ ذاك فهي مرآة عاكسة لوجوده الآخر، العالم الأكبر.

إنه تحولٌ في موقف نزار -من رفع مكانة المرأة- إلى الإعلاء من شأنها بالرغبة في الكشف عن المظاهر الموصوفة بالإمكان في صورة الحق، كما حول البُوصِلَةَ -من قبلُ- من إمكان الحديث عن نفسها إلى الحديث على لسانها، ومن غريزة الجسد، إلى توشيح مفهوم الأنوثة بوسام الصفاء.

أما في تجلّيات صوفية فإنه حول اتّجاهها من رواسب تصنيف سلطة الذَّكَر إلى التأمل بمعاوِل الذِّكْر، والمجاهدة بالأوراد القلبية. وكما قادها، شعريًّا، إلى المحافل والقصور، ها هو يتمثّلها، في طلب السؤال عن الحقيقة التي تشمل مراتب المقامات، بعد أن اتّخذها مثالًا لصفاء الروح، وشريكًا له في تفريغ القلب لحسن التوجُّه إلى تقوى الله والاقتصاد في أمره.

صوفية نزار في «وجْد حبيبته» منبثقة من التعاليم الإنسانية في جوهرها الجمالي، الشبيهة بـ«الحبيبة الكونية» عند ابن عربي، أو الحبيبة الإشراقية المطلقة إلى السماء كما هو الشأن عند الشيرازي. كما أن حبيبة نزار، في هذا المقام، ليست هي «عزة كثير» ولا هي «ليلى الأخيلية صاحبة نوبة»، بل هي تلك الحبيبة التي تواشجت فيها خُلوص الحب الإنساني، والحب العذري، والحب الإلهي، ومن ثم فهي ليست الحبيبة المشحونة بالوجد المطلق، السابح في عالم الجسد، بل هي تلك الحبيبة الممشوجة بكيان الحقيقة في صفات الحق المحض، والمتَّحد بما أطلق عليه المتصوفة بثلاثية (المعرفة/ المحبة/ المشاهدة) أو ثلاثية ( القلب/ الروح/ السر) من منظور أن القلب دنو المعرفة، واعتناق الروح بعد المجاهدة بالمحبة للوصول إلى المقام، والسر هو المشاهدة. وفي تقلّبه يتدرّج إلى الروح، وفي ارتقائه يرتقي إلى السر، فتقلُّب القلب بين أصابع الرحمن يؤدِّي إلى معرفة الوجود، ومحبَّة كل ما فيه، ويكشف عن المعنى في جزئياته المتناهية[52].

ويظهر ذلك جليًّا حين نقرأ هذه الصورة:

وأنادي، ودموعي فوق خدي: مدد

يا وحيدًا.. يا أحد..

أعطني القوة كي أفنى بمحبوبي،

وخذ كل حياتي..

إنه نداء صوفي لحلم يؤثر فيه لوعة الروح في محصول الفناء بالمحبوب؛ وإذ يطلب نزار استبدال القوة بالحياة فكأنما يطلب قوة الإرادة التي تدفع به إلى الاتّحاد مع المجاهدات الروحية المنداحة -بجذبها- إلى روح الطهر، وهو بديل مشفوع بتضوُّع رائحة الفناء [الصوفي]، والاستغراق في عظمة الباري، وكأننا بالشاعر يُهيِّئ نفسه ليسكن سكون اليقين، المفضي إلى السعادة الروحية.

إننا أمام نص يطرح حالة من التجلّي الروحي، والوجد الذوقي، في مقام الكشف فيما تستبصره رؤيا المرام. ولعل الذوق في هذا المقام مستمد مما يراه من مدد فيض القانتين، الدائمين على طاعة الباري، أو من ذوق ابن عربي في «فتوحاته» حين وصفه بأنه «أول مبادئ التجلِّي، وهو حال يفْجَأ العبد في قلبه؛ فإن أقام نَفَسَيْن فصاعدًا كان شُربًا»[53]، وهو ما تعبر عنه ملكة إحساس نزار المتعالية في عالم الخيال المطلق، والمقيد، في آن، ويظهر ذلك جليًّا حين نقرأ هذه الصور:

تعتريني حالة نادرةٌ..

هي بين الصحو والإغماء، بين الوحي والإسراء،

بين الكشف والإيماء، بين الموت والميلاد،

بين الورق المشتاق للحب.. وبين الكلمات..

وتناديني البساتين التي من خلفها أيضًا بساتين،

الفراديس التي من خلفها أيضًا فراديس

يسعى الشاعر هنا إلى أن يكون واحدًا مع ذاته الكاشفة -بما يؤدّيه إليه نظره في تجليات الحق في كل شيء- متكاملًا مع كيان محبوبه بالروح المتحقّقة في البساتين، والفراديس، والفوانيس، وكأن نزارًا يصف حالة الرغبة في انتقاله من الحكمة الصوفية التي يطلق عليها بـ«الفيلوصوفيا» إلى الصوفية الكونية/ النورانية، المشفوعة بالأحوال الربانية، وذلك بعد أن ترجى محبوبه بإيثار مطلوب التمني في الغفلة والنوم، رغبة في تجلِّي الشعور الأسمى في «الحلم» بتكامل الوجود الكوني، وتأكيد ما يرنو إليه في قنديل محرابه الذي ينادمه ليلًا.

إن حالة الصحو في الربط بالمعراج الروحي هنا تمثّل كمال المحو في اللوح المسطور في الحياة الدنيا، بينما تمثّل حالة تبدل المواقع بين الأمر المخصوص من (وحي السماء والإسراء، والكشف والإيماء، والموت والميلاد، والورق والكلمات)، موطن التحوّل في الوضع، كالانتقال من عالم حياة الدنيا إلى عالم حياة الروح، والاستعداد للاستمداد.

إنها ثنائية الترادف في الوحدة بتناظر الأحوال، والإحاطة بالوسائل الروحية التي تأخذ بالسالك إلى بعض المقامات؛ لأخذ الوِرد المأذون، والاستقبال في حضرة الأفق الأعلى.

لقد عانق نزار الحب السَّرْمَد الذي أصبح حقيقته الأولى في حياته الأخيرة، وكأنه في ذلك يتجاوب مع أمنية الحلَّاج حين قال:

تمنت سُليمى أن أموت بحبها

وأهون شيء عندنا ما تمنت

يتّفق نزار مع الحلَّاج في مطلب الكون الجامع مع حقائق الوجود في القوة، وهو مطلب لا يتحقّق إلَّا لمن ركبت السجية الصالحة فيه:

أعطني القوة كي أفنى بمحبوبي،

وخذ كل حياتي

...

عندها..

يخطفني الوجد إلى سبع سماوات..

لها سبعة أبواب

وإذ يطلب «قوة» التأمُّل في خزائن فضائله تعالى، فإنما يطلب الإغاثة -أيضًا- بإمداده سر التفاني في المحبوب، حتى يسكن في فيض رحمة بديع السماوات.

أمام هذه الشمولية التي تتجلَّى في مرآة الروح الطاهرة ينظر الشاعر إلى الكلية فيما بين الحق والخلق، وإن لم يكن لها وجود في عَيْنِها، على حدّ رأي ابن عربي: «هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة فإنها معدومة العين موجودة الحكم، كما هي محكوم عليها إذا نُسبت إلى الموجود العيني، فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزيء فإن ذلك محال عليها، فإنها بذاتها في كل موصوف بها



[1] فؤاد أبو منصور، النقد البنيوي الحديث، ص 326-334.

[2] ينظر: خضر الآغا، ما بعد الكتابة نقد أيديولوجيا اللغة، دار النايا، ط1، 2008، ص 180 وما بعدها.

[3] ينظر: المرجع نفسه، ص 181.

[4] إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، عالم المعرفة، ص 208.

[5] ينظر: يوسف اليوسف، ما الشعر العظيم، ص 146. والنص مقتبس من الفتوحات المكية.

[6] محمد مصطفى هدارة، النزعة الصوفية في الشعر العربي المعاصر، مجلة فصول، ع 4 /1981.

[7] وليام أرنست هونكونج، معنى الخلود في الخبرات الإنسانية، ص 163.

[8] أدونيس، الثابت والمتحول - الأصول، دار العودة، ص 97.

[9]المرجع السابق، ص 98.

[10] غازي الأحمدي، الوجودية فلسفة الواقع الإنساني، مكتبة الحياة، ص 55.

[11] محمد مصطفى هدارة، النزعة الصوفية في الشعر العربي المعاصر، مجلة فصول، ع 4/ 1981.

[12] أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 297.

[13] كولون ولسون، الشعر والصوفية، دار الآداب، ص 199.

[14] ابن الفارض، الديوان، بيروت: دار صادر، ص 61، وما بعدها.

[15] أدونيس، قصائد أولى [قصيدة لا تنتهي] وحدة، الآثار الكاملة، المجلد الأول، دار العودة، 1971، ص46.

[16] وليام أرنست هونكونج، معنى الخلود والخبرات الإنسانية، ص 167.

[17] عبد الغفار مكاوي، مدرسة الحكمة، دار الكتاب العربي، ص 69.

[18] المرجع نفسه، ص 70.

[19] المرجع نفسه، ص 54.

[20] نفسه، ص 55.

[21] ينظر: كتابنا الرؤيا والتأويل مدخل لقراءة القصيدة الجزائرية المعاصرة، دار الوصال، ط1، 1994، ص53 وما بعدها.

[22] أديب كمال الدين، قصيدة إشرات التوحيدي، المجموعة الكاملة، بيروت: منشورات ضفاف، 2015 ص 198.

[23] ينظر: عبد القادر فيدوح، الرؤيا والتأويل، ص 54.

[24] أديب كمال الدين، المجموعة الكاملة، ص 24.

[25] ينظر: ابن السائح الأخضر، سيميائية الضمير (أنا) في الدلالة ونماء التأويل، مجلة سمات، مركز النشر العلمي، البحرين، المجلد الثاني، العدد الأول، 2014، ص 132.

[26] أديب كمال الدين، المجموعة الشعرية الكاملة، ص 74.

[27] المصدر نفسه، ص 153.

[28] أحمد بلحاج آية وارهام، أبجدية الوجود دراسة في مراتب الحروف ومراتب الوجود عند ابن عربي، المغرب: منشورات أفروديت، ط 1، 2013 (مقدمة الكتاب).

[29] ينظر: حياة خياري، الحَرْف شكل من أشكال التّعبير الرّمزيّ. وينظر أيضًا: عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1984، ج2، ص 634.

[30] ابن عربي، الفتوحات المكية، 2/330.

[31]أدونيس، النصّ القرآني وآفاق الكتابة، بيروت: دار الآداب، ط 1، 1993، ص 41.

[32] أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 98.

[33] يوسف اليوسف، الصوفية والنقد الأدبي، مجلة الناقد، ع 8 عام 1989.

[34] المرجع السابق، الصوفية والنقد الأدبي، مرجع سابق، مجلة الناقد، ع 8، عام 1989.

[35] ينظر: هاشم صالح، التأويل والتفكيك، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 54/55.

[36] يوسف اليوسف، الصوفية والنقد الأدبي، مجلة الناقد، ع 8.

[37] المرجع السابق، ع 8.

[38] يوسف سامي اليوسف، الصوفية إمداد للنقد الأدبي.

[39] يوسف اليوسف، الصوفية والنقد الأدبي، مجلة الناقد، ع 8، عام 1989.

[40] أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، ص 160.

[41] تروي لنا هدباء ابنة نزار قباني مُلْحَةً مما جرى في بعض جوانب لقاءات الشاعرين نزار قباني وأدونيس، تقول: ذات يوم قال والدي لأدونيس: "يا أدونيس أُجهد نفسي حتى أفهمك، أنت -بشرفك- هل تفهم حالك.. لمن تكتب يا أدونيس؟!»، ثم يضحكون.

[42] أدونيس، الأعمال الشعرية الكاملة، 1/529.

[43] يوسف اليوسف، المرجع السابق.

[44] عامر النجار، التصوف النفسي، دار المعارف، ص 145.

[45] يوسف اليوسف، المرجع السابق.

[46] ف، ي، خاليزيف، التأويل، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع54/55.

[47] لمزيد من التوسع انظر كتابينا: دلائلية النص الأدبي، ص 24، 30. و «إراءة التأويل» في فصوله الأولى.

[48] يوسف اليوسف، المرجع السابق.

[49] آن إينو، مراهنات دراسة الدلالة اللغوية، دمشق، ص 77.

[50] ينظر: جون كوهن، بنية اللغة الشعرية، ص 197.

[51] نزار قباني، ديوان، أحبك والبقية تأتي، ط7، 1993، ص8.

[52] ميثم الجنابي، حكمة الروح الصوفي، دار المدى، ط1، 2010، ص 310.

[53] سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، الحكمة في حدود الكلمة، بيروت: دندره للطباعة والنشر، 1981، ص493.