شعار الموقع

حفريات في سؤال النهضة

سعيدة الفقير 2019-05-19
عدد القراءات « 745 »

حفريات في سؤال النهضة..

أطروحات وسياقات ومناقشات

سعيدة الفقير*

* باحثة في الفكر الإسلامي والحوار الديني، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بني ملال، المغرب.

 

 

 

 

الكتاب: عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟

الكاتب: زكي الميلاد.

الناشر: النادي الأدبي بالرياض بالاشتراك مع المركز الثقافي العربي – بيروت.

سنة النشر: 1437هـ/ 2016م.

الصفحات: 220.

 

-1-

لعل ما يُميِّز هذا الكتاب الفريد هو عبور السؤال العريض فيه من سياق تشكُّل خطاب النهضة الموسوم بعنوان استفهامي مضمر «كيفية الانبثاق» إلى آليات تشكيله لبداية الوعي العربي بالعلاقة بين الأنا والآخر، مما سمح -على امتداد مساحة العبور- بطرح أسئلة أخرى موازية بانية لأطروحة الكتاب ككل، من قبيل سؤال: نقد إخفاق الذات أمام تقدُّم الآخر.

كما سمح الكتاب -وفق التفكير المسبق لتنزيله والمخالف لما حبّر من كتب ومقالات استنفذت الوسع والطاقات- بوقوف زكي الميلاد عند هذا الكم الزاخم من قراءات غربية استشراقية، وأخرى عربية قاربت موضوع النهضة من زوايا وبرؤى مختلفة، مهتجسًا بتمحيص التدافع والجدل الفكريين للحسم في سؤال غير محسوم برَّره الباحث بالقضايا والإشكالات الموروثة التي لا زالت تُؤرِّق الفكر العربي إلى الآن.

ولعل هذا يساوق ما ذهب إليه الدكتور عبدالإله بلقزيز وهو يتحدَّث عن «الصدمة الحادَّة التي خلَّفها في الوعي العربي اكتشاف الغرب، واكتشاف الفجوة التي تفصلنا عنه ثقافيًّا وحضاريًّا، والحصيلة هي غياب إمكانية صوغ نظريات معزولة عن سياق المقدّمات الثقافية للإخفاق، التي تحكّمت في مسار المثاقفة، وتبعات تعرُّض الوعي العربي لصدمة الغرب»[1].

من هنا ينطلق زكي الميلاد برؤية مغايرة باسطًا للمناقشة الأطروحات الرئيسة المفسِّرة للانبثاق، واسمًا المقاربات الواصلة لسؤال النهضة بعامل خارجي (حملة بونابرت) بـ«النزعة الليبرالية المستبطنة لحرج نفسي وأخلاقي لا يطاق»؛ إذ من الصعب أخلاقيًّا أن نوثِّقه لأجيالنا في خانة حوافز للنهضة، والانبثاق على الرغم مما استبطنته من صدمة علمية إيجابية تمثّلت فيما تلاها من انفتاح علمي. وقد جمع البحث في هذا الاتجاه -على علّاته- كبار المفكرين والمنظرين العرب أمثال: الجابري وفهمي جدعان وألبرت حوراني الذي اعتبر الحملة بوابة دخول الشرق الإسلامي حداثة الغرب.

وعلى خلاف الحرج النفسي الذي يضعنا فيه تفكير من هذا القبيل، يُشكِّل الاعتداد بالذات والانتصار لمنجزها الفكري السابق لأي تفاعل خارجي، أطروحة تبدو وجيهة من باب ما تحصَّل للباحث محمود شاكر من نماذج لأعلام وعيِّنات علوم وإشراقات أدب وفنون، تؤشِّر على تهافت فكرة وصل النهضة بالخارج، وهو التهافت الذي زكَّاه شاهد من أهله وهو المؤرخ بيتر جران، إلَّا أن من المؤاخذات التي تجعل هذه الأطروحة مهزوزة نقدًا، أن النهضة لا تقاس انطلاقًا بصحوات ثقافية معزولة بل بسياق حضاري مؤطر.

المفارقة أن يذهب طرح آخر بعيدًا في الزمن، متجاوزًا مساحة الجدل بين بداية القرن الثامن عشر (النهوض الذاتي) ونهاية القرن الثامن عشر (حملة بونابرت وصدمة الحداثة)، بإرجاع الزمن الحداثي إلى أثر ابن خلدون في نهوض ذاتي قبلي (القرن الرابع عشر)، مما يعني أن الغازي حين وطئت قدمه مصر لم يجد الفكر العربي أرضًا خلاء؛ فالأمة التي أنجبت ابن خلدون لم تتوقَّف آلتها العلمية عند مقدّمته، بل كانت فاتحة لنهضة فكرية قبل الأوان، انخرط فيها مفكّرون تشرَّبوا درس ابن خلدون حول قيام الحضارات وأفولها.

وعلى خلاف القلَّة الذين انتصروا للنهضة الخلدونية، أجمع لفيف من الباحثين من عيار مالك بن نبي ومحمود قاسم وحسن حنفي وعبد الرحمن الرافعي، على أن رائد اليقظة ليس إلَّا الأفغاني الذي لن ينازعه غيره -من منظورهم- على مستوى الريادة في بعث نهضة فكرية مبكِّرة هاجسها الإصلاح، فارتبط اسمه عندهم بألقاب حلَّوه بها، فهو باعث الحركة الإصلاحية ورائدها، وبطلها الأسطوري في العصر الحديث، وهو حكيم الشرق، ورجل الإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي في بلاد المسلمين كافة، وهو باعث النهضة الإسلامية أو نهضة الشرق أو باعث النهضة الفكرية في الشرق، بل انتزع من المستشرقين الاعتراف بكونه الرائد الكبير للنهضة الإسلامية الحديثة في القرن التاسع عشر.

-2-

عطفًا على هذا، ينخرط زكي الميلاد في الفصل الثاني فيما يشبه الحفر الأركيولوجي في أزمنة التمدُّن، مقتفيًا إحداثيات هذه الأزمنة انطلاقًا من القرن التاسع عشر والعشرينات من القرن العشرين، وهي المرحلة الموسومة بعصر النهضة، أو بمرحلة الفكر الإسلامي الحديث، كما ذهبت إلى ذلك الكتابات والتآليف التي أرَّخت لفكرة المدنية وناقشت علاقتها بالدين، ليسفر الحفر عن ثلاثة أزمنة:

الأول: يلتقي فيه عَلَمان يتقاسمان الفكرة ذاتها بتفاوت واختلاف في التعبير عنها، هما: رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، وأما الفكرة فمدارها تبئير العلاقة بين الدين والاقتباس من مدنيَّة الغير في انفتاحية مشرعة، ابتدرها الطهطاوي عبر تحديد مفهوم التمدُّن، ليخلص من خلال تصنيفه إلى مادي ومعنوي، وإلى جواز بل وضرورة تجاوز الحساسيات التي تمنع الإفادة مما سماه «المنافع العمومية»؛ وقصد بها الصناعات والمهارات الزراعية والتجارية... والتي وقف على جدواها من خلال مشاهداته في رحلته إلى فرنسا، وضمَّنها كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، الكتاب الذي اعتبره الدكتور محمد عمارة أول نافذة أطلَّ منها العقل العربي على الحضارة الأوروبية الحديثة»[2]، وأثناء دعوته هذه يحرص الطهطاوي على التهدئة والطمأنة من أن لا خوف على القيم والأخلاق من الانتهاك بالاقتباس من الغير، فهي محفوظة بحفظ الدين الذي هو مرجعها الذي لا تعدل عنه إلى غيره.

بينما يختار خير الدين التونسي مفهوم «التنظيمات الدنيوية» تعبيرًا مكافئًا «للمنافع العمومية» لدى الطهطاوي في تشديده على أهمية الاستفادة من أسباب التمدُّن الأوروبية، في جانبها الدنيوي المرتبط بالعلوم والزراعة والتجارة والصناعات وإصلاح التدبير والتسيير والسياسة، مواجهًا اعتراضات وشبهات من سمَّاهم بذوي الغفلة من عوام المسلمين الذين يقاومون الاقتباس حماية للدين، بأن هذا الأخير لا يمانع الأخذ مما يوافق الشرع من المنافع.

وتميَّزت دعوة التونسي بكثير من الجرأة، وهو يزعم أن الأمة مهدَّدة بالغرق والاستئصال إن هي تخلَّفت عن الاستفادة من أسباب التمدُّن التي ملكها الغرب، واضعًا مفهومًا جديدًا للتمدُّن -كما ألمح إلى ذلك فهمي جدعان- بقطعه مع فكرة ابن خلدون حول الحضارة ونهاية العمران، مثبتًا للتمدُّن قدرته على الاستمرار والغلبة.

ويورد زكي الميلاد بعد تنويهه بتوافق رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي حول الجزم بالمصالحة بين الدين والمدنية، تنبيهًا لألبرت حوراني إلى اختلاف الرجلين في المنطلقات، فالأول ينطلق من الأمة القومية بينما الثاني ينطلق من الأمة الإسلامية، ويضيف فهمي جدعان أن موقف الثاني كان أكثر نضجًا، وأقرب إلى المحيط العربي، وأكثر حزمًا مع الثقافة الأجنبية.

وجدير بالذكر أن ما أورده زكي الميلاد من مواقف الزمن الأول تجاه التمدُّن، قد لقي الكثير من التأييد والترحيب في الفكر المعاصر، من ذلك ما جاء في مداخلة للدكتور محمد عابد الجابري تحت عنوان: «المثقف العربي وإشكالية النهضة، رؤية مستقبيلة» أنه قال: «وإذا أردنا أن نلخص هذا الهمّ الذي يحمله المثقَّف النهضوي في كلمة واحدة، فلعله ليس هناك أفضل من تلك الكلمة التي عبَّر بها رواد النهضة في القرن الماضي عن مشروعهم النهضوي. نقصد كلمة «التمدًّن» أن ننهض، معناه أن نتمدن، وأن نتمدن معناه أن نواكب عصرنا، أن نساير تطوره وتقدُّمه، أن نقتبس من منجزاته الفكرية والمادية... التمدُّن بهذا المعنى عنصر أساسي من العناصر المحدِّدة لمفهوم النهضة في فكر المثقّفين العرب في القرن الماضي، وأعتقد أن هذا التحديد يصدق في جوهره على مفهوم النهضة لدى المثقّفين العرب المعاصرين»[3].

عرف الزمن الثاني اتّجاها ينفي ترحيب الدين بالمدنية، وآخر يمضي إلى أبعد من ذلك؛ فيعتبر الدين عائقًا وحجر عثرة في طريق الأمة إلى الرقي والتقدُّم، ومن ثم فالتمدُّن على الطريقة الأوروبية هو الحل.. وهي الأطروحة التي انتقدها الشيخ محمد عبده عندما رافع عن الدين ليثبت عدم التعارض بينه وبين المدنيَّة، ولئن كان يقصد بذلك التأكيد على التناغم بينهما، وتفنيد مقولة: «الدين العائق»؛ إذ بقدر القرب من الدين فهمًا وتمثُّلًا؛ يكون الإقدام على علوم الدنيا، وبقدر البعد يكون الإحجام، فإنه قطعًا يرفض ومعه رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي الولاء لمظاهر التمدُّن دون روحه وجوهره، الولاء الذي يفضي إلى الاستلاب والتهجين.

أما الزمن الثالث والذي حدّده الباحث الميلاد في بدايات القرن العشرين فقد حمل الجدّة في علاقة الفكر بالمدنية مع تلاميذ محمد عبده والمتأثرين به، أمثال محمد فريد وجدي الذي ارتفع الخطاب في طرحه إلى جعل الإسلام قمّة المدنيَّة وروحها، فأي ارتقاء في مدارج المدنية هو في الحقيقة إدراك واع لمبادئ الإسلام وفلسفته، وأن أصول الدين ومبادئه السامية هي عينها أصول المدنية الصحيحة، فكل تقدُّم في التمدُّن أثر من آثار الأصول الدينية، وأن الأمة حتى في أحلك أحوالها تمتعض مما هي فيه وتتوق إلى التغيير، فلا بد أنها صائرة إليه وسائرة إلى الكمال قُدمًا حتى تبلغه.

وهي الفكرة التي تحفَّظ عليها زكي الميلاد لما رأى فيها من طغيان التمنِّي والرغبة على الواقعية والموضوعية، ويغيب فيه استصحاب التاريخ وسننه، ووقف عندها فهمي جدعان متفحِّصًا ومستقصيًا ليلحظ تحولها عند فريد وجدي في وقت لاحق بنقده المدنية الغربية الحافلة بالعيوب نعم، لكنها غير مهدّدة بها لأنها تملك أسباب التقويم والمعالجة.

ويمضي زكي الميلاد في حفره الزمني، ليكشف عن تراجع فكرة المدنية من أجندة الفكر الإسلامي، إلَّا ما كان من استئناف مالك بن نبي مع بعض التعديل، إذ سيعنى بمصطلح الحضارة بديلًا عن المدنية، ليحدث زمنًا جديدًا في الفكر الإسلامي المعاصر.

وبين الفكر الحديث والمعاصر ينبري رضوان السيد لقراءة عوامل القطيعة والهوَّة السحيقة بين زمن النهوض الحديث، وزمن الهوية المعاصر، ليسم الأول بالتميُّز والثاني بالنكوص، ويرجع أسباب الأول إلى ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن الثقافة الأوروبية وليّة النعمة ومصدر التألق بما أفاضت على الفكر الإسلامي من أسباب الارتقاء ثمرة لاحتكاكه بها (رفاعة الطهطاوي أنموذجًا).

الأمر الذي سيرفضه الدكتور فهمي جدعان، إذ ما كان لآراء فلاسفة التنوير أن تجد لها صدى لو لم تعِ الذات ضعفها وقصورها أمام الآخر، ولو لم تستفد مما قدّمت مقدّمة ابن خلدون من إشكاليات حضارية أفاد منها مفكرو عصر الإصلاح أمثال: الطهطاوي وخير الدين التونسي والشيخ محمد عبده...

وسيحمل مسؤولية الوضع الثاني لمحمد رشيد رضا لأنه تحوّل من المسلك الإصلاحي لأستاذه محمد عبده إلى مسلك سلفي مغاير، وهو الرأي الذي ذهب إليه كل من ألبرت حوراني وفهمي جدعان ورضوان السيد ومحمد عمارة، هذا الأخير قد أقال محمد رشيد رضا من خط التيار الإصلاحي الذي رسمه الأفغاني ومحمد عبده.

كما ربط الميلاد ارتداد الفكر الإسلامي المعاصر عن مرحلته الحديثة، بظهور الدولة القطرية التي تشكّلت على الطريقة الأوروبية نظامًا ومؤسّسات وقوانين وتشريعات، وقطعها مع الصيغة الإسلامية مؤسسات وجامعات ومعاهد وأوقافًا، مما أجهز على ألق الجامعات العربية العريقة بدعوى تخلُّف نظامها عن مواكبة العصر، ثم يذكر على لسان برهان غليون أن الدولة الحديثة مسؤولة عن تراجع قيمة الدين ومؤسساته وعلمائه، وهكذا ما عاد يعني الفكر الإسلامي المعاصر إلَّا أمر الهوية، ولا شأن له بالفكر والنهوض والتقدّم والمدنية.

-3-

في الفصل الثالث يعود الميلاد إلى ميلاد سؤال النهضة: (لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟)، لصاحبه شكيب أرسلان، ليبحث في المنشأ والصيغة والأهمية والشهرة والأثر، وقبل أن يفصل في البدايات، يلفت انتباه القارئ إلى ملاحظات تتعلَّق بسؤال السؤال:

الأولى: تنويهٌ بقيمة السؤال، وقد صار حلية لخطاب النهضة العربي الإسلامي يعرف بها، ومنه تنبعث الإشكاليات والمطالب والمقاصد، وإشادةٌ بكونه ابنا شرعيًّا أنجبه الخطاب النهضوي ساحة وحركة وواقعًا، لا مجرّد ترف لغوي بياني أو فكري سجالي، فقد كان استفهامًا صادرًا عن قامة علمية إصلاحية وازنة، وصوتًا ظل رجع صداه متردّدًا في الفكر والأدب الحديثين.

سؤال أقر العديد من المفكرين تأثيره وفي مقدّمتهم مالك بن نبي ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط وراشد الغنوشي، فهو السؤال الحاضر دومًا في المناسبات الإسلامية حسب ابن نبي، وهو الإشكالية التي شغلت النهضويين والإصلاحيين حسب محمد عابد الجابري، وهو السؤال الحارق المؤرِّق عند راشد الغنوشي، وهو صانع إشكالية الإصلاح السياسي والحضاري بالنسبة لهشام جعيط، بينما يخالفهم سيد قطب حين ذهب إلى بعد السؤال عن الاستقامة والجدوى لأن المسلمين ما تخلَّفوا إلَّا بسبب بعدهم عن الإسلام، وأن غيرهم لم يتقدّم بل هو في جاهلية وأن الحضارة هي الإسلام.

الملاحظة الثانية: يضيف زكي الميلاد أن السؤال الأرسلاني أفرز صيغًا وتعبيرات عن سؤال النهضة تُجاري الأصل في بعض البناء وبعض المعنى، ولا تبتعد عن مفردات التخلُّف والتقدّم، فروجيه جارودي سأل «لماذا الحضارة الأوروبية استمرت والحضارة الإسلامية انقطعت؟»، وهو السؤال الذي أجاب عنه مالك بن نبي بأن الحضارات تؤدّي دورها ودورتها في مدى وزمن كافيين وفقًا للسنن الإلهية...، واختار محمد سعيد رمضان البوطي سؤال: «لماذا تحجَّرت الحضارة الإسلامية وازدهرت الحضارة الغربية؟»، متوسلًا بالحجر رمزًا للجمود في مقابل النمو، وإن قلّل من قيمة السؤال والإجابات التي قدّمت له، وترد صيغة ثالثة للسؤال لهشام جعيط عرَضًا حسب ما يراه الميلاد، فهو لا يعدو كونه تحريفًا غير مقصود للأصل الأرسلاني في سياق الحديث عنه ليصير: «لماذا تمدَّن الآخرون وتخلَّفنا نحن؟» فيضيف بذلك صيغة جديدة يعوزها القصد نعم، ولكنها وجدت لها مكانًا في ريبرتوار السؤال الذي يضم أيضًا استفهام هاشم صالح: «لماذا تقدَّمت أوروبا وتأخر غيرها؟»...

وفي مقارنة بين بنيات الصيغ، يرى الميلاد أن أقربها إلى المقاربة المقارنة بين حال الحضارتين الإسلامية والأوروبية، هي الحامل للفظي التقدّم والتأخّر، وهو الشرط الذي تحقّق في صيغة كل من شكيب أرسلان وهاشم صالح.

الملاحظة الثالثة: إلماع بالنجومية والألق اللذين حازهما السؤال القلق وهو يتصدّر أسئلة الإصلاح والتغيير في الفكر العربي الحديث والمعاصر، بدليل صموده وحضوره وتأثيره وثباته ومعاصرته وحداثته، على الرغم من مرور أكثر من ثمانية عقود على طرحه، وبدليل خصوبته بما تناسل منه من أسئلة كما تقدّم، وشبابه وهو يحتفظ بجدته ما دامت الأجوبة غير محسومة إلى الآن كما أكد ذلك كل من مالك بن نبي وهاشم صالح، إلى جانب كونه يشكّل قضية الأمة وهاجسها الأعظم.

يتتبع الميلاد كرونولوجيا فكرة السؤال والإجابة، منطلقًا من الاستفهام الأرسلاني وظروف وروده كما أوردها محمد رشيد رضا ليربطها برحلة أرسلان إلى أسبانيا وتأثُّره بمشاهد الحضارة العربية في الأندلس والمغرب الأقصى، والانحطاط الذي آلت إليه، ليشرع في وقت لاحق وبعد الإلماع لحالة التدهور التي يعيشها العالم الإسلامي مع تفاوت في درجته.

في الإجابة عن سؤاله النجم، يستهِّل أرسلان بذكر أسباب الرُّقي الأول ويرجعه إلى الإسلام وما حمل من وحدة وتوحيد، نقل معتنقيه إلى الريادة والسيادة والمجد، ثم بالنبش في عوامل الارتداد والتقهقر ليُرجعها إلى الجهل وفساد الأخلاق وضعف العزائم والسلبية المتمثِّلة في مقاومة التغيير، ثم الوهن والإحساس بالدَّنِيَّة أمام الآخر الذي لا يقهر، واليأس من إمكانية منافسته فيما أوتي من علوم وصناعات وسائر مظاهر التقدُّم.

وليخلص إلى أن لا سبيل لنهضة المسلمين إلَّا بأن يجودوا بأموالهم وأنفسهم، فإن هم فعلوا أتتهم العلوم طائعة، وبلغوا مراتب الرُّقي التي وصلت إليها أوروبا وأمريكا واليابان، مستدلًا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[4].

ويعرض الميلاد لحجم تأثير رسالة أرسلان وتردُّد صداها في البلاد الإسلامية، وتناولها بالترجمة والطبع والضبط والتوزيع والمدارسة، حتى خِيف من تحريضها وتأليبها فتمَّ حظرها من قبل المستعمر في كل من أندونيسيا والجزائر.

وفي المقابل لم يسلم الكتاب من النقد سؤالًا ومضمونًا، ويورد الميلاد من النقّاد مَنْ تناول مضمونه دون عتبته كما فعل محمد رشيد رضا وفهمي جدعان، فرشيد رضا يؤاخذ أرسلان على تقصيره في الدفاع عن أمجاد الحضارة الإسلامية وريادتها وإفادتها لغيرها من الحضارات، ومبالغته في تبرئة الديانة النصرانية -كتابًا محرفًا ورجالًا- من التورُّط في إضعاف بل والقضاء على مدنيَّة اليونان والرومان، ثم تقصيره في تحديد هوية النهضة أهي دينية أم قومية، فيعمد محمد رشيد رضا إلى ما يُشبه الاستدراك بأن مقوّمات النهضة تنطلق من الدين نصًّا شرعيًّا وفهمًا وعلمًا، ثم من الأخذ بما ينفع الناس في أمور الدنيا حتى يقع الجمع بين النهضتين.

وأرسلان في تقدير جدعان معني أكثر بالمسائل السياسية، إذ ظل يتردّد بين الفكر السياسي والفكر الديني والفكر الأخلاقي، وقد ردّ الانحطاط الذي صار عليه المسلمون إلى أزمة أخلاقية سحبتهم إلى الهاوية، غير أنه تحفَّظ من أسباب التأخُّر الأرسلانية فاعتبرها مجرَّد أعراض لعلل حقيقية؛ إذ لا يمكن اختزال أمراض الأمة في الأعراض الأخلاقية، فهذا تعليل أحادي غير كافٍ.

ومن النقَّاد من نَظَرَ في السؤال دون مادَّته، ومثَّل الميلاد لهؤلاء بكلٍّ من مالك بن نبي ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط وهاشم صالح، فمالك بن نبي يراه قد استعصى على الإجابة رغم مرور السنين وحضوره وتردده في الكثير من المناسبات والسياقات، ويتحفَّظ من بنيته وحمولته وعدم استقامته، لإيمانه بأن سقوط الحضارات سُنَّة من سنن الله التي تجري فيها متى أدَّت دورتها.

وميَّز الجابري بين مفهوم النهضة في التداول الغربي الذي يُحيل على الميلاد الجديد، وهو تعريف يستحضر الزمان، بينما يفيد في السياق العربي القيام والارتفاع، لذلك يرجع سبب تعذُّر الجواب الصواب إلى غياب عنصر الزمان في تحديد مفهوم النهضة، الشيء الذي أثمر تردُّدًا في مبرّرات التخلُّف وتقدُّم الغرب بين ترك سيرة السلف، وبين إلغاء الماضي العربي والماضي الأوروبي، وطلب التقدُّم في اللحظة الراهنة. ولا يستقيم السؤال بالصيغة والقصد الأرسلانيين في نظر هشام جعيط، لأن «المتقدّم» في لفظه هو «الآخر» الأوروبي، وهو هكذا يغفل حضارات امتلكت تاريخًا قديمًا ووعيًا بالذات مثل الصين واليابان.

أما هاشم صالح فيصف السؤال بالشهير، ويلتقي مع مالك بن نبي في ملاحظة تَمَنُّعه عن الجواب، ويرجع الإخفاق إلى غياب الجرأة في اقتحام الأشياء، وغياب الكفاءة العلمية والفلسفية التي امتلكتها أوروبا المتقدّمة.

ويَجمَع آخرون بين نقد السؤال والمضمون، ومنهم الدكتور رضوان السيد الذي اعتبر السؤال تشخيصًا لأزمة موضوعِ كتابات النهضويين والإصلاحيين أمثال محمد عبده والأفغاني والكواكبي، فأرجعوا أسبابها إلى غياب عنصري المعرفة والتنظيم، وعزَّز المحافظون العنصرين بثالث وهو التخلِّي عن الدين ومقتضياته، فالحل إذن في التدارك والاستئناف... وأما ملاحظاته حول مادة الكتاب فمؤاخذات على ما فات أرسلان وهو في مدينة لوزان، من أن يلاحظ اضطراب الأوضاع الدولية التي كانت تُهدِّد الحضارة الأوروبية، ثم تقصيره في إعادة النظر في رسالته بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وعدم استحضاره ابن خلدون وشبنجلر في الإلماع إلى مصائر الحضارات.

بدوره يُدلي الميلاد بدلوه ويضيف رأيه حول الكتاب، فيشيد بخلود سؤاله وديناميته وحضوره وقدرته على إثارة الجدل في ساحة المفكّرين والمثقّفين على اختلاف مشاربهم وأزمنتهم، ويُعلِّق على مادة الكتاب أنها ابنة بيئتها وتاريخها وأسباب ورودها، بدليل استنادها إلى وقائع وأحداث ومواقف زمنها... ويرجع سر خلود السؤال إلى بنيته وتركيبته، أو «طبيعته المركَّبة وطابعه المقارن»؛ إذ ما كان له أن يتألَّق لو اكتفى بشق سؤال التأخُّر الذي تسهل الإجابة عنه دون أن يُثير الدهشة والتشويق، ثم إنه لن تتحقَّق له الجدوى إلَّا بسؤال تقدُّم الآخر ليستدعي مطلب السُّننية والموضوعية في الإجابة عنه، فأما السُّننية ففي ارتباطها بقوانين التقدُّم والتأخُّر، وأما الموضوعية فحاضرة فيما يشاهد على الواقع من مظاهر التخلُّف التي تشي بحجم الهوة التي تفصلنا عن الآخر المتقدِّم، ومن ثم فالسؤال يمارس سلطته فينا تنبيهًا وتوجيهًا إلى نقد الذات ومساءلتها وحملها على الانفتاح، وتوسعة أفق النظر فيما عند الآخر، والتقاط الحكمة والمعرفة والتجربة أنَّى وُجدت.

هكذا يشارك الميلاد وعيه واهتجاسه وانخراطه في همِّ الأمة قبل أن يستدعي سؤال الندوي: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟»، والذي لا يراه مكافئًا لسؤال أرسلان، فمع أنه يلمح إلى فضل الحضارة العربية الإسلامية على الغرب، ويُذكِّر المسلمين بما تركوه من الدور الحضاري العالمي، فإن السؤال الأرسلاني أكثر مساءلة ومحاسبة وتحفيزًا على النهوض، الأمر الذي أكَّده الدكتور رضوان السيد عندما اعتبر تحوُّل المسلمين إلى السؤال الندوي تحوُّلًا انكماشيًّا.

ويبقى السؤالان -في نظر الميلاد- خيارين واردين في الفكر الإسلامي المعاصر يضعانه أمام شكلين من أشكال التناول والمقاربة.

-4-

في الفصل الرابع، ووفاءً للعنوان الواسم للكتاب، ولشقي سؤاله الصريح: عصر النهضة كيف انبثق ولماذا أخفق؟ ينتقل الميلاد من الأطروحات المقاربة للانبثاق، مناقشًا حوراني وشرابي وجدعان، إلى الأطروحات الثلاث المعنية بالحفر في سؤال الإخفاق، متوقّفًا ومناقشًا أطروحات حسن حنفي ورضوان السيد وعبد الإله بلقزيز.

ويبدو الميلاد وهو ينتخب مما تراكم من منجز نقدي لمشروع النهضة أسماء وازنة من المشرق والمغرب، غير مكتفٍ بما راكمه هو على امتداد الكتاب من نقد وفحص لمطبات الانبثاق، فهو يرى أن أطروحة الكتاب لا يمكن أن تكتمل إلَّا بما ارتضاه لها من احتدام للأفكار والحجاج، حتى يضع قارئه المفترض إزاء موضوع غير مدموغ بحثًا بالانحياز، بل مناظرًا ومحاججًا بين الرأي والرأي المضاد.

ولعل من مسوِّغات هذا الخطاب المنذور للنكسة وإشكالات الإخفاق، ما طبع المنجز البحثي للأكاديميين الثلاثة من إجماع مشترك على رسم بياني نازل للخطاب الفكري للإصلاح، والذي ابتدأ باذخًا بأسئلة عابرة نحو الانفتاح، ليؤول إلى خطاب مستطيب للإقامة في الماضي وممجِّد للانغلاق.

وسيفتح حسن حنفي قوس تجليات هذا الانتكاس، بما اعتملَّ على امتداد مسار النهضة من كبوات، تواترت بشكل جلي في كتاباته مذ كانت مقالًا إلى أن استوت في كتاب «الإصلاح والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر» الصادر بالمغرب سنة 1986م إلى كتابه «حصار الزمن الحاضر.. مفكرون» سنة 2004م.

وحسب هذا التواتر الزمني الذي يزيد عن ربع قرن، تكون أطروحة حنفي -من منظور الميلاد- قد كسبت ذاكرة تاريخية يقتضي التعامل معها بمنطق تطوُّر الأفكار، وفي دلالة أيضًا على قناعته وتمسُّكه بما ذهب إليه من مقاربات متغيِّرة تحت عنوان ثابت يتحدَّد في نظرية «كبوة الإصلاح»، الواسم لمسار الإجهاض المستمر لكل تجربة، حيث تبدأ لتنتهي دون أن تسمح بمراكمة خبرة تبني عليها الأجيال اللاحقة لتستلم المشعل وتستأنف العمل، النتيجة التي خلص إليها بالمنهج الظاهراتي «الذي يعتمد تحليل الخبرات الفردية والاجتماعية من أجل إعادة بناء الموقف التاريخي، بعد تكشُّف أبعاده في الموقف الحالي...»[5].

ويسير الباحث اللبناني الدكتور رضوان السيد مسار حنفي بتوصيف مأزم خطاب الإصلاح، التوصيف الذي مؤدَّاها أننا مختلفون عن العالم لكون الأمور تسير عندنا باتجاه معاكس، بانحدار بيّن في الخطاب الثقافي والسياسي، مبرهنًا على ذلك في اعتبار أن محمد عبده أقل ثقافة من الأفغاني، ومحمد رشيد رضا أقل ثقافة من محمد عبده... وهي أطروحة ضمَّها كتابه «سياسيات الإسلام المعاصر...» الذي ميَّز فيه بين إشكالية النهوض والتقدُّم المؤطّرتين للفكر الإسلامي الحديث في تقابل مع إشكالية الهوية الحاكمة للفكر الإسلامي المعاصر، وهي الأطروحة التي ظلَّت حاضرة بقوة في معظم كتاباته المتصلة بحقل الإسلاميات المعاصرة، إيمانًا منه بأهمية امتلاك أطروحة، وهو الباعث على مؤاخذة دراسة الدكتور فهمي جدعان حول الفكر العربي النهضوي التي تفتقر -في تقديره- إلى حس الأطروحة بالرغم من عمق الدراسة وتفصيلها.

وقد خدم الدكتور السيد أطروحته بما تحصَّل لديه من اطِّلاع على الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، حين توسَّل بهما في امتلاك آليات الوصول إلى التصوُّرات الصحيحة حول الكون والوجود ليقارب بها مسلك الإصلاحيين المسلمين وأطرهم المرجعية في الإصلاح.

وعلى منوال المفكّرين حنفي والسيد، شكَّلت أطروحة المغربي الدكتور عبد الإله بلقزيز «القطيعة الفكرية من الإصلاحية إلى السلفية»، انشغاله واشتغاله المركزي على امتداد عقود، سواء كمقالات أو حوارات أو كتب خاض فيها وقارب بعمق مسألة الإصلاح، مركّزًا على غرار رضوان السيد على قطيعة أخرى بين خطاب الإصلاح الإسلامي مفرّقًا بين خطاب جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي ورشيد رضا ومحمد الحجوي... وخطاب الصحوة من حسن البنا في مصر إلى عبد السلام ياسين في المغرب، حيث لا يجد أقطاب هذا الخطاب الحاجة في نظر بلقزيز إلى منبِّه خارجي للنهوض، على خلاف الخطاب النهضوي الإصلاحي الذي بدا غير متردِّد في الانتهال من الغرب والمصالحة مع العلم ومع النظام السياسي الحديث.

كما تميَّز الخطاب الإصلاحي بكونه دعوة فكرية هدفها التجديد وقوامها تحرير الوعي، مقابل خطاب الصحوة كدعوة سياسية معنية في الأساس بصوغ نظام سياسي قوامه استلام السلطة وتطبيق الشريعة، حيث لم تكن نخبها من المثقفين (كما الإصلاحيون)، بل جيشًا من المناضلين المتمسّكين بالفكرة السياسية.

وإن كان اجتهاد رضوان السيد قد ظلّ مرهونًا بعنوان لم يتغيَّر، فأطروحة بلقزيز راوحت بين مفاهيم وتوصيفات غير مستقرة، من الصحوة إلى الإحيائية، ومن الإصلاحية العربية إلى الليبرالية والسلفية المتفتِّحة، ويعني بها سلفية عبده والكواكبي ورشيد رضا؛ ليعود في كتاب «العرب والحداثة» سنه 2007م مفصّلًا بين الإصلاحية والسلفية، مخرجًا للفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرة العقلانية، ومدرجًا إياه في إطار السلفية، وهو ما سبق أن فسَّره في كتاب «أسئلة الفكر العربي المعاصر» سنة 2001م، بظاهرة التراجع الذاتي وتحوُّل الدعوة الإصلاحية إلى خطاب صحوي إسلامي مع سيد قطب ومالك بن نبي وعبد السلام ياسين وحسن الترابي، ليصل إلى فكرة الجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي والتكفير والهجرة...

إلَّا أن بلقزيز في كتابه «الإسلام والسياسة» وهو يلاحظ أن عمر الفكرة الإصلاحية في المغرب امتدَّ لفترة أطول من المشرق، يورد مالك بن نبي أنموذجًا لما سمَّاه الإصلاحية المستأنفة، بعدما صنَّفه في خانة الخطاب الصحوي الإسلامي.

وفي سياق الاستراتيجية النقدية التي سلكها على امتداد الكتاب، يتوسَّل الميلاد بردود محاججة ومعترضة للأطروحات الثلاث، قبل الانتقال إلى مستوى نقد النقد، مشيدًا تارة بإشراقات الكتب المعنية، ومصوبًا أخرى ما بدا منها من مطبّات....

وفق هذه الاستراتيجية، يستحضر الميلاد أهم ما انتخبه من المنجز النقدي المخطئ لأطروحة حسن حنفي الذي بدا الأوفر نقدًا؛ فالشيخ القرضاوي سار في اتجاه مخالف لما سار إليه حنفي من رسم بياني نازل للخط الإصلاحي الموسوم بكبوة الإصلاح، حيث المسيرة -في تقديره- لم تنتكس بل بدأت رجراجة ثم شرعت في الانضباط، ممثّلًا لذلك بكون الشيخ محمد عبده كان أقرب إلى الانضباط بمحكمات الشرع من شيخه الأفغاني بحكم ثقافته الأزهرية المتعمِّقة، ورشيد رضا أقرب إلى الانضباط بمحكمات الشرع من شيخه الأستاذ الإمام، بما له من سعة اطِّلاع على كتب السنة والآثار... من هنا فمن الإنصاف وضع هذه الشخصيات في سياقها التاريخي بدل الحكم عليهم من خارج، ومن خلال زماننا...

الموقف الثاني المغاير، ويتعلَّق بالدكتور محمد عمارة الذي يرى بدوره أن السياق الذي ظهر فيه عبده مخالف للسياقات التي تلت مرحلته، والتي تميَّزت بنخب متجاوبة مع طرح عبده الجريء، كما يرى عمارة أن مرحلة الأفغاني وعبده كان التركيز فيها على نقد التراث أكثر من التركيز على الغرب؛ لأن الغرب كان على الأبواب على عكس مرحلة رشيد رضا وحسن البنا التي أصبحت فيها تحديات الغرب أكثر جلاء.

أما الموقف الثالث فكان لهاني نسيرة في كتابه «أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار» منتقدًا بشدة مقولة كبوة الإصلاح الذي يحبس إشكالية فشل أو تأزُّم المشروع النهضوي داخله، مع تجاهل سياقاته... وفي نقده لتوصيف الكبوة يرى نسيرة أنها قافزة للمخرجات دون قراءة علمية وموضوعية للسياقات والمدخلات.

بعد فحص هذه الأطروحات، يأتي نقد الميلاد منصفًا ما ذهبت إليه من مرام قابلة للتصويب والخطأ، منتظمة رغم انتمائها إلى ثلاث بيئات ثقافية مختلفة، ملاحظًا تشابهًا بيّنًا بينها إلى حدِّ اعتبارها أطروحة واحدة حيث يطرح الميلاد سؤالًا: من ينسب إليه سبق الأطروحة فيقرّ الآخرون بسبق الاكتشاف؟ ثم هل من المصادفة أن يتحدَّث هؤلاء الثلاثة عن أطروحة واحدة؟ حيث يرى الميلاد أن الجواب عن السؤال لا يعني المتلقي بقدر ما يعني المفكّرين الثلاثة: حنفي ورضوان السيد وبلقزيز.

المسألة الثانية، ما طبع هذه الأطروحات من تكرار تعدَّى عقدًا من الزمن، دون أن يطرح أي منها حجم تأبيد هذه الأطروحة خارج الزمن الذي تستحقه للانتقال إلى أطروحة أخرى باجتهاد آخر، فقد ظلَّ الثلاثة -في نظر الميلاد- يلوكون الكلام نفسه دون طرح السؤال حول جدوى هذا التكرار، كما لم يشيروا لما عرفته أطروحاتهم من تغيّرات وتطوُّرات، وقد حصل هذا مع رضوان السيد الذي لم يشر إلى كيف ارتقت أطروحته من خاطرة إلى فرضية إلى أطروحة، في حين استند بلقزيز إلى مفهومين مفتاحين هما الإصلاحية والصحوية لينتقل بعدها إلى ثلاثة مفاهيم هي الإصلاحية والإحيائية والصحوية مما يكشف عن تغيُّر لم يذكره.

ثم وهذا يبدو سؤالًا محرجًا أكثر، لماذا لم يتحدَّث هؤلاء عن أطروحات بعضهم بعضًا مع ما بينهم من تشابه، لقطع الطريق أمام التأويلات؟ هل التشابه حصل بصورة تلقائية أم هو تثاقف بصورة عفوية؟ علمًا أن درجة التشابه حاصلة بين أطروحتي رضوان السيد وعبدالإله بلقزيز أكثر من درجة التشابه مع أطروحة الدكتور حسن حنفي.

من هنا يرى الميلاد أن ما يعاب على هذه الأطروحات هو غياب هذا النقاش النقدي الذي كان يفترض أن يضع هذه الأطروحات موضع المساءلة البينية.

ومن مسوِّغات عدم تبرئة الميلاد للمفكّرين الثلاثة من التشابه الملغوم، أن الأسماء التي تبدأ من الأفغاني وتنتهي مع عمر عبد الرحمن عند حسن حنفي ورضوان السيد، هي الأسماء ذاتها عند عبد الإله بلقزيز مع إضافة أسماء مغاربية من بيئته كبلحسن الحجوي وعبدالسلام ياسين... ينضاف إلى هذا ما طبع الأطروحات الثلاث من إجماع على خط الانحدار الذي يمكن دحضه بالإقرار بوجود حالات من النهوض والتقدُّم مع وجود حالات من الفشل والتراجع، مما يعني خطًّا متباينًا صاعدًا تارة ونازلًا تارة أخرى.

ويبقى الجانب الأساس المغيَّب في هذه الأطروحات هو الفكر الشيعي، الذي يعزى لغياب ولنقص المعرفة والدراية والخبرة بالسياق التداولي الشيعي والاعتياد على أسماء أكثر شهرة، ومما يؤكّد على هذا الجهل أن جمال الدين الأفغاني الذي بالغت الأدبيات العربية المعاصرة في وصفه بموقظ الشرق هو شيعي الأصل.

-5-

ومن بين إشراقات هذا الكتاب، ما تلا افتحاص المنجز الفكري المتّصل بموضوع النهضة من فرز متأنٍّ بناء على منهج مقارن لأهم الأطروحات العلمية التي حصل عليها الإجماع لمنزلتها المرجعية، ولريادتها في استشكال موضوع النهضة، بناء على مقاربات للموضوع برؤى مختلفة وأسئلة مثرية، حيث ضمَّت خانة الانتقاء ثلاثة كتب وازنة رُتِّبت زمنيًّا وفق ما يلي:

- كتاب «الفكر العربي في عصر النهضة» لألبرت حوراني؛ الصادر سنة 1962م.

- كتاب «المثقفون العرب والغرب.. عصر النهضة» لهشام شرابي؛ الصادر سنة 1970م.

- كتاب «أسس التقدُّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث» لفهمي جدعان الصادر سنة 1979م.

وفق منظور زكي الميلاد، شغل كتاب حوراني حيِّزًا هامًّا في الفكر العربي في علاقته بموضوع النهضة، ليس فقط من زاوية ريادته الزمنية، بل انطلاقًا أيضًا من المسح التاريخي الذي ركن إليه وهو يقلِّب متفحِّصًا ومحقّبًا المنجز الفكري العربي المتصل بالموضوع، انطلاقًا مما أوجده الاحتكاك الأول بالأجنبي من انبهار بالتقني.

ثم ما تلاه من حقبة أعيدت على ضوئها قراءة الإسلام في توافق مع روح العصر الحديث كما حصل مع محمد عبده، ثم المرحلة الثالثة التي دخل فيها الفكر العربي في تجاذب بين التيار السلفي والعلماني الذي راهن محمد عبده فيما قبل على مصالحتهما، وانتهاء بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي أنهت الصعود الأوروبي بفتح الطريق أمام أمريكا وروسيا وأثر هذا المتغيّر في اتّساع مساحة قبول الفكر السياسي الوافد....

وبعيدًا عن التاريخ وقريبًا من الأيديولوجيا، يتموقع كتاب هشام شرابي مشبعًا بسؤال النكسة ووقع صدمتها على جيله من المثقّفين الذين أرقتهم تداعياتها، حيث مضى على امتداد الكتاب مراهنًا على تقديم تاريخ للأفكار ولمواقف المثقّفين العرب مسيحيين ومسلمين ما بين الإذعان والتحرّر من الغرب.

في حين يضعنا جدعان من خلال كتابه «أسس التقدُّم عند مفكّري الإسلام في العالم العربي الحديث» في خانة واصلة للنهضة العربية بالأصول بدل القطع معها كما هو متداول، وذلك من خلال استيعاب مبادئ الفكر العربي السلفي ومقدّماته، متجاوزًا العصر الحديث إلى الكلام عن أزمنة حديثة عربيًّا بدءًا من ابن خلدون لا مع بونابرت؛ ناقدًا كل من قارب عصر النهضة مقرًّا بالقطيعة.

وشكَّل تطرُّق الميلاد إلى تقديم الطبعة الثالثة لمؤلف جدعان مؤشرًا على تلقي الكتاب وثقل وزنه ودوائر تأثيره، وذلك انطلاقًا مما قصر قراؤه ومؤولوه في تدبّر ما رامه في الكتاب من ملء فجوة عميقة في تاريخنا الفكري والإسهام في بناء الوعي العربي، حيث من جاوز هذا المرمى المصرّح به فلعمى أيديولوجي صارخ موصول «بماركسية آفلة أو بإهاب داعية قصارى أمره الوعظ أو لعدمية قاتلة...».

وتشكّل مرحلة ما بعد إعمال المنهج المقارن عصب هذا البحث، وذلك بفعل الفرز الذي آلت إليه المادة المتفحّصة بطروحاتها الثلاث بغربال الميلاد حسب المناحي التي نحاها أقطابها، انطلاقًا من ذهنية التاريخ عند حوراني، وحسّ الأيديولوجيا عند شرابي، وذهنية الباحث عند جدعان.

والميلاد -وفق هذا الفرز- لم يفرق الوسوم على العواهن، بل وصلها بالتوجّه الأكاديمي للمفكّرين من جهة، ثم بما تجلَّى في خطاباتهم من مقاربات مدموغة بهذا التوجّه، وقد جمع من الدلائل والمؤشرات في هذا الباب ما يزكي هذا التصنيف، منها ما سلكه حوراني في التحقيب للمنجز الفكري وتركيزه على المفكّرين الفاعلين في كل حقبة خصوصًا على مستوى الاحتكاك بالغرب، أما شرابي فقد كان معنيًّا بالمثقفين انطلاقًا مما شكّلوه على ضوء رؤية جرامشي من طبقة مستقلة ومنسلخة عن ولاءاتها الطبقية، وعلى خلاف اهتمام حوراني وشرابي بالشخوص، اهتم جدعان بالنصوص.

ويشكّل الانتقال إلى خانة النقد قيمة مضافة إلى الكتاب، وإلى الباحث وهو ينتقل مما تجلَّى إلى ما ووري من مضمر، ومن ذلك ما وقف عليه الباحث من انحيازات في بناء كل أطروحة على حدة، فمقابل ما عاب مشروع حوراني من انحياز للمفكرين المسيحيين، انحاز جدعان لفريق من المفكّرين المسلمين الذين تصدَّوا في نظره لحملة التغريب والعلمنة التي قادها المسيحيون، في حين تناغم شرابي مع منحى حوراني متماهيًا مع التميُّز العقلاني والأيديولوجي للمثقّفين المسيحيين على مستوى تفاعلهم مع الغرب، وهو الطرح الذي قرأه جدعان تغريبًا ومساهمةً في عصرنة لا دور للدين الإسلامي فيها، مما شكّل أحد الدوافع الرئيسة وراء تأليف كتابه للردِّ على الطريقة التي أرَّخ حوراني بها.

في انتقال زكي الميلاد إلى الخانة الأخيرة المتصلة بالنقد والموسومة بملاحظات ونقد، يبدو الباحث كان منشغلًا بوصل الظاهر من خطاب المفكّرين الثلاثة بالمضمر، أو المسكوت عنه في مقارباتهم لعصر النهضة، من هذا المنظور فإن بدا ألبرت حوراني منتصرًا لدور النخب المسيحية كرافعة للنهضة من خلال وصلها السلس بين الغرب والشرق في مبحث سابق، في المقابل يكشف الميلاد عن مسوّغات وصل النخب المسلمة (محمد عبده) بالاستشراق الغربي، ثم ما تبع هذه الخطوة من جعل الفكر العربي الإسلامي في موقع التابع والفكر الغربي في موقع المؤثر، ينضاف إلى هذا طمس الإشراقات الفكرية لهذه النخب (سعد زغلول)، بالاستغراق في تفاصيل الخطاب السياسي.

في المقابل وإنصافًا لحوراني، يعترض الميلاد على الإرسال في قول عبد الإله بلقزيز بإخراج ألبرت حوراني الإصلاح الإسلامي من دائرة العقلانية والتنوير وإدخاله في دائرة الفكر السلفي، مبرّرًا هذا الدحض بغياب الشواهد.

وعلى خلاف حوراني، أفضى افتحاص الميلاد لدراسة شرابي إلى إقراره بغلبة الأيديولوجي، حيث نحا شرابي ناحية هذا الموقف شكلًا ومضمونًا من خلال تواتر المفاهيم الأديولوجية، ثم توسَّل بالتحليل الأيديولوجي الذي وصل من خلاله الإصلاح الإسلامي بتفسيرات مفكّريه الأيديولوجية التي حالت دونهم ورؤية الحقائق، مستندًا في ذلك إلى مقولة كارل مانهايم الذي يرى أن العجز عن مواجهة الحقائق يولّد أيديولوجية خاصة.

ويبدو أن مأخذ الميلاد على شرابي هو في كون الحسّ الأيديولوجي لشرابي حال بينه وبين التبصّر مصدرًا للحكم قبل إثبات الواقعة على خلاف المنهج العلمي الذي يقدّم الواقعة قبل استصدار الحكم.

وعلى غرار تصريح شرابي بتوجّهه الأيديولوجي في بحثه، فجدعان يصرّح منذ البداية بالدافع الرئيس وراء كتابة مشروعه أسس التقدُّم، وهو الرد على تلميع صورة النخب المسيحية على حساب النخب الإسلامية التي انتهجها حوراني، وهو المشروع الذي بدا للميلاد على علميته مستغرقًا في النصوص التي احتلَّت مساحات شاسعة من الفضاء النصي للكتاب.

كما أن من المطبَّات التي أساءت لأطروحة الكتاب، التحيُّز اللامبرّر للمفكّرين السنة دون الشيعة، وهو التحيُّز الذي يدحض نية الإنصاف المسوّغة للكتاب، ورغم ذلك يبقى الكتاب في مجمله كتابًا ذا أطروحة علمية ترتفع في تماسكها وعلميتها عن مشروعي حوراني وشرابي وذلك لمستوى الوعي بفكرة الأطروحة، وبدافع حسّها النقدي المغاير والداحض لدراسات الآخرين المحسوبة على المنحى الليبرالي والعلماني؛ إن وعي جدعان جعل الميلاد يُبوِّئه في خاتمة كتابه مرتبة التفوُّق على باقي الباحثين.

-6-

ماذا بعد؟

يبدو هذا السؤال وجيهًا من منظور القارئ، وهو يطوي كتاب الأستاذ الميلاد الذي تجشَّم عبره سفرًا مضنيًا في أرخبيل أطروحات، استدعت منه جهدًا مكلفًا للتجسير بين ما بدا بينها من تباعد، على امتداد زمن ماضٍ لا يبدو سحيقًا يرتد إلى القرن الثامن عشر، وإن كان لارتداداته من القوة ما يجعل التهيّب من صدماتها أقوى الآن، وذلك على خلفية رصد علمي لم يكن على اقتراب كافٍ من منطلق إقلاع سؤال النهضة، مما جعل من المسارات التي اجترحها البحث، واسبطنته الأطروحات تؤول إلى إخفاق كجواب منطقي على مقدمات الإخفاق.

ذلك هو رهان الميلاد وهو يتفحّص ما تحصّل لديه من منطلقات الانبثاق ومآلاته ومساره وارتحاله وحلوله في أنماط التفكير والأيديولوجيات المختلفة، دون أن يفقد قدرته على الاحتفاظ بالجدة والجدية، وهو الأمر الذي ما فتئ زكي الميلاد يلحّ ويقيم الدليل على أنه لم يفقد قطُّ عنصر الدهشة فيه، «فليست هناك إجابة واحدة عن هذا السؤال، وإنما هناك إجابات، اختلفت وتعدّدت كانت وما زالت، على كيفية ظهور هذا العصر وتشكُّله...»[6].

الأمر الذي تُصدِّقه أجندات المؤتمرات والملتقيات كما شهدت به أطروحات الكتاب.

ولعل من المفيد هنا أن نورد دليلًا آخر على عدم انقطاع شغب السؤال من خلال إجابة منطلقة من خلفية مفارقة لما تقدّم المشاريع النهضوية، وهي للفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن إذ يقول: «وما أن وضع السائل سؤاله الفاصل: لماذا تأخّرنا وتقدّم غيرنا حتى تداعت الأجوبة، وتكاثرت وتضاربت فيما بينها بقوة، حتى كأن أصحابها ليسوا من أبناء الأمة الواحدة، متفرّقين تفرُّق الثقافات الأجنبية التي نهلوا منها، وربما ساهمت في هذا التفرُّق الشنيع صيغة السؤال نفسه، إذ جاءت مبهمة بحيث يجوز أن يفهم منها أن تقدّمنا ينبغي أن يأتي على الوجه الذي تقدّم به الآخرون سواء بسواء، كما لو كانت أسباب تأخّرنا عين أسباب التأخّر الذي خرج منه هؤلاء، وهكذا تقرّر في الأذهان أن تقدّمنا لا يتحقّق إلَّا بأن نحذو حذوهم، فلا أقل من أن نقتفي أثرهم مرتكبين مفارقة عجيبة وهي أن لا تقدّم إلَّا مع وجود الاستلاب... وذهب آخرون إلى أنه لا يمكن أن نتقدّم إلَّا إذا انتقينا من تراثنا ما يجعلنا نتشبَّه بغيرنا آتين بمفارقة لا تقل عجبًا عن سابقتها وهي أن لا تقدُّم إلَّا مع وجود التشبُّه»[7].

 



[1] عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة.. دراسة في مقالات الحداثيين، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 2007م، ص12.

[2] زكي الميلاد، عصر النهضة، كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟، ص 58 .

[3] مجموعة كتاب، المثقف العربي دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع، المجلس القومي للثقافة العربية، وقائع حلقة الرباط الدراسية، 1985، ص 120.

[4] سورة العنكبوت، الآية 69.

[5] عصر النهضة، ص: 134.

[6] عصر النهضة، زكي الميلاد، ص16.

[7] طه عبد الرحمن، في مقدمة كتاب أشغال المنتدى الفكري السادس لمنظمة التجديد الطلابي 2012، الطبعة 2013، ص 14.