شعار الموقع

قراءة في تحديث التفكير الديني عند محمد إقبال

رمزي بن حليمة 2019-05-19
عدد القراءات « 643 »

قراءة في تحديث التفكير الديني
عند محمد إقبال..

تأويل قصة الخلق أنموذجًا

الدكتور رمزي بن حليمة*

* باحث في الحضارة العربية من تونس. البريد الإلكتروني: ramzi.benhalima@yahoo.fr

 

 

 

 

مقدمة

كان الإطار التكويني لفعل التّأويل تحتضنه حركة التاريخ عبر صيرورتها المباشرة، وقد ارتبط الفعل التّأويلي منذ النّشأة بمشكلة تأويل النصّ الديني ومحاولة إيجاد فهم لنشأة الخلق أو إيجاد تفسير لجوانب الخير والشرّ التي يكتنزها السلوك الإنسانيّ، ومع هذا لم يستطع الفعل التأويلي أن يقوّض تمسّك اللاّهوتيين المسيحيين بالمنهج الحرفي لقراءة النّصوص.

إنّ من النتائج المباشرة التي أفرزتها حركة التكوّن للتأويل هو خلق مسارات دلاليّة جديدة، وإعادة التنظيم والتبويب لبعض الآليّات والمفاهيم التي يتقوّم بها، والعدول عن الاحتفاء بالدلالات الجاهزة والمعاني المسلّم بها قبل فعل القراءة، وفي هذا السياق يرى قادمير (Gadamer)[1] أنّ القراءة الحقّ لا تفهم النصّ، وإنّما تفهمه فهمًا مُخالفًا.

إنّ الفعل التّأويليّ كان ممارسة فكريّة اتّصلت من جهة بعالم النصّ ذاته: أي فهم مكوّناته والعلاقات القائمة في مضانه، وتحديد خصائصه التمييزية لأنّ للنّصوص المقدّسة سماتها الخاصة بها، وللنصّ الحجاجي هويته الشكليّة وجهازه الاصطلاحي الخاص به، وللنصّ السردي علامات بها يتميّز عن غيره.

أمّا من جهة ثانية فإنّ الفعل التأويليّ يوثّق صلته بقارئ النصّ الذي يعمل على فهم طرق إنتاجه، وتوليده للمعنى من مسارات إنتاجه.

لم يكن الفعل التّأويلي ناهضًا بتحديد مواطن النصّ ومكوّناته شكليًّا وبِنيويًّا، وإنّما أقصى ما كان يسعى إليه هو أن يقوم بصياغة جديدة للحدود القيمية وكلّ ما يُشير إلى العلاقات المحدّدة للترابط الإنسانيّ.

ذلك أنّ غائيّة الفعل التأويلي في إعادة اكتشاف النصّ، وإغنائه بمضامين ومعانٍ جديدة، وخلق مسارات دلاليّة لبعض الأجزاء والمضامين التي قد يحجبها النصّ في شموليّته وكليّته على حدّ عبارة علي حرب[2].

لقد تولّد اعتقاد راسخ عند الباحثين أنّ كلّ مشاكل الفهم والتأويل متأتّية من نظام النصّ، وأنّ التفسير لما حواه النصّ في تكوّن مستمرّ لأنّه متنزّل في التاريخ من ناحية، ومتّصل بجهة علم لها مقوّماتها الواسمة لها. وحين كان الاعتقاد على هذه الحال، أمكننا القول عن صواب، إنّ كلّ أشكال الاختلاف والتباين في العديد من المسائل والقضايا مبنيّ على أصل مشترك هو تأوّل النصّ المقدّس.

ليس القصد في هذا البحث تناول كافة جوانب الإشكالية المتّصلة بتجديد التفكير الديني في الإسلام عند محمّد إقبال، وما يرتبط بها من قضايا، فهذا المطمح يضيق عنده المجال، ويتّسع لدراسة مستفيضة مطوّلة ترصد كلّ إشكالية على حدة وهي كثيرة تتضمّن البحث في مسائل على علاقة بالمعرفة الفلسفية أوّلًا، والتجربة الدينية ثانيًا، والثقافة الإسلامية ثالثًا.

إنّ الهدف المراد الذي نروم بلوغه هو توضيح بعض جوانب الإشكالية كما واجهها محمّد إقبال من جهة، وفهم التحديث وحمله على معنى تجديد النظر، وإعادة القراءة في المسائل والقضايا من جهة أخرى.

بناء على هذه الضوابط، فإنّ تحقّق فهم التحديث في فكر محمّد إقبال[3] -في اعتقادنا- يتطلّب النظر في مسألتين جامعتين هما: أوّلا: رصد الدواعي الملجئة إلى نقد المعرفة الإسلامية بمكوّناتها الناظمة لها، وثانيًا: تحديد مواضع التحديث من خلال اتخاذ تأويل قصة الخلق أنموذجًا.

ويتّصل بهاتين المسألتين، مسألة ثالثة تُعنى بتقويم هذه المقاربة في أبعادها المختلفة.

أوّلًا: الدّواعي الملجئة إلى نقد المعرفة والخطاب الديني

تتبّع محمّد إقبال الدوافع الملجئة إلى نقد الخطاب الديني، والتي يمكن جمعها في سببين:

يتمثّل السبب الأوّل في اختزال الدين في مستوى أبعاده الدنيوية، حتى أمسى مفهوم التديّن بمثابة مجموعة توصيفات وتعليمات ترتبط بالشأن الدنيوي لحياة الإنسان، وتركّزت المجهودات على التنقيب عن المضمون العلمي الاجتماعي للدين والمعتقدات، وتأويل النصوص تأويلًا دنيويًّا.

ووقع بذلك تمديد مفهوم الدين، وجعله مفهومًا شموليًّا يستوعب كافة مجالات الحياة. وتزامن هذا مع تقويض المعاني الرمزية للدين وتقليص أبعاده الميتافيزيقية، وتحويل الدين إلى أيديولوجيا تختزله في تفسير اسمي سطحي مبسط وضيّق.

إنّ أدلجة الدين والتشديد على دُنيويته يُفضيان إلى تفريغه من مضمونه الرّوحي، ويستغرقانه في مجالات بعيدة عن العوالم الباطنية والوجدانية للإنسان. وبدلاً من أن يعمل الدين على ترسيخ النزعة الإنسانية والمعنوية وتربية الذوق الفني، يتحوّل إلى وسيلة للكراهية وأداة للصراع.

والسبب الثاني يتمثّل في طبيعة علاقة الفكر الإسلامي بالفلسفة، وهذه العلاقة يمكن فهمها من خلال الأمور التالية:

1- يرى إقبال أنّ الفكر الإسلامي أصيب بجملة من المعوّقات عطّلت مسيرته الإبداعية من خلال علاقته بالفلسفة اليونانية التي شكّلت قوّة ثقافية هائلة في التاريخ الإسلامي. ومع أنّها وسّعت آفاق النظر العقلي عند مفكّري الإسلام، إلَّا أنها عملت في الآن نفسه على تشكيل غشاوات أعمت البصر عن فهم القرآن، فيقول في هذا السياق: «... كلّ ذلك انتهى بمفكري الإسلام إلى مناقضة الفكر اليوناني بعد أن أقبلوا في باكورة حياتهم العقلية على دراسة آثاره في شغف شديد، ذلك أنهم لم يتفطَّنوا أوّل الأمر إلى أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع هذه النظريات الفلسفيّة القديمة، وبما أنهم كانوا قد وثقوا بفلاسفة اليونان أقبلوا على فهم القرآن في ضوء الفلسفة اليونانية، وكان لا بدّ من إخفاقهم في هذا السبيل؛ لأن روح القرآن تتجلى فيها النظرة الواقعية، على حين امتازت الفلسفة اليونانية بالتفكير النظري المجرّد وإغفال الواقع المحسوس»[4].

لهذا خطّأ الغزالي حين عمل على إقامة الدين على دعائم الشكّ الفلسفي بمبرّرات لا تسوغها روح القرآن، وكذلك خطّأ ابن رشد حين تأثّر بأرسطو في اصطناع القول بخلود العقل الفعّال، وخطّأ المعتزلة حين أرجعوا العقائد إلى مجرّد نسق من المعاني المنطقيّة.

2- يرى إقبال أنه ثمَّة فرق بين الدين والفلسفة يكمن في أنّ الدين يهدف إلى اتصال بالحقيقة أقرب وأوثق؛ لأن الهدف الرئيسي للقرآن هو أن يوقظ في نفس الإنسان شعورًا أسمى بما بينه وبين الخالق وبينه وبين الكون من علاقات متعددة[5]، فالفلسفة نظريات أمّا الدين فتجربة حيّة ومشاركة واتصال.

إنّ العقل الإسلامي في القرآن يجب أن يقوم على دعامة الحسّ الشاهد والتجربة. ذلك المنهج الذي أقرّه علماء الإسلام من خلال الثورة على الفلسفة اليونانية فيذكر إقبال: «أنّ المعرفة يجب أن تبدأ بالمحسوس، وقدرة العقل على تحصيل المحسوس وسلطانه عليه هو الذي ييسّر له الانتقال من المحسوس إلى غير المحسوس»[6].

إنّ هذه الدوافع مجتمعة تدفع بإقبال إلى المطالبة بأمرين:

الأمر الأوّل: ضرورة دحض الأفكار القائلة بفضل الفكر اليوناني على الحضارة الإسلامية، لأنه يعتبرها أهمّ المعوّقات في تقدّم مسيرة العقل الإسلامي، فظهور منهج الملاحظة والتجربة في الإسلام لم ينشأ من توافق بين العقل الإسلامي والعقل اليوناني بل نشأ في خضمّ صراع عقلي طويل المدى.

الأمر الثاني: إنّ تشكيل معرفة دينية موائمة للعصر يتوقّف على إعادة بناء لاهوت جديد أو فلسفة دينية تحدّد لنا مكانة الإنسان في العالم ونمط العلاقة بينه وبين الله، وحقيقة الدين وَحُدودِه، ومجالات التديّن وطبيعة الظاهرة الدينية. وهذا المطلب يتطلّب التحرّر من الإبستيمولوجيا الكلاسيكيّة، وتوظيف معطيات الإبستيمولوجيا والعلوم الإنسانية الحديثة في الدراسات اللاّهوتية.

ثانيًا: مواضع التحديث.. تأويل قصة الخلق[7]

إنّ مواطن التحديث في فكر محمّد إقبال تستفاد من خلال تجديده النظر في العديد من العلوم الدينية، منها ما هو متّصل بعلوم القرآن، ومنها ما هو متعلّق بالفقه وأصوله، ومنها ما هو مرتبط بعلم الكلام والفلسفة.

وقد تخيّرنا من هذه المسائل المتعدّدة النظر في إشكالية تأويل قصة الخلق. فنقول: إنّ قصة الخلق اعتبرت من أهمّ المشاغل التي أشكلت على العلماء فظهر فيها الاختلاف. وهذا الاختلاف له مراتب متعدّدة يهمّنا منه ما يتّصل بكيفيّة قراءة إقبال لها.

إنّ ما يُحسب لمحمّد إقبال هو حسن استيعابه للتراث الديني بتقاطعاته المختلفة المشكّلة له، وحسن تمثّله لمختلف التجارب صوفيّة كانت أو شيعيّة أو سنيّة. وكذلك اطّلاعه الجيّد على الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة.

هذا كلّه أفضى إلى تشكّل وجه جديد في تأويل القرآن، والتعاطي مع لغته باعتبارها لغة رمزيّة خاطب الله بها الإنسان للإشارة إلى معانٍ لا تتّسع لها قوالب الألفاظ. وقد أتاح له هذا الأسلوب أن يغوص في مدلولات النصّ الخفيّة، ويتوغّل في مضمونه الباطنيّ باعتباره رموزًا وإشارات وشفرات لحقائق تضيق عنها العبارات.

إنّ تحقّق عملية التحديث في تأويل القرآن من قبل محمد إقبال يمكن رصده في مسألتين هما: قصّة هبوط آدم إلى الأرض وصورة الجنة.

1- المسألة الأولى: قصّة هبوط آدم إلى الأرض

يلاحظ إقبال أنّ هذه القصة جاءت في آداب العالم القديم على صورة مختلفة، لهذا فإنه يصعب تحديد مراحل نموّها أو تقصّي مختلف الهموم والبواعث الإنسانية التي كيّفت عملية تشكّلها. ويذكر إقبال أنّ هذه القصة نشأت عند الساميين كنتاج لرغبة الإنسان البدائي «في أن يفسّر لنفسه تعاسته البالغة، وسوء حاله في بيئة غير مؤاتية له، تفيض بالمرض والموت، وتعوقه من كل ناحية في سعيه لاستبقاء حياته»[8].

إنّ صورة هذه القصة في المرجع السامي، تحدّدت معالمها بهذه النظرة التشاؤمية للإنسان تجاه الحياة، وإحساسه بالعجز عن مقاومة القوى الطبيعية.

وقد اكتسبت هذه الصورة دلالة أخرى في المرجع البابلي، فمن خلال نقش قديم يتضمّن ثعبانًا (رمز عضو الذكورة) وشجرة وامرأة تقدّم إلى رجل تفاحة (رمز البكارة)، يوضّح إقبال أنّ المعنى المستفاد من هذه الأسطورة أن سبب سقوط الرجل من حال مفترضة من حالات السعادة كان سببه الاختلاط الجنسي بين الرجل والمرأة لأول مرّة[9].

ثم ما لبثت أن اكتسبت هذه القصة دلالات أخرى في النصّ التوراتي والنص القرآني. ويمكن بيان مستويات الاختلاف بين النصين في الجدول التالي:

العهد القديم

القرآن

عناصر القصة

مواطن ذكر هذه العناصر

عناصر القصة

مواطن ذكر هذه العناصر

الحديث عن الجنة أو الشجرة

«وأنبت الربّ الإله من الأرض كلّ شجرة شهية للنظر وجيّدة للأكل وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشرّ» سفر التكوين (2/9).

«وقال الربّ الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر. والآن لعله يمدّ يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد» سفر التكوين (3/24).

الحديث عن الجنة أو الشجرة

{وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأعراف 7/19).

{جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} (طه 20/76).

الحديث عن الحية

«و كانت الحية أحيل جميع حيوان البرية الذي صنعه الربّ الإله. فقالت للمرأة: أيقينا. قال الله: لا تأكلا من جميع شجرة الجنة؟ فقالت المرأة للحيّة: من ثمر شجر الجنة نأكل. وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمسَّاه. كيلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا إنّما الله عالم أنّكما في يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة عارفي الخير والشرّ. ورأت المرأة أن الشجرة طيبة للمأكل وشهية للعيون. وأن الشجرة منية للعقل فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت بعلها أيضًا معها، فأكل» سفر التكوين (2-25. 3-7).

الحديث عن الحية

 

 

-

ذكر حادثة خلق حواء من ضلع آدم

جاء في سفر التكوين: «هاهذه المرّة عظم من عظامي ولحم من لحمي. هذه تسمّى امرأة لأنها من امرئ أخذت» (2/23).

ذكر حادثة خلق حواء من ضلع آدم

 

-

ذكر هبوط آدم من الجنة إلى الأرض

وقال لآدم: «إذ سمعت لصوت امرأتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلًا: لا تأكل منها، فملعونة الأرض بسببك بمشقّة تأكل منها طول أيام حياتك وتأكل عشب الصحراء بعرق وجهك تأكل خبزًا، حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها. لأنك تراب، وإلى التراب تعود» سفر التكوين (3/ 14-19).

ذكر هبوط آدم من الجنة إلى الأرض

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ» الأعراف (7/20).

 

إنّ ما يمكن الخروج به من ملاحظات من النصين القرآني والتوراتي ما يلي:

1- إنّ القرآن يقسّم القصة إلى حادثتين متمايزتين: إحداهما تتعلّق بما يصفه بالشجرة فقط، والأخرى خاصة بشجرة الخلد وملك لا يبلى. ويُضاف إلى هذا أنّ الفرضية التي ساقها القرآن تتمثّل في أنّ الشيطان هو الذي قام بإغواء آدم وزوجه.

2– إنّ الأدبيّات اليهودية تحدّثت عن جنة عدن تقع في وسطها شجرة عالية عظيمة سُمّيت «بشجرة الحياة»، وكلّ من يأكل من ثمرها يكتب له الخلود. وقد ذكرت ثلاث مرّات في العهد القديم من الكتاب المقدّس في سياق سرد حياة آدم بجنة عدن. ويرى البعض[10] أنّ هذه الشجرة وفّرت تفسيرًا لحقيقة موت الإنسان لأنّ آدم لو لم يعصِ أمر الله بالأكل من شجرة المعرفة وأكل من شجرة الحياة لحقّق الخلود.

3- إنّ رواية العهد القديم تقوم على بيان أمرين: أولهما، أن الإنسان طرد من جنة عدن فور عصيانه الأوّل. وثانيهما، بيان أن الربّ الإله يخلق المرأة من أحد أضلاع الإنسان بعد إيقاعه في سبات عميق.

والذي نخرج به، بعد عقد هذه المقارنة بين النصين ملاحظتين هما:

الملاحظة الأولى: إنّ القرآن يسقط إسقاطًا تامًّا ذكر الحية وحكاية خلق حواء من ضلع من ضلوع آدم. وحذف حكاية الحيّة تجريد للقصة من طابعها الجنسي، وما توحي به أصلًا من النظر إلى الحياة نظرة متشائمة. وحذف حكاية الضلع يقصد به الإشارة إلى أنّ غرض القرآن من رواية القصة ليس السرد التاريخي، كما هو الحال في كتاب العهد القديم الذي يعطينا وصفًا لأصل الرجل والمرأة تمهيدًا لبيان تاريخ إسرائيل.

الملاحظة الثانية: رصد بعض الفوارق بين النصين، من ذلك مثلًا أن سبب نزول آدم من الجنة إلى الأرض كان بسبب غواية الشيطان في النص القرآني. في حين كان السبب في العهد القديم عصيانه الأول للرب الإله ممّا ترتّب عليه طرده من جنة عدن.

إنّ ما ينتهي إليه إقبال بعد هذا الاستقراء للنصّين القرآني والعهد القديم ثلاث دلالات رمزية مُستحدثة لقصة الهبوط وهي:

أوّلًا: إنّ قصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن لا صلة لها بظهور الإنسان الأوّل بهذا الكوكب، وإنّما أريد بها بيان ارتقاء الإنسان من بدائية الشهوة الغريزيّة إلى الشعور بأنّ له نفسًا حرّة قادرة على الشكّ والعصيان.

ثانيًا: إنّ عملية الهبوط لا تعني أي فساد أخلاقي، بل هو انتقال الإنسان من الشعور البسيط إلى ظهور أوّل بارقة من بوارق الشعور بالنفس. وهو نوع من اليقظة من حلم الطبيعة أحدثتها خفقة من الشعور بأنّ للإنسان صلة عليّة شخصيّة بوجوده، فالمعصية الأولى للإنسان كانت أوّل فعل له تتمثّل فيه حرية الاختيار ولهذا تاب الله على آدم كما جاء في القرآن وغفر له. إنّ عمل الخير لا يمكن أن يكون قسرًا بل هو خضوع عن طواعية للمثل الأخلاقي الأعلى ينشأ عن تعاون الذوات الحرة المختارة عن رغبة ورضا.

ثالثًا: إنّ الفكرة الأساسية المستفادة من قصة الهبوط من الجنة كما جاء ذكرها في القرآن (سورة طه/ آية 120-122) تشير إلى أنّ رغبة الحياة رغبة لا تقاوم، وسعي الإنسان إلى الحصول على مسلك لا نهائي من حيث هو فرد ذو وجود متحقّق. ولكن لما كان الإنسان كائنًا فانيًا يخشى انقضاء سيرته بموته، لم يكن أمامه من سبيل إلَّا أنْ يُحقّق نوعًا من الخلود الجماعي بالتكاثر والتوالد، لذلك يرى إقبال «أن أكل الثمرة المحرمة من شجرة الخلد كان الوسيلة التي لجأ إليها للتمييز بين الذكر والأنثى، وهو التمييز الذي به يتكاثر لكي ينجو من الفناء الكليّ»[11].

ثم يخلص إقبال إلى تأويل مستحدث عند مقارنته بين التمثال البابلي القديم والنص القرآني فيذكر: «إن القرآن يستبعد الرمز لعضو التذكير الذي جاء في الفن القديم، ولكنه يشير إلى أول اختلاط جنسي بما اعترى آدم من الخجل الذي يبدو في حرصه على ستر عريه. وبعد، فإن الحياة معناها أن يكون للإنسان شكل معين وفرديّة متحققة الوجود في الخارج، وهذه الفردية المتحققة مشاهدة فيما لا يحصى من مختلف الصور الحية هي التي يتكشف فيها ما لله من وجود غير متناه»[12].

2- المسألة الثانية: صورة الجنة

وهي مسألة متصلة اتصالًا وثيقًا بالمسألة الأولى، ينتهي إقبال إلى تأويل مستحدث فيه، ويرى أنّ الجنة التي ورد ذكرها في القرآن والمتعلقة بقصة آدم وحواء لا يمكن أن يقصد بها الجنة التي جعلها الله مقامًا خالدًا للمتقين لسببين:

السبب الأوّل: أنّ القرآن يجعل الأرض مستقرًّا ومتاعًا للإنسان ينبغي أن يشكر الله عليه في حين يلعن العهد القديم الأرض لعصيان آدم. بذا فليس هناك من سبب لافتراض أنّ كلمة جنة (أي حديقة) استعملت في هذا السياق للدلالة على جنة وراء الحسّ، يفترض أن الإنسان هبط منها إلى هذه الأرض.

وطبقًا للقرآن ليس الإنسان غريبًا عن هذه الأرض، لذلك يمكن ترجيح أن الجنة التي ورد ذكرها في القصة لا يقصد بها إطلاقًا الجنة التي هيّأها الله لتكون مستقرًّا للمتقين.

السبب الثاني: أن الجنة التي وعد الله بها المتقين وصفها القرآن بقوله: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}[13]، أو بقوله: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}[14]. في حين أن الجنة التي ورد ذكرها في القصة كان أوّل ما وقع فيها معصية الإنسان لربه ثم خروجه من الجنة. والقرآن يصف ملامح هذه الجنة بالقول: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}[15].

لهذين السببين يرجّح إقبال اعتبارًا مفاده أن الجنة التي جاء ذكرها في القرآن ما هي إلَّا تصوير لحالة بدائية يكاد يكون الإنسان فيها مقطوع الصلة بالبيئة التي يعيش فيها. ومن ثم فإنه لا يحسّ بلدغة المطالب البشرية التي تحدّد نشأتها دون سواها من العوامل بداية الثقافة الإنسانية[16].

بهذه الطريقة في التأويل لقصة هبوط آدم من الجنة إلى الأرض وصورة الجنة، فارق إقبال ما استقرّ في أدبيات الفكر الإسلامي. واستفاد أيّما استفادة من الدرس الأنثروبولوجي الرّمزي الذي اتّخذ من دراسة المعنى في حياة الإنسان الاجتماعية هدفًا رئيسًا له، وتتمّ هذه الدراسة من خلال الرموز ومن ثمّ تصبح الثقافة في دلالتها الأنثروبولوجية بمثابة النصّ الرمزي القابل للفهم والتأويل.

إنّ إقبالًا يعتقد أنّ أيّة محاولة لتحديث التفكير لا تنفتح على رؤية مختلفة في تحديد مدلول لغة الدين، لا تستطيع أن تخطو أيّة خطوة جريئة إلى الأمام تبلور اجتهادًا بديلًا يسهم في بناء تصوّر يواكب العصر للدين والتّديّن. إنّ القعود عند فهم حرفي وسطحي للنصّ لا يمكن أن يقدّم لنا فهمًا جديدًا، بل يكرّر دائمًا ما قاله القدماء وينتهي إلى مواقف سُكونيّة قارة.

وإنّه لفي اعتقادنا أنّ بمثل هذه الآراء، نخرج من مأزق لنسقط في آخر. فالفكر الديني الإسلامي ما زال يعاني من تبعات مشغل قراءات القرآن والمشاكل المختلفة التي اتّصلت به، لنسقط من جديد في شكل جديد من القراءة وما تثيره من قضايا.

ثالثًا: في تقويم تجربة محمد إقبال

إنّ تقويم عملية تجديد التفكير الديني في الإسلام عند محمد إقبال متّصلة اتّصالًا وثيقًا بالإجابة عن السؤال التالي: إلى أيّ حدّ ترتقي هذه التجربة لتشكّل جهدًا تحديثيًّا في المعرفة الدينية وعلومها؟

إنّ تحقّق الإجابة عن هذا السؤال يتمّ بالنظر في الوجهين الناظمين لهذه المقاربة: الأوّل إيجابي والثاني سلبي.

1- الوجه الإيجابي

نقول أوّلًا: إن مبحث الفضل متأتٍّ من أنّ عمليّة التحديث عند محمّد إقبال انطلقت من موقع يلامس الهياكل الأساسية والجذور ومصادر الإلهام التي تشكّل الرؤية الكونية، وتتغذّى منها المفاهيم الاعتقادية والأفكار الكلامية. فالرجل أجاز إمكانية استخدام المنهج العقلي الفلسفي في تحليل الدين وجوهره. وفهم الجذور العميقة للإيمان وما ينطوي عليه.

وقد قاده هذا المنحى إلى الاستعانة بآراء جماعة من الفلاسفة والمفكّرين الغربيين في تفسير الدين كظاهرة وجدانية وإيمانية واجتماعية. وبموازاة ذلك حرص على استنطاق الموروث الإسلامي خاصة آراء المتصوّفة والعرفاء والفلاسفة... وقد تهيّأ له بفضل هذا أن يصوغ إطارًا منهجيًّا مخصوصًّا للدراسات اللاهوتية في الإسلام تتحدّد فيه أولويات البحث ونقطة البداية والمنطلقات الأساسية، وأدوات التعاطي مع الإبستيمولوجيا والعلوم الإنسانية الحديثة واكتشاف البقع المضيئة في التراث، ومدى الإفادة من عناصره الحيّة ودمجها بمكاسب المعارف الجديدة وتوليفها في هندسة معرفية متناسقة الأجزاء.

ففي استقراء سريع يطالع القارئ آراء فلاسفة ومفكرين وعلماء غربيين مثل هيوم وبرغسون وفرويد وديكارت ونيوتن ورسل وبرادلي وهيغل... وغيرهم كثيرون. إنّ هذا الحشد وهذا التجميع عوّل عليه إقبال في عملية تفكيك التراث وغربلته، وتأويل النصّ ومعرفة مجالاته التداولية والتوغّل في الظاهرة واستجلاء كوامنها في النفس، وحقلها وحدودها في الاجتماع البشري.

ومبحث الفضل متأتٍّ ثانيًا، عند ملاحظة إقبال تعطيلية المنطق اليوناني حاول الخروج بقراءة جديدة تعيد لمنطق التتبّع الحسّي والاستقرائي موقعه ومكانته في التفكير الديني؛ إذ من دون ذلك لن يستطيع الفكر الإسلامي مواكبة الراهن.

ومبحث الفضل متأتٍّ أخيرٍا من أن إقبال فتح المجال لإعادة قراءة بعض القضايا الهامة. ففضل الرحمن طوّر نظرته في ختم النبوّة، كما استثمر مرتضى المطهّري رأيه في كون الاجتهاد هو أسّ الحركة في الإسلام ليقدّم تفسيرًا موسّعًا لمعنى الثابت والمتحوّل، ودور الاجتهاد في الفكر الديني، ويضاف إلى هذه القائمة المفكر الإيراني عبد الكريم سروش الذي وظّف آراء محمد إقبال لتطوير بعض الدراسات المهتمّة بالتمييز بين المعرفة الدينية والدين ومسألة القبض والبسط في التجربة النبوية.

2- الوجه السلبي

نقول أوّلًا: إنّ مسألة التحديث في سياقها العام والرئيسي أصبحت بمثابة مسألة اجتماعية بين الباحثين. ورأوا في إعادة قراءة النصّ الديني بمقوّماته المتنوّعة مدخلًا مهمًّا لتحقيق هذه الغاية. والحال أنّ إعادة إحياء مفاهيم دينية معيّنة أو إيجاد إصلاح في التطبيق لن يحلّ بمفرده المشكلة. فليس المهمّ هو التحديث بل المهمّ معه إصلاح وتقويم هذا الذي نقوم بتحديثه. فلسائل أن يتساءل: ما الذي يفترض الاشتغال عليه أوّلًا: الإنسان ثم الدين أم الفهم الديني ثم الإنسان؟. إنّ منظومة أيّ عمل تحديثي -في اعتقادنا- يجب أن تقترن بحركتين: الأولى منبثقة من مضانِّ النصّ وكيفيات التعامل معه بما يكفل لنا التجدّد والتقدّم نحو الأفضل. والحركة الثانية من خارج النص متمثّلة خاصة في ترشيد وتطوير الأجهزة المعرفية وتحسين مستوى التقبّل والدراسة من طرف الباحث. إنّ تحقُّق هاتين الحركتين يسمحان لنا بقراءة موضوعية للدين ونصوصه ويفرزان فهومًا سليمة ومتطورة للمشاغل والقضايا المطروحة.

ونقول ثانيًا: إنّ مشروع تحديث الخطاب الديني لا ينطلق من الثقافة الدينية وحدها. فَإنْ رأى إقبال في تجديد التفكير الديني حلًّا وحيدًا به يتحقّق التحديث، نقول له: إنّ هذا التجديد الذي ناديت به ليس سوى ركنٍ من أركان منظومة التجديد ولا يكفي وحده. وإنّما لا بدّ من تجديد أجهزتنا ومنظومتنا المعرفية وأوضاعنا السياسية والاجتماعية والعلمية...

إذًا فهناك علاقة جدلية بين التجديد الديني والتجديد الإنساني حيث يؤثّر كلّ منهما على الآخر ويلحقه، وهنا حصل «وهم التحديث» عندما أوقعنا القطيعة بين هذين المسارين. وكأنّ إصلاح الفقه أو علوم القرآن أو علم الكلام كفيل لوحده بإصلاح الفكر الإسلامي.

ونقول ثالثًا: لم ترتقِ أفكار محمد إقبال لتؤسّس منهجًا علميًّا متكاملًا قوامه نقض معرفة مرفوضة واستبدالها بأخرى مستحدثة، وتوفير كلّ المقوّمات لنجاحها وانتشارها، والارتقاء بها لتكون مرجعيّة يعتدّ بها لتفسير كلّ الظواهر، وتجاوز الاختلافات والتناقضات داخل الفكر الإسلامي.

فبالرغم من جدّية الإسهام الذي قام به إقبال لدفع حركة تجديد التفكير الديني في الإسلام إلَّا أن دعوته ظلّت محدودة الانتشار رغم فرادتها وجدّتها في مجال العناية بمفهوم العمل في الإسلام وتجديد الفلسفة الدينية الإسلامية.

الخاتمة

إنّ أبرز ما يسترعي الانتباه في دراسة محمد إقبال للفكر الديني عدم إعراضه عن بعض المحاور التقليدية التي تعلّق بها سابقوه من الباحثين والدارسين عندما تناولوا قضايا الفكر الإسلامي بالدرس والمراجعة، فانشغل بمباحث ومسائل مختلفة منها ما هو متصل بالكلام ومنها ما هو متصل بالفقه وأصوله.

كما جعل إقبال عملية تجديد التفكير الديني تتجاوز مدار الدلالة اللغوية اللفظية، أو السقوط في الدراسة التاريخية، وتوصّل إلى نتيجة قيّمة، وهي أن إعادة قراءة الفكر الديني بفضل المناهج المستحدثة يجب أن يرافقه عمل انتقائي لتوظيف ما يفيد هذه المعرفة الدينية لأنها ليست وصفة جامدة بل هي تجربة حيّة متجددة.

و قد تبيَّن لنا أن عمل إقبال -إذا ما تقيَّدنا بإشكالية التأويل مثلًا- إن عدّ محاولة لتحديث طرائق وكيفيات التفكير فإنه يفضي -لزامًا- إلى الوقوع في جملة من الإحراجات والمزالق التي تثير العديد من القضايا والإشكاليات.

 

 

 

 



[1] راجع:

Gadamer.H.G, vérité et méthode, les grandes lignes d’une herméneutique philosophique. Traduction: Pierre fruchon, édition seuil, paris 1995.

[2] راجع: علي حرب، نقد النص، المركز الثقافي العربي، ط1، 1993.

[3] اعتمدنا في هذه الدراسة على كتاب محمد إقبال «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، الذي ترجمه عبّاس محمود، الصادر عن دار الجنوب للنشر بتونس سنة 2006م، ضمن سلسلة معالم الحداثة.

[4] محمد إقبال، المرجع السابق، ص134.

[5] المرجع نفسه، ص24.

[6] محمد إقبال، المرجع السابق، ص137.

[7] لمزيد التوسع حول جدليّة العلاقة بين التفسير والتأويل والقراءة، راجع: كمال عمران والباجي القمرتي، جدلية النصّ والمنهج، آيات منسورة لقمان ضمن سلسلة موافقات الصادرة عن الدار التونسية للنشر، ديسمبر 1989م. انظر أيضًأ: محمد نجيب النويري، المعنى عند المفسرين الطبري نموذجًا، ضمن ندوة صناعةالمعنى وتأويل النص، جامعة تونس كلية الآداب بمنوبة 1992.

[8] محمدإقبال، المرجع السابق، ص 93.

[9] محمد إقبال،المرجع نفسه، ص 93.

[10] dictionnaire encyclopédique du juddisme (publié sous la direction de Geoffrey urigoder) Les éditions du Cerf, Paris 1993, p1159.

[11] محمدإقبال، المرجع السابق، ص93.

[12] المرجع نفسه، ص97.

[13] سورة الطور 52/23.

[14] سورة الحجر 15/48.

[15] سورة طه 20/118-119.

[16] محمد إقبال المرجع نفسه، ص95.