الدولة العربية المعاصرة
وجدليات الاستقرار والإصلاح
محمد محفوظ
علم الاجتماع السياسي المعاصر يفرّق اليوم بين الدولة القوية والدولة القمعية، ويرى أن الدولة التي تلتحم في خياراتها ومشروعاتها مع مجتمعها وشعبها هي الدولة القوية، حتى لو لم تمتلك موارد طبيعية هائلة. فالدولة القوية حقًّا هي التي تكون مؤسَّسة للإجماع الوطني وأداة تنفيذه، وتنبثق خياراتها وإرادتها السياسية من إرادة الشعب وخياراته العليا.
ولا ريب أن الدولة القمعية بتداعياتها ومتوالياتها النفسية والسياسية والاجتماعية، هي من الأسباب الرئيسة في إخفاق المجتمعات العربية والإسلامية في مشروعات نهضتها وتقدّمها؛ لأنها تحوّلت إلى وعاء كبير لاستهلاك مقدّرات الأمة وإمكاناتها في قضايا الاستزلام والمجد الفارغ والأبّهة الخادعة، ومارست كل ألوان العسف لمنع بناء ذاتية وطنية مستقلة.
ومؤسّسات الأمة في التجربة التاريخية الإسلامية، كانت تمارس دورًا أساسيًّا في تنظيم حياة الناس السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ويتكثّف دورها ويتعاظم في زمن انحطاط الدول أو غيابها أو هروبها من مسؤولياتها تجاه الأمة.
وفعالية الأمة السياسية والثقافية والحضارية من الأمور الهامة على مستوى الغايات التي تتوخّاها المنطقة العربية والإسلامية، وعلى مستوى العمران الحضاري؛ إذ إن الأهداف الكبرى التي تحتضنها الأمة وتتطلّع إلى إنجازها وتنفيذها لا تتحقّق على مستوى الواقع إلَّا بفعالية الأمة وحركتها التاريخية وتجسيدها لقيم الشهادة.
والمجتمع المدني – الأهلي هو أحد جسور الأمة لإنجاز تطلّعاتها وتنفيذ طموحاتها؛ لذلك من الأهمية بمكان العمل على تطوير ثقافة مدنية – أهلية، تبلور مسؤوليات المجتمع، وتحملّه دورًا ووظائف منسجمة واللحظة التاريخية.
وإن تجذير هذه النوعية من الثقافة في المحيط الاجتماعي سيضيء سبلًا هامة لمبادرات المجتمع وريادته في العمران الحضاري؛ وذلك لأن هذه الثقافة ستنشّط من حركية المجتمع وتزيده تماسكًا في طريق البناء والتنمية، ويعزّز بعضه بعضًا، وتعمّق في نفوس أبناء المجتمع الثقة والفعالية والانفتاح على الأفكار والتجارب الجديدة، والمرونة التي لا تعكس ضعفًا وهزيمة، وإنما مرونة قوامها الثقة بقدرة الآخرين على المشاركة في البناء، والتسامح حيال الاختلافات والمواقف القلقة والملتبسة.
وإن الوصول إلى مجتمع عربي – إسلامي جديد، يأخذ على عاتقه مسؤولية التاريخ والشهادة على العصر، بحاجة إلى تنشئة ثقافية وسياسية جديدة، تغرس في عقول ونفوس أبناء المجتمع قيمًا جديدة تنشّط الحركية الأهلية، وترفده بآفاق جديدة، وإمكانات متاحة، وتطلّعات حضارية. والتنشئة الثقافية والسياسية من الوسائل الهامة التي تساهم في تطوير الحقل المدني – الأهلي في الأمة، وإن شبكة العلاقات الاجتماعية كلما كانت متحرّرة من رواسب الانحطاط والتخلّف، وبعيدة عن آثارهما النفسية والعامة، كلما كانت هذه الشبكة قوية وفعّالة. وإن التنشئة الثقافية والسياسية السليمة، تساهم مساهمة كبيرة في حركية هذه الشبكة وقدرتها على تجاوز المحن والابتلاءات، وتوفّر لها الإمكانية المناسبة للتعاطي مع اللحظة التاريخية بما يناسبها وينسجم مع متطلّباتها، وهي «وسيلة فعّالة لتغيير الإنسان، وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يكون معهم مجموعة القوى التي تغيّر شرائط الوجود نحو الأحسن دائمًا، وكيف يكون معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدّي نشاطه المشترك في التاريخ»[1].
وفي إطار البناء العلمي والثقافي الذي يؤسّس ركائز الحركية المدنية – الأهلية، ينبغي العناية بالمفاهيم والقيم التي تشكّل مداخل ضرورية ومفاتيح فعّالة لدفع قوى المجتمع نحو البناء المؤسسي. وكذلك قراءة الأحداث والتطوّرات، واستيعاب منطقها واتجاه حركتها والمفاهيم المتحكمة في مسارها. و«إن ما ينبغي الحديث عنه، وما يشكل أداة مفهومية أوضح وأسهل للبحث هو مجموعتان من العوامل الداخلية، لا تتماهى مع التراث، وإنما تغطّي البنى المحلية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، كما نشأت في إطار التحرّر من الماضي من جهة، وفي إطار التأثّر بالخارج في العقود الماضية من جهة ثانية، أي من حيث هي ثمرة للتفاعل السابق بين التراث المجروح والمهتزّ، وأحيانًا المدمّر، وبين الحداثة بما هي مجموعة الأنماط الجديدة التي فرضت نفسها على وسائل وطرق إنتاج المجتمعات، لوجودها من الناحية الفكرية والخيالية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية معًا. أما المجموعة الثانية فهي العوامل التاريخية التي ترتبط ببنى النظام العالمي، من حيث هو ترتيب لعلاقات القوة على الصعيد الدولي، وبسياسات الدول المختلفة الكبيرة والصغيرة الوطنية، وما ينجم عنها من تعارض في المصالح، ومن نزعات متعدّدة للهيمنة والسيطرة والتحكّم بمصير المجتمعات الضعيفة، للاستفادة من مواردها، واحتواء ثمار عملها وجهودها»[2].
ومن خلال هذه القراءة الواعية والدقيقة تتّضح الظروف الموضوعية والمؤشرات العامة، التي تؤسس لشبكة التضامن الاجتماعي والتآلف الداخلي بصورة حيوية وفعالة.
وهذا لا شك هو شرط تحويل الظروف الموضوعية والمؤشرات العامة التي تدفع باتجاه الخيار الديمقراطي والمدني إلى واقع ملموس وحركة اجتماعية متواصلة. وبالتالي تتصاعد قدرة المجتمع على إجهاض كل مشروع ارتدادي، وترتفع وتيرة الحركية الاجتماعية باتجاه البناء المدني والمؤسسي.
فالوعي الذاتي بالظروف الموضوعية وقوانين حركتها هو شرط الاستفادة منها وتوظيفها بما يخدم أهداف الوطن والأمة، وبهذه العناصر والقيم يكون المجتمع بكل شرائحه وفئاته مسؤولًا عن تطوير ذاته، وتجديد رؤيته لنفسه ولدوره التاريخي.
ومن المؤكد أن تطوير هذا التوجه في المحيط الاجتماعي سوف يؤدّي إلى إحداث شكل أو أشكال من المشاركة الشعبية في الحياة العامة. والمجتمع الذي يفتقد الوعي والإرادة فإنه ينزوي عن راهنه، ويعيش الهامشية، ولا يتحكّم في مصيره ومستقبله.
لذلك فإن بداية تطوّر الحقل المدني – الأهلي في الفضاء العربي والإسلامي، هي في عودة الوعي بضرورة هذا الحقل في البناء والعمران، وامتلاك إرادة مستديمة لتحويل هذا الوعي إلى فعل مجتمعي متواصل، يتّجه إلى تطوير وترقية وتنمية الحقل المدني – الأهلي في الأمة...
وفي المجال نفسه يمارس هذا الحقل دور إنتاج وسائل التطوير في المجتمع.
وبهذا يكون الحقل الأهلي في الأمة هو حجر الأساس ونقطة البداية في مشروع العمران الحضاري الجديد.
التجديد والاستقرار السياسي
يبدو وفق التجارب السياسية العديدة أن تجديد الحياة السياسية وإدخال دماء وعناصر جديدة تبث الحياة والحيوية، وتزيل العديد من عناصر الجمود والرين، هو أحد الوسائل الأساسية التي تستخدمها العديد من الدول لتجديد ذاتها وطرد عناصر الخمول عنها، إلَّا أن ظاهرة الربيع العربي ومآلاتها العديدة تثبت أيضًا أن إدخال عناصر شابة بوحدها لا يؤدي إلى تجديد كامل للحياة السياسية، وإنما إضافة إلى تجديد في الكادر البشري، هي بحاجة أيضًا إلى تغيير بعض قواعد اللعبة وتبديل بعض المسلمات السياسية وكذلك بعض الخيارات المتعلّقة بتوسيع قواعد ومسارات المشاركة الشعبية في الشؤون العامة؛ لأن الحياة السياسية كالكائن الحي إذا لم تجدّد وتتطوّر فإن بقاءها لفترة طويلة على نسق واحد يجمد هذه الحياة، وتتّسع من جراء عملية الجمود وثقوب الفساد والانحلال الداخلي والتآكل المستمر.
لذلك فإن موقع الديمقراطية وقيم التداول في الحياة السياسية هو المسار الضروري لتجديد الحياة السياسية، وإزالة عناصر الترهّل واليباس، وإعطاء دفعة مادية ومعنوية جديدة لتطوير الحياة السياسية والوطنية. وإن التجارب السياسية التي لا تتعرّض إلى التجديد والتداول هي تجارب غير قادرة على مواكبة المستجدات واستيعاب الجيل الشاب بأفكاره الجديدة، وطموحه الذي يتعدّى حدود ما هو قائم ومستمر.
فالخيارات السياسية التي لا تتجدّد ولا تتطوّر على المستويين البشري والفكري بمعنى الخيارات والسياقات الجديدة التي تدخل في تطوير هذه الخيارات، فهي خيارات تتحوّل مع الزمن من مصدر للرفعة والعزة إلى أهلها ومحيطها، إلى منبع لتأبيد السائد ومناكفة الجديد ومحاربة كل نزعات التطوير والإصلاح.
وتكلّس الحياة السياسية والاجتماعية يفضي على المستوى العملي إلى تشكّل أصوات وحالات شعبية ترفض بشكل جذري هذه الحالات، وتعمل في الخفاء والسر لحشد ذاتها للانقلاب الكلي على هذه العملية، أو تغيير بعض قواعد اللعبة السياسية.
بمعنى أن ترهّل الحياة السياسية وتكلّسها في كل الدول، وانسداد آفاق الممارسة السلمية القانونية والسلمية والقادرة على امتصاص مساحات اجتماعية واسعة، كل هذا يهيّئ المناخ الاجتماعي والثقافي لولادة خيارات العنف والإرهاب.
وأحسب أن هذه الفرضية بحاجة إلى الكثير من النقاش والتأمّل؛ لأنها فرضية قائمة على إيجاد ربط واقعي وفعلي بين فشل أو تراجع الحياة السياسية أو جمودها وتكلّسها، بمعنى أنها غير قادرة على إقناع شعبها ومحيطها الاجتماعي بخياراتها ومساراتها العملية، وبين ولادة خيارات العنف والإرهاب في المجتمع.
بينما الحياة السياسية والعامة، المحكومة بشكل دائم بقيم الديمقراطية والتداول، هي حياة مستقطبة للكفاءات والدماء الجديدة، ولا زالت لديها القدرة عبر ميكانيزماتها الداخلية والاجتماعية على إقناع مساحات اجتماعية أساسية بأنها هي سبيل التجديد والتطوير.
وحينما تتوفّر من ناحية الرؤية والقبول الاجتماعي الواسع، فإن الجهود البشرية الجديدة لا تتجّه صوب الانقلاب على هذه الحياة، وإنما الانخراط فيها والتنافس وفق آلياتها وشروطها المجتمعية.
أما المجتمعات التي تتضاءل فيها مساحات العمل العام، ويتم تقييدها بالكثير من الشروط والقيود، بحيث تصعب عملية الانخراط في مساحات العمل العام، فإن هذا المناخ يصبح من الناحية الفعلية طاردًا للدماء الجديدة والطاقات الاجتماعية الطموحة التي تبحث عن دور ووظيفة في الشأن العام.
وحينما تتّسع دائرة اليأس والإحباط من الحياة العامة القائمة، ستتبلور خيارات من القاع الاجتماعي، بعضها لاعتبارات عديدة، سيتبنى خيار العنف، بوصفه هو الخيار القادر على فتح كوّة، تنقل بعض فئات المجتمع من القاع الاجتماعي إلى القمة أو المقدمة الاجتماعية.
لذلك فإن التجديد الدائم للحياة السياسية والعامة، وتعزيز قيم الديمقراطية والتداول في أجوائها، هو من أهم الوسائل والطرق القادرة على وأد مشروعات العنف والإرهاب في المجتمع؛ لأنه ببساطة شديدة، يسقط مبررات اللجوء إلى العنف، بوصفه هو خيار الصعود الاجتماعي والسياسي؛ لأن الانخراط في اللعبة القائمة لا زال قادرًا على تجديد النخب وضخّ دماء بشرية جديدة في الحياة العامة.
ولعل هذه المعادلة هي التي حالت دون صعود جماعات العنف اليساري في التجربة الغربية - الأوروبية؛ إذ إن هذه الجماعات التي تتبنى خيارات العنف واستخدام الكفاح المسلح، مدعومة بشكل مباشر من كل دول وتنظيمات المعسكر الشيوعي والاشتراكي، إلَّا أن طبيعة الحيوية والتنافس الديمقراطي في الحياة السياسية في أنظمة أوروبا الغربية، هي التي قلّصت إلى حدٍّ بعيد المساحات الاجتماعية المتعاطفة مع جماعات العنف اليساري.
وفي المقابل فإن الجماعات السياسية التي تطالب بالإصلاح والديمقراطية في دول أوروبا الشرقية، كانت تحظى باستمرار بقبول اجتماعي، وتتّسع دائرة المؤيدين لها؛ لأنها تحوّلت في نظر الكثير من فئات وشرائح المجتمعات الأوروبية الشرقية إلى أمل قادر على إنقاذ أوطانهم من الجمود واليباس الأيديولوجي والسياسي.
ومن خلال عملية التراكم في عناصر القوة، تمكّن منطق الإصلاح والتحوّل الديمقراطي، من تحقيق إنجاز تاريخي وسياسي على منطق الحزب الواحد الذي يلتهم كل المواقع ومصادر القوة والسلطة والثروة، ويمنع أبناء المجتمع من أدنى حقوقه الطبيعية والسياسية.
وعليه فإن طرد جراثيم العنف والإرهاب من الفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي، من أية بيئة، يتطلّب العمل على تجديد الحياة العامة، وإزالة عناصر اليباس والجمود، وتوسيع المساحات الاجتماعية القادرة على المشاركة والتأثير.
هذا ما تُعلّمنا إياه التجارب السياسية والاجتماعية في كل الدول والمجتمعات.
لأن الجوع السياسي قد يقود -إذا لم تتوفّر مناخات التنافس السلمي- إلى تبني خيارات عنفية تستهدف تغيير قواعد اللعبة والتنافس القائم.
وبروز جماعات داعش والنصرة وأخواتها بعد تحوّلات الربيع العربي، لا تتحمّل مسؤوليته النخب السياسية والاجتماعية الجديدة، وإنما تتحمّل مسؤوليته حالة الجمود السياسي والوطني التي سادت مجتمعات ودول الربيع العربي. فتشكّلت هذه الجماعات في القاع الاجتماعي، وبدأت بالتمدّد والانتشار تحت يافطات دينية وخدمية، وحينما تعزّز موقعها الاجتماعي أعلنت عن ذاتها وخياراتها.
فبراعم العنف والإرهاب تتشكّل في ظل أوضاع سياسية واجتماعية جامدة، يابسة، وتقف موقفًا مضادًّا من التطوير والتجديد، وتتغذّى هذه البراعم من طبيعة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تنتجها خيارات الاستئصال والعنف.
فجماعات الإرهاب ليست نبتة صحراوية، وإنما هي نتاج خيارات ومشروعات وتتسع باستمرار من أخطاء وخطايا هذه الخيارات والمشروعات، ولا يمكن القضاء على هذه الجماعات إلَّا بسحب البساط الاجتماعي منها. ولا يمكن تقليص مساحة تأثيرها وتأييدها الاجتماعي إلَّا بتجديد الحياة العامة، وفتح الطريق أمام قوى المجتمع المختلفة للتعبير عن ذاتها ورؤيتها لراهن مجتمعاتهم ومستقبله.
في معنى الدول الفاشلة
ثمّة حقيقة سياسية ومجتمعية تكشفها الكثير من الأحداث السياسية الكبرى التي تجري في المنطقة، إلَّا أن القلة من المهتمين من يلتفت إلى هذه الحقيقة، ويرصد آثارها ومتوالياتها على المواطنين وعلى الاستقرار المحلي والإقليمي والدولي.
وهذه الحقيقة هي أن أخطر مرحلة تبلغها الأحداث والتطوّرات في أي بلد، هو حينما يصبح هذا البلد بلا راعٍ، وبلا حكومة تضمن الحدود الدنيا للنظام وتسيير شؤون الناس؛ لأن الدولة التي تصبح بلا راعٍ ينظم مصالح الناس ولو في الحدود الدنيا، ويمنع التعديات على أملاك الناس وأعراضهم، تصبح هذه الدولة فضاء مفتوحًا ومتاحًا لجميع الجماعات السياسية والإجرامية لتنفيذ مخططاتهم وأجندتهم بعيدًا عن الرقابة والمحاسبة من قبل الأجهزة الرسمية. وفي ظل صعود الجماعات العنفية العابرة للحدود تتحوّل هذه الدولة الفاشلة إلى بيئة حاضنة لهذه الجماعات، تدرّب فيها عناصرها على الأعمال الإرهابية والعنفية وتطوير تعبئتها الأيديولوجية، مما يسرع في عملية اتّساع دائرة هذه الجماعات التي تهدّد أمن الأوطان والمنطقة بأسرها. وأمام هذه الحقيقة المركّبة والمتداخلة تتعقد أزمة الأجهزة الأمنية القادرة على ضبط الأمن في هذه الدول، وتصبح هذه الدول الفاشلة ساحة مكشوفة لكل الإرادات والمشروعات الأمنية والسياسية، مما يزيد الأعباء على أبناء هذا الوطن وتلك الدولة الفاشلة. فالجميع يتنافس ويتصارع بمختلف الأسلحة الأمنية والسياسية والعسكرية على أرض ليست أرضهم وبدماء هذا الشعب المسكين الذي انهارت دولته وتحوّلت إلى دولة فاشلة غير قادرة على ضبط أمنها الداخلي وأمن حدودها. ولكونها أضحت ساحة مكشوفة وغير مسيطر عليها بقانون وأجهزة تنفيذية قادرة على ضبط الأمن والاستقرار، فإن جميع القوى الإقليمية والدولية والقوى الخارجة على قوانين بلدها، ستتجمع في فضاء هذه الدولة الفاشلة وستتصارع هناك وستدمر بقية البنية التحتية غير المدمرة، وستفتك بالنسيج الاجتماعي والوطني، مما يفاقم من أزمات هذه المجتمعات، ويدخلها في أتون الفوضى المدمرة والكارثية على كل الصعد والمستويات.
وأمام هذه الحالة التي تؤثّر سلبًا وبشكل عميق على الأمن الوطني والإقليمي والدولي نودّ التأكيد على النقاط التالية:
1- لو تأمّلنا في البدايات الأولى التي أنتجت في المحصلة النهائية ما نسميه (الدولة الفاشلة) سنجد أن أحد الأسباب الأساسية هو انسداد أفق الحل والمعالجة الداخلية لمشاكلها السياسية والأمنية والاقتصادية وتصلّب جميع الأطراف وعدم تنازلها وسعيها إلى خلق تسوية تُرضي الأطراف المتصارعة وتخرج الوطن والشعب من احتمالات الصدام والصراع الدائم.
فحينما ينسد أفق الحل السياسي الداخلي وتتعاظم تأثيرات الأزمة، وتستدعي جميع الأطراف المتصارعة الخارج سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن النتيجة الفعلية المترتبة على ذلك هو تآكل الدولة ومؤسساتها من الداخل وتعزيز الانقسام الأفقي والعمودي في المجتمع.
وتوقّف عجلة البناء والتنمية، وكل هذه العناصر مجتمعة تفضي إلى دخول هذه الدولة في مرحلة الفشل والعجز عن معالجة مشاكلها وأزماتها المستفحلة. وحينما تصل الدولة إلى مرحلة الفشل والتآكل الداخلي، فإن عودتها إلى عافيتها يتطلّب الكثير من الجهود والإمكانات والصبر، وقد تتعافى وفي كثير من الأحيان لا تتعافى، وإنما يستمر التدمير والدمار والقضاء على المؤسسات المتبقية للدولة. وأمامنا جمهورية الصومال كمثال على ذلك، فهي ومنذ سنين طويلة تعاني الصعوبات الجمة للعودة إلى دولة مركزية قادرة على ضبط الأمن وتسيير شؤون مواطنيها. فلم يعرف الشعب الصومالي خلال العقود الثلاثة الماضية إلَّا القتل والدمار والحروب الداخلية والكانتونات المغلقة بعضها على بعض والتدمير المتواصل للنسيج الاجتماعي والقبلي. من هنا ولكيلا تصل بعض الدول العربية الأخرى إلى مرحلة الفشل بحاجة إلى الإسراع في وقف الانحدار والتآكل الداخلي، عبر الإصلاحات الإدارية والدستورية والسياسية، التي تعيد الحياة إلى مشروع الدولة، وتعيد ثقة شعبها بقدرة الدولة على الخروج من مأزق الانهيار والتآكل الداخلي.
2- دائمًا في لحظات انهيار الدول المركزية، تبرز وتتعاظم الانقسامات الاجتماعية تحت يافطات دينية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية أو جهوية، مما يجعل الانهيار خطيرًا لأنه يصيب الدولة والمجتمع في فترة زمنية واحدة، مما يفاقم من حالة العنف والاحتراب الداخلي. وهذا التشظّي المجتمعي يكشف غياب مشروع وطني لهذه الدول لإنجاز مفهوم الاندماج الوطني؛ لذلك وفي اللحظة الأولى لغياب الدولة أو تآكلها تبرز كل التناقضات المجتمعية، ودائمًا يكون البروز بوسائل قهرية - عنيفة تساهم في تدمير النسيج الاجتماعي والوطني. وهذا بطبيعة الحال يعود إلى غياب مشروع للانتماء الوطني، بحيث يكون هذا الانتماء هو الانتماء المشترك الذي يضمن حقوق الجميع بدون افتئات على أحد.
وتتحمّل كل الدول العربية في هذا السياق مسؤولية العمل على بناء مشروع وطني متكامل للاندماج الوطني، بحيث لا تتحوّل مجتمعاتنا العربية إلى مجتمعات منقسمة أفقيًّا وعموديًّا تحت يافطة الانتماءات التاريخية والتقليدية.
وتتوسّل هذه الدول في بناء مشروع الاندماج الوطني على وسائل التنشئة والتثقيف والإعلام والتعليم، والتعامل مع الجميع بمساواة على قاعدة المواطنة الجامعة.
وهذا بطبيعة الحال سيخفّف من مخاطر التآكل الداخلي للدولة؛ لأنه يُبقي المجتمع موحّدًا ولديه القدرة على بناء كتلة تاريخية وطنية قادرة على وقف الانحدار وإعادة بناء الوطن على أسس جديدة تخرج الجميع من أتون المآزق السابقة.
3- من الضروري أن تدرك جميع دول المنطقة أن تجذّر الجماعات التكفيرية والعنفية في المناطق التي انهارت فيها الدولة أو تآكلت، يعدّ خطرًا حقيقيًّا على الجميع؛ لأنه لا يمكن للأمن الوطني والقومي العربي أن يهنأ بالاستقرار السياسي في ظل وجود جماعات عنقية - تكفيرية تمتلك القدرة على التدريب العسكري وحيازة الأسلحة والمعدّات العسكرية بكل أنواعها.
لذلك ثمّة ضرورة وطنية وقومية لكل الدولة العربية لبناء مشروع عربي متكامل يستهدف مواجهة جماعات العنف والتكفير التي بدأت بالانتشار والتوسّع في دول عربية مختلفة، مستفيدةً من وجود ثغرات أمنية وسياسية عديدة في جسم بعض هذه الدول؛ لأن هذه الجماعات -وكما أثبتت التجربة في أكثر من مكان- لا تعرف إلَّا القتل والتفجير وتدمير البنى التحتية، ولا شك أن هذه الجماعات وبما تشكّل من فكر عنفي وممارسات إرهابية تشكّل خطرًا محدقًا على العالم العربي. ولا خيار أمام العرب إلَّا الوقوف في وجه الثقافة التكفيرية والجماعات العنفية والإرهابية التي قد تلتقي مع إرادات دولية أو إقليمية بشكل موضوعي لإدخال العالم العربي في أتون العنف والعنف المضاد. ولو تأمّلنا في ظاهرة الإرهاب لرأينا أن الدول الفاشلة من أخصب البيئات الاجتماعية والسياسية لتمدّد حركات وتنظيمات الإرهاب. فتنظيم داعش لو لم يجد دولًا فاشلة أو في طريقها للفشل، لما تمكن هذا التنظيم من التوسّع والامتداد؛ لذلك لا يمكن محاربة الإرهاب إلَّا بإصلاح وضع الدول العربية، وإخراج الدول الفاشلة منها من مربع الفشل، عبر دعم مشروعات المصالحة من مآزق انسداد أفق الحل والمعالجة السياسية.
وجماع القول: إن العالم العربي يواجه تحديًا جديدًا، يتجسّد في انهيار وتآكل بعض دوله، مما أدخل مجتمع هذه الدولة في مضمار الصراعات المعقّدة والمركّبة، بعضها متعلّق بملفات وصدامات داخلية، وبعضها الآخر متعلّق بصراع الآخرين على أرض هذه الدولة المتآكلة مما جعل في الوسط العربي مجموعة من القنابل الحارقة والخطيرة في آن.
وأمام هذا التحدي النوعي الجديد، بحاجة أن تبادر دول العالم العربي لإيقاف هذا الانحدار وإيجاد خطط حقيقية وممكنة لإخراج هذه الدول من سقوطها السريع وتآكلها الداخلي المستغرب.
وهذا لا يتمّ على نحو فعلي إلَّا بأدوات إصلاحية، تنهي بعض مآزق العلاقة بين الدولة والشعب، حتى يتمكّن الجميع من الخروج من مخاطر انهيار دولة عربية في ظل أوضاع عربية على أكثر من صعيد حساسة ودقيقة وتتطلب إرادة عربية جديدة تتجّه صوب بناء أنظمة سياسية دستورية وقانونية وديمقراطية.
العرب والإصلاح
ثمّة أسئلة مركزية تطرحها وتثيرها الأحداث والتطوّرات المتسارعة التي تجري في أكثر من بلد عربي. فما جرى في بعض الدول العربية من انهيارات اجتماعية وسياسية، وسقوط لنظريات وخيارات سياسية بسرعة مذهلة وغير متوقّعة، تدفعنا إلى ضرورة طرح هذه الأسئلة والبحث عن أجوبة حقيقية وواقعية لها. ولعل من أهم هذه الأسئلة هو: لماذا جرت في بعض الدول العربية هذه الأحداث، ما هي أسبابها وموجباتها، ولماذا وصلت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى ما وصلت إليه؟. حين التأمّل في هذا السؤال المركزي ومآلاته المختلفة نكتشف أن توقّف عجلة الإصلاح والتطوير هو الذي يقود -عبر ديناميات ومتواليات معينة- إلى ما وصلت إليه الأوضاع في العديد من الدول العربية. فالدول التي تتوقّف عن تطوير نفسها وإصلاح أوضاعها ستصل إلى طريق مسدود؛ وذلك لأنها لم تستجب إلى مقتضيات العصر وحاجتها إلى التطوير والإصلاح. وحين نتحدث عن حاجة الدول إلى الإصلاح، هذا لا يتّجه فقط إلى الدول التي ترتكب أخطاء أو تقوم بممارسات سلبية بحق نفسها وحق مجتمعها، وإنما حتى الدول التي لم تقع في خطأ أو لم ترتكب خطيئة بحق شعبها ومجتمعها، هي بحاجة إلى إصلاح وتطوير، فهي عندما تتوقف عن التطور الطبيعي يفضي ذلك إلى مراكمة المشاكل واستفحال الأزمات، وتصل إلى لحظة الانفجار السياسي والاجتماعي التي حدثت في العديد من الدول خلال حقبة ما سميت بالربيع العربي.
لهذا فإننا نرى أن المشكلة الأساسية على هذا الصعيد التي تواجه العالم العربي، هي تجمُّد حركة الإصلاح وغياب الإرادة السياسية والاجتماعية التي تدفع نحو التغيير والتطوير والإصلاح، مما يؤدّي إلى تضخّم المشاكل وعدم الإنصات إلى الحاجات الأساسية للناس، فتتباعد الهموم والاهتمامات بين الناس والنخب السياسية، وتزداد الفجوات، وتتراكم الإخفاقات، مما يجعل الإصلاح والتطوير ضرورة واقعية وملحّة، حتى ولو تغافلت عنها النخبة السياسية، أو تعاملت مع هذه الضرورة بنزعة التأجيل والتبرير. فالذي جرى في بعض الدول العربية هو نتاج صمِّ الآذان عن حاجات الناس الحقيقية؛ ولهذا كانت هذه الأحداث لمن تعوَّد إغماض عينه أو سد آذانه، مفاجئًا وخارج نطاق المسيرة الطبيعة.
أما من كان يتأمّل في الوقائع والحقائق التي تجري في هذه الدول العربية، وينصت إلى أشواق الناس الحقيقية، فإن ما جرى لا يعدّ مفاجئًا إليه؛ لأن هذا هو السياق الطبيعي والمآل الأخير لمن يوقف عجلة الإصلاح أو يتغافل عن أشواق الناس الحقيقية. فالإصلاح في العالم العربي -وهذا ما تثبته أحداث الدول العربية خلال الشهور القليلة الماضية- هو ضرورة قصوى، وليست قابلة هذه الضرورة للتأجيل أو التسويف. فتعميم التعليم وانفتاح المجتمعات العربية على العصر والحضارة الحديثة بكل زخمها وتفاعل أبناء الدول العربية مع أحدث التقنيات ومكاسب العصر، كلها تُفضي إلى ضرورة استيعاب المتغيّرات التي تجري في هذه الدول بشكل متسارع. وإن عمليات التأجيل أو التسويف، أو استخدام القهر والقوة والعنف لمنع استحقاقات الإصلاح والتطوير، فإنها مهما كانت سطوتها وفعالياتها، لا تُنهي من نفوس الناس تعلّقهم بالإصلاح والتطوير، ولا تُميت من عقولهم ووجدانهم حاجتهم الماسَّة إلى التغيير وتجاوز عقبات وكوابح التقدّم والتطوّر والنهضة. فالإصلاح بكل مضمونه وخطواته الضرورية أضحى مطلبًا أساسيًّا، وهو حاجة للحكومات العربية قبل أن يكون ضرورة للشعوب العربية.
والذي لا يستجيب إلى هذه الحاجة والضرورة، فإنه يهدّد استقرار وأمن بلاده، ويوفّر كل المبرّرات والمسوّغات لتدخّلات أجنبية تزيد من أزماتنا، وتفاقم من مشكلاتنا على مختلف الصعد والمستويات.
فتسويف الرئيس اليمني وتراجعه عن خيار الإصلاح والتطوير وعدم الانسجام مع رغبات شعبه، هو المسؤول إلى حدٍّ بعيد إلى وصول الأمور في اليمن إلى ما وصلت إليه.
فالقتل والقمع وتنمية الفوارق والتناقضات الأفقية والعمودية في المجتمعات العربية، لن ينهي حاجة هذه المجتمعات إلى إصلاح أوضاعها وتطوير أحوالها؛ لأن منطق التاريخ يقول: إن الذي يوقف عجلة الإصلاح لا يحقّق الأمن والاستقرار، وإنما يعمّق في النفوس والعقول الحاجة إلى الإصلاح، وإن هذه الحاجة العميقة والمتجذّرة في النفوس والعقول ستبرز على السطح في لحظة ما من لحظات الزمن ومسيرة المجتمعات.
فالدول التي تُحجم عن ممارسة الإصلاح والتطوير مهما كانت المبرّرات، فإنها تؤسّس بطريقة أو بأخرى عوامل إخفاقها وسقوطها؛ لأن النخبة التي تسقط من نفوس وعقول شعبها، ستسقط في الواقع الخارجي سواء قصر الزمن أو طال. لهذا فإن الإصلاح هو الذي يطيل من عمر الدول والحكومات ويعمر الأمم والمجتمعات.
وكل التجارب تثبت هذه الحقيقة. فالدول المستقرة اليوم هي الدول التي لم تتوقّف عن إصلاح أوضاعها وأحوالها، والمجتمعات التي تعيش الأمن العميق، هي المجتمعات التي تطوّر من ذاتها، وتعمل عبر فعالياتها المختلفة ودينامياتها المدنية من معالجة إخفاقاتها وحل مشكلاتها. فخريطة طريق الأمن والاستقرار في كل الدول والمجتمعات، هي استمرار فعل الإصلاح، وعدم إيقاف عجلته مهما كانت الصعوبات والعقبات. ولا بد أن ندرك -ومن خلال التجارب العديدة التي مرت على دولنا ومجتمعاتنا- أن الثمن الذي تقدّمه الحكومات والنخب السياسية للإصلاح والتطوير، أقل بكثير من الثمن الذي يقدّم من جرّاء توقّف عجلة الإصلاح ومنع المجتمعات من التعبير عن آمالها أو نيل حقوقها المختلفة.
فالحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وغيرها من القيم والمبادئ، هي التي تعزّز الأمن والاستقرار في كل الدول والمجتمعات، وكل القيم والمبادئ المضادة لها هي التي تفكّك الدول وتُضعف من قوتها وتعجّل من انهيارها أو انهياراتها، وتنمية الغرائز والعصبيات لا يحمي أحدًا، وإنما يوفّر إمكانية الانهيار الشامل.
فالعرب اليوم هم أحوج ما يكونون إلى مشروع الإصلاح، الذي يوقف عملية الانحدار والتشظّي ويعزّز من فرص الحرية والوحدة معًا، وينهي المخاطر العديدة التي تحاصر العرب من كل الاتجاهات، ويعيد بناء القوة العربية على أسس أكثر منعة وصلابة.
وحيوية الإصلاح وفعاليته في كل الدول والتجارب، حينما يأتي في وقته، أما إذا تأخّر لسبب ذاتي أو موضوعي أو هما معًا فإن القيام به لن يقنع المجتمع، ولن يتمكّن من إيقاف عجلة الانحدار والتداعي. فحينما تأخّر الإصلاح في الاتحاد السوفيتي السابق كانت النتيجة في خطوات غور باتشوف التي سميت بالبريسترويط والفلاسنوست، هي المزيد من الانحدار والتلاشي والتشظي. وهذا هو الذي جرى في الدول العربية التي توقّفت عن الإصلاح أو تأخّرت عنه، فكانت النتيجة هي السقوط. فالإصلاح ليس مناورة لكسب الوقت أو تهدئة الخواطر، بل هو ضرورة قصوى لدولنا ومجتمعاتنا، فبه نزداد قوة ومنعة، وبه نطرد نقاط ضعفنا، ونُنهي ترهّلنا، ونحمي استقرارنا وأمننا السياسي والاجتماعي.
وهو جسر العبور إلى المستقبل الآتي، وبدونه لا مستقبل حقيقي لشعوبنا العربية والإسلامية.
والذي يجري في ليبيا، يجعلنا نعتقد أن عسكرة المجتمع واحتكار مصادر القوة وقمع الناس ومنعهم بكل الوسائل من التعبير عن ذواتهم وحقوقهم وآمالهم، لم يفضِ إلى استقرار عميق، بل كل هذه الممارسات ساهمت في تأزيم الأوضاع واستفحال المشكلات، وأصبح المطلب الأساسي الذي لا يحيد عنه الناس في ليبيا هو رحيل نظام القذافي بكل شخوصه ومؤسساته.
فالعالم العربي من أقصاه إلى أقصاه بحاجة إلى الإصلاح والتطوير. ومن الضروري أن تتعامل كل الدول مع هذه الحاجة بوصفها حاجة داخلية تقتضيها وقائع الحال والراهن، ومقتضيات القبض على أسباب التقدّم والتحكّم بمصائر الحاضر والمستقبل.
وجماع القول: إن الاستبداد بكل صنوفه يضرّ بالاستقرار، ويهدّد النسيج المجتمعي ويعمّق الفجوات بين المواطنين، ويزيد المحن على كل المستويات، ولا معالجة لكل هذه الأمراض والظواهر السلبية إلَّا بالتشبّث بخيار الإصلاح والعمل على الوفاء بكل حاجاته ومستلزماته.
العرب بين السلطة والدولة
تتّفق جميع التحليلات الاستراتيجية والسياسية على أن ما جرى من تحوّلات سياسية في بعض البلدان العربية، هي تحوّلات طالت السلطة السياسية، بوصفها هي الجهاز المؤسسي والبيروقراطي المعني بتسيير شؤون الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية، وأن تفاقم إخفاق هذه السلطة في تلبية طموحات شعبها وتجاوز محنه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هو الذي يوفّر المناخ لتحرّك الشعب بقواه المختلفة لإخراج السلطة من دائرة إدارة الشأن العام.
إلَّا أن هذه التحليلات تختلف بعضها مع بعض حول مسألة: هل القضاء على السلطة السياسية يقود إلى القضاء على الدولة، أم أن الدولة بوصفها المؤسسة الثابتة والضاربة بجذورها في عمق المجتمع، هي مؤسسة لا يمكن القضاء عليها بهذه السهولة أو بالطريقة التي جرت في دول الربيع العربي. ومن الضروري في هذا السياق ومن منظور علم الاجتماع السياسي، أن يتم التفريق بين مفهوم وحقيقة السلطة السياسية ومفهوم وحقيقة الدولة.
وإن من الأخطاء الشائعة على الصعيد العربي، التعامل مع هذين المفهومين بوصفهما حقيقة واحدة، بينما في المنظور العلمي والواقعي يتم التفريق والتمييز بين السلطة والدولة.
صحيح أن السلطة هي بعض الدولة، بمعنى أنها (أي سلطة) هي الجهاز الإداري والتنفيذي للدولة إلَّا أن هذه المساحة الواسعة التي تحتلها السلطة لا تملأ كامل مفهوم الدولة. فالسلطات السياسية هي سلطات متحوّلة ومتغيّرة، إلَّا أن الدولة بوصفها مؤسسة متكاملة هي مستقرة وثابتة وقادرة على التكيّف مع سلطات سياسية مختلفة ومتنوّعة في خياراتها وأولوياتها.
السلطة مهمتها إدارة وتسيير الشأن اليومي للمواطنين، إلَّا أن الدولة هي المعنية بالسياسات الاستراتيجية والخيارات الكبرى وقضايا الأمن القومي وصياغة اتجاهات السلطة سواء على الصعيد الداخلي أو الصعيد الخارجي.
ولعل من الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها النخب السياسية الجديدة في بعض بلدان الربيع العربي أنها اعتبرت حالها حين وصولها إلى السلطة إلى أنها قادرة على التحكم في مسار الدولة. إلَّا أنها في حقيقة الأمر اصطدمت مبكّرًا مع القوى الحقيقية التي تعبّر عن الدولة، ولم تتمكّن هذه النخب السياسية الجديدة من إنهاء تأثير قوى الدولة وتعبيراتها المركزية.
ولعل الكثير من صور الصراع السياسي والشعبي والمؤسسي التي جرت في دول الربيع العربي بعد سقوط النظام السياسي، تعود في جذورها الأساسية وأسبابها البعيدة والحيوية إلى السعي المتبادل من قبل قوى السلطة الجديدة وقوى الدولة الثابتة والمستقرّة إلى التحكّم في المسار السياسي العام.
ولكل طرف من هذه الأطراف حيثياته ومبرّراته في سياق السعي للتحكّم وضبط المعادلات المستجدة وفق رؤية هذه القوى أو تلك. فالنخب السياسية الجديدة استندت في مشروع استحواذها على أنها صانعة التغيير السياسي الأخير، وهذا الإنجاز يؤهّلها إلى التحكّم في مسار السلطة والدولة معًا. أما القوى والمؤسسات الفعلية فكانت تعتقد أنه لولاها لما تمكّنت هذه النخب من السيطرة على مقدرات السلطة السياسية؛ لأنها هي القوى التي حيدت المؤسسة العسكرية بكل أجهزتها، وهي التي منعت من الاستمرار في استخدام العنف العاري ضد الناس المتظاهرين، وأنها هي بحكم علاقاتها وتحالفاتها التي وفّرت الغطاء الإقليمي والدولي للحظة التغيير السياسي.
لذلك فإن هذه القوى تعتبر نفسها هي الشريك الأساسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وإن أية محاولة جديدة للاستغناء ستفضي إلى الفوضى وانهيار مؤسسات السلطة ومؤسسات الدولة معًا.
ومن منظور سياسي واقعي فإن جوهر الارتباط وبعض أشكال الفوضى والانفلاش التي تعيشها بلدان الربيع العربي. تعود إلى الاختلاف العميق الذي طرأ على المشهد السياسي والاستراتيجي بين نخب السلطة السياسية الجديدة ونخب الدولة العميقة والثابتة والمتحكّمة في الكثير من مفاصل الحياة.
وإنه إذا تمكّنت قوى السلطة الجديدة من التحكّم في مسار الأحداث والتطوّرات، فهذا يعني على المستوى الواقعي سيادة الفوضى وبروز التناقضات السياسية والعميقة على المشهد السياسي والاجتماعي.
أما إذا تمكّنت قوى الدولة العميقة من إخراج النخب الجديدة من السلطة والتحكّم مجدّدًا بمفردها في مسار الأمور والتحوّلات، فهذا يعني على المستوى الواقعي إعادة إنتاج الاستبداد السياسي بقفازات جديدة وبخطاب سياسي جديد مقبول من قبل بعض فئات وشرائع الشعب. ولدى هذه الشرائع الاستعداد التام للانخراط المباشر في الوقوف دفاعًا عن قوى الدولة العميقة وبالضد من نخب السلطة السياسية الجديدة.
ويبدو من طبيعة تحوّلات ما يسمّى بالربيع العربي، أنه لا يمكن لأي قوة أن تحقّق الانتصار الكاسح على القوة الأخرى؛ لأن التحوّلات السياسية التي جرت في هذه البلدان، ليست تحوّلات نهائية، وإنما هي في بعض جوانبها شكل من أشكال التسوية، بحيث ترفع قوى الدولة يدها عن السلطة السياسية القديمة ممّا يوفّر الأرضية بشكل سريع إلى انهيارها، وهذا ما حدث في مصر وتونس واليمن. وفي المقابل فإن النخب السياسية الجديدة تلتزم بالحفاظ على المؤسسات الاستراتيجية للدولة، وكذلك خيارات الدولة السياسية والاستراتيجية؛ لذلك فإن ما جرى ليس انتصارًا كاسحًا لأحد الأطراف، وإنما هي تسوية سياسية بين بعض قوى الشعب التي تحرّكت ضد السلطة السياسية القديمة وطالبت بسقوطها وبين مؤسسات الدولة العميقة التي لم تقف ضد مشروع خروج النخبة السياسية القديمة من السلطة.
وبالتالي فإنه ثمّة شراكة في مشروع التحوّل السياسي، هذه الشراكة هي التي تحوّل دون تفرّد أي طرف من الأطراف بالمعادلة الجديدة. والنفق الجديد الذي دخلته بعض هذه البلدان هو الصدام المباشر وفض الشراكة أو تبديل بعض أطرافها، ممّا أدخل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في امتحان جديد، قد يكلّف هذه الدولة أمنها واستقرارها السياسي والاجتماعي خلال المرحلة الراهنة.
وعلى ضوء هذه الثنائية العربية العميقة بين السلطة والدولة، لا يمكن أن ينجز مشروع الديمقراطية في العالم العربي دفعة واحدة، وإنما هو بحاجة إلى جهد مكثّف ومؤسسي وعلى مدى زمني حتى تتمكّن دول العالم العربي من إنجاز مشروع الدمقرطة والمشاركة الشعبية المؤسسية في إدارة الشأن العام.
ومن يبحث عن إنجاز مشروع الديمقراطية دفعة واحدة وفي ظل هذه الظروف، فإنه على المستوى العملي سيحصد وقائع مناقضة للديمقراطية وستدخل تعبيرات المجتمعات العربية في أتون الصراعات والصدمات التي تزيد من تعويق مشروع الديمقراطية في المنطقة العربية.
وعليه فإن التحوّلات الإصلاحية السياسية في المنطقة العربية، هي من أسلم الخيارات للمنطقة العربية، التي تعيد صياغة شرعية السلطة السياسية على أسس جديدة، وفي ذات الوقت تنفس حالة الاحتقان الأمني السياسي التي تشهدها بعض بلدان المنطقة العربية. فالإصلاح السياسي المؤسسي والتدريجي والحيوي هو الذي يجنب دول العالم العربي الكثير من المآزق والتحديات.