شاركتم في المؤتمر الأخير حول الحوار بين الثقافات الذي انعقد بالرباط بعد مشاركات عدة سابقة، بعد هذه المشاركات والجولات، كيف يمكن تقييم الرغبة لدى الآخر في الحوار؟
- إنني أرى أن هناك رغبة شديدة في الغرب من أجل إقامة حوار مع الدول الإسلامية، والتعتيم هنا قد يكون مضراً، فلا معنى لكلمة الدول الغربية ولا الدول الإسلامية، فالتمييز هنا ضروري، داخل كل جبهة يجب التمييز بين التيارات المختلفة، فلا بد مثلاً لأوروبا من رسم خريطة معرفية للمجتمع الأوروبي والتي ستسفر عن ظهور عنصرية جديدة في أوروبا وتيارات تقدمية متعاطفة مع الأجانب والعمال ومع الإسلام كذلك، نفس المسألة بالنسبة لنا، فلدينا قوى تقدمية وأخرى رجعية، إذن التعميم هنا خطير، ولهذا كتبت في آخر مقال لي في الأهرام عن >تعميمات جارفة وأحكام مختزلة<، فمثلاً لا يمكن استيعاب مصطلحي الجنوب والشمال، الجنوب يضم ماليزيا ومصر وتونس دون أي وجه للشبه بينها، فماليزيا نجحت في مشروعها التنموي وفشلنا نحن بجدارة، ومع هذا يمكن القول: إن أحداث 11 سبتمبر وبروز الإمبريالية الأمريكية هو الذي أعطى للحوار قيمة.
? إذن أنتم تؤيدون بذلك أطروحة الجبهة الثقافية الموحدة؟
- لم أتحدث عن جبهة ثقافية وإنما جبهة ثقافية للنقديين على كلتا الضفتين، ومحور هذا الصراع هو معارضة انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم، والدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب، أي أنني هنا أحدد موضوع المعركة على سبيل الحصر.
? ترى ما هي الأجندة الأساسية لهذه الجبهة؟
- إن مهمة المثقفين في كلتا الضفتين هي البحث عن وسائل مقاومة الهيمنة الأمريكية الثقافية والاقتصادية منها، وتحديد سبل إنشاء عالم متعدد الأقطاب، فليست هناك ثقافة أدنى من أخرى، وليس هناك من يقبل أو لا يقبل التسامح.
كنت في لشبونة منذ شهرين في مؤتمر نظمته أكاديمية >لاتينتا< التي أسسها مايور السكرتير العام السابق لليونسكو، وتضم فيها الروائي كابرييل غارسيا ماركيز ورئيس جمهورية البرتغال السابق، والتي من أهدافها محاربة الهيمنة الثقافية الأمريكية، غير أن تصوري هو أوسع وأعمق من هذا لأن محاربة الهيمنة الثقافية هو أحد الأبعاد فقط، ولهذا لما التقيت رئيس البرتغال السابق وطرحت عليه مشروع الحلف الثقافي رحب بالفكرة وقال لي: تقدّم ونحن وراءك.
? أين هي المنظمات الأهلية العربية من هذه المعركة العالمية؟
- لقد شاركت الجمعيات والمنظمات الأهلية العربية مشاركة فعالة في >دوربان< ضد العولمة الاقتصادية، ولدينا في القاهرة مركزا لحقوق الإنسان نظم تجمعاً إقليمياً للمنظمات العربية الحقوقية، وذهبوا إلى >دوربان<، وكانوا كذلك جزءاً من المظاهرة المليونية التي تم الاتفاق عليها للخروج احتجاجاً على الحرب على العراق في 14 فبراير 2003، حيث اجتمعت 250 جمعية اتفقت عبر الإنترنت على تنظيمها في يوم واحد لأول مرة في تاريخ الإنسانية، وكنا نحن كمؤسسات عربية ضمن هذه الحركة ولسنا بعيدين عنها.
? بعد التقرير الأخير حول التنمية البشرية في العالم العربي يبدو وكأنه لا مجال للعالم العربي في عالم الغد بالنظر إلى الأرقام والإحصائيات التي حفل بها التقرير؟
- المسؤول عن هذه الفروق تاريخياً هو الاستعمار الذي عوَّق التقدم، لهذا أرى أن هذا التقرير الذي يرتب الدول على هذا النحو فيه تجاهل للبعد التاريخي بمقارنة اليابان ومصر، بل يجب مقارنة ما حدث خلال 50 سنة الماضية داخل المجتمع العربي نفسه، ونأخذ كسنة أساس 1950، ونرى ما نجحنا وما فشلنا فيه، وهكذا تكون المقارنة عادلة، فالمقارنة بين إسبانيا وفرنسا والعالم العربي الذي يعاني من 40% من الأمية هي مقارنة غير منهجية، إذ إنها بين بلدين غير متماثلين في التاريخ ولا في التطور، لهذا أريد أن تكون المقارنة داخلية، فمثلاً نجحت مصر خلال 50 سنة في محاربة الأمية، لكن نجحنا على مستويات أخرى عندما أقمنا صناعات وأعدنا توزيع الدخل نسبياً، إذن معايير التقدم والتخلف ليست في المقارنة مع دول متقدمة بـ 200 سنة، وإنما مع دول عربية أخرى عرفت نفس المسار التاريخي.
? ما آثار هذه الفروقات على الصراع مع إسرائيل في المدى القريب؟
- إن إسرائيل في الحقيقة مجتمع غربي، فمعهد وايزمان مثلاً أقيم في سنة 1939، بعبارة أخرى: إن العقلية العلمية الغربية وفدت مع المهاجرين، في وقت كنا نحن فيه في غاية التخلف، ثم هناك تحالف عضوي وعلمي بين الولايات المتحدة وإسرائيل في المجالات العلمية، وقد سبق لي أن قمت بدراسة للموضوع من خلال تخصصي في المجتمع الإسرائيلي، حين أنشئت أول وحدة في مركز الدراسات الاستراتيجية 1967، وفي باب التعليم في إسرائيل اكتشفت أن أغلب العلماء الإسرائيليين ينشرون بحوثهم باللغة الإنجليزية وليس بالعبرية، فلما بحثت وجدت أن السبب في ذلك هو أن لجان الترقية كانت أمريكية، أي أن التحالف العلمي فتح أبواب الصرخة التكنولوجية والعلمية الأمريكية أمام الباحثين الإسرائيليين، بالإضافة إلى التكوين العلمي والاستفادة من الأبحاث المتطورة بالولايات المتحدة، والدليل هو أنه منذ 5 سنوات منعت الجامعات الإنجليزية التسجيل في المجالات العلمية للباحثين العرب، وبهذا أغلقت باب التطور العلمي أمام العرب، لكن هذه الأسباب لا تبرر الوضع المتخلف للبحث العلمي في العالم العربي، حيث لا توجد سياسة قومية للبحث العلمي العربي وإنتاجية الباحثين العرب متدهورة إذا ما قورنت بالباحثين الإسرائيليين أو غيرهم.
? ما هو مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي؟
- إن العلاقات ما بين الدول تتراوح ما بين الصراع والمنافسة والتعاون، فإذا سلمنا باستمرارية هذا الصراع، فبدلاً من إهدار المال العربي فيما لا ينفع، يجب إعطاء دفعة للبحث العلمي بالتمويل وإنشاء مراكز بحثية حديثة حتى تستطيع النجاح في المنافسة مع المجتمع الإسرائيلي.
? في ظل الحديث عن مجتمع المعلومات، ما موقع دول العالم العربي من هذه الثورة؟
- مجتمع المعرفة هو صورة متقدمة لمجتمع المعلومات، وهو ليس مرادفاً لتكنولوجيا المعلومات، إن مجتمع المعلومات هو باراديغم جديد خلف باراديغم المجتمع الصناعي، وهذا النموذج متكامل لا يمكن أن ينشأ دون ديموقراطية، لذا فعندما نتكلم عن مجتمع المعلومات نعني بذلك حرية تداول المعلومات، وحق كل مواطن في الحصول على المعلومة، والشفافية. وهذه شروط ليست متوفرة بالكامل في البلدان العربية. ولهذا هناك مشاريع متعثرة في البلاد العربية كتونس والمغرب ومصر، وهي كذلك ليس لغياب الأطر بل لغياب الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية، والحكومات العربية ليست مستعدة لأن تكون شفافة فيما يتعلق بالميزانية والإنفاق والديون والأموال التي نهبت بالفساد، وبالتالي إن تأسيس مجتمع المعلومات في العالم العربي يقتضي تغييراً في البنية السياسية وترسيخ فكرة المواطنة.
? لكن: هناك نقاش -حتى في دول الشمال- حول جدوى شعار مجتمع المعلومات والمعرفة، فهناك من يعتبره مجرد نوع من النوفلانك الجديد (New Novelangue)؟.
- إن هذا النقاش موجود لدى اليسار والمواقف الماركسية المتطرفة، فلو نظرت مثلاً إلى زيغلر لوجدت أن كل ما يقوله هو نقيض ما سبق أن طرحناه، فهم يرفضون العولمة شكلاً ومضموناً، ورغم ذلك لا يمكنني القول: إن العولمة هي حركة إمبريالية، إنه موقف أسميه موقف ماركسي تقليدي رافض، وفي المقابل أرفض مقولات طوماس فريدمان الذي يقدم العولمة على أنها المفتاح السحري لكل مشاكلنا، كلاهما أصحاب خطابات متطرفة إطلاقية، فالعولمة عملية تاريخية وليست مفهوماً فقط أو سياسة استعمارية، ولهذا نجد في الإنجليزية مصطلحي Globalization التي تعني إجراءات العولمة، و Global يعني أيديولوجيا العولمة، وهذه الأخيرة أرفضها إطلاقا لأنها تقوم على الداروينية الاجتماعية، ولا بد أن نصحح انحراف هذه السياسات لصالح الدول المتقدمة، إنها معركة داخل مجموعة الخمسة عشر، وفي مؤتمر الدوحة كانت هذه المعركة أشد عندما قدمت طلباتها ففشل المؤتمر، إذن لا وجود لحلول مطلقة وإنما يوجد صراع في العملية التاريخية.
? لا شك أن أحد الجوانب المثيرة للجدل في هذه العملية التاريخية هو الجانب الثقافي، ترى ما مستقبل المشهد الثقافي العالمي على ضوء رجوع الولايات المتحدة لليونسكو؟
- لا شيء، إن التركيز على هذا الموضوع لدليل على خيبتنا الكبيرة، أين نحن مما تفعله أمريكا وما شأننا بذلك؟ انظر مثلاً إلى الوضع في المغرب ومصر، وهناك مقال قرأته في مجلة مغربية عن الخطاب الأصولي، ما رأيك لو قلت لك: إن التيار الأصولي الإسلامي هو أخطر من الغزو الثقافي الأمريكي، فكم هو عدد العرب الذين يستعملون الإنترنت ويشاهدون الولايات المتحدة الأمريكية أو يدرس الإنجليزية أصلاً؟ لكن المشاكل الداخلية تهيج الجماهير، إذن فقضيتي ليست الهجمة الثقافية الأمريكية لأن هذه سطحية في المجتمع، لكن الأخطر والأعمق هو الأصولية الإسلامية المتطرفة، لأنها تغزو عقول الجماهير البسيطة، وتنشر الوعي الزائف بالإسلام.
وقد كانت هناك محاولات لاقتباس الحداثة كمحاولة رفاعة الطهطاوي وغيره، دون أخذها بالكل، إلاّ أنهم فشلوا في ذلك.
لماذا؟
لأن شعار الحداثة كان بسيطاً جداً وهو: أن العقل ما يعلو في الحكم على الأشياء وليس من الضروري وجود النص، وفي تخليص الإبريز لم يستطع نقل هذا إلى القراء في الوطن العربي لأنه يكتب لمجتمع متدين تقليدي، فحاول أن يُهَرِّب المعاني، ولهذا فإن كمال عبد اللطيف يقول: إن الطهطاوي هو رائد الازدواجية في الفكر العربي الحديث لأنه خطابان دون الخطاب الأصلي الذي كان سيرفض، إذن يمكن القول: إن الحداثة العربية هي حداثة انتقائية من الحداثة الغربية، ومع ذلك فهذه الحداثة الانتقائية المخففة رفضها الإسلاميون، في حين أن الحداثة تستدعي ترسيخ مفهوم المواطنة، ولدينا نحن في العالم العربي رعايا لا مواطنون، فماذا تعني المواطنة؟ إنها تعني حقوق وواجبات، لذا نريد أن تؤسس حقوق المواطن العربي، هل تعلم أن نظام صدام حسين كان يرسل لجان حزبية تحكم بالإعدام في الأحياء، تخيل لجنة حزبية حقيرة تحاكم الناس في الطرقات ويكتب في المحاضر >وقد تم الحكم عليه بالإعدام<.
الهوامش:
?* باحث من المغرب.