شعار الموقع

تطور أنماط الرمز في الشعر العربي

علي فتح الله محمد 2019-05-22
عدد القراءات « 2702 »

تطور أنماط الـرمـز في الشعر العربي

 

الدكتور علي فتح الله أحمد محمد*

 

* كاتب وباحث من مصر.

 

 

مقدمة

يُعدُّ الرمز[1] من أكثر الوسائل الفنية استخدامًا في الشعر الحديث بشكل عام والسياسي منه على وجه الخصوص، فإذا كانت اللغة الشعرية هي لغة المجاز، فإنها أيضًا لغة الرمز. ذلك لأن مساحة الرمز في الشعر واسعة وآفاقه رحبة وطاقته الإيحائية كثيفة.

ولأن كل مفردات اللغة لها أن تستخدم في الشعر «استخدامًا رمزيًّا، ولا تكون هناك كلمة هي الأصلح من غيرها لكي تكون رمزًا، إذ المعول في ذلك على استكشاف الشاعر للعلاقات الحسية التي تربط الشيء بغيره من الأشياء»[2].

فـ«الرمزية إذن يمكن أن يقال عنها أخيرًا: إنها محاولة لاختراق ما وراء الواقع وصولًا إلى عالم من الأفكار، سواء كانت أفكار تعتمل داخل الشاعر (بما فيها عواطفه)، أو أفكار بالمعنى الأفلاطوني بما تشتمل عليه من عالم مثالي يتوق إليه الإنسان»[3].

هذه المفاهيم التي تحدّد الرمز تجعلنا نقف لنتساءل عن الفرق بين الصورة والرمز، فكلاهما يشبه الآخر إلى الحد الذي يذوبان فيه ليصبحا شيئًا واحدًا، فلا شك «أن علاقة الرمز بالصورة ليست بالضرورة علاقة مفارقة، فقد تتعقد الصور، وتتآزر إيحائيًّا بحيث تبلغ درجة من التجريد تصلها بمشارف الرمز»[4].

وعندما يتحقّق ذلك تتمثّل لدينا الصورة الرمزية التي هي في الأصل صورة فنية وصلت من التجريد المعنوي مبلغًا ارتفع بها إلى درجة الرمز في تجريده وإيحائه؛ فتلك هي العناصر المميزة للرمز.

الإشكالية

جهد النُّقَّاد قديمًا وحديثًا في تصنيف الرمز ودراسته، وخلصوا إلى أن الرمز ينقسم من حيث امتداده إلى نوعين: الرمز الكلي الذي يستغرق القصيدة كاملة، والرمز الجزئي الذي يكون جزءًا من القصيدة ولا يمتدُّ ليشمل بناءها الكلي.

هنا يطرح سؤال مفاده، هل تطوّر الرمز في الشعر أم أن الشعراء التزموا بهذا التقسيم الذي وضعه النقاد؟

الفرضية

تعتمد الفرضية في دراسة تطوُّر الرمز هنا على العودة إلى الأسس التي بنى عليها النقاد تقسيم الرمز إلى كلي وجزئي، والملاحظ هنا أن النقاد اتّخذوا المقياس الكمي لقياس امتداد الرمز، وكانت وحدة القياس التي اعتمدها النقاد القصيدة الواحدة.

ما سنقوم به هنا ليس خروجًا على القواعد المؤسّسة للرمز لدى النقاد، بل تأسيس على هذه القواعد مع تغيّر بسيط لا يمسّ جوهر هذه الأسس؛ فسيظل الأساس الكمي وحدة للقياس، وغاية ما سيطوّر فيه هو العينة، بحيث لا تقتصر على القصيدة الواحدة، بل ستوسّع العينة لتصبح الديوان مرة، والأعمال الكاملة للشاعر، أو المرحلة، أو الشعر بشكل عام، وسنرى في النهاية ما هي النتيجة التي سنصل إليها، وما الذي دفعنا في هذا البحث إلى تغيير العينة.

التطبيق

أولًا: الرمز العام

هو الرمز الذي يتعدَّى الديوان الواحد ليمتدَّ إلى أعمال الشاعر كلها أو أجزاء من هذه الأعمال، وهنالك من الرموز ما يصبح رمزًا عامًّا لا يقتصر على أعمال شاعر محدّد بل يمتد في الشعر بشكل عام.

كما أن الرمز من أهم صفاته أنه يحمل مستويات متعدّدة من الدلالة، وربما يركّز الشاعر على أحد هذه المستويات ويعمل على إبرازها ليتحوّل في مرحلة أخرى إلى مستوى آخر من مستويات الدلالة التي يتحمّلها الرمز، وهنا نجد التحوّل في الدلالة الرمزية، وسيحاول البحث هنا أن يبيّن أنماط الرمز ودلالتها والتحوّل في هذه الدلالات.

1- التطوّر الدلالي لرمز المسيح

ينتج عن وجود رموز عامة تمتد في مجموعة من أعمال الشاعر نوع من النمو في استخدام هذه الرموز، يعود إلى اتساع الرقعة التي تتحرّك داخلها هذه الرموز من ناحية، وتنوّع الظروف والمواقف التي يتم صياغة هذه الرموز خلالها من ناحية أخرى، مما يعطي هذا النمو نوعًا من الزخم يجعله يتّخذ صورًا عدّة، تمثّلت فيما قمنا بدراسته لدى الشاعر محمود درويش كنموذج في ثلاث صور:

1- التحول الدلالي حيث يتم تحوّل الرمز من دلالته الرئيسة التي يعتمدها الشاعر إلى دلالات جديدة لم يكن يرتكز عليها الشاعر بشكل رئيس.

2- أو تبقى الدلالات ويتم التعبير عنها برموز أخرى.

3- أو يتم استخدام رموز أخرى موازية للرمز الكلي للتعبير عن هذه الدلالات.

فالقارئ للشعر الفلسطيني يلاحظ أن درويشًا كان يعتمد توظيف شخصية المسيح بشكل رمزي للفلسطيني الذي يُضحّي بنفسه في سبيل الآخرين، لكن الشاعر يبدأ في التحوّل بعد ذلك ليضيف إلى الدلالة السابقة تضييع هؤلاء الآخرون للمسيح في إشارة إلى إنكار أتباع المسيح له.

وتتّضح هذه الدلالة الرمزية بهذا الشكل بدءًا من قصيدة «الخروج من ساحل المتوسط»، المنشورة في ديوان المحاولة رقم 7 المنشور بتاريخ 1973، حيث نجد الشاعر يتراوح بين توظيف المسيح وتوظيف الحجر كرمز للشهيد الفلسطيني وتضييع الآخرون له.

وبعد ذلك نجد أن دلالة تضيع الآخرون للشاعر باقية ولكن من خلال رمز آخر هو شخصية يوسف (عليه السلام)، ثم يعود درويش مرة أخرى لرمز المسيح ليحمله كل الدلالات السابقة بجانب رمز يوسف.

ولكن ما هي المراحل والأسباب التي يتمّ التحوّل فيها من هذا الرمز إلى ذاك، أو من هذه الدلالة إلى تلك، وكيف يتم هذا التحوّل؟

الإجابة عن هذا التساؤل تتطلّب منا أن نراجع إنتاج محمود درويش الشعري لنقف على كيفية استخدام رمز المسيح وتحوّلاته، ومتى بدأ هذا التحوّل، حيث نجد أول توظيف لرمز المسيح في الديوان الأول للشاعر[5] من خلال التركيز على توظيف حادثة الصلب التي وردت في ثمانية مواضع جميعها كانت تحمل دلالة المعاناة الممتزجة بالتضحية، وتم توظيفها بشكل جزئي.

1- من أي غاب جئتني

يا كل صلبان الغضب[6]

2- وأبو أبيك على حذاء مهاجر يصلب[7]

3-  وطني لم يعطني حبي لك

غير أخشاب صليبي[8]

4- وصليب يرتدي نار القصيدة[9]

5- تعتلي خشب الصليب

شهيد أغنية .. وشمس

ما كنت حامل أول أكليل شوك

لأقول للسمراء أبكي[10]

6- سنصنع من مشانقنا

ومن صلبان حاضرنا وماضينا

سلالم للغد الموعود[11]

7- يا من يحتمي بستارة الضجر

غبي أنت.. كالقمر

ومصلوب على حجر[12]

8- ألو

- أريد يسوع

- نعم! من أنت!

- أنا أحكي «من إسرائيل»

وفي قدمي مسامير... وإكليل

من الأشواك أحمله

فأي سبيل

أختار يا بن الله.. أي سبيل؟

أأكفر بالخلاص الحلو

أم أمشي؟

ولو أمشي وأحتضر؟

- أقول لكم: أممًا أيها البشر![13]

يتّضح لنا من خلال استقصاء كل المواضع التي وظَّف فيها رمز السيد المسيح في الديوان الأول للشاعر أمران: الأول أن حادثة الصلب تمثّل العنصر البارز في توظيف شخصية المسيح؛ حيث ترمز هذه الحادثة إلى معاناة المسيح واعتداء اليهود عليه من ناحية، والتضحية بالنفس في سبيل الآخرين وتحقيق خلاصهم من ناحية ثانية.

والثاني أن توظيف شخصية المسيح كرمز تراثي لم يتم بشكل كلّي بحيث يستغرق القصيدة كاملة ولكنه جاء جزئيًّا تكاد تقتصر رمزيته على التضحية واعتداء اليهود، ولذلك يوظّف المسيح من خلال الإشارة إلى الصليب وإكليل الشوك، ولا يتم توظيف رمز المسيح بشكل مباشر إلَّا في الموضع رقم (8)، حيث نجد أن توظيف شخصية المسيح جاء كمفصل كامل في القصيدة التي يحاور فيها درويش رسل الديانات السماوية، حسب الترتيب التاريخي لهذه الديانات، ثم يعود بعد ذلك في الديوان التالي ليصبح الصليب محور رمزية المسيح (عليه السلام).

أحبك، كوني صليبي[14]

وما شئت كوني

ويستمر رمز المسيح في أعمال الشاعر ليتّخذ من التضحية بالنفس في سبيل الآخرين دلالة مركزية له كما نجد في قصيدة «أنا آتٍ إلى ظل عينيك»

واجعليني شهيد الدفاع

عن العشب

والحب

والسخرية

............................

واجعليني أحب الصليب الذي لا يحب[15]

ويتطوّر رمز المسيح ليصبح بداية من الانتفاضة الأولى رمزًا ليس للتضحية فقط بل وعودة الحياة مرة أخرى، ليتوازى رمز المسيح مع رمز الفينق في قصيدة «قصيدة الأرض»:

هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة

هذا نشيدي

وهذا خروج المسيح من الجرح والريح

أخضر مثل النبات يغطي مساميره وقيودي[16]

ويتجلَّى هذا المعنى عندما يخاطب درويش ياسر عرفات في قصيدة: «في مديح الظل العالي» فيقول:

انتصر،

إن الصليب مجالك الحيوي، مسراك الوحيد من الحصار إلى الحصار.

بحر لأيلول الجديد. وأنت إيقاع الحديد تدقني سحبًا على

الصحراء،

فلتمطر[17]

وبدءًا من ديوان «ورد أقل» نجد نوعًا من التحوّل في توظيف رمز المسيح، فعلى مستوى الشكل نجد أول توظيف كلي لهذا الرمز في أعمال الشاعر درويش في قصيدة «يطول العشاء الأخير»، والشاعر هنا لا يقف عند توظيف رمز المسيح فقط بل ويوظف أسلوب ولغة الإنجيل فيقول:

أبانا الذي معنا! كن رحيمًا بنا، وانتظرنا، قليلًا، أبانا!

ولا تبعد الكأس عنا. تمهَّل لنسأل أكثر ممّا سألنا

ولا تتَّهم أحد، كن رحيمًا بمن سيضعف منا،

أبانا الذي في النهايات، وأصعد رويدًا رويدًا إلى حتفنا

...........................................

لقد طال هذا العشاء، وقلَّ الرغيف، وطالت وصاياك، فاصعد بنا

لأن «الرسائل» بعدك تغتالنا واحدًا واحدًا... يا أبانا.[18]

من ناحية الدلالة يلاحظ أن الشاعر تخلَّى عن العنصر البارز في توظيف رمز المسيح وهو «الصلب» لنجده يرتكز على عدد من العناصر في هذه القصيدة ليشكل صورة رمزية للخلاص الذي ينشده الشاعر من خلال التوحّد مع المسيح في صعوده، لتتحوّل دلالة رمز المسيح من المعاناة والصمود أو عودة الحياة مرة أخرى، إلى دلالة الخلاص الأبدي «أبانا الذي في النهايات، وأصعد رويدًا رويدًا إلى حتفنا» فالشاعر لا يجد إلَّا الضياع والموت المتكرّر «الرسائل بعدك تغتالنا واحدًا واحدًا».

ولذا يطلب الشاعر الخلاص من خلال التوحد مع المسيح (عليه السلام)، ورمز المسيح يمتد لدى الشاعر حتى آخر دواوينه «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»[19] الذي نشر بعد وفاته، ويعود في هذا الديوان إلى الاستخدام الجزئي لرمز المسيح، ويلجأ مرة أخرى إلى الرمز من خلال الصلب فيقول في قصيدة «لاعب النرد»:

أُعمَّدُ ريشي بغيم البحيرةِ

ثم أُطيل سلامي

على الناصريَّ الذي لا يموتُ

لأن به نفَسَ الله

والله حظُّ النبيَّ...

ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهِة

ومن سوء حظّيَ أَن الصليب

هو السُلَّمُ الأزليُّ إلى غدنا![20]

لكننا نلاحظ أن الدلالة لم تتغيَّر، بل ظلّت حتى آخر أعمال الشاعر تشير إلى الخلاص من خلال التضحية.

ونخلص من دراسة التطوّر الدلالي في استخدام رمز المسيح لدى محمود درويش إلى أن هناك دلالة مركزية تتمثّل في التضحية والخلاص، لكن هذا لا يعني اقتصار هذا الرمز على تلك الدلالة فقط، بل نجد أن هناك دلالات أخرى لكنها مرتبطة بمراحل محدّدة؛ مثل دلالة الخصب وعودة الحياة التي ارتبطت بالانتفاضة، وكان رمز المسيح خلال هذه الفترة موازيًا لرمز الفينق، وهناك أيضًا دلالة تخلّي الأهل التي ظهرت خلال فترة أوسلو وكان رمز المسيح موازيًا لرمز يوسف وظلم أخوته له، ومراحل الصراع لم تكن سببًا في نمو أو تحوّل دلالات بعض الرموز فقط، بل إنها أنتجت رموزها الخاصة أيضًا، ومن أبر تلك الرموز رمز الحجر، الذي ظهر مع بداية إرهاصات انتفاضة أطفال الحجارة.

2- رمز الحجر في الشعر الفلسطيني

هل بالفعل الرموز تخلق نفسها؟ هل بالفعل يتحوّل العادي إلى غير عادي بفعل عوامل محدّدة؟ هل يمكن للشيء أن يتحوّل إلى النقيض؟

ربما دراسة رمز الحجر في الشعر الفلسطيني تستطيع أن تقدّم إجابات أو على الأقل مفاتيح لهذه الأسئلة. حيث تعود رمزية الحجر في الشعر العربي إلى العصر الجاهلي؛ فقد وظف الحجر رمزًا للحنين إلى الماضي ومن هنا وجدنا البكاء على الأطلال، والشعر العربي مليء بالنماذج التي تتَّخذ من الحجر بكافة أشكاله –أطلالًا وأثافي- رمزًا للحنين والوفاء للماضي.

ولم يستخدم الطلل رمزًا للماضي فقط والبكاء عليه، لكنه استخدم أيضًا رمزًا للتجدُّد وعودة الحياة، ويكفي أن نستحضر معلقة لبيد التي يقول فيها:

وَجَلا السُّيُولُ عَنْ الطُّلُولِ كَأَنَّهَا

زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَهَا أَقْلامُـهَا

أَوْ رَجْعُ وَاشِمَةٍ أُسِفَّ نَؤُورُهَا

كِفَفًَا تَعَرَّضَ فَوْقَهُن َّوِشَامُهَا[21]

فلبيد هنا يتحدّث عن عودة الحياة وتجدُّدها في هذه الأطلال ويشبّهها بالكتابة التي محيت ثم أعيدت مرة أخرى أو بالوشم الذي جدّد، وقد بلغ من روعة هذا المعنى أن سجد له الفرزدق عندما سمعه[22].

وفي الشعر العربي الحديث جاء الحجر رمزًا كليًّا في قصيدة إيليا أبو ماضي «الحجر الصغير»:

حجـرٌ أغـبر أنا وحقـير

لا جمال، لا حكمة، لا مضاء

فلأغادر هذا الوجود وأمضي

بسلام، إنـي كرهـت البقاء

وهوى من مكانه، وهو يشكو

الأرض والشهب والدجى والسماء

فتح الفجرُ جفنه ... فــإذا

الطوفان يغشى «المدينة البيضاء»[23]

فإيليا أبو ماضي هنا يرمز بالحجر للإنسان الذي لا يدرك قيمته ويستصغر نفسه في هذه الحياة، إلَّا أنه في حقيقة الأمر جزء أساس في بناء هذا الكون، ولذلك عندما يتخلّى عن دوره ينهار البناء.

وهذه الدلالة الرمزية لها أصل لغوي؛ فالحجر يستخدم في اللغة رمزا للإنسان الداهية كما جاء في لسان العرب «يقال: رُمِي فُلانٌ بِحَجَرِ الأَرض إِذا رمي بداهية من الرجال. وفي حديث الأَحنف بن قيس أَنه قال لعلي حين سمَّى معاويةُ أَحَدَ الحَكَمَيْنِ عَمْرَو بْنَ العاصِ: إِنك قد رُميت بِحَجر الأَرض فأَجعل معه ابن عباس فإِنه لا يَعْقِدُ عُقْدَةً إِلَّا حَلَّهَا؛ أَي بداهية عظيمة تثبت ثبوتَ الحَجَرِ في الأَرض»[24].

وبالرغم من قدم الحجر -بأشكاله المختلفة- كرمز في الشعر العربي إلَّا أنه اكتسب نوعًا من الخصوصية في الشعر الفلسطيني والشعر العبري.

فقد بدأ رمز الحجر في الظهور في الشعر الفلسطيني والشعر العبري بشكل لافت خلال انتفاضة أطفال الحجارة، ولذلك فإنه قلَّما يستخدم بوصفه رمزًا سلبيًّا، أو رمزًا دالًّا على التشظِّي والاغتراب. وتكاد تتمحور إحالاته الجمالية حول المقاومة، والخصب والانبعاث.

والذي يتتبع بناء الرمز في الشعر الفلسطيني يجد أن رمز الحجر قد حلّ محلّ رموز الزيتون والبرتقال والليمون التي خلفت النكبة في عام 1948.

لكن بعد قيام الانتفاضة -التي فرضت تلك الخصوصية في التعامل مع رمز الحجر الذي أصبح رمزًا للبطولة والمقاومة- تأخَّرت رموز الزيتون والبرتقال والليمون وكل الرموز التي كانت تُؤشِّر للحنين، وتصدَّر الحجر الرموز الفلسطينية خلال فترة الانتفاضة، بل إن الأمر تعدَّى الشعر الفلسطيني إلى الشعر العبري الذي اتَّخذ من الحجر رمزًا، ووقف حائرًا أمام كل من يمثّله من أطفال فلسطين. وقد سبقت الإشارة إلى قصيدة داليا راكوبيفيتش التي سنأتي على تحليلها في هذا المقام.

ونلاحظ من خلال متابعة تطوّر رمز الحجر في الشعر الفلسطيني أنه اقتصر في الأغلب على دلالتين رمزيتين: الأولى تتمثّل في القوة والصلابة في مواجهة العدو، حتى أنه تفوَّق على كل الأسلحة، كما يرى معين بسيسو:

تفاجئني الأرض، إن الحجارة[25]

تقاتل والأنظمة

بنادقها ملجمة

والانتصار الذي لم تستطع الأنظمة أن تحقّقه وحقّقه الحجر، هو ما دعا محمود درويش أن يجعل من الحجر أسطورة فلسطينية ترمز إلى كفاح الشعب الفلسطيني، حتى أن الفلسطيني أصبح يعرف ويوصف من خلال أسطورته، فبدلًا من أن يقول: أنا فلسطيني نجده يقول:

أنا الحجر الذي مستّه زلزلة[26]

رأيت الأنبياء يؤجرون صليبهم

...........................

تغيّر الشهداء والدنيا

وهذا ساعدي

تتحرّك الأحجار

فالتفوا على أسطورتي

وهنا نلاحظ أيضًا تحوّل واستبدال مباشر لرمز المسيح ليحلَّ محلّة رمز الحجر، وينصُّ درويش على هذا الاستبدال (رأيت الأنبياء يؤجرون صليبهم)، وهنا نستشف رفض الرموز الفلسطينية القديمة ليخلق الفلسطيني رمزه الأسطوري المتمثّل في الحجر (تتحرّك الأحجار\ فالتفوا على أسطورتي).

واستبدال الحجر بالرموز الأخرى خلال فترة الانتفاضة أصبح ظاهرة عامة في الشعر الفلسطيني، فقد استبدل القاسم الحجر بالعنقاء في «مملكة الآر. بي. جي»[27]:

أما الملك/ فكان حجرًا

مات الحجر/ فصار وردة

ماتت الوردة/ فصارت تفاحة

من رماد الموتى انطلقت عنقاء جديدة

تطير دومًا نحو اسمها

فالشاعر قد ترك لنا العنقاء القديمة بعد أن أصبحت له عنقاء أخرى جديدة تعود معها الحياة وتتجدّد، هي الحجر (من رماد الموتى انطلقت عنقاء جديدة)، لقد سيطر رمز الحجر على الحياة الفلسطينية بكافة أشكالها، وتمحورت حوله كافة الدلالات والمعاني التي استمدَّ الشعب الفلسطيني منها قوَّته، تلك القوة التي أرعبت الإسرائيلي وجعلته يقف حائرًا أمام هذا الحجر الفلسطيني، يتساءل مع نفسه بغضِّ النظر عن انتمائه السياسي وموقفه من القضية الفلسطينية.

ثانيًا: الرمز الخطي

الرمز الخطي هو الرمز الذي يمتدّ في ديوان كامل ليصبح العنصر المسيطر والرابط لأغلب قصائد الديوان إن لم يكن جميع القصائد بدءًا من العنوان، فعادة ما يكون العنوان عتبة أولية يلج من خلالها القارئ إلى النص، وتقوم بوظائف عدّة تؤشّر أسهمها باتجاه دلالات النص.

وقد ظهرت دراسات كثيرة تُنَظِّرُ للعنوان، ممَّا جعله أحد العلوم المستحدثة (علم العنونة titrologie)[28]، ولأن عناصر العنوان ما هي إلَّا رموز تتعلّق بفهم وتأويل العمل الأدبي.

سيتناول البحث هنا العلاقة القائمة بين التراث والعنوان بوصفه رمزًا يؤشّر للنص، في محاولة للربط بين تأثير التراث والصراع من ناحية ودلالة العنوان كرمز إشاري ممتد داخل الديوان وقابل للتأويل من ناحية أخرى، حيث إن دلالات العنوان ووظائفه تتعدّد بتعدُّد النصوص وسياقاتها.

وقد أجمل جيرار جينت وظائف العنوان في ثلاث وظائف هي: «التعيين (de’signation)، وتحديد المضمون (indication du contenu)، وإغراء الجمهور (se’duction dupublic)»[29]. هذه الوظائف قد تتحقّق جميعًا في العمل أو بعض منها، كما نجد في ديوان الرمز الخطي ورمزية الأندلس.

هذا الرمز المعتمد على بناء الصورة بدءًا من عنوان الديوان مرورًا بعناوين القصائد على كافة مستويات الديوان وصولًا إلى المحتوى يتّضح بشكل كبير في دواوين الشعر الفلسطيني التي نشرت عقب مباحثات أوسلو، والتي كان أولها ديوان محمود درويش «أحد عشر كوكبًا»، حيث يُحيلنا هذا العنوان إلى نوعين من التناص: التناص الداخلي الذي يتناص فيه الشاعر مع نفسه، وهذا ما نجده في قصيدة «أنا يوسف يا أبي» التي نشرت في الديوان السابق للشاعر.

والتناص الخارجي الذي نجده في النص القرآني {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[30]، بما يستدعي في الذهن مباشرة قصة سيدنا يوسف ورمزية هذه القصة حيث تعرَّض يوسف للإبعاد عن طريق إخوته.

هذه القصة التي تنتمي للتراث الديني يتّخذها محمود درويش هنا رمزًا لما يحدث للفلسطيني الذي تخلَّى عنه إخوته العرب وخذلوه.

هذا المعنى الذي يرومه الشاعر من خلال الرمز في هذا الديوان يصرح به في الدواوين التي نشرت بعد ذلك من خلال قلب المثل العربي الذي يقول: «أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب» ليصبح لدى الشاعر:

«أنا والغريب على ابن عمي، وأنا وابن

عمي على أخي. وأنا وشيخي عليَّ». هذا

هو الدرس الأول في التربية الوطنية الجديدة،

في أقبية الظلام[31]

هذا المعنى يتكرَّر أيضًا لدى الشاعر في القصيدة نفسها من خلال التوظيف العكسي لمثل آخر هو «رب أخ لك لم تلده أمك» حيث يقول:

من يدخل الجنة أولًا؟ من مات برصاص

العدو، أم من مات برصاص الأخ؟ بعض

الفقهاء يقول: «رب عدو لك ولدته

أمك»![32]

وهذه الدلالة الرمزية للعنوان تتَّضح أكثر من خلال التعمُّق في نصوص الديوان، فأول قصائد الديوان حملت نفس عنوان الديوان (أحد عشر كوكبًا)، وعنوانًا آخر فرعيًّا هو (على المشهد الأندلسي)، وهذا العنوان الفرعي المستمد من التراث التاريخي له دلالة رمزية تتعلّق بالإحساس بالضياع والفقد الذي شعر به الفلسطيني بعد اتّفاق أوسلو، حيث شعر أن القضية الفلسطينية في طريقها إلى الضياع مثلما ضاعت الأندلس، وأن العرب تخلَّوا عن فلسطين كما تخلَّوا عن الأندلس من قبل.

ومن هنا شاع توظيف الأندلس كرمز لضياع القضية الفلسطينية، وشاع توظيف شخصية يوسف كرمز للتخلِّي العربي عن فلسطين.

وتتضح كل هذه الدلالات الرمزية بشكل كبير من خلال المقطع الثاني في أول قصائد الديوان –أحد عشر كوكبًا- وقد وضع لها الشاعر عنوانًا يرمز للضياع الأبدي أيضًا هو (كيف أكتب فوق السحاب؟) هذا العنوان الذي صاغه الشاعر في أسلوب الاستفهام الاستنكاري، وكأنه يستنكر ما يطلب منه من توقيع اتّفاق مجهول يؤدّي إلى الضياع:

كيف أكتب فوق السحاب وصية أهلي؟

وأهلي يتركون الزمان كما يتركون معاطفهم في البيوت، وأهلي

كلما شيّدوا قلعة هدموها لكي يرفعوا فوقها

خيمة للحنين إلى أول النخل. أهلي يخونون أهلي

في حروب الدفاع عن الملح، لكن غرناطة من ذهب[33]

درويش هنا يوظّف الصورة التاريخية المتعلّقة بضياع الأندلس كرمز كلّي يستغرق القصيدة كاملة، لكنه في الوقت نفسه يعمل على توظيف رموز تاريخية أخرى كجزء من الرمز الكلّي مثل توظيفه للنخلة في التراث الأندلسي التي ترمز إلى الاغتراب والحنين إلى الديار.

ويلاحظ أن الرمز الجزئي هو عنصر من عناصر الرمز الكلّي، ممّا يعني أننا نجد رمزًا عامًّا يمتد خلال مجموعة من دواوين الشاعر، وهذا الرمز العام يتم تكثيفه في عمل محدَّد بحيث يصبح رمزًا خطيًّا يستغرق الديوان كاملًا، وعادة ما تكون القصيدة الأولى من هذا الديوان هي أكثر القصائد تركيزًا في توظيف هذا الرمز الخطي.

وربما يتطوّر الرمز الخطي ليصبح رمزًا عامًّا، مثلما حدث مع رمزية الأندلس، فقد شاع هذا الرمز وأصبح ظاهرة عامة في الشعر الفلسطيني، ومن أبرز الشعراء الذين تأثّروا بدرويش في توظيفه لرمز الأندلس[34] كرمز للضياع الفلسطيني المتوكل طه.

فقد برز توظيف التراث الأندلسي في الشعر الفلسطيني بشكل واضح بعد اتّفاق أوسلو ليس على مستوى القصائد فحسب بل على مستوى الدواوين بأكملها، بدءًا من ديوان محمود درويش «أحد عشر كوكبًا»، وديوان «الخروج إلى الحمراء - عن أبي عبد الله الصغير[35] وتسليم غرناطة» للمتوكل طه.

ففي قصيدة «الزغيبي –لقب أبي عبد الله الصغير (الذي يحكى أنه سيبعث من جديد)» حيث يستلهم المتوكل طه أسطورة العودة فيقول:

هل عدت من غيبة النسيان للزمن

لكي ترى وجهك المبعوث بالمحن؟

أم ذاك غَيرُك مَنْ في الظل بـانَ

لنا وصار صنوك في التاريخ والحزن

..........................

..........................

إن كنت أنت الزغبي الذي سقطت

على يديـه جنـان الروض والعـدن

وعدت ثانيةً كي تستقي دمنـا

لعرشك الخشـب المحفـوف بالفـتن

فارحل فإننا نرى سلطاننا رجلًا

لم يبكِ رغم حصار البـرِّ والسفـن

ولن نرى راية بيضاء فوق دمٍ

من ساحل البحر حتى أول الوطن[36]

فالمتوكل طه يوظّف شخصية أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس ليستدعي كل ما يتعلّق بالحكم العربي للأندلس، ويوظف الاعتقاد في عودة أبي عبد الله ليسقط هذه العودة على الحالة الفلسطينية، ويرفض هذه العودة إذا ما كانت تعني التخلّي عن الأرض كما حدث من قبل، ولذلك فإن الشاعر يطالب أبا عبد الله بالرحيل؛ لأنه لن يقبل بأن يرى رايات الاستسلام ترفرف على أرضه، ورفض المتوكل طه لأبي عبد الله هو في حقيقة الأمر رفض للسلطة الفلسطينية ومن يمثلها ورفض للتخلّي عن الحقوق الفلسطينية في اتّفاقيات أوسلو.

ثالثًا: الرمز الكلي

هو الرمز الذي يستغرق القصيدة كاملة حيث يمثّل «أُطرًا عامة تستوعب الرؤية الشعرية في كل قصيدة من القصائد وتتحرّك في إطارها كل الأدوات الشعرية الأخرى في القصيدة»[37]، مثلما نجد في قصيدة سميح القاسم «سيرة جليات»[38]، وهو من أكثر الشعراء الفلسطينيين توظيفًا للرموز التراثية في شعره، حيث نجده يستدعي من التراث شخصية جليات الفلسطيني الذي حارب داود وهزمه داود[39]، كرمز للفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال، لكن جليات الفلسطيني هنا مختلف عن جليات التاريخي؛ فإذا كان جليات قد هزم على يد داود فإن:

جليات المعاصر ما زال صامدا

وبعد أربعين يومْ

ظلَّ واقفا

ساقاه نخلتان

وفوق رأسه الجميل

كوفية صارت تسمى الغيمْ

في هذا المقطع الذي يبدأ به الشاعر قصيدته نجده يركّز على وصف شخصيته الرمزية، فيقدّمها لنا في ثوب مهيب، فهذه الشخصية ليست عادية، فقد ظل واقفًا أربعين يومًا متواصلة في وجه أعاديه، والساقان نخلتان، بكل ما تحمله النخلة في التراث العربي من دلالة على الشموخ والتعالي، وفوق رأسه الكوفية رمز الشخصية الفلسطينية.

هذه الكوفية التي ترمز للشخصية الفلسطينية ليست كوفية عادية لكنها غيمة تظلل الفلسطيني وتحميه، وبعد أن يرسم لنا الشاعر صورة جليات البطولية نجده يمزج بين جليات التاريخي وجليات الواقعي فيقول:

واخترقت قامته أرتال دبابات

واخترقت جبينه أسراب طيارات

لكنه ظل هناك واقفا

فقد مزج الشاعر بين العناصر السابقة التي رسمها لشخصية جليات والعناصر الواقعية التي تؤشّر تجاه الاحتلال، حيث تخترق هذه القامة الطويلة الباسقة مثل النخلة الدبابات، وهذا الجبين الذي تظلله الكوفية تخترقه الطائرت، من خلال رسم هذه الصورة لحال البطل جليات يرمز الشاعر إلى الشهداء الفلسطينيين.

لكن الشاعر يختم هذه الصورة بجملة شعرية تدلُّ على مدى صلابة الفلسطيني، فبالرغم من الدبابات والطائرات فقد ظلَّ الفلسطيني واقفًا. ليس ذلك فقط بل:

إنه صرخ مستنكرًا ادِّعاء موته

وصاح

عن أيِّ مقلاع تثرثرون؟

وأيَّ قزم خائر العزم تُمجِّدون؟

يا أيها الغزاة

من ذا الذي قد مات؟

ها أنذا حيّ أنا حيّ أنا جليات

حيٌّ أنا أيها الغزاة

فالاستفهام في الأسطر الشعرية السابقة يخرج عن الاستفهام الحقيقي إلى الاستفهام الاستنكاري، حيث ينكر جليات الفلسطيني ما يشاع عن موته ويصرخ (ها أنذا حي أنا حي أنا جليات)، فنلاحظ هنا تكرار أنا حي والنص على أنه جليات، هذا التكرار يرمي من خلاله الشاعر إلى نفي موت الفلسطيني بشكل قاطع.

ويستمر الشاعر في جعل كافة العناصر في القصيدة مرتبطة بجليات، ويرى أن نهاية جليات وموته مشروطة باستكمال مهمته، ولذلك يوظف النص القرآني {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ليجعل ذلك بمثابة خاتمة القصيدة.

وعند هذا الحد يتحوَّل موت جليات ميلادًا لنسل جديد من الفلسطينيين لا يعرف الحرب لأنه لا يحتاجها.

كان الموت وكانت الولادة

وكان نسل لا يعرف القنابل..

ثم صاح جليات بوفود الأرض:

اليوم أكملت لكم دينكم

أما القنبلة الأخيرة، فلي

لي أنا المتماسك بصمغ اللهفة

أنا المتماسك

على انفجارات لا تحصى!..

(ثم كان لجليات نسل لا يعرف القنابل!

وكان للعالم نسل لا يعرف القنابل!)

ويمثّل اللجوء إلى شخصية جليات رفضًا للتراث العبري الذي يحكي كيف هزم داود العبراني جليات الفلسطيني.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فهو يتمسّك بالتراث الفلسطيني القديم الذي يرمز إلى الامتداد التاريخي للفلسطينيين على الأرض الفلسطينية، بما يؤشّر إلى النقيض على الجانب الآخر وهو انقطاع التاريخ العبراني على أرض فلسطين فقد جاء أجدادهم إلى أرض فلسطين ورحلوا لكن جليات ظلَّ مُتَّصلًا بالأرض وسيبعث من بطون التاريخ ليعيد الأرض إلى أحفاده وعندها ستكتمل مهمته ويرحل.

رابعًا: الرمز الجزئي

الرمز الجزئي هو أقل أنواع الرموز انتشارًا وامتدادًا في القصيدة، حيث لا يتعدَّى توظيف الرمز الجزئي جزءًا قد يصغر بحيث لا يتعدَّى سطر شعري واحد، أو يكبر ليمتدَّ خلال مقطع من القصيدة أو جزء كبير منها، لكنه يظل مرتبطًا بهذا الجزء دون أن يمتدَّ إلى البناء الكلّي للقصيدة، «وقد يكون الرمز الجزئي عنصرًا من عناصر رمز كلّي»[40].

ومن الرموز التراثية التي عمد الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي توظيفها في قصيدة «منتصف الليل» رمز الصعاليك[41]:

الصعاليك المقاتلون،

الذين صعدوا إلى روعة فضاء كاسر

هازئين بالأوتاد

ووقعوا معاهدات أنيقة

مع موتهم الوسيم

الرمز هنا لا يتعدَّى هذا المقطع من القصيدة التي تطول لتستغرق الديوان كاملًا، ومن هنا يتَّضح أن ثمَّة أشكال عديدة للرمز، وتنويعات مختلفة من حيث الكم، تؤثِّر أيضًا من حيث الكيف.

فبنظرة سريعة يتَّضح أن الرموز العامة غالبًا ما تمثِّل حالة كاملة وترتبط برموز منتشرة وشائعة لدى الجمهور كما أنها تتميَّز بالثراء الدلالي وتنوّع مستوياته أيضًا مثلما وجدنا في رمز المسيح في الشعر الفلسطيني، أو ترتبط بحالة كاملة تمتدُّ بعمق داخل مرحلة معينة مثلما وجدنا شيوعًا لرمز الحجر خلال فترة الانتفاضة سواء في الشعر الفلسطيني أو الشعر العبري.

في حين أن الرمز الخطي يرتبط بعمل محدَّد ينمو بداخله ويتَّخذ دلالة واحدة عامة، ويمتدُّ خلال الديوان تحت هذه الدلالة العامة التي يتلوّن داخلها بأطياف مختلفة تمنحه الحيوية التي تمنع الملل عنه وتحجب التكرار عن دلالته.

مثلما نجد في ديوان حييم جوري «مفتوح مغلق مفتوح»، وهذا هو الفارق بين الرمز العام والخطي من ناحية والرمز الكلي والجزئي من ناحية أخرى، حيث يسمح الكم بتنوُّع المستويات الدلالية للرمز وتقليبة لدرجة التحوُّل الدلالي كما وجدنا في رمز المسيح في الشعر الفلسطيني على سبيل المثال.

في حين أن الرمز الكلي والجزئي لا يستطيع الشاعر التحرُّك في كل المستويات الدلالية وقلبها بسبب عدم وجود مساحة كمية تُمكِّنه من ذلك، ومن هنا كان للكم تأثير مباشر على الكيف في تطوُّر الرمز وتنوُّعه.

النتيجة

1- من خلال دراسة الرمز وامتداده -بهذا الشكل- في الشعر الفلسطيني، وجدنا أن الرمز لا يتوقَّف عند القصيدة أو جزء منها بقدر ما يمتدُّ ليشمل كل عناصر الديوان، ونجد في بعض الأحيان رموزًا يتعدَّى امتدادها الديوان، وتنتشر في شعر الشاعر بشكل عام، وربما تصبح رموزًا عامة لدى جيل محدَّد أو لدى جميع الشعراء، وبسبب اتّساع رقعة الرمز بهذا الشكل فإن تقسيم الرمز اختلف نوعًا ما، بحيث لم يقتصر على الرمز الكلي والجزئي، بل يضاف إلى ذلك نوعان هما الرمز العام الذي يشيع في أعمال الشاعر أو لدى جيل معين أو لدى جميع الشعراء ليصبح ظاهرة عامة، والرمز الخطي الذي يمتدُّ ليرسم خطًّا رابطًا للديوان الشعري، بحيث يستغرق أغلب إن لم يكن كل قصائد الديوان.

وهذا المخطط الشكلي ربما يُعطي صورة متكاملة لأنماط الرمز المقترحة وتقسيمها ارتباطًا بالعينة التي تمثّلها.

 

2- الرموز متحوّلة ومتطوّرة ولا بد في دراستها من ربطها بالمحيط الزماني والمكاني؛ لأنهما يؤثران بشكل مباشر في بنية الرمز وتحوّله من رمز جزئي إلى كلي أو خطي أو عام، فقد بدأ رمز ضياع الأندلس رمزًا خطيًّا ينتشر في ديوان درويش (أحد عشر كوكبًا) لكنه تحوّل بعد ذلك إلى رمز كلي ينتشر في الشعر الفلسطيني خلال فترة أوسلو.

الخاتمة

كانت وحدة القياس التي اعتمدها نُقَّاد القصيدة، ويرجع اتّخاذهم لها –أي القصيدة- وحدة للقياس إلى أن أغلب الشعر الذي نشر في بدايات ظهور الرمزية نشر في المجلات والمختارات وقلَّما نجد نشرًا لأعمال الشاعر كاملة.

فقد غلب نشر القصيدة، ومن ثم فقد اتّخذ النقاد الكم المتاح لهم كوحدة قياس وهو القصيدة، ولكن مع تطوّر النشر الأدبي وانتشار نشر الدواوين والأعمال الكاملة واختفاء أو ندرة المجلات الأدبية المتخصّصة وعدم شيوعها؛ فإن الكم ووحدته تطوّر.

وبذلك يجب علينا تطوير رؤيتنا للرمز مع بقاء أساس المقياس وهو الكم مع تغيير وحدة القياس أو تطويرها لتصبح الشعر بشكل عام أو الأعمال الكاملة للشاعر أو الديوان، ممّا يعني أننا هنا لجأنا إلى تغيير وحدة القياس فقط مع بقاء المقياس وهو الكم بسبب تغيّر النشر وظروفه.

 

 

 



[1]  عن أصول وتاريخ الرمز في الفكر الغربي، راجع: جون ماكوين، مقال «الترميز» ضمن موسوعة المصطلح النقدي ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1993 المجلد الرابع، ص268- 366. وعن تاريخ الرمز في الفكر العربي راجع: محمد عبد المنعم خفاجي، مدارس النقد الأدبي الحديث، الدار المصرية اللبنانية، ص173-175.

[2] عزالدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر ظواهره وقضاياه الفنية والمعنوية، بيروت: دار العودة، 1972م، ص 198.

[3] تشارلز تشادويك، الرمزية، ص 46.

[4] محمد فتوح أحمد، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، دار المعارف، الطبعة الثالثة، 1984، ص 141.

[5] أول دواوين الشاعر هو ديوان: عصافير بلا أجنحة، 1960م لكن الشاعر تجاهله بعد ذلك وأسقطه من قائمة دواوينه وطلب من الناشرين عدم نشره، وأثبت ديوان أوراق الزيتون وقد نشر في عام 1964 كأول ديوان له، وهذا ما تأخذ به هذه الدراسة.

[6] محمود درويش، الأعمال الكاملة ، ص7.

[7] السابق، ص 29.

[8] السابق، ص 32.

[9] السابق، ص 33.

[10] السابق، ص 52.

[11] السابق، ص 72.

[12] السابق، ص 74.

[13] السابق، ص 76.

[14] السابق، ص 85.

[15] السابق، ص 157.

[16] السابق، ص 318.

[17] السابق، ص350.

[18] السابق، ص 504.

[19] محمود درويش، ديوان: لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي، بيروت: دار رياض الريس للكتب والنشر، 2009.

[20] مجلة الكلمة، العدد 21 ، سبتمبر 2008، الرابط الإلكتروني للنص

http://www.al-kalimah.com/Data/2008/9/1/Darwish-Dice.xml

بتاريخ 81-3- 2009.

[21] علي الجندي، عيون الشعر العربي القديم، الجزء الأول، المعلقات السبع، دار النصر للتوزيع والنشر، الطبعة الأولى 1993، ص 123.

[22] السابق، ص126

[23] إيليا أبو ماضي، ديوان إيليا أبو ماضي، دار العودة، بيروت، ص 121.

[24] ابن منظور، لسان العرب، مادة (حجر).

[25] معين بسيسو، الأعمال الشعرية الكاملة، بيروت: دار العودة، 1979، ص665.

[26] محمود درويش، ديوانه، بيروت: دار العودة، 1980، المجلد الثاني، ص245.

[27] سميح القاسم، جهات الروح، اللاذقية: دار الحوار، 1984، ص114- 115.

[28] عرف العنوان اهتمامًا بالغًا منذ ثلاثة عقود برزت فيها دراسة العنوان كعلامة في إطار منظومة إجرائية هي «علم العنونة laTitrologie، وظهر عند المدرسة الفرنسية النقدية خاصة عند ليو هوك «leo.h.hock»، وربما ظهرت إرهاصات هذا العلم عند العالمين الفرنسيين فرنسوا فروري وأندري  فونتانا، من خلال دراستهما «عناوين الكتب في القرن الثامن عشر»، ثم في فصل «قوة العنوان» في كتاب الناقد شارل جريفال عام 1973م. لكن يبقى كتاب ليو هوك «La Marque de titre» المترجم «علامة العنوان» مرجعية معتمدة لتفصيله أنواع العنوان، وأهم وظائفه. كما قد يكون جيرار جينيت من أوائل الذين اهتمّوا بدراسته، من خلال دراسة عتبات النص بفضل كتابه قرطاس «أطراس Palimpsestes» وعتبات «seuils»، وقد استطاع هذا الناقد أن يبرز دور ما يحيط بالنص/ أو ما فوق النص «التعاليات النصية» التي تعطي الإطار الدلالي العام للخطاب، بل وتساعد على فهمه وقراءته بفعل أوليتها. (راجع حليمة السعدية: العنونة والعلامة النقدية في التراث، رسالة ماجستير، جامعة عبد القادر، الجزائر، ص22)، وقد أشارت الدراسة من قبل للكتابات التي اهتمّت بالعنوان.

[29] عبد الحق بلعابد، عتبات جيرار جينت من النص إلى المناص، تقديم: سعيد يقطين، الجزائر: الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2008، ص 74.

[30] سورة يوسف، الآية 4.

[31] محمود درويش، أثر الفراشة - يوميات، دار رياض الريس، 2008، ص 273.

[32] السابق، ص 274.

[33] محمود درويش، الأعمال الكاملة ، ص 553-554.

[34] وحول هذا الموضوع راجع:  محمد عبد الله الجعيدي، حضور الأندلس في الأدب الفلسطيني الحديث، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد الثامن والعشرون، العدد الرابع 2000.

[35] أبو عبد الله محمد الثاني عشر (1460 - 1527) هو آخر ملوك الأندلس المسلمين. وكان ملكًا على غرناطة (من بني نصر من ملوك الطوائف) واستسلم لفرديناند وإيزابيلا يوم 2 يناير 1492. وسماه الإسبان elchico (أي الفرخ) و Boabdil، بينما سماه أهل غرناطة الزغابي. وهو ابن مولاي أبو الحسن، الذي خلعه من الحكم وطرده من البلاد عام 1482، وذلك لرفض الوالد دفع الجزية لفرديناند كما كان يفعل ملوك غرناطة السابقين. حاول غزو قشتالة عاصمة فرديناند فهُزم وأسر في لوسينا عام 1483، ولم يفكَّ أسره حتى وافق على أن تصبح مملكة غرناطة تابعة لفرديناند وإيزابيلا ملوك قشتالة وأراجون. الأعوام التالية قضاها في الاقتتال مع أبيه وعمه عبد الله الزغل. في عام 1489 استدعاه فرديناند وإيزابيلا لتسليم غرناطة، ولدى رفضه أقاما حصارًا على المدينة. وأخيرًا في 2 يناير1492 استسلمت المدينة. المكان الذي ألقى منه نظرته الأخيرة على غرناطة ما زال معروفًا باسم زفرة العربي الأخيرة (el último suspiro del Moro) وبكى فقالت له أمه: «ابكِ اليوم بكاء النساء على ملك لم تحفظه حفظ الرجال». انتقل لفترة وجيزة إلى قصر له في البوجرّاس بالأندلس ثم رحل إلى المغرب الأقصى، فقد نزل في مدينة غساسة الأثرية المتواجدة في إقليم الناظور، ونهايته أتت حين تقاتل مع قريب له يحكم فاس، وقُتل في تلك المعركة عام 1527. كان من شروط الاستسلام أن يأمن الغرناطيون على أنفسهم وأموالهم ودينهم كمدخرين، ولكن ما أن استقر لهم الحكم بعد مرور 9 سنوات على سقوط غرناطة نكث فرديناند بالعهد وخيَّر المسلمين إما اعتناق المسيحية وإما مغادرة إسبانيا، وكانت تلك هي نهاية الأندلس.

[36] المتوكل طه، الخروج إلى الحمراء (عن أبي عبد الله الصغير وتسليم غرناطة)، رام الله 2002، ص 49-50.

[37] علي عشري زايد، عن بناء القصيدة العربية الحديثة، القاهرة: مكتبة الشباب، 1997، ص 133-134.

[38] سميح القاسم، الأعمال الكاملة المجلد الرابع، ص191.

[39] راجع الكتاب المقدس: صموئيل أول 17.

[40] علي عشري زايد، عن بناء القصيدة العربية الحديثة، القاهرة: مكتبة الشباب، 1997، ص 134.

[41] مريد البرغوثي، منتصف الليل، دار رياض الريس ، الطبعة الأولى، يناير 2005، ص 24.