القيم الأخلاقية والسلطة السياسية
عند ابن خلدون
راشدي بن يمينة والدكتور محمد حمداوي*
* جامعة عبد الحميد بن باديس في مستغانم، الجزائر. البريد الإلكتروني:
h.alahmadi1357@gmail.com
مقدمة
لا يلتبس على أحد من الباحثين المُتمرِّسين بالدراسات الخلدونية، أمر التفرقة بين الأخلاق السياسية والسياسة الأخلاقية، ولا حكم العلاقة بين الأخلاق السياسية والتنمية الاقتصادية والبشرية، ولا طبيعة التكامل المتوازن الذي يستوجبه البناء الحضاري بين القيم المادية والقيم الروحية.
ذلك أن نظريات العمران كما تضمّنتها المقدّمة، لا تبخل على دارسها بالأمثلة والنماذج المحيلة على هذه المواضيع كلها؛ لأن صاحبها حاول ألَّا يترك فيما أنجز من نظريات مبتكرة شتى، حيّزًا للخلط ولا مجالًا للالتباس، لأنه لا يهم بدراسة ظاهرة من الظواهر التي فرضها عصره على المعاينة، دون أن يستحضر كل المتغيّرات التي تمّت إليها بصلة، والتي تكمن ضمنها الأسباب المحدّدات والعلل، غير قاصر ذلك على المتغيّرات الاجتماعية فحسب، بل متجاوزًا إياها إلى الثوابت الدينية والمتغيّرات الطبيعية والنفسية، آخذًا بعين الاعتبار ما هو خارج عن الظاهرة أو موضوعي بالنسبة إليها، وما هو من طبيعتها أو ذاتي فيها، ومقدرًا الدرجة التي يتحدّد بها عامل التأثير في الظاهرة، عند نشأتها أو أثناء تحوّلها المنتج لآثاره، سواء أكانت هذه الآثار سلبية أو إيجابية.
ولا تملك الرؤية الخلدونية -وهي وليدة المناخ الثقافي الإسلامي- ألَّا تنظر إلى الكون والطبيعة والمجتمع هذه النظرة الشمولية التي تستوعب الإنسان في صلته مع الكون وخالقه، وتبوء بقصور الإدراك الحاصل عن طريق الحس والعقل، ما لم يكن مؤطّرًا بالنظرة التوحيدية، كما يشكّلها مناخ الثقافة النقلية والعقلية الإسلامية.
ولا تملك هذه الرؤية وفقًا لمبادئ التوحيد الإسلامية ألَّا تقول بوحدة الإنسانية، وخضوعها إلى قوانين طبيعية واجتماعية واحدة، كما يشير إليها الوحي بالإجمال، وكما هو ممكن للعلم أن يستكشفها، ما لم يقتصر على مجرّد التأمّل العقلي السريع، مستبعدة من نطاق القدرات العقلية الإنسانية ما هو خارج عن المدركات الحسية، مسلّمة بعلمها لخالق الكون، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم.
ولا شك أن هذه الرؤية هي التي جعلت من العمران الخلدوني علمًا، يمكن به الوصول فوق الموضوعية والعمق، إلى أبعاد إنسانية قادرة على الاستيعاب والتفسير والتنظير الشمولي، الذي يستقصي الظواهر الإنسانية في كل ميادين الحياة، من اقتصاد وسياسة وثقافة، متوسلًا بمعارف موضوعية مصقولة بدقة المنهج العلمي التجريبي الذي يذهب إلى جزئيات الحياة الاجتماعية، قبل الصعود بها إلى مستوى الاجلال[1].
ومن المؤكّد أن لهذه الرؤية فضلًا في تمكين ابن خلدون من دراسة الحضارات الأزمانية الكبرى في صيرورتها، ناظرة من خلال القوانين الطبيعية والاجتماعية إلى شمولية الوجود الإنساني، في إطار علم إجمالي يستوعب الحضارة وما يحدّدها من أسباب لقيامها وما يترصّد بها من انهيار، ويستوعب التطوّرات والصراعات، ويستوعب التفكير والاقتصاد والأخلاق والسياسة بوصفها كلها أنشطة حيوية[2].
أولًا: القرابة الدموية والأخلاق السياسية
لا يمكن لأيِّ جماعة قرابية مهما كان الاعتراف بمكانتها الاجتماعية، أن تبلغ بواسطة رجل منها مرتبة الرياسة على مستوى القبيلة، ولا مرتبة الملك، سواء أكان ملكًا بالاستبداد أو ملكًا بالمظاهرة على مستوى الدولة، ما لم يكن أفرادها قرابة عصبة من الدرجة الأولى، يشكل منهم الدم والمصالح الحيوية قوة بشرية ومادية غاية في التماسك والالتحام، وقادرة على التغلّب على الجماعات القرابية الأخرى، التي تنتظمها القبيلة نفسها في مختلف الظروف والأحوال، وقادرة على المدافعة عن مصالح أفرادها داخل القبيلة، وعلى مصالح القبيلة، بمعية أفراد القبيلة القادرين على المدافعة جميعًا، ضد القبائل الأخرى، وعلى مصالح القبائل المغلوبة من قبلها والموالية لها والمتحالفة معها ضد عصبية الدولة.
ولا تملك الجماعة القرابية هذه أن تشكّل قوة غالبة على مستوى قبيلتها، أو على مستوى أوسع وأعم، ما لم يكن أفرادها صرحاء النسب، بما تدل عليه هذه الصراحة من نقاوة دم وحماية منبت وصيانة شرف، وهو أول ما يؤكّد عليه ابن خلدون في تعليله لظاهرتي الرئاسة والملك وتفسيره لهما.
إن القبيلة التي هي تشكيلة من القرابات والأنساب، لا تنتظم دائمًا عوائل أبقت على أنسابها صريحة نقية، إلَّا فيما يخصّ الأعراب أو ما في معناهم، بصفتهم أكثر الجماعات بداوة وتوحُّشًا وتوغُّلًا في القفار، بسبب اعتمادهم خصوصًا على تربية الإبل، التي لا تنمو في بيئة طبيعية أخرى، ولا تتأقلم معها نموها وتأقلمها في الصحراء[3].
وهذا الصنف من البشر يربأ أن تختلط بأنسابهم الأنساب، لأجل ما هم عليه من أسلوب خشن وأوضاع اجتماعية سيئة ومواطن سكن مجذبة، لم ينزعوا إليها عن طيبة خاطر، بل دُفعوا إليها عن حاجة وضرورة واضطرار[4].
فمن لم يجد لمصدر عيشه عن تنمية الإبل بديلًا، فليس له مهرب من تحمّل طبيعة ومناخ قاهرين، لا يجودان في الغالب بشيء أهون من الفقر والشظف، والارتياد المنهك لشح القفار، والترحل المستمر الذي لا يعرف السكينة ولا الاستقرار.
وإذا كانت صراحة النسب وقفًا على هذا الصنف من البشر، الذين ألفت أجيالهم نشاط القيام على الإبل، وتعوّدوا على ما يوائمه من قساوة طبيعة وخشونة عيش، وكانت وقفًا كذلك على كل من في معناهم من قبائل العجم والبربر، الذين يشملهم مفهوم الأعراب الخلدوني، فإن كل قبيلة لا ينطبق عليها هذا المفهوم قابلة لأن تكون أنسابها عرضة للاختلاط بأنساب دخيلة، بسبب قرابة أو حلف أو ولاء أو فرار من عقوبة على جناية تعرّض مرتكبها للعقاب الشديد أو الإعدام.
إن هذا المفهوم لا ينطبق -في نظر ابن خلدون- على أولئك السكان المستقرّين في المدن والقرى والجبال، الذين يعتمدون في نشاطهم الاقتصادي على الفلاحة أكثر من تربية الأنعام، والذين تتوفّر لهم من نشاطهم الأغذية الغنية المتنوّعة، فينعمون برغد العيش، والذين يشكّلون غالبية السكان من العرب والعجم والبربر على حدٍّ سواء[5].
كما أن هذا المفهوم لا ينطبق أيضًا على أشباه المستقرّين من هؤلاء السكان الذين يعتمدون في نشاطهم الاقتصادي على تربية الأنعام من غنم وبقر، والذين مهما كان ديدنهم الترحال الدائم في طلب المراعي والمياه لتنمية أنعامهم، والذين مهما كان تقلبهم في الأرض، لا يتوغّلون في الصحارى المقفرة، المفتقرة إلى الظروف المناسبة لنشاطهم، لا كثيرًا ولا قليلًا[6].
ويمثّل هذا الصنف من البشر بعض البربر والترك والتركمان والصقالبة. هؤلاء هم إذن سكان القبائل الذين ليسوا بمأمن من اختلاط أنسابهم بغيرها من الأنساب.
ولا يدخل أفراد هجروا قبائلهم وقطعوا الأواصر مع أقاربهم، في أنساب أفراد آخرين، لسبب من الأسباب السالفة، إلَّا سقطت أنسابهم، لأنهم بدخولهم في أنساب أفراد آخرين، تصبح جارية عليهم أعرافهم، فهم يدعون بأنسابهم، وتجري عليهم أحكامهم من نصرة وديات[7].
وهكذا التزامات أخرى تجاه الأنساب التي أعطت معنى لكينونتهم، وحالت بذلك دون موتهم المعنوي الذي يتربص بكل فرد تجرّده القبيلة من الانتماء إليها، ويرفع عنه أفرادها حمايتهم.
وعمومًا، فإن سقطاء النسب هؤلاء لهم ما لأفراد الأنساب التي تبنتهم، وعليهم ما عليهم، إلَّا حق واحد هو أن سقطاء النسب ناقصو الحقوق السياسية، فلا يمكنهم الرئاسة عليهم[8]
فإذا ورد على هذه القاعدة استثناء، ونادرًا ما يرد، فإنه لن يزيد إلًّا تأكيدًا للأعراف الجارية التي بمقتضاها أن الرئاسة على القوم لا تكون إلَّا في صرحاء النسب منهم.
وهب أحدًا من سقطاء النسب توفّرت فيه خصائص الرئاسة، وبلغ مرتبتها، فإنه لم يكن له ذلك إلَّا بعد أن أصبح نسبه الأول نسيًا منسيًّا، وأصبح الناس لا يعرفونه إلَّا بالنسب الذي دخل فيه، فأضحى نسبه الوحيد، وكأنه لم يكن له من قبله نسب.
إن الأنساب المشكّلة للقبائل أنساب عامة تنتظم أنسابها الخاصة، وكما أن هناك تفاوتًا بين الأنساب العامة داخل القبيلة الواحدة، فإن هناك تفاوتًا بين الأنساب الخاصة داخل النسب العام. ومعرفة ذلك مسألة مهمة لعلاقة الأخلاق بالسياسة، أي الأخلاق الموصلة إلى الحكم، محلِّيًّا كان أو مركزيًّا، ناقصًا أو تامًّا.
فإذا كان أفراد كل نسب عام يتعصّبون بعضهم لبعض في السراء والضراء، لجلب فائدة أو لدفع ضرر، على ما قد يكون بينهم من بعد قرابة وقلّة ملازمة، فإن أفراد الأنساب الخاصة المشكّلة للنسب العام، يتعصّبون بعضهم لبعض بصورة أقوى، لأنهم أشد التحامًا من أفراد النسب العام، لقرب النسب الجامع بينهم.
نعم تتفاوت الأنساب الخاصة فيما بينها، داخل النسب العام الذي يشملها، تفاوت الأنساب العامة فيما بينها داخل القبيلة. فإذا كانت الأنساب الخاصة نسبًا واحدًا، يشترك أفراده في كل الخصائص التي تجعل نسبهم قوة عصبية قادرة على المدافعة أو المطالبة، فما الذي يجعل داخلها نسبًا معينًا يتفوَّق على بقية الأنساب الخاصة؟
الجواب على ذلك هو أن التفوُّق لا يكون إلَّا بالغلب، الذي تخضع له بقية الأنساب. وهذا الغلب ليس شرطًا إلى جانب النسب الصريح والحسب والشرف، من أجل بلوغ الملك بالمظاهرة أو الاستبداد فحسب، بل هو شرط حتى من أجل بلوغ الرئاسة على القبيلة[9].
إن الرجال القادرين على الإنتاج والمدافعة هم رساميل الأنساب وأسلحتها. لذلك فإن قوّة النسب التي هي بصراحته وأخلاقه الحميدة، تزداد بازدياد عدد رجالها؛ لأن أفراد النسب القوي، الذين لا يقلّون عن أفراد الأنساب الأخرى، نقاوة ولا حسبًا ولا شرفًا، يتغلّبون عليها إذا كانوا أكثر عددًا.
والغلب لا يكون في الدفاع عن مصالح النسب فقط، ولكنه يمتد إلى ما يقدّمه النسب الخاص القوي لنسبه، ولمختلف أنساب القبيلة من أعمال وخدمات خيرة، ومن دفاع مستميت عن المصالح الحيوية للأقارب القريبين والبعيدين، ولكافة أفراد القبيلة الآخرين.
إن الرئاسة على القبيلة إنما تكون في هذا النسب الخاص القوي، كونها لا تُدرك إلَّا بالغلب، والغلب لا يكون إلَّا للنسب الأقوى. وتبقى الرياسة في هذا النسب الخاص، ما دام هو الأقوى، فإذا انتقلت، فإن انتقالها لا يكون إلَّا من فرع إلى فرع آخر في النسب نفسه، ولا يكون إلَّا من الأقوى إلى الأقوى فيه، حتى يكون الغلب[10]، الذي هو شرط الرياسة أمرًا مضمونًا.
إن العصبية الخاصة، التي يثمرها النسب الخاص الأكثر قوة في النسب العام، لا بد أن تلتف بها العصبيات الخاصة الأخرى، فيكون بذلك النسب العام الذي ينتظمها أقوى من الأنساب الأخرى المشكلة للقبيلة.
وإذا كان أفراد النسب العام يلتفون هذا الالتفاف حول أكثر أنسابها الخاصة قوة، لتضمن التحقيق لمصالحها الحيوية الاقتصادية والأمنية، فإن أفراد القبيلة جميعًا يلتفُّون حول النسب العام الأكثر قوة ضمانًا لمصالحهم هم الآخرون.
بعد هذا التحديد للأنساب المشكّلة للقبائل، والتفرقة فيها بين ما هو صريح وما هو ساقط، وإبراز القاعدة التي بموجبها لا تكون الرئاسة على أفراد القبيلة إلَّا في صرحاء النسب منهم، يمكننا القول بأن معيار التفرقة بين صرحاء النسب وسقطائه، لا يقوم على أساس طبيعي فحسب، بل على أساس أخلاقي أيضًا. ذلك أن سقطاء النسب لم يهجروا أنسابهم إلَّا لعلة، كما هو الشأن بالنسبة لأولئك الأفراد الذين اقترفوا جناية دم في قبيلتهم، ثم هربوا مخافة الاقتصاص منهم.
فالعادة تقضي أن هؤلاء لم يكن لهم أن يغادروا نسبهم لو أنهم قتلوا دفاعًا عن أرض أو عرض، أو حماية لأي حق آخر من حقوق القرابة والنسب؛ لأن ذلك كان سيؤلّب حولهم الأقارب لنصرتهم، ويوقظ الحمية في حالة الدية لدفع التعويض عنهم.
أما وأن الأمر خلاف ذلك، فإن الذين هجروا أنسابهم ليسوا هم الذين تخلَّوا عن أقاربهم، بل إن أقاربهم هم الذين تخلَّوا عنهم، يصدق عليهم قول الشاعر الحكيم :
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألَّا تفارقهم فالراحلون هم
ولا تمتنع القرابة عن نصرة أفرادها الجديرين بالنعرة برجالها وأموالها إلَّا لعجز أو عوز. ولا تمتنع عن نصرتهم مع القدرة على ذلك إلَّا لأنهم لا يستأهلون، إما لضعف صلتهم بأرحامهم، أو لاختراقهم أعرافهم، أو لتصرُّف مشين يُدنِّس شرفهم، أو لأي سبب أخلاقي آخر ذميم.
فإذا كانت الروابط القرابية بهذه الدرجة من عدم التماسك، وظهر تقاعس الأقارب عن الانتصار لذويهم، ظالمين أو مظلومين، واختفى التكافل والتضامن والالتحام بالنسب، وغابت التضحية والشجاعة والشعور بالغضاضة إذا مسَّ الأذى ذوي الأرحام، فمعنى ذلك أن الأقارب جميعًا قد فقدوا محامد الأخلاق الضرورية لتماسك النسب وقوة النسب.
أما صرحاء النسب فإنهم على خلاف ذلك، كانوا دائمًا متشبثين بقبائلهم وأنسابهم، يدفع كل قريب عن قريبه الضيم والهلاك، ويحول دون ما يعترضه من المصائب، بمقتضى صلة الرحم التي هي ظاهرة طبيعية في البشر، وبمقتضى القيم العرفية والأخلاقية السارية المفعول في المجتمع.
وتزداد الرابطة النسبية قوةً كلَّما ازداد النسب قربًا والتحامًا. وكأن أخلاق التناصر والتراحم والتضامن والسخاء والتضحية، مضافة إلى الاعتزاز بالانتماء إلى النسب، وحمايته من السقوط، بالدخول في أنساب أفراد آخرين، والترفُّع عن لبس جلدتهم، كلها مكارم أساسها صراحة النسب. وكأن صريح النسب، في طبيعته المتوحِّشة، وطبعه النبيل، وخلاله الحميدة أسد، وكأن ساقط النسب حيوان أليف في جلد أسد.
من هنا العلاقة بين صراحة النسب ومحامد الأخلاق، ومن هنا المعادلة : صراحة النسب + محامد الأخلاق = قوة النسب.
إن هذه المعادلة لا تجد تصديقًا لها في الواقع، إلَّا عند قبائل الأعراب الآمنة أنسابهم من الاختلاط، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وكما أن أنساب هؤلاء بقيت على نقاوتها الأولى، مقارنة مع سكان الأرياف والحواضر، فإن أخلاقهم بقيت أقرب إلى الخير والشجاعة، بقاء النفس على فطرتها الأولى[11]. فالنفس رهينة ما تعوَّدت عليه، لكل أمرئ من نفسه ما تعوَّدا، كما تُسجّل ذلك الحكمة الشعرية باختصار.
والنفس على الفطرة الأولى نفس خيّرة طاهرة، لولا أن تدنّسها اللذائذ المتنوّعة، وعادات الترف، والإقبال على الشهوات[12].
فإذا كانت ملهمة بخلق من الله على فجورها وتقواها، فإن الأعراب لا يجدون في قفارهم الموحشة البدائية، شيئًا تسلك به النفس طريق الفجور؛ لأن بيئتهم الطبيعية الفقيرة، وبيئتهم الاجتماعية الخالية من الاختلاط لا توفر لهم، رغم الجهد والعناء إلَّا الضروري من العيش المجرَّد من أنواع اللذائذ، والذي يبقي على بطونهم وفروجهم مصانة من الفساد، الذي يستتبع تعود النفس على حب الشهوات، لا سيما شهوات البطن والفرج، والتفنن في اللذائذ المرتبطة بهما.
أما أخلاق الشجاعة التي يتحلَّى بها الأعراب أكثر من غيرهم، فهي أنه ليس لهم ترف ولا بذخ يسكنون إليه، وليس لهم الأسوار والجنود التي للمدن، فيوكلون إليها أمر الدفاع عن أنفسهم وأموالهم، بل هم متوحشون في القفار، يقومون وحدهم بالدفاع عن أنفسهم، لا يتركونه إلى أحد ولا يثقون فيه، لا يغفلون لحظة عن حراسة الطرق، واستشعار المخاطر وتوقع الأضرار، والتأهب لمواجهتها في أي حين[13].
ولا شك أن التعوّد على ذلك يجعلهم مُعتدِّين بقوتهم، واثقين بأنفسهم، ويكون الخلق المتميّز به سلوكهم هو الشجاعة والبأس، اللذين لا يدانيهم فيهما أحد من السكان، الذين تعوّدوا على حياة الأمن والاستقرار في القرى والمدن.
ثم إن هناك عوامل أخرى تبقى على هذا التميّز الذي يتحلَّى به الأعراب، وهي أنهم في مأمن عن القوانين العقابية التي تضعف النفوس وتذهب بخصال القوة والبأس والشجاعة والعزم، لأنهم في ترحالهم عبر القفار، لا يدركهم من الحاكم قهر ولا تسلّط ولا استبداد. وإذ لم تضطهد بالقوانين العقابية نفوسهم، فإنهم لا يمسّهم كسل، ولا يفتقدون القدرة على التصدي.
كما أنهم في منأى عن القوانين التربوية والتأديبية، التي تؤثّر في بأس الفرد وقوته بعض الشيء، بسبب تنشئته على الخوف والانقياد، الذي يعرفه منذ صباهم المتعلّمون للصنائع والعلوم والديانات[14].
فالأعراب لا يخضعون إلى هذه القوانين التربوية التأديبية، ولذلك فإن بأسهم وشجاعتهم شديدان لا يعتورهما النقصان.
ثانيًا: الأخلاق السياسية والسلطة السياسية
في طول مسيرتها بين كونها جماعة قبيلة عادية، وبين صيرورتها أسرة حاكمة، فإن العصبية الخاصة لا تعتد بقوتها المادية الغالبة، ولا بقوة نسبها العام، ولا قوى الأنساب المشكّلة لقبيلتها فقط، بل اعتدَّت بما اعترف لها به أفراد القبيلة من حسب وشرف، أي بأخلاق حميدة تفيد الصالح العام ماديًّا وأمنيًّا ومعنويًّا.
فالتفاف أفراد القبيلة حول الرجل الذي يمثّل النسب الخاص الغالب لم يكن إلَّا بوعي منهم أنه يمثّل فوق القيم المادية التي له، ولعصبية القيم الروحية التي يتوق إلى التحلّي بها كل فرد سوي داخل القبيلة، والتي بنصرتها تنتصر القبيلة لمكانتها بين القبائل، بل ولغلبتها لبعضها، واستحقاقها الولاء والحلف من البعض الآخر.
إن القبائل التي ينتهي بها الأمر إلى الإذعان للعصبية الغالبة، والإقرار بسلطتها، والانضمام إليها، وتلك التي تنضم إليها بالحلف والولاء، سرعان ما تجري عليها أحكام العصبية الغالبة. فلا تتوقّع من صاحب العصبية الذي تألبت معه للمطالبة بالحكم، أن يؤثّر دونها قبيلته الخاصة، بما يجلبه الانتشار في الأرض من منافع مادية، وما قد يعود به الحكم من عيش رغد وأفضال باهرة.
ومن هنا نفهم الدور الذي تؤدّيه القيم الروحية بالنسبة للقوة المادية، فإذا كانت هذه الأخيرة ضرورية لحصول الغلب، فإن الأخلاق السياسية أكثر ضرورة، لأن بها يتم الحفاظ عليه، أي يتم الإبقاء على الاعتراف بسلطة الغالب والإخلاص في الإذعان لها.
ن الاخلاق المناسبة للسياسة والملك، هي أخلاق الخير التي يمثّلها صاحب العصبية، والتي تشمل منافعها تابعيه من قبيلته وغير قبيلته. وإذا كانت العصبية بما هي قوة مادية، هي الأصل الذي ينبني عليه المجد، حسب ابن خلدون، فإن المجد لا يكتمل إلَّا بالأخلاق الحميدة.
ولا يمكن والعلاقة بين العصبية والأخلاق الحميدة بهذه الحال التي هي عليه أن يكون الملك غاية للعصبية، من غير أن يكون غاية للأخلاق الحميدة، التي هي مرتبطة بها ومتممة لها[15].
وإذا كان وجود العصبية وجودًا ناقصًا، بهذا المعنى، دون وجود أخلاق حميدة، بالنسبة لأصحاب البيوت الحسيبة الشريفة، (إذ هم لم يعترف بمكانتهم العالية المرموقة، فقط لأنهم ذوو نسب ملتحم قوي شديد، بل لأنهم كذلك خيرون فضلاء، واضعون أنفسهم وأموالهم في خدمة الصالح العام للجماعة)، فإن وجود الملك أيضًا وجود ناقص ما لم يتوّج تاجه بمحامد الاخلاق.
ومن وجهة النظر الايمانية التي ينطلق منها ابن خلدون، والتي هي وجهتنا جميعًا نحن المسلمين، فإن الإنسان خليفة في الأرض، سواء عليه أأقر بذلك أم لم يقرَّ، وأنه إذا حكم وجب عليه تنفيذ أحكام الله في عباده، ولا يكون ذلك إلَّا بأعمال الخير ومراعاة المصالح، كما تدل على ذلك الشرائع والقوانين. وصاحب العصبية القوية، إذا كان متحلّيًا بما يناسب تطبيق أحكام الله، فإنه مهيّأ للحكم، متوفّرة فيه الصلاحيات لذلك.
ويشهد الواقع كذلك، على أن أخلاق الخير وحصول الملك ظاهرتان متلازمتان، فأصحاب العصبية الذين تمكّنوا من بسط سلطانهم على كثير من المناطق، ودانت لهم رقاب سكانها، لم يصلوا إلى ذلك بمجرّد قوتهم الغالبة، بل ملكوا الرقاب والقلوب بأخلاقهم الخيرة، ومنافسة أقرانهم في معاملة الناس بمقتضاها.
فهم كما يصرّح بذلك ابن خلدون: كرماء، عافون عن الناس، حلماء أمام خطايا الضعفاء، متحمّلون مسؤولية الجميع، متكفّلون بأعباء المعدمين منهم، صبورون أوفياء صائنون للأعراض، معظمون للشريعة وعلمائها، آخذون برأي علمائها محسنون الظن بهم، مولون الاعتبار للتقاة الصالحين متبرّكون بهم، راغبون في دعواتهم الخيرة، متخلّقون بالحياء مع الأكابر والمشايخ مبجلون لمقامهم، منصاعون للحق، متواضعون مع الفقراء والمساكين، مستمعون إلى شكوى المستغيثين مسرعون لنجدتهم، ملتزمون بأحكام الشرع، قائمون بالعبادات حريصون عليها، تاركون الغدر والخداع ونقض العهود، جاهدون أنفسهم في الابتعاد عن كل خلق ذميم.
فالأخلاق السياسية إذن هي هذه الأخلاق، وقد ارتبطت بأصحاب القوة والقهر، القادرين على الغلب، وبسط السلطة على غيرهم من البشر، قليلين أو كثيرين، في مناطق واسعة أو محدودة.
وما عدا هذه الأخلاق فإنها غير مناسبة للقوة العصبية، غير مؤهّلة أصحاب القوة أن يبلغوا درجة الملك، لا بالمظاهرة ولا بالاستبداد.
ولا شك أن أفراد النسب الخاص، وقد توفّرت فيهم الخصائص الضرورية لممارسة السلطة على قبيلتهم، بواسطة أكثر عناصرهم تحلّيًا بالأخلاق السياسية، قد رغبوا في ذلك، وأن رغبتهم هذه قد اقترنت بإرادة الغالبية من أفراد القبيلة في الخضوع لسلطتهم، لأنهم بذلك يؤسّسون لقوة قادرة على المدافعة عن مصالحهم، والمطالبة بالحقوق التي وصل إليها قبلهم الأفراد الغالبون، بواسطة أنسابهم وحلفائهم والموالين لهم.
إن أفراد القبيلة إذن لم يتعصّبوا إلى أكثر أنسابهم قوة إلَّا لأنهم، فوق حرصهم على المصالح الحيوية، يرغبون في أن تكون لهم سلطة على غيرهم، إذ بذلك يحقّقون أقصى ما يصبون إليه من المنافع المادية والمعنوية.
وبعبارة أخرى، فإنهم يقرّون بغلب إحدى عصبياتهم، غلبًا ماديًّا وأخلاقيًّا، ليحقّقوا بها غلبًا على العصبيات الأخرى، ويُدركون بها أقصى ما تصبو إليه عصبية وهو الملك.
إن التحليل الخلدوني لا يُسعفنا دائمًا لمعرفة المتغيّرات المختلفة التي تحدّد بشكل مباشر وواضح، إرادة العصبية في الانتقال من الرئاسة إلى الملك، وإن كان يوقفنا بعد جهد، على مختلف المحدّدات الاقتصادية والسياسية والنفسية، التي تحثّ إرادة من يصبح رئيسًا للقبيلة على السعي الحثيث لبلوغ مرتبة الملك.
إن حاجة الإنسان إلى الحكم مسألة طبيعية، حسب ابن خلدون، تُشبه في طبيعتها حاجة الإنسان إلى الغذاء والأمن، وكما أن الإنسان لا يستطيع ضمان الغذاء والأمن إلَّا بالتعاون مع بني جنسه، فإنه لا يستطيع الوصول إلى الملك إلَّا بالغلب، الذي يكون بعصبيته القبلية على عصبيات القبائل الأخرى.
والواقع أنه إذا حصل لفرد التغلّب بعصبيته على العصبيات الأخرى داخل القبيلة، فصار رئيسًا عليها، وصارت تابعة لعصبيته وملتحمة بها، وكأنها عصبية واحدة كبرى، فإنه يسعى إلى التغلّب على أهل عصبيات أخرى بعيدة عنها، فإذا غلبتها عصبيته وجعلتها تابعة لها، التحمت بها كذلك وانضمت قوتها إلى قوتها في التغلّب، وسعت إلى تحقيق غاية أعلى وذلك من أجل التغلّب والتحكّم أكثر[16].
وتواصل العصبية سعيها على هذه الصورة حتى تصبح قوتها مكافئة قوة الدولة. فإذا هي أدركت الدولة في هرمها، ولم تكن هناك عصبية قوية تمانعها، فإنها لا شك تستولى على الحكم، وتنتزعه من يد الدولة، ويصير الملك لها أجمع.
فإذا لم يقارن ذلك هرم الدولة، وصادف حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات، فإن الدولة تنتظمها في أوليائها، لتعزّز بها قوتها أمام العصبيات المناوئة.
ومعنى ذلك أن العصبية الخاصة التي اتّسعت بالغلب والولاء والحلف في معارضتها للدولة قد تصل إلى الملك، وقد لا تصل اليه، إلَّا أنها إذا بلغت قوة كبيرة، فإنها تصل على الأقل إلى الملك بالاستظهار، الذي هو دون الملك بالاستبداد، وفوق الرئاسة العامة بكثير.
فإذا كان صاحب الملك المستبد، أو الملك على الحقيقية حاكمًا تؤهّله سلطته لاستعباد الرعية، وجباية الأموال وبعث البعوث وحماية الثغور، ولا تعلو فوق سلطته سلطة قاهرة، فإن صاحب الملك بالاستظهار، وعلى نقصان ملكه، فإنه يشارك أهل الدولة في الثروة والجاه، فيكون له ولمن تحت سلطته من القبائل الموالية له، قسط في «النعيم والكسب وخصب العيش، والسكون في ظل الدولة إلى الدعة والراحة، والأخذ بمذاهب الملك في المباني والملابس، والاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك»[17].
ولكن هذه الأخلاق السياسية الضروري توفّرها لبلوغ الملك والحفاظ عليه، لا تبلغ بصاحبها درجة الكمال، إلَّا إذا خصّ بالإكرام والخدمة اللازمة أصنافًا معينة من البشر، وعلى رأسهم العلماء والصالحون، والأشراف وأهل الأحساب، يليهم التجار بأصنافهم والغرباء، وحرص على إنزال الناس منازلهم[18]، وخصّ كل صنف منهم بمكانته المناسبة.
ويكون بذلك أن هذا الكمال الأخلاقي يحقّق غايات مختلفة لدى كل من العصبيات المنافسة لصاحب الجاه في جاهه، والعصبيات التي لا حول لها ولا قوة على المنافسة. ذلك أن إكرام المنافسين من أصحاب العصبيات والشرف والجاه، غالبًا ما يمتصّ منافستهم؛ لأن إحاطتهم بالإكرام والإجلال والتقدير يكبر صاحب السلطة في عيونهم وقلوبهم، ويرون في جاهه شيئًا أكثر من جاههم ويقعدهم ذلك على إشهار المعارضة في وجهه، والدخول معه في صراع على الملك، الذي كانوا يرون أنه غير مستحق لصاحب السلطة وحده، بل هو مستحق له ولهم، والصراع عليه هو الفصل بينهم. ولكن إكرامه لهم زاد في جاهه، بقدر ما نقص من جاههم، فقضى على المنافسة، وأمن من خوف الخروج عليه، وانشطار السلطة بينه وبينهم.
أما الذين لا خوف من عصبيتهم ولا جاههم، فإن إكرامهم استثمار في المجد والأخلاق الحميدة، والإقبال على السياسة بالكلية، وبعبارة أخرى فإن إكرام النظراء من الضروريات، أما إكرام أهل الفضائل فمن الكماليات، وكما تتّصل الضروريات بالسياسة الخاصة، فإن الكماليات تتّصل بالسياسة العامة[19].
ثم إن هذه السياسة العامة تتوخّى بإكرام أهل الدين وعلماء الشريعة والتجار والغرباء، إكرام المزايا المرتبطة بشخوصهم وترغيبهم في تسخيرها لخدمة الصالح العام، مثل تقديم قدوة للتقوى والصلاح، ووضع مراسم الشرع، والترغيب في العمل التجاري لانتفاع الناس بذلك، والحفاظ على الأخلاق الحميدة، وتحقيق العدل والإنصاف[20].
والدليل على كمال الأخلاق السياسية بإكرام الصالحين والعلماء والتجار والغرباء، هو أنه إذا ذهبت هذه الأخلاق من أهل العصبية الحاكمة أوشك ملكهم على الزوال.
خاتمة
لم تزد هذه المطالعة عن كونها حاولت الكشف، بالقراءة المتأنية لبعض نصوص المقدّمة، عن العلاقة بين القيم الروحية والسلطة السياسية، التي هي واحدة من العلاقات المعقّدة التي تربط في إطار النظرية التوحيدية، وليدة المناخ الثقافي الإسلامي، بين الإنسان والطبيعة والكون، والتي يجسمها الفكر الخلدوني المتميّز بالشمولية وتعليل الظواهر والكشف عن الارتباطات السببية المختلفة، لا الاجتماعية منها فحسب، بل حتى الطبيعية والنفسية أيضًا، آخذًا بعين الاعتبار ما هو قابل للإدراك من قبل العقل عن طريق الحواس، إذ تشكّل ظواهره عالم الشهادة، وما هو خارج عن المدركات الحسية، إذ تشكّل موجوداته عالم الغيب، فلا تدركه الحواس، ولا يستطيع أن ينكره العقل الإنساني، ولا أن يتصوّره إلَّا بواسطة الوحي.
وعلى هذا الأساس يستحيل أن يقوم أي حاجز بين عالمي الغيب والشهادة، أي بين الدين والأخلاق والطبيعة البشرية والسلطة السياسية وغيرها من الظواهر التي لا تعرف نشأتها ولا تطوّرها التوقّف، ما دامت مستمرة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، والإنسان والإنسان من جهة، والعلاقة بينهما وبين خالقهما من جهة أخرى.
ولم يكن بدعًا من الاستنباط، وفقًا للرؤية الخلدونية، تجاوز العلاقة الصريحة التي بين القيم الأخلاقية والسلطة السياسية إلى الكشف عن علاقات أخرى لا تصرّح بها دائمًا نصوص المقدّمة، كتلك التي بين القيم الاخلاقية وتشكّل العصبية القبلية أو ما في معناها من أشكال التحزّب والالتحام، والتي هي المصدر البارز للسلطة السياسية، بسبب أن الكينونة الطبيعية وحدها لا يمكن أن تشكّل عاملًا محددًا لقوة النسب، المؤهّلة للرياسة العامة أو الملك بالمظاهرة أو الملك بالاستبداد، لأن العلاقة بين العصبية والحكم تبيّن أن شتى الأنساب المشتركة في الطبيعة لم يكن من بينها إلَّا نسب واحد أمكنه أن يتشكّل كقوة، ممّا يدلّ على أن العوامل التي وراء ذلك لم تكن طبيعية ولا نفسية، بل كانت عوامل ثقافية.
وإن لم يعر ابن خلدون عند تعليله لتشكّل العصبية اهتمامًا لذلك، هي هذه العناصر التي أرست قواعدها بصورة قوية عملية التنشئة الاجتماعية عند نسب دون غيره من الأنساب، متمثّلة في الانضباط، واحترام الأعراف، والروح الأسرية، وما تدعو من تضحية وتضامن وتكافل ونكران للذات وغيرها، والتي تجعل نسبًا يثمر الالتحام الأقوى، ويتفوّق به على الأنساب الأخرى، ويفتك الاعتراف به نسبًا له وحده ما يؤهّله لتولي المدافعة عن حقوق القبيلة المادية والمعنوية أو المطالبة بها، اعترافًا تؤكّده القبائل التي التحمت بقبيلة صاحب العصبية بواسطة الحلف أو الولاء.
ولو حاول الباحث أن يستكشف العلاقة بين القيم الروحية وبين ظواهر كثيرة أخرى غير العصبية، لما استحال عليه الوقوف على العديد من المتغيّرات التي تثبت هذه العلاقة، بسبب هذا الارتباط بين عناصر الإنسان والطبيعة والكون، الخاضعة لسنن ثابتة، ضمن وحدة متماسكة شاملة، كما هي، أي كما أراد لها خالقها أن تكون.
[1] انظر: عبدالمجيد مزيان، التوازن بين الفكر الديني والفكر العلمي عند ابن خلدون، في: ابن خلدون والفكر العربي المعاصر، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس: الدار العربية للكتاب، 1980، ص 237.
[2] انظر: المرجع نفسه، ص 236 - 237.
[3] انظر: عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، بيروت: دار الكتب العلمية، 2006، ص 130، قال ابن خلدون: «وأما من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعنًا و أبعد في القفر مجالًا؛ لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر وورود مياهه الملحة والتقلّب فصل الشتاء في نواحيه فرارًا من أذى البرد إلى دفاءة هوائه وطلبًا لمخاض النتاج في رماله، إذ الإبل أصعب الحيوان فصالًا ومخاضًا وأحوجها في ذلك إلى الدفاءة، فاضطروا إلى إبعاد النجعة».
[4] انظر: المرجع نفسه، ص 138، قال ابن خلدون: «والقفر مكان الشظف والسغب، فصار لهم إلفًا وعادة وربيت فيه أجيالهم حتى تمكّنت خلقًا وجبلة، فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم، ولا يأنس بهم أحد من الأجيال. بل لو وجد أحدهم السبيل إلى الفرار من حاله وأمكنه ذلك لما تركه. فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها، و لا تزال بينهم محفوظة».
[5] انظر: المرجع نفسه، ص 130-131 و ص 138-139.
[6] انظر: المرجع نفسه.
[7] انظر: المرجع نفسه، ص 139، قال ابن خلدون: «... فيدعى بنسب هؤلاء ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال».
[8] انظر : المرجع نفسه، ص 141، قال ابن خلدون: «فلا بد في الرياسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم... والساقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبية فيهم بالنسب، إنما هو ملصق لزيق... وذلك لا يوجب له غلب عليهم البتة».
[9] انظر: المرجع نفسه، ص 140، قال ابن خلدون: «وذلك أن الرياسة لا تكون إلَّا بالغلب، والغلب إنما يكون بالعصبية». «ولما كانت الرياسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرياسة لأهلها...».
[10] انظر: المرجع نفسه، قال ابن خلدون: «فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع، ولا تنتقل إلَّا إلى الأقوى من فروعه، لما قلناه من سر الغلب».
[11] انظر: المرجع نفسه، ص 132 - 134.
[12] المرجع نفسه، ص 132، ذلك ما يحصل لأهل البدو إذا تحضَّروا، قال ابن خلدون: «وأهل الحضر لكثرة ما يُعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوَّثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك...».
[13] المرجع نفسه، ص 133 - 134.
[14] المرجع نفسه، ص 134 - 135، قال ابن خلدون: «أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذٍ بأسهم، و نجد (...) الذين يعانون الأحكام من لدن مرباهم في التأديب و التعليم في الصنائع و العلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرًا، ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه».
[15] المرجع نفسه، ص 151. قال ابن خلدون: «وإذا كان الملك غاية للعصبية، فهو غاية لفروعها ومتمماتها، وهي الخلال، لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عريانًا بين الناس». «وأيضًا فإن السياسة و الملك كفالة للخلق، وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم».
[16] انظر: المرجع نفسه، ص 148.
[17] المرجع نفسه، ص 149.
[18] انظر : المرجع نفسه، ص 153.
[19] انظر: المرجع نفسه.
[20] المرجع نفسه. قال ابن خلدون: «فالصالحون للدين والعلماء للجأ إليهم في إقامة مراسم الشريعة، والتجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم، والغرباء من مكارم الأخلاق، وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف وهو العدل».