شعار الموقع

من ضيق التطرف إلى فضاء التعارف

مراد غريبي 2019-05-22
عدد القراءات « 867 »

من ضيق التطرف إلى فضاء التعارف

 

مراد غريبي*

* كاتب وباحث في الفكر الحضاري من الجزائر.

 

 

 

الكتاب: فقه التطرف.

الكاتب: بدر العبري.

الناشر: دار مسعى للنشر والتوزيع - مسقط.

سنة النشر: الطبعة الأولى 2018م.

الصفحات: 176 من القطع الوسط.

 

-1-

من الظواهر العاصفة بعالمنا اليوم هي ظاهرة التطرُّف على أنماطها، هذه الظاهرة التي نجدها في تاريخ كل المجتمعات، حيث تستمد حيويتها من منابع شتى، الأفكار والمعتقدات الدينية والانتماءات الإثنية، وكذا الأيديولوجيات التي تتسم بالعنف والصدام وإلغاء الآخر كليًّا!!

ونظرًا لحساسية هذه الظاهرة كمسألة راهنة تهدّد عمق وعينا كأمة تنتمي إلى دين سمته الأساسية السلام والتسامح والتعايش، وأداته التفاعلية مع الآخر أنَّى كان هذا الآخر تتمثّل في ثقافة الحوار، والتخاطب بلغة العقل والحكمة، والتعامل بالتي هي أحسن.

نحاول من خلال هذه المطالعة تسليط الضوء على كتاب مهم واستراتيجي في مجال التأصيل لعلاقاتنا الجوانية والبرانية، الفردية والاجتماعية والإنسانية، ولعل أهميته تتحدّد في كون مؤلّفه استطاع أن يقعد مسائل حساسة، ويبسط مفهوم جدلي بامتياز من خلال انفتاحه الفكري والثقافي وتخصصه العلمي، وتمكَّن باقتدار أن يبعث برسالة حضارية للقارئ العربي والمسلم والآخر الديني والثقافي.

قبل ولوج آفاق هذا الكتاب المميّز بموضوعه، وأسلوب مؤلّفه المثير للوعي، وإثارة التساؤلات المهمَّة في المطارحة والمناقشة، لا بد من التأكيد أن الأفكار الجدلية بحاجة إلى «شيء من الجرأة المعرفية والجسارة الأدبية»، حيث يتصاعد التساؤل فيما إذا كانت حالة الازدواجية السائدة في مجتمعاتنا بين خطاب مثالي تسمعه وواقع مزرٍ وسيئ تعيشه، والتي قامت بتفعيلها تغيُّرات سوسيوثقافية عميقة ومتعدّدة الأبعاد خلال العقود الماضية وتم دعمها سياسيًّا، ستنتقل إلى حالة انتظام بين الخطاب الثقافي العام وواقع اجتماعي تفرضه المتغيّرات العالمية الجديدة؟

-2-

استهل الأستاذ الباحث بدر العبري كتابه «فقه التطرُّف» بافتتاحية استظهر من خلالها الحالة الازدواجية التي أشرنا إليها، والتي أفضت إلى العديد من الوقفات والمراجعات لتلافي العديد من العلل وأهمها علّة التطرّف والإرهاب، فكان لزامًا التفريق بين النص الإسلامي الواضح والقطعي وبين النصوص المفتوحة والمتشابهة، ليجعل الأول حكمًا على الآخر[1].

وحدَّد الباحث عدّة مرتكزات منهجية رائعة، سوف نلحظ أنه حاول قدر الإمكان الالتزام بها على طول الأقسام، بل أكثر من ذلك وظَّف عدة أسئلة وأمثلة ونماذج لتأكيد ذلك النظام المنهجي الذي خصَّصه لحركية الأفكار في ثنايا الكتاب.

بعد ذلك خلص المؤلّف إلى التعبير عن ماهية هذا الكتاب منهجيًّا على أنه رؤية تحليلية نقدية خاصة في جانب التطرّف وعلاجه، وعلى أنها في الأصل مشروع بسيط ينقسم إلى قسم نظري تأمّلي وآخر تطبيقي، حصل نتيجة حوارات مع فئة من الشباب على شبكة التواصل الفيسبوك، اكتمل بعضها في مؤلّفات طبعت[2] وأخرى تنتظر الطبع، ومنها بحوث فكرية وإسهامات بحثية شارك بها في مؤتمرات بالإضافة إلى ومضات في الفكر.

على ضوء ما تقدّم، قام المؤلّف بلملمة ما يتعلّق بقضية التطرُّف، وما استوحاه من أسئلة الشباب، فكانت في الأصل ثلاثين مقالًا نشرتها أثير العمانية الإلكترونية، مع مقالات فيسبوكية مع ما سبق الإشارة إليه من بحوث ومقالات، هي عصارة ما عايشه خلال السنوات الخمس الأخيرة، اختصرها في عنوان: «فقه التطرف».

واللافت أيضًا في الافتتاحية تذييلها بملحوظة، وكأني بالمؤلّف يدقّق بكل أمانة وصدق وجدية لتنبيه القارئ مسبقًا ببعض الثغرات، حتى لا يستغرق فيها دون التركيز والتفاعل مع الفكرة الأساسية والنواة المركزية، ألا وهي «مقاربة ظاهرة التطرُّف وعلاجها».

هذه أيضًا إرهاصة إضافية للقيمة المنهجية وللماهية الثقافية للكتاب، مما يدفع نفسيًّا وفكريًّا القارئ إلى مطالعة المضمون بروح تشاورية تعمل على تفعيل فلسفة التفكيك والتنسيق المعرفي للفصول، ليس بهدف النقد ولكن بقصد مسؤولية النظر والاجتهاد على الأقل في الإدراك قبل محطة الإسهام في العلاج.

-3-

القسم الأول استهله الباحث بالتأسيس اللغوي، ثم انتقل إلى الاصطلاح القرآني حيث أشار إلى أن مصطلح التطرُّف ورد في القرآن باصطلاح الغلو، ثم عرّج بعجالة على أنماط التطرُّف واستند إلى نسبية التطرُّف التي يقول بها العديد من الناقدين[3] مناقشًا مدى واقعيته، وصولًا لماهية القيم الكبرى التي جاءت لحفظ ذات الإنسان.

وانتهى به المطاف إلى المطلب المقاصدي وفق الضوابط الخمس المعروفة، حيث كانت هذه جولة في رحاب المنطق، تمهيدًا لتأسيس قاعدة كلية مشتركة عبر الإسهاب في القسم الثاني بحلقات نظرية مقاصدية تمهيدية، جاءت متلازمة بوقفات واقعية تستهدف تفكيك علّة التطرُّف وعلاجها من خلال كشف التمويه الازدواجي الحاصل بين الخطاب الديني المثالي والواقع الفردي والاجتماعي المتدهور باستمرار، استثنى من ذلك ضابط حفظ العقل حيث استنطقه مقاصديًّا.

أما الوقفة الواقعية فكانت خاطفة بأسلوب أدبي يختصر راهن العقل في علاقاتنا عامة، على سبيل المثال مع الضابط الأول حفظ الفكر مقاصديًّا يدعمها تطبيقيًّا بوقفات مع مشكلات تكفير المخالف، الإلحاد، توسيع دائرة الولاء والبراء وتكفير القوانين والأنظمة المدنية، الدولة المدنية.

وعلى ذات النسق يواصل المؤلّف مع ضابط حفظ النفس، حيث يعقب بكل جرأة ومعرفة وروح علمية عالية وأخلاق رائعة في قراءة الواقع، وفهم الفوضى العارمة التي زادته تشرذمًا وانحرافًا وضمورًا، حيث عرج على مسائل الجهاد وآيات القتال قرآنيًّا، ووقف بشجاعة على رواية «أمرت أن أقاتل الناس» وقتال الخوارج، وكذا الفكرة الخطيرة التي استوحاها برؤيته التحليلية النقدية التي تتمثّل في تعامل الخطاب التراثي مع النفس من منظور ملّي أو مذهبي خلافًا للخطاب القرآني الذي اعتبر النفس نفسًا بغض النظر عن توجهها أو دينها...[4]

ودواليك مع ضابطي حفظ النسل والعرض وحفظ المال، حيث وفق الأستاذ الباحث بدر العبري في وقفاته من خلال نقد بعض العادات والسلوكيات الاجتماعية والاقتصادية السلبية التي تنافي ماهية الشرع ومقاصده، بل تسيء إليه، وتعطّل قيمه الكبرى.

اللافت للنظر في هذا القسم من الكتاب أن المؤلّف اجتهد في تنزيه الخطاب الديني الصحيح من العنتريات ومن التقليد الذي لا أساس له قرآنيًّا، فحاول تركيز فكرة أن الخطاب الديني لا بد أن ينتهج المقاصد في قراءة الواقع وإصلاحه لا بالوعظيات المثالية التي لا علاقة لها بعمق المشاكل التي يعانيها الإنسان في مجتمعاتنا.

هناك ملاحظة مقاصدية تتّصل بالحرية، لعل المؤلف ضمها في سياق ضابط حفظ الفكر، أو لعلّه قايسه عبر الضوابط الخاصة بالقسم الثالث عند بحث الدين والرأي، وهنا برز لي إشكال ضرورة التحديد للضوابط أنها عامة وهناك ما هو خاص أو جزئي فيها، بالإضافة إلى اعتبارات الشرعية والأهمية.

كما لا نغفل عن إشكال إنكار تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد يعني جدلية الحسن والقبح عقليين أم لا! وهذا كان ضروري بحثه في ضابط حفظ العقل ضمن الجدلية المقاصدية.

لكن هذا كلّه كما سبق وأشرت ليس تعقيبًا أو نقدًا أو انتقاصًا من مضمون المباحث وإنما تثمينًا وتدعيمًا للاجتهاد والتجديد أكثر في هذا المجال، ولهذا الموضوع.

-4-

على خطى حثيثة استمر المؤلّف بالقسم الثالث من كتابه بضبط المفاهيم وفق الضوابط لمفاهيم الرأي والتعدّد والدين والعلاقات بينها، حيث استعرض المدارس الإسلامية بين أهل الرأي وأهل الأثر، وعقب على هذا التقسيم التاريخي غير السليم بأنه تشويه مذهبي، ونبَّه إلى ضرورة التفريق بين قضايا الرأي وقضايا الدين، دفعًا القارئ إلى ضبط فهمه ومقاربة موضوع تعدّد الآراء في فهم الدين.

ركّز الأستاذ الباحث بدر العبري هذه الرؤية التقريبية بعدّة نماذج واقعية، وفي صميم يوميات وثقافة مجتمعاتنا، فمنها ما هو وافد وآخر راكد، لينزل بكل هدوء في رحاب القسم الرابع الذي خصصه للتعايش والتعارف، فتدرّج بكل أريحية في فلسفة التعايش والاختلاف الطبيعي.

والرائع في هذا الفصل استنطاق سلبية التطرُّف من خلال منهج الأضداد، لإثارة وعي القارئ أو الملتبسة عليه المسائل، فمن أبعاد التعايش فتح المؤلّف ملف التعارف قرآنيًّا، واستعرض أبعاده ببراعة، واللافت هي الجزئيات التي استشكلت فيما تقدّم حولها، وأهمية تبيان أنماط المقاصد أو أنماط الضوابط ومنها الخاص والجزئي، فجزئيات التعارف أسست لوعي الأبعاد وكشف المغالطات حول قيمة التعارف التي من محركاتها الأساسية الحوار العلمي والنقد البناء والانفتاح التبليغي.

واختتم المؤلف هذا الفصل بعدة أمثلة للتعايش من التاريخ الإسلامي، ملاحظتي هنا كان الأفضل عنونة تلك الأمثلة بنماذج، ونماذج القسم الثالث بأمثلة، كما أن من محفزات التعارف إضافة نماذج أخرى إلى نماذج وثيقة المدينة والعهدة العمرية ووثيقة الصلت بن مالك كالوثيقة العلوية لمالك الأشتر لما كان واليًا بمصر، وهناك أيضًا نماذج ومؤسسات معاصرة في الشام ومصر والعراق والسلطنة وأوزبكستان وغيرها من البلاد الإسلامية، مما يغني ثقافة التعارف.

آخر قسم خصّه الأستاذ الباحث بدر العبري لأنواع التطرُّف وآثاره الكارثية والتدميرية للذات والاجتماع الإنسانيين، حيث استطرد بتفكيك نوع التطرّف الفكري والثقافي بعد إطلالته المقتضبة على التطرّف الديني، وعرّج على التطرّف السياسي، ثم خلص إلى الآثار المتمثّلة في التعصّب للذات، ضياع الوقت والمعرفة، تزكية النفس والمذهب، البحث في قصاصات الكتب الصفراء (التراث).

-5-

خاتمة الكلام هي زبدة البحث كلّه حيث نستوحي همّة المؤلّف وصدق جدّه واجتهاده ورحابة فكره وسعة صدره وجمال إنسانيته، متسائلًا مع القارئ: إله المذهب أم إله الإنسان؟

كتاب «فقه التطرُّف» للأستاذ الباحث بدر العبري وجدته ذا طرح منهجي رصين عمومًا، ودقة الملاحظات خصوصًا في الوقفات والأسئلة، والإحالات النقدية بروح الإخاء والترشيد الإسلامي، لكن ميزة الكتاب الرئيسة هي التأصيل القرآني، والأفكار الرحبة الصانعة للوعي الإنساني والباعثة للنباهة الحضارية.

فقد وجدت هذا الكتاب مهمًّا في طرحه الفكري لأن مؤلفه تنويري بامتياز، على أمل أن تنقح بعض فصوله بما يتناسب وحيويته، وتأكيدًا لقيمة التعارف ومبادئ القيم الإنسانية الكبرى.

بلا شك أن هندسة التسلسل المنهجي للكتاب من خلال ذلك الكم الهائل من الأفكار التي كانت مبعثرة في ثنايا مؤلّفات وبحوث ومقالات ومشاركات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتلك المدة الزمنية التي راكمت هذه الخميرة المعرفية، والمقاربة الدقيقة للموضوع على أساس حقل من حقول المعرفة الإسلامية الذي يعتبر علم تأصيل الأصول أي مقاصد الشريعة، استطاع الأستاذ العبري وفق خريطتها أن يكامل بين معالم وأعلام وتاريخ ومعارف ومبادئ وغايات ومقاصد، بتنسيق يجعل القارئ يستلهم ثقافة الحوار وقيمة التعارف وعمق التسامح وروح التعايش دون تعسُّف ولا تكلُّف، وإنما بنزعة إنسانية بليغة تعكس الرحمة الإلهية والرحابة الإسلامية، وتغني العقل والقلب ببصائر القرآن، وجماليات الخلق المحمدي العظيم.

هذا الكتاب عكس حقيقة: أنه مع التطرُّف في الفقه والسلوك بشتى أنماطه الدينية – المذهبية، والفكرية الثقافية والسياسية ليس بالإمكان لفقه التطرُّف فحسب، بل لا بد من عدالة متجاوزة لكل النرجسيات في عالمنا العربي والإسلامي لإحياء الاعتدال الفكري والتعارف الحضاري الراسخين في مبادئ الإسلام الصغرى والكبرى.

 

 

 



[1] فقه التطرّف، ص 7.

[2] صدر للمؤلف كتاب بعنوان: القيم الخلقية والإنسان، وقد طبعته دار سؤال - لبنان، وهو يعالج التطرف بالرجوع إلى القيم المشتركة بين البشر جميعًا.

[3] كان يفترض ذكر بعض الناقدين لتوجيه الباحثين إلى سؤال النسبية في ظاهرة التطرف، وهذه الملاحظة تتعلق بمضمون جزئية في الملحوظة التي أوردها المؤلف في افتتاحيته، ذكرتها لغرض استثمارها في تنقيح الطبعة القادمة بإذن الله.

[4] فقه التطرف، ص 59.