شعار الموقع

هل يمكن الحديث اليوم عن الحضارات

إلياس بلكا 2004-10-14
عدد القراءات « 692 »

ترجمة وتعليق: الدكتور إلياس بلكا**
تأليف: جون-كلود  روانو-بوربلان*
يعود مفهوم الحضارة إلى الواجهة مجدداً. لكن - في النهاية - أليس هذا المفهوم مجرد اختصار مناسب لصيرورة معقدة، هي انتقال المجتمعات التقليدية إلى الحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟

عودة المفهوم

لقد برزت كلمة الحضارة من جديد في السنين الأخيرة، رغم أنها لم تكن تستعمل منذ مرحلة التحرر من الاستعمار. ومن المؤكد أن هذه الكلمة ساهمت كثيراً في تسويغ التفوق المفترض للمستعمرين. لكن الأمور تغيرت، خصوصاً في الولايات المتحدة عقب مأساة 11 سبتمبر 2001. فالرئيس جورج بوش هو أحد المواظبين على استعمال مفهوم الحضارة، كما قد نلاحظ ذلك إذا قرأنا خطابه في الأكاديمية العسكرية بـ: ويست بوانت (West Point) في يونيو 2002 بمناسبة الذكرى المائتين لتأسيس هذه المؤسسة المحورية بجهاز القوة الأمريكية.

إن القرن العشرين -يقول بوش- >انتهى بنموذج واحد للتقدم الإنساني استطاع البقاء دون غيره، نموذج قائم على مبادئ ضرورية غير قابلة للنقاش، أي: مراعاة الكرامة الإنسانية، ونظام القانون، والحدّ من سلطة الدولة، واحترام النساء، والملكية الخاصة، وحرية التعبير، والمساواة أمام العدالة، والتسامح الديني<. وإذا كانت الولايات المتحدة لا تستطيع فرض هذه الرؤية، فإنه >بإمكانها دعم ومكافأة الدول التي تقرر الأخذ بخيارات جيدة لشعوبها<. وبالنسبة لرئيس الجهاز التنفيذي الأمريكي: >حين يتعلق الأمر بالحقوق والحاجيات المشتركة لكل رجل وامرأة، فلا وجود لصراع الحضارات. فمبادئ الحرية وضروراتها تنطبق - كلياً وبالقوة نفسها - على إفريقيا، كما على أمريكا اللاتينية، كما على العالم الإسلامي برمته<(1).

إن خطاب جورج بوش يستعمل مفهوم الحضارة وفق معنيين، كلاهما متداول بين القادة الغربيين. أولاً باعتباره مظهراً لقيم التسامح والعقلانية والتربية، والتي تجد أصولها في التطور الأوربي للقرون الأخيرة، لكن أيضاً في رؤية >ذاتية وجوهرية< تعتقد أن من طبيعة الحضارات مقاومة الضغوط، وأن قدرها هو الدخول في صراع (= أطروحة عالم السياسة صمويل هنتنغتون).

لكن هذه الرؤية منتقدة بشدة، إنْ على المستوى السياسي، أو الأكاديمي. ولذلك يؤكد أرمرتيا سين Armartya Sen -الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد- في مرافعة حديثة العهد ومؤثرة ضد مفهوم صراع الحضارات.. أن علينا أن نتساءل: >هل يمكن تقسيم شعوب العالم إلى أنواع متمايزة من الحضارات، بدون علاقات بينها في الزمان والمكان؟ وهل يوجد نوع من الأولوية لصالح مثل هذا التصنيف لسكان العالم، ويكون مقدَّماً على طرق أخرى في التقسيم تعتمد -بالخصوص- على النظام السياسي واللغات والأدب والجنسيات الوطنية والمهن والطبقات الاجتماعية؟<(2).

? من شبنجلر وتوينبي إلى ...

كل القضية توجد هناك، لمن يريد أن يفهم في آن هل من المناسب أن نتحدث عن الحضارات، وثانياً لماذا عاد هذا المصطلح مجدداً إلى الحضور واحتلال الصدارة؟ لأجل هذا ينبغي الرجوع إلى تاريخ التفكير الأكاديمي، لكن أيضاً يجب التساؤل عن العلاقات التي تُنسج داخل المجتمعات المعاصرة بين الاقتصاد والدين والثقافة والسياسة والحداثة.

إن كلمة >حضارة< تعود إلى القرن الثامن عشر، وكانت حينئذ تعبر بالدرجة الأولى عن فكرة التهذيب المرتبطة بالمدينة وبمجتمعات الدولة والمجتمعات المتمدنة، أي باختصار بالثقافة الراقية. لكن في الوقت الذي وضعت فيه أوربا كلمة حضارة، اكتشفت أيضاً >المتوحشين<. لقد بدأت أوربا في وضع جرد للعالم: لثقافاته وحضاراته. واشتهرت - طوال القرن التاسع عشر - فكرة أن تطور الإنسانية يجري على مراحل، وذلك في إطار التحليلات الطبيعية والبيولوجية لنظرية التطور وقياساً عليها(3). لذلك ففي هذا القرن أنضج الفلاسفة/علماء الإناسة(4) -الذين تأثروا كثيراً بعلم الأحياء- مخططاً لتطور البشرية وفق مراحل أساسية ثلاثة: التوحش، والبربرية، والحضارة(5). وظلت هذه الرؤية الدورية حاضرة بقوة في أعمال كثير من مفكري العلوم الاجتماعية طيلة القرن العشرين، على الأقل من خلال الماركسية التي جعلت منها عقيدتها الأساس(6).

ومع نهاية الحرب العالمية الأولى قام المفكر الألماني أوزوالد شبنجلر(7) -وعلى ذات الأساس الفكري- بتدشين نوع من التفكير التشاؤمي .. أسال مداداً كثيراً. لقد قدّر في كتابه >انحطاط الغرب< المنشور سنة 1918 بأن الوحدات التاريخية المناسبة هي الثقافات/الحضارات، وعدَّدَ منها ثمانية أصول تاريخية: المصرية، وبلاد الرافدين أو ما بين النهرين، والهندية، والصينية، والإغريقية - الرومانية القديمة، والمكسيكية، والعربية، والغربية. وبحسب هذا الكاتب ليس للتاريخ الإنساني - على خلاف النظرة التطورية السائدة - اتجاهٌ أو معنىً محددٌ ينتهي بنشأة الحضارة. لقد تأثر شبنجلر بغوته، وبجوهان هردر خاصة(8)، ولذلك دافع عن نسبوية مطلقة بتأكيده على أن الثقافات منغلقة على نفسها وليس لها -تاريخياً- أي تواصل أو تأثر أو تَفهُّم متبادل. ورغم ذلك تبنَّى تلك الاستعارة البيولوجية وطبَّقها لا على التاريخ الإنساني بصفة عامة، بل على الحضارات والثقافات في حد ذاتها، فميز في كل نوع منها بين مرحلة الشباب (الثقافة) ومرحلة الانحطاط (الحضارة)(9). إن الثقافة موسومة بطابع الحركية والتوسع، بينما الحضارة تمثل المرحلة النهائية لطائفة أو تجمع ثقافي، وهي مرحلة التراجع ثم الانكماش، حيث تكثر الحروب بين الدول والحروب الأهلية والحركات الثورية والاعتداءات الخارجية. وكل هذه الظواهر تتركَّب وتولِّد دكتاتوريات إمبريالية أو تولد الانهيار.

ثم جاءت مرحلة ما بين الحربين وشكلت فرصة هامة للتفكير حول الثقافات/الحضارات، وذلك لأسباب تعود إلى الهيمنة الدولية للإمبراطوريات الأوربية، وإلى قلق المثقفين من صراع البقاء أو الموت الذي خاضته أقوى الدول القومية، بعضها ضد بعض، في تلك الفترة.

وبالموازاة مع هذه الأفكار التشاؤمية قام مؤرخ إنكليزي غير متفق مع شبنجلر -وهو أرنولد توينبي(10)- بتأليف كتاب ضخم: التاريخ (في اثني عشر جزءاً ظهرت بين سنتي 1934 و1955). لقد استعاد توينبي التمثيل البيولوجي لحياة الحضارات وموتها، لكنه -على خلاف شبنجلر- بيَّن وجود الأخلاط الهجينة والاقتباسات الدائمة بين مختلف الحضارات(11). إن الحضارات -عند توينبي- تولد وتعيش ثم تموت، لكن للتاريخ البشري -في مجموعه- معنى يتجه به نحو التقدم. وقد كانت أطروحته الكبرى -التي ظلت إلى عهد قريب محل أخذ وردٍّ- هي أن حياة الحضارات تتناغم بدقة مع جوابها على التحديات. فظهور الحضارة -مثلاً- يعود إلى أن أفراداً أو جماعات محدودة يكونون في وضعية صعبة فيبدعون ويقعون على حلول جديدة وأكثر تطوراً. مثال ذلك المغامرة الكبرى -في نهاية العصر الوسيط- للبحارة الإيطاليين والبرتغاليين والأسبان الذين التفوا حول الطرق التقليدية لتجارة التوابل لكي يتحرروا من احتكار التجار العثمانيين، وتجار البندقية وجنوى. إذن فهي الإرادة السياسية لحكام مثل هنري الملاح وكذا شجاعة الربابنة والبحارة وإيمانهم ومعتقداتهم ... هو ما يشكل العامل الحاسم في مغامرة الكشوفات الكبرى ونجاحها. إن المعارف المتراكمة والإرادة العملية -في اقتران مع المقدرة العسكرية للأمم الأوربية- أعطت للتوسع الغربي منذ عصر النهضة تقدماً حاسماً.

?... إلى برودل(12)

وفي المقابل -يقول توينبي- فإن تراجع حضارةٍ ما يكون حين تتكلس النخبة السياسية والاجتماعية وتجمد، وتنشأ دولة >عالمية وشمولية<، غالباً ما تكون إمبريالية (والإحالة دائماً على روما القديمة). فتمنع الطبقة الحاكمة غيرها من طبقات المجتمع من أن تشاركها في الحكم. ثم تدخل هذه الطبقات أو الجماعات -والتي توصف بـ>بروليتاريا الداخل<- في صراع مع النخب السياسية التي أصبحت الآن نخباً محافظة خالصة. بهذا تضعف الدولة العالمية، فتصير فريسة لـ>بروليتاريا الخارج<، أي للشعوب والجماعات البربرية، وكذا للدول المعادية للهيمنة الإمبريالية، والتي تبدأ في شن حروب ضد المركز. ويعتقد توينبي أن الديانات هي المستفيد الأكبر من نشوء الإمبراطوريات الشمولية، وهذا ما يفسر لماذا تتعلق الأديان بفكرة الإمبراطورية، (خاصة الكنيسة الكاثوليكية التي تشكل حالتها أهم أدلة توينبي). وأفكار شبنجلر وتوينبي هذه لم يكن لها إلا أثر علمي ضعيف نسبياً بالمقارنة مع أثرها السياسي والفكري.

وفي فرنسا اهتم أيضاً فرناند برودل - مؤرخ مدرسة الحوليات - بمسألة الثقافات/الحضارات وارثاً بذلك الفكر الأنثروبولوجي والتاريخي. فهو يرفض الرؤى الدورية، لكنه جعل من التأمل في الحضارات جانباً رئيساً من عمله، بما في ذلك مساهمته في تدريسها بالتعليم الثانوي في الستينيات. وتتحدد الحضارة -عند برودل- في آن واحد من جغرافيتها وفضاءاتها، ومن وجود شبكة اقتصادية منسجمة نسبياً، ومن >عقليات جماعية< متقاربة، بل مشتركة (أي منظومة واحدة للقيم السياسية أو القانونية أو الدينية)... ثم إن طول زمان المجتمعات القروية والاعتقادات والعقليات هو الذي يحدد تماسك وانسجام حضارة ما. ويضع برودل الحضارات في أفق عام يترابط فيه الاقتصادي بالسياسي والثقافي. وهو صاحب مفهوم >النسق/العالم< système/monde الذي تبنته اليوم -وإلى حد بعيد- العلوم الاجتماعية، خاصة الأمريكية، والتي تركز على تاريخ حقبة طويلة. وهذا المفهوم أنسب من مفهوم الحضارة(13).

لذلك من الصعب جداً أن نقدم تعريفاً للحضارات، كما وُجدت أو توجد الآن، ما دام المصطلح يستعمل في سياقات ومعان مختلفة. لذلك تتحدث الجمعية الدولية للدراسة المقارنة للحضارات -وهي مؤسسة أكاديمية مرموقة تضم مؤرخين وعلماء إناسة واقتصاديين- عن التيار الرئيس للحضارات(14). وقد انعقد -من قريب- مؤتمرها بـ(سان بترسبورغ) بمناسبة ألفية المدينة، وتحدثوا فيه عن الحضارة الروسية، وكذا عن الحضارة اليهودية، وأيضاً عن >الحضارة العالمية< globale. ويمكن استعمال مبادئ أو موجِّهات سياسية واقتصادية وثقافية ودينية وإبرازها، وذلك لتحقيق تناسب أكثر.. لكن هذا لا يعطينا صورة أوضح. وحتى لو احتفظنا بفكرة وجود طوائف أو مجتمعات ثقافية واسعة ومحتفظة بانسجامها على مدى طويل، فإن أسئلة كثيرة تطرح لأنه ليس من البيِّن لنا كيف يمكن تحديد قواعدها الأساسية التي تحقق تماسكها الداخلي: هل هو الدين؛ أم الاقتصاد -كما يظن برودل-؛ أم هو بالأحرى التنظيم السياسي (إمبراطورية أو نسق دولي) كما نقول اليوم؟ وبالطبع فإن الجوانب الثلاثة تختلط. وهكذا يغدو مفهوم الحضارة صالحاً -نسبياً- حين توجد في الوقت نفسه وفي ذات الفضاء: إمبراطورية، ونسق >اقتصاد - عالم<، ودين ... عناصر تتلاقى كما نفترض في حالة الإمبراطورية الرومانية المتأخرة. إذن تكون هنا الجماعة البشرية جِدُّ متجانسة. لكن هذه الصورة بالذات -وهي وهمية إلى حد بعيد-(15) تقابل ذكرى الأنساق- العوالم، أو المنظومات الثقافية التاريخية الماضية، ولا يشبهها الواقع المعاصر في شيء. ورغم ذلك نستعمل كثيراً تقسيم هنتنغتون(16)، في الغالب بسبب سهولته، إذ بالنسبة إليه يعتبر أوسع مستوى ممكن لتحديد الهوية السياسية هو: حضارة/دين.

? مفهوم غامض

لكن المعيار الديني ليس أكثر وضوحاً من غيره، وإن بدا للبعض سهلاً وبسيطاً. إنه لأمر مشكل جداً أن نتحدث عن حضارة إسلامية أو مسيحية أو كونفوشيوسية، رغم ما يبدو في الظاهر من أن الدين هو المبدأ الوحيد الذي يجمع شعوباً متنوعة سياسياً ولغوياً. فبمجرد أن نتكلم عن حضارة إسلامية أو هندية أو كونفوشيوسية تتعقد الأمور. فمثلاً ليست الكونفوشيوسية ديناً بالمعنى الغربي أو الشرق - أوسطي للكلمة. وفي فضاء الحضارة الصينية -كما في غيره- تتعايش فلسفات وثقافات ومعتقدات دينية كثيرة، تحمل بداخلها مبادئ سياسية وأخلاقية متناقضة. إن احترام الجماعة والتقاليد -وهي أمور يفترض أنها أساس >القيم الآسيوية<- مبدأ تزاحمه فلسفات الفردانية، تماماً كما في الغرب. وكذلك ليس من المناسب اعتبار المعيار الديني في الإرث الثقافي الهندي الضخم، لأن الهندوسية أيضاً ليست ديناً بالمعنى المسيحي للكلمة، بل مجموعة من المعتقدات والأساطير والقواعد الأخلاقية تركبت وتعايشت ضمن منظومة سياسية واجتماعية تأسست تاريخياً على نظام الطبقات(17). أضف إلى ذلك أن المجال التاريخي للحضارة الهندية (الامتداد السياسي والاقتصادي واللغوي والثقافي، وهو متفاوت قوة وضعفاً) أكبر وأوسع مما تسمح جغرافيا الهندوسية بإبرازه في الظاهر. فشبه القارة الهندية -مثلاً-، والتي تضم باكستان وبنغلاديش، مأهولة بما يقرب من أربعمائة مليون مسلم، وهؤلاء جذورهم الثقافية ترجع أيضاً لـ>حضارة< الهند.

ويمكننا أيضاً أن نطرح أسئلة مماثلة بالنسبة إلى موضوع البوذية أو المسيحية. بل إنه لا أحد اليوم يتحدث عن >حضارة مسيحية<، إلا على سبيل السجال أو في التوجه السياسي نحو أقصى اليمين، وهذا أمر له دلالته. وبالمقابل يُحتفظ -في الغالب- بمصطلح الحضارة >الغربية<، وهو يتضمن إلى جانب المظاهر والتقاليد الدينية مميزات وخصائص أخرى كالتقليد -أو الإرث- العلمي والقانوني، وكذلك التقليد الديموقراطي والفرداني. فهنا أيضاً -كما بالنسبة للصين أو الهند أو النطاق الإسلامي- من العبث أن نبحث عن إرث موحد. ومن الواجب أن نلاحظ أنه في كل مكان -كما بأوربا- توجد أوضاع وحالات تصارعت فيها -بكل قوة- نماذج تاريخية وفلسفية مختلفة، بعضها يتأسس على الفردانية والحداثة، والبعض الآخر ينبني على احترام التقاليد والجماعة. ولذلك ينبغي أن نتحدث عما هو أكثر من الحضارة وأبعد: عن منظومة (ثقافية واقتصادية وسياسية)، وعن صور وأوضاع متنوعة الأقطاب وذات حدود متحركة، وكل ذلك يحتوي على عـوامل الصراع إلى جنب عوامل التوحد، كما يوضح ذلك -مثلاً- وبشكل مثير العداوات اليابانية-الكورية، أو الباكستانية-الهندية.. أي بين بلدان تقع ضمن >الحضارة< الواحدة نفسها(18).

إذن فمحاولة تعريف الحضارات بطريقة بسيطة ونهائية هي محاولة فاشلة، رغم الوهم الذي تحدثه الصور التاريخية الكبرى التي اخترعها علماء الإناسة ككارل ماركس وشبنجلر وتوينبي وبرودل وغيرهم كثير. إذ لا يمكننا أن نطابق على مدى زمني طويل بين التنظيم والتقليد السياسيين، والأشكال الثقافية والفنية والفكرية والرمزية والدينية، والبنية والشبكات الاقتصادية، كيفما كانت المجالات الثقافية والسياسية. وأقصى ما يمكن تقديره هو أنه يوجد عدد محدود من المراكز التي ظلت حية منذ انتقال البشرية إلى >الـ<حضارة في آخر العصر الحجري، هذه ثمانية أو عشرة آلاف سنة (من الترحل إلى الاستقرار، ثم التمدن، فنشوء الدول والأديان الإمبراطورية الكبرى).

ويمكن أن نحدد بالنسبة للقارة الأوروآسيوية -وهي الفضاء الأهم لتحول النشاط الإنساني فوق الأرض- ثلاث مناطق في الحضارة: الصين القارية والساحلية؛ وشمال شبه القارة الهندية؛ والمنظومة الأورو-متوسطية (بما في ذلك: بلاد الرافدين ومصر)، والتي يسميها اليوم المؤرخون وعلماء السياسة الأمريكيون: >المنظومة المركزية<، لأنها نثرت بذورها على الأرض حتى صارت -ربما- رحم >الحضارة الكلية أو العالمية< التي تتحدث عنها جمعية الدراسة المقارنة للحضارات.

? ثقافة وحداثة

لكن يبدو للمتأمل -عن قرب- في هذه المجالات الحضارية الثلاثة أنها أقل انفصالاً بعضها عن بعض مما يبدو في الظاهر. أولاً، لأن وحدة الحضارة واستمرارها أمر يعود -كما بيَّن ذلك برودل- إلى تماثل أنشطة الإنتاج والبنية الاجتماعية للمجتمعات الزراعية. إضافة إلى أن المواطن الثلاثة للحضارة كانت دائماً مترابطة فيما بينها، تتبادل التأثير والتأثر، بدرجات تتفاوت في الشدة والضعف، وذلك بسبب اجتياحات المحاربين الرحل القادمين من السهوب والتي كانوا يقومون بها باستمرار ضد فضاءات الحضارة الثلاثة، وكذا بسبب الحركة التجارية (طريق الحرير أو التوابل)، و -بالطبع- أيضاً بسبب التوسع الأوربي منذ خمسة قرون.

وهذه القضية الأخيرة -أي التدخل والهيمنة الأوربيين- هي أكثر ما يثير الجدل منذ قرنين. فما هي المحركات الأولى لهذا التفوق، الذي أعيد تسميته بـ:الغربي منذ أن غدت أمريكا رأس هذه القوة المهيمنة؟ يرى الرأي العام العالمي -خلافاً لما يؤكده هنتنغتون مثلاً- أننا نشهد منذ حوالي ثلاثين سنة انبعاثاً للهويات، كما في يوغسلافيا والشيشان .. إلخ، وفي نفس الوقت نشهد تشكل ثقافة كونية. ولا يمكننا بدءاً من هذا التاريخ أن نفكر في المستقبل الثقافي للمجتمعات إلا في إطار التصارع بين هذين الاتجاهين(19). وهذا ما يذكرنا به عالم السياسة بيير هاسنر Pierre Hassener: >يبدو أن الظاهرة الأوسع انتشاراً -على المستوى العالمي- تكمن في جدل العولمة والتجزئة، وهي الظاهرة المرتبطة بالحداثة. فتحتَ تأثير التقدم التقني -بالدرجة الأولى- يجد الفرد نفسه وكأنه قد انتزع من بين مرجعياته العائلية والقومية والثقافية والدينية، ثم تُرك وحده وبلا حماية فريسة لقساوة التنافس في عالم شديد التعقيد ودائم التغير لا يستجيب لحاجيات الفرد من الاستقرار أو معنى الوجود<(20)(21).

إذن فالذي يتسبب في التطاحنات السياسية والصراعات ليس هو روحاً دينية أو ثقافية مفترضة، بل هو العلاقة التي تُنشئها المجتمعات مع الحداثة. واليوم فإن ثمة إجماعاً واسعاً حول هذا التصور الذي قام بإغنائه عالم السياسة الألماني دييتر سينغاس Dieter Senghass -عضو معهد الدراسات الدولية الثقافية المقارنة ببريم-(22)، حيث درس -واحدةً واحدة- الفلسفات السياسية المتضمنة في التقاليد الدينية الكبرى، وبيّن أنها جميعاً -وإن بشكل مختلف- قادرة على تأمين المرور إلى الحداثة. هذه الحداثة التي ابتدأت بأوربا، منذ بضعة قرون، والتي تنتشر في كل مكان، ليس على شكل استيراد خالص للقيم الثقافية الأوربية، بل هي تنتشر في إطار من تحول المجتمعات الزراعية التي تتأسس على هذه الأنساق الفلسفية -الدينية الكبرى (الحارسة لنظام كوني وأرضي موحَّد تهدده باستمرار الأوبئة والغزوات المعادية وغيرها من الآفات)... إلى مجتمعات حضرية وفردانية لم تعد تشغلها مشكلات العيش في شروطه الدنيا(23).

إن التجديد الكبير في الانتقال إلى الحداثة في كل الفضاءات التقليدية للحضارات يكمن -بالنسبة لسينغاس- في تسييس الثقافي، و>تثقيف< السياسي. بمعنى آخر، الجديد هو استدعاء الديانات والهويات الثقافية في الصراعات السياسية، سواء كانت مؤيدة للحداثة أو ضدها، تماماً كما حدث ذلك في أوربا أثناء فترة التحول في القرون الماضية. ويصدق هذا بالخصوص على العالم الثالث منذ مرحلة زوال الاستعمار وفشل مشاريع التحديث ذات المرجعيات القومية أو الاشتراكية. وباختصار فإن سينغاس يعتقد أنه في هذا العهد القريب دخلت الثقافة -بمعناها العام- في الشأن السياسي بسبب تراكم الإحباطات، الشيء الذي قوَّى الشكوك حول مشروع التنمية في زمن ما بعد الاستعمار والذي قادته النخب الوطنية. إذن توجد أسباب موضوعية (وليس فقط دعائية) وراء انتشار >مشروع تنموي اجتماعي< جديد في بلدان كثيرة يقوم على أساس القيم الثقافية والدينية. لذلك لا يستطيع التحليل وفق مصطلحات الحضارات أن يكشف عن التحولات الاجتماعية والسياسية، خصوصاً في المرحلة المعاصرة. ففي عالم أصبح حضرياً مدينياً، وحيث نشهد تقارباً واضحاً في القيم وأنماط السلوك، فإنه يبدو من الصعب جداً أن ندافع عن فكرة ثبات الثقافات. بل إننا نشهد اليوم شيئاً أكثر من >صراع الحضارات<، وهذا منذ عدة عقود (بل منذ قرون كثيرة، في حالة أوربا)، أعني نشهد عملية تحديث مسَّت كل المجتمعات ما قبل الحداثية أو كل الجماعات المقهورة. ففي أكثر المجتمعات في العالم، يؤدي التطور الاقتصادي والتمدن وتعميم التعليم إلى توترات شديدة العنف وصراعات سياسية بين التقليديين والحداثيين، تتحول أحياناً إلى حرب أهلية (الجزائر)، أو تؤدي إلى دعم النماذج السياسية الاستبدادية القادرة على الاحتفاظ بتوازن مؤقت (تركيا، والصين ..).

وإذا كان لا شيء يوجب اتِّباع >الوصفات< الغربية لحل مشكلة التحدي المشترك للحداثة، فإنه بالمقابل من المفيد للجميع أن ينكب كل واحد على استلهام التراث السياسي والفلسفي الخاص به، بغية بناء طريق للانتقال إلى الحداثة يأخذ بعين الاعتبار المطامح نحو تحقيق الفردانية وتوفير الأمن الشخصي ضد التعسف وغيره من نتائج الحداثة.

 

الهوامش:

?* Jean - Claude Ruano - Borbalan  باحث في التاريخ وكاتب في المجلة الشهرية الفرنسية: علوم إنسانية Sciences Humaines . وهذا المقال منشور في العدد 143 من هذه المجلة، نوفمبر 2003، ص 20.

** أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بفاس - ظهر المهراز، المغرب. وله ترجمات ومقالات منشورة وكتب مطبوعة.

(1) يقول المؤلف: راجع الخطاب بموقع الإنترنت: www. Monde - diplomatique. fr/cahier/irak.

(2) المؤلف: أ.سين: >الهوية والصراع: هل يوجد صدام للحضارات؟< ضمن العمل المشترك - بالفرنسية- الذي أشرف عليه ج.فونتنيل J.Fontanel: >الحضارات، والعولمة، والحرب. خطاب الاقتصاديين<. المطابع الجامعية لغرونوبل، 2003.

(3) يقول المترجم: حين نشأت العلوم الإنسانية الغربية في القرن التاسع عشر جعلت من العلوم التجريبية مثالها الذي يحتذى وحاولت تقليدها في كل شيء. انظر في سلبيات هذا التقليد: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، لمحمد أمزيان، ص 162 فما بعدها. بيت الحكمة، جدة، ط 3، 1996. وقد قام العالم الألماني ديلثي (المتوفى سنة 1911) بنقد هام لهذا الاحتذاء في كتابه: مدخل إلى العلوم الإنسانية... وغيره. انظر مقالة Dilthey في الموسوعة الكونية - بالفرنسية - 7/496، طبعة باريس 1996. وفي إطار إقامة هذا التوازي بين التجريبيات والإنسانيات احتلت نظرية التطور الداروينية أهمية استثنائية، وذلك حين بدأ بعض علماء الاجتماع والتاريخ يرون التطور الخطي في كل شيء، من الطبيعة إلى التاريخ.

راجع في الموسوعة السابقة مقالة التطورية: 141/9، évolutionnisme culturel et social. وانظر بالخصوص كتاب رابوبور: فلسفة التاريخ باعتباره علم التطور، المنشور سنة 1907 بالفرنسية.

(4) المترجم: علماء الإناسة أو الأنثروبولوجيون.

(5) المترجم: وهي بالفرنسية: sauvagerie, barbarie, civilisation

(6) المترجم: ذلك لأن الماركسية ترى أن البشرية تمر دائماً بمراحل محددة قبل بلوغ الطور الأرقى: مجتمع بدائي، فزراعي، فصناعي، فاشتراكي، فشيوعي.

(7) المترجم: شبنجلر فيلسوف ألماني توفي بميونخ سنة 1936، وهو المنظِّر الرئيس للتاريخانية. من كتبه الأخرى: الإنسان والتقنية. البروسية والاشتراكية ...

(8) المترجم: هردر كاتب وفيلسوف ألماني توفي سنة 1803. أثر في غوته وفي التيار الأدبي ما قبل الرومانسي Sturm und drang. وكان بدوره تلميذاً لكانت، لكنه اختلف معه، خاصة في تصوره للتاريخ، حيث كان هردر يرى أن التاريخ هو دراسة لنماذج مختلفة للحضارات الإنسانية: لآدابها ولغاتها وثقافاتها.. وهذا ما بينه في كتابيه: أفكار حول فلسفة التاريخ البشري، ورسائل في تقدم الإنسانية.

(9) المترجم: لعله يمكن عقد مقارنة بين هذا التفكير وبين الفكر الخلدوني. بل إن ابن خلدون سبق إلى تشبيه مراحل الدولة بعمر الإنسان، وأنها تنشأ ثم تشتد ثم تشيخ. انظر >المقدمة< بصفة عامة، وخصوصاً الفصول الآتية: فصل في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها. فصل في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم. فصل في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص. فصل في أطوار الدولة واختلاف أحوالها. فصل في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع. فصل في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده... وفي تفكير ابن خلدون - كما هو واضح- شيء من التشاؤم حول مآل الحضارة.

(10) المترجم: أ.توينبي مؤرخ بريطاني توفي سنة 1975، درَّس بلندن. وقد ميز في كتابه الضخم بين إحدى وعشرين حضارة، وكان من رأيه أنه ليس من المحتم أن كل حضارة تؤول إلى الانحطاط.

(11) المؤلف: أ. توينبي: التاريخ، طبعة 1972. الترجمة الفرنسية سنة 1978. طبعة أخرى سنة 1996، بايوت.

(12) المترجم: توفي المؤرخ الفرنسي برودل سنة 1985، وكانت له مساهمة هامة في مدرسة الحوليات وفي التاريخ الاجتماعي، كما دافع عن فكرة وحدة العلوم الإنسانية، وحاول هو نفسه تطبيق بعض نتائج الجغرافيا والاقتصاد في البحث التاريخي. من كتبه: كتابات في التاريخ. التاريخ الاجتماعي والاقتصادي...

(13) المؤلف: ر.دينمارك (كتاب مشترك، بالإنجليزية): >تاريخ النسق/العالم: العلم الاجتماعي للتغير طويل المدى<، روتلدج، 2000.

(14) المؤلف: انظر الموقع بالإنترنت: WWW. Iscsc. net

(15) المؤلف: انظر: أ.شيابون A.Schiavone : >التاريخ المنكسر. روما القديمة والغرب الحديث<، دار بلان، 2003 (بالفرنسية).

(16) المؤلف: ص. هنتنغتون: صدام الحضارات. طبع أوديل جاكوب، 1997، بفرنسا.

(17) المترجم: يقال: الهندوسية غابة من الاعتقادات. انظر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب، لجفري بارندر، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. سلسلة عالم المعرفة، الكويت.

(18) المترجم: يمكن أن ندرج هنا أيضاً الصراعات القائمة -والماضية- داخل الغرب نفسه، كالحربين العالميتين، والخلاف الأمريكي-الأوربي المتنامي والذي يسير -كما يبدو- نحو الطلاق شبه النهائي، وكذا الجدل الأخير حول الهوية الأوربية وهل يُنص في الدستور الأوربي على مسيحية الاتحاد. وإذا أدرجنا روسيا ضمن ما يسمى بـ>الغرب< انضافت جبهة داخلية أخرى للصراع... في الطور الشيوعي الماضي، وفي المستقبل احتمالاً.

(19) المترجم: من أهم الانعكاسات السياسية لهذا التناقض إضعاف >الدولة الوطنية< إلى حد كبير، حيث أصبحت سلطتها تتوزع بين وحدات تنظيمية أكبر (كالاتحاد الأوربي، والنافتا ...) وبين وحدات إقليمية أو جهوية أصغر .. انظر كتاب بول كيندي: >الاستعداد للقرن الحادي والعشرين<، الفصل السادس. الطبعة الفرنسية لسنة 1994 عن أوديل جاكوب. أو راجع عرضاً موسعاً لهذا الكتاب قدمتُه لمجلة المنعطف المغربية، عدد 11، 1995.

(20) المؤلف: مقال ب. هاسنر: >أطروحة صدام الحضارات رؤية خاطئة لمستقبل البشرية<، ضمن العمل المشترك الذي أشرف عليه س.كورديليي- بالفرنسية - بعنوان: ثمانون فكرة هامة للدخول في القرن الحادي والعشرين. دار لاديكوفيرت، 1999.

(21) المترجم: أدت ظاهرة انتزاع الإنسان من محيطه التقليدي والرمي به في عالم فرداني ومعولم.. إلى رجوع قسم هام من البشرية المعاصرة إلى اعتقاداتها القديمة على اختلاف أنواعها، وهو رجوع يحير المراقبين الذين يحاولون فهمه. وقد تعرضت لهذا الموضوع في كتابي: >مقدمة في التنجيم وحكمه في الإسلام<، صدر عن مؤسسة الرسالة، بيروت، 2003. وكتبت عنه أيضاً مقالة: >ظاهرة العصر: صعود اللاعقلانية<، بمجلة الفيصل السعودية، عدد يونيو 2003. وراجع في أثر التغير السريع الذي يعرفه العصر على الفرد: كتاب ألفن توفلر: صدمة المستقبل.

(22) المؤلف: د. سينغاس: الصدام داخل الحضارات. دار روتلدج، 2001. بالإنجليزية.

(23) المترجم: من الإشكالات الكبيرة اليوم: العلاقة بين الحداثة والتغريب، وما هي الحدود الفاصلة بينهما، إن وجدت. ولعلّه من المفيد هنا الاطلاع على كتاب الاقتصادي الفرنسي سيرج لاتوش: تغريب العالم، وقد ترجم إلى العربية.