شعار الموقع

قراءة فكر ابن خلدون إبداعياً

نور الدين الفيلالي 2019-05-27
عدد القراءات « 1055 »

قراءة فكر ابن خلدون إبداعيًّا

 

الدكتور نورالدين الفيلالي*

* أستاذ باحث من المغرب، البريد الإلكتروني: elfilali_nour@yahoo.fr

 

 

 

شغل فكر ابن خلدون العديد من الدارسين العرب على مدى القرن الماضي، وقُدّمت حوله دراسات أكاديمية، وندوات وبحوث، والأكثر من هذا نجد قراءات إبداعية قُدّمت حول فكر ابن خلدون، عبر بعض الإنتاجات الإبداعية التي تناولت حياته، وسعت إلى تقديم صورة عن فكره، ومن بين هذه الإبداعات سنقف في هذه الورقة عند رواية «العلّامة» للراوئي المغربي بنسالم حمّيش.

وبالعودة إلى حياة ابن خلدون وسيرته، نجدها من أكثر السير احتفاء من بين سير الشخصيات التراثية، بحكم شهرته الواسعة، وتوزع حياته بين المغرب والمشرق، فرغم أنه كتب سيرة حياته بنفسه في كتابه «التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً»، نجد العديد من الكتب التي تناولت حياته وعصره وفكره[1]، زيادة على الدراسات التي قدمت حول فكرة العمران أو فكره عموماً، خاصة في «المقدمة».

إن وقوفنا عند هذه المعطيات السابقة يدفعنا إلى طرح تساؤلات حول الجانب المعرفي، والجانب الجمالي، والجانب الفكري في رواية «العلاّمة»، فالأكيد أن الرواية عموماً تشكل «موضوعاً للمعرفة ووسيلة من وسائلها الرئيسية بالنظر إلى ما يزخر به خطابها من معطيات مستقاة من حقول معرفية عديدة»[2].

فهل الأمر يتعلق في رواية «العلامة» بتقديم معرفة تاريخية واجتماعية وسياسية حول حياة ابن خلدون والأحداث التي عايشها؟

إذا كان الأمر كذلك فإن كتب التاريخ، و «رحلة ابن خلدون»، والكتب المعاصرة التي تناولت حياة ابن خلدون وعصره، تفيد أكثر في هذا المجال، لذلك يمكن القول: إن الجانب المعرفي التاريخي في «العلاّمة» يتخذ مجرد أرضية للانطلاق نحو التخييل الروائي، ونحو تقديم بناء روائي جديد، وكذلك، وهذا هو الأهم، نحو تقديم رؤية نقدية لحياة ابن خلدون، ومحاورة أفكاره، ومساءلة آرائه الفلسفية ومواقفه السياسية.

فالروائي بنسالم حميش درس الفلسفة، وخبر فكر ابن خلدون وفلسفته، لذلك فهو يسعى في هذا العمل الروائي، وزيادة على إضاءة الجوانب المعتمة في سيرة ابن خلدون، إلى النبش في تراثه الفكري والفلسفي، عبر مختلف إنتاجاته (المقدمة، تاريخ ابن خلدون، شفاء السائل...)، والبحث في نفسية الرجل وهواجسه وميولاته باعتباره إنساناً أولاً وأخيراً، يتأثر بتغيرات عصره وبيئته، يقول حميش في هذا الصدد: «حتى لا يظن أني أضع ابن خلدون في مقام العصمة والتنزيه، أنبه إلى أني في كل كتاباتي عنه، لم أتوانَ في رصد ما رأيته عنه في باب التقصير النظري والخلط العلمي، عملاً بوصيته في المقدمة لذوي النيات الحسنة: [وإن فاتني شيء من إحصائه (علم العمران) واشتبهت بغيره مسائله فللناظر..]»[3].

من هذا المنطلق يمكن اعتبار رواية «العلاّمة» كذلك كتاباً لبنسالم حميش حول ابن خلدون، يتناول حياته وفكره وفلسفته، لكن وقوفنا عند بعض الفقرات الواردة في نص «العلاّمة»، تجعلنا نشعر وكأننا أمام كتاب لابن خلدون فيما لو قدر له أن يعيش إلى هذا العصر، فبنسالم حميش يضمن متن رواية «العلاّمة» ما سكت عنه ابن خلدون، ويراجع أفكاره، ويحاورها، ويجعله يتراجع عن بعضها، ويضيف إلى أخرى، ولنتأمل هذه الأقوال التي جاءت على لسان ابن خلدون في «العلاّمة»:

- «سجل عني يا حمو ما لم يتيسر لي قوله في نصوصي السابقة»[4].

- «قد ذكرت كل ذلك في مقدمتي، وفصلت القول، ولا أبغي اليوم إلَّا التذييل عليه بشذرات مرارتي حيال سير الزمان لغير صالحنا»[5].

- «لعلي اليوم أقول مستدركاً...»[6].

-1-
توظيف آراء ابن خلدون وأفكاره ومواقفه

ونورد فيها الأقوال والأفكار والمواقف التي استعملت ووظفت في الرواية كما وردت عند ابن خلدون.

أ- أقوال ابن خلدون:

«في أن العلماء من بين البشر أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها»[7].

وهو عنوان فصل من فصول «مقدمة بن خلدون»، يأتي في الرواية في سياق حديث ابن خلدون عن خلاصة تجربته الفاشلة في أمور السياسة، والأمر نفسه ينطبق على النص الموالي: «الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والملاذ النفسانية، فيقع فيه التنافس غالباً وقلَّ أن يسلمه أحد لصاحبه إلَّا إذا غلب عليه»[8].

إن أقوال ابن خلدون المأخوذة من المقدمة، والتي ترد في نص رواية «العلاّمة» على سبيل الاستشهاد كثيرة، يمكن أن نضيف بعضها للتمثيل:

- «البيت والشرف بالأصالة والحقيقة لأهل العصبية ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه»[9].

كما ترد نصوص من «تاريخ لابن خلدون»، مثل، «ويكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجه ومن غير وجه، فتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له»[10].

ب- مواقف ابن خلدون:

حيث يعرض الروائي جملة من المواقف التي أثبتها ابن خلدون في مقدمته، فيوظفها في التعليق على أحداث الرواية أو في حديث ابن خلدون مع كاتبه حمو الحيحي، مثل:

- موقف ابن خلدون من الحكايات العجيبة: مثل حكاية كرم ملك الهند محمد شاه بن تغلق نحو رعيته[11]، إذ يعقب ابن خلدون بعد سؤال حمو عن موقفه من مثل هذه الحكايات بقوله: «حققت فيها وفاوضت، فرأيتها إلى الاحتمال أقرب وعن الإنكار أبعد»[12].

وهو ما يتلاءم مع موقف ابن خلدون الداعي إلى تمحيص الحكايات المؤثثة لكتب التاريخ والرحلات، وعرضها على العقل، لكنه مع ذلك وقف من هذه الحكاية موقفاً متردداً، إذ يقول في «المقدمة»: «ولقيت أيامئذٍ وزير السلطان فارس بن وردان البعيد الصيت، ففاوضته في هذا الشأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرجل (ابن بطوطة)، لما استفاض في الناس من تكذيبه، فقال الوزير إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره»[13].

- الموقف من العلماء والفقهاء والقضاة السائرين في دواليب الدولة: إذ يأتي هذا الموقف على لسان السارد: «لم يكن عبد الرحمن متمرساً بأفانين السعايات والكيد ولا ذا باع في أساليب التآمر والنصب... ولو فعل هذا وذاك –لا قدر الله- لكان واحداً من فقهاء الظلام وقضاة الجور وسماسرة السوء وغيرهم من الذئاب والثعالب الذين تعج بهم دواليب الدولة»[14].

ثم يأتي الحديث عن المؤرخين لوحدهم على لسان ابن خلدون: «سجل، حياك الله، أن حكمي على المؤرخين ليس بالجملة أو على وجه الإطلاق، بل أخص به اللاصقين بركاب الدولة كالغراء، سماسرة الأخبار والإشاعات عبدة رنين الدينار، وأمكنة البذخ واللمعان»[15].

تتعدد المواقف التي يتعرض فيها ابن خلدون للعلماء والفقهاء والمؤرخين، خاصة ذوي المصالح الخاصة المتملقين لذوي السلطان، وهي مواقف بثها الروائي على لسان ابن خلدون ليؤكد زهده في المناصب رغم كثرة تقلبه فيها.

-2-
محاورة أفكار ابن خلدون

تتم في هذا المستوى محاورة أفكار ابن خلدون وبعض مواقفه المبثوثة في كتبه، ونذكر منها:

أ- أسباب انتشار المذهب المالكي في المغرب الإسلامي

حيث يتعرض ابن خلدون (الشخصية الروائية) عقب إنهاء درس له في المدرسة البرقوقية لأسئلة مستفزة من قبل طالبين، ومما جاء في كلامهما سؤالان أحدهما عن أسباب تفرق المذاهب، جاء فيه: «إذا كانت الحقيقة في كلام الله ورسالاته واحدة، فكيف يعقل أن يذهب فيها الأئمة كل مذهب ويتأولوها بطرق متعارضة متنافرة»[16].

أما السؤال الثاني فقد كان حول أسباب انتشار المذهب المالكي بالمغرب والأندلس، وجاء في كلام صاحبه: «فسرت، يا أستاذ، نجاح المالكية في المغرب الإسلامي بعاملين: أن الحج إلى مكة، المرفق بمزار إلى المدينة مسقط رأس مالك ومهد المالكية، كان في نظرك يتيح لأهل المغرب والأندلس الاحتكاك الحي والمباشر بالفقه المالكي...، ثم أبرزت التقارب بين أشكال الحياة في كل من الحجاز والمغرب... سؤالي: هل هناك من عامل آخر أعمق وأصدق؟»[17].

فيجيبه ابن خلدون بأن هناك عاملاً آخر يتمثل في «المكانة التي يخصصها مالك في فقهه لمفهومي العمل والعرف، وكذلك وبالأخص في معارضته الصريحة للمزابنة في علاقات البيع والشراء»[18].

إلَّا أن الطالبين لم يقتنعا برأيه، فقاطعه أحدهما بقوله: «قد تكثر الدعاوي وتتعدد، وتنشط الأحاديث المنحولة في تمجيد مالك وتتمدد، ولكن الحقيقة في انتشار المالكية في المغرب الإسلامي إنما تعود إلى تحكم السلطان لا غير، كما أظهر علامة ذلك القطر، العارف بشعابه، ابن حزم القرطبي»[19].

إن هذه المواقف سبق وأن تعرض لها بنسالم حميش في دراسته حول ابن خلدون، وهي بعنوان «الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ»، وناقش القضية بتفصيل وهو العارف بخبايا المذاهب والفرق الإسلامية، وقد استطاع في هذا الموقف الروائي أن يحول القضية من سياقها الفكري إلى سياق روائي ضمنه حوار ابن خلدون مع طالب من طلابه.

كما أن رأيه بخصوص انتشار المذهب المالكي مذكور في مقدمته: «وأما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم إلَّا أنهم لم يقلدوا غيره إلَّا في القليل؛ لما أن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز... فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة، وشيخهم يومئذٍ وإمامهم... وأيضاً فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس... فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة»[20].

لكن ما يهمنا في هذا المقام هو التقنية التي صرف من خلالها السارد هذه المعطيات المبثوثة في «مقدمة ابن خلدون»، حيث حاور فكرة ابن خلدون وموقفه من انتشار المذهب المالكي عن طريق اختلاق شخصيات روائية، تتولى أمر مساءلة شخصية ابن خلدون، بدل إلقاء حكم مباشر من السارد.

ب- رأي ابن خلدون في كتاب «الأغاني»

فمن المؤكد أن ابن خلدون تحدث في مقدمته عن كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني وامتدحه كثيراً[21]، وفي امتداد للحوار السابق الذكر في نص الرواية بين ابن خلدون والطالبين، يقرأ أحدهما كلام ابن خلدون حول كتاب «الأغاني»، ويعلق عليه: «انتهى نص كلامك يا أستاذ في مدح مصنف كله فحش ومنكر، مدح يسقط عنك أحقية التعليم بل القضاء»[22].

فيصرفهما ابن خلدون ويعدهما أن يخصص درساً حول «الأغاني» يوضح فيه المقصود من كلامه.

ج- موقف ابن خلدون من «الكنازة»

فقد تحدث في «المقدمة» عن هؤلاء «الكنازة» باعة الأوهام والطلسمات، ومحترفي أفانين السحر للبحث عن الكنوز تحت الأرض، لكن أحداث الرواية تجعل ابن خلدون في مواجهة بعض هؤلاء «الكنازة» من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي، وبعد مرور أسبوع على حواره معهم، وانتقاده اللاذع لأسلوب عيشهم، تلقى ابن خلدون ورقة جاء فيها: «من الطلبة الكنازة إلى أستاذنا العلامة، تصفنا، سامحك الله، بأفدح النعوت ليس أمرها عجزنا عن المعاش الطبيعي، لكن دلنا فقط على حيلة نطوي بها عجزنا وأنت القائل: «إن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً لأهل الخضوع والتملق» و«إن القائمين بأمور الدين من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب»، وأنت القائل: «إن الفلاحة من معاش المتضعين وأهل العافية من البدو» وغير ذلك، وعليه، يا أستاذنا المبجل، فإن تعذر المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب هو ما يدفعنا، بالذات، إلى استيهام الاغتناء واللهث وراء المستحيلات، حتى لو أوقعنا ذلك في شتى أنواع المتاعب والعقوبات»[23].

وواضح دقة هذه المحاورة وجرأتها من الروائي بنسالم حميش على لسان الطلبة «الكنازة»، حيث لم يقتصر الأمر على مناقشة آراء ابن خلدون، وإنما جعلها تتحاور فيما بينها وتتصادم وتتعارض، وهو ما يشكل بداية مراجعة الروائي وانتقاده لبعض أفكار ابن خلدون.

-3-
مراجعة آراء ابن خلدون وأفكاره

يتعرض الروائي بنسالم حميش في نص روايته «العلاّمة» لبعض مواقف ابن خلدون التاريخية بالنقد والمراجعة والتصحيح، ومما يزيد من جمالية هذا الأمر أن هذه المواقف تقدم على لسان شخصية ابن خلدون نفسها، وتجعله يتراجع عن بعض الآراء والمواقف التي صدرت عنه في لحظات سيطرت فيها العاطفة على العقل.

ويسمي ابن خلدون (الشخصية الروائية) هذا المحور من إملاءاته بباب المثالب، ويعرض فيه جملة من المواقف، يفتتحها بإشارات وعبارات تخفف من وطأة الذنب: «وسجل أني ابن عهدي على أي حال، رغم أن لي في التملص والقفز استطاعة، ابن عهدي، أي ابن حسناته، وهي لسوء الحظ قليلة، وابن مثالبه، وهي لسوء الطالع كثيرة، نظراً لتفكك العهد وضعف منحناه»[24].

وتتوزع مثالب ابن خلدون هذه بين ما هو سياسي، وما هو ديني، وما هو تاريخي، كما أنها تشمل مواقف وآراء وردت بالمقدمة، وأخرى بتاريخ ابن خلدون، وثالثة بكتابه «شفاء السائل»، ومن هذه الآراء والمواقف الخلدونية التي طرحت للمراجعة والاستنطاق:

أ- دفاع ابن خلدون عن الخلفاء العباسين

إذ يقول في معرض إملاءاته على كاتبه حمو الحيحي: «ففي باب المثالب الذي أخصص الإملاء فيه، كم تركت العاطفة تتلف عقلي، وتعمي بصيرتي، أمام الواقع، وهكذا أطنبت في الدفاع عن خلفاء عباسيين ضد تهم تعاطي الخمر والتهتك والفسق، وكان الأحرى بي أن أسكت أو أفوض الحكم إلى الله الأعلم»[25].

فالروائي هنا يتعرض بالنقد والمراجعة، على لسان شخصية ابن خلدون، لموقف عبر عنه ابن خلدون في «المقدمة»، يدافع فيه عن هارون الرشيد أمام اتهامات بعض رجال الدين له:

«وأما ما تموه به الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر، واقتران سكره بسكر الندمان، فحاش لله ما علمنا عليه من سوء، وأين هذا من حال الرشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة...»[26].

ولم يكتف ابن خلدون في مقدمته بهذا الدفاع، بل إنه يستفيض في إيجاد المبررات لإبعاد الشبهات عن الرشيد، ليصل إلى حد التمييز بين أنواع الخمور، وتحليل بعض المذاهب لشرب بعض أنواعها: «وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاويهم فيها معروفة، فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرما من أكبر الكبائر عند أهل الملة»[27].

ب- موقف ابن خلدون من المسيحية

فمن المواقف التي يقف عندها بنسالم حميش في روايته «العلاّمة» موقف ابن خلدون في مقدمته من الفرق المسيحية، حيث يتهمها بالكفر، وذلك في الفصل الثالث والثلاثين من الباب الثالث (فصل في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية واسم الكوهن عند اليهود)، فيقول متحدثاً عن مذاهب النصرانية: «فهي على الجملة معروفة وكلها كفر كما صرح القرآن الكريم، لم يبق بيننا وبينهم في ذلك جدال ولا استدلال، إنما هو الإسلام أو الجزية أو القتل»[28].

فهذا الموقف تتراجع عنه شخصية ابن خلدون الروائية، في حديثها مع حمو الحيحي، بل إن الروائي يجعل ابن خلدون يتمنى حذف كلامه هذا: «تكلمت في اختلافات الفرق المسيحية حول وضع المسيح (عليه السلام)، وحكمت فيها وكأنني أنتمي إلى إسلام الفجر والفتوحات، وليس إلى عصر تلاشي الأندلس بفعل المد المسيحي الكاسح، ففي مقطع من مقدمتي –أتمنى حذفه- أرمي تلك الفرق كلها بالكفر، وأقول بالحرف: «لم يبق بيننا وبينهم في ذلك جدال ولا استدلال، إنما هو الإسلام أو الجزية أو القتل» كلام في غير محله ولا وقته يا حمو»[29].

ج- موقف ابن خلدون من مفهومه لعصبية النسب

من المعروف أن مفهوم العصبية يشكل محور الكتابة التاريخية في «تاريخ ابن خلدون»، لكن ابن خلدون في هذا الموقف الروائي، يحد من طغيان هذا المفهوم على أفكاره، فيقول: «من مواضع سهوي وكبوي الأخرى يا حمو أني تعبدت بعصبية النسب، رافعاً مفهومها إلى سدة المفاهيم الطاغية، فأرتني أشياء، وحجبت عني أخرى»[30].

إذ جعله تعصبه لهذا المفهوم ينعت بعض الثوار وأصحاب التمردات غير الموفقة «بأفدح الأوصاف القادحة المسفهة»، حيث أصبح ابن خلدون في هذا الموقف، مثل باقي المؤرخين يقف في كفة المتغلب الأقوى يؤرخ له، ويغفل كفة المغلوب ومن لا تؤيده عصبية من الثوار والمتمردين.

د- موقف ابن خلدون من التصوف في كتابه «شفاء السائل»

وهو الموقف الأكثر إثارة للجدل، لجملة من الاعتبارات: أولها نسبة كتاب «شفاء السائل» إلى ابن خلدون التي شكك فيها بعض الدارسين، وثانيهما سكوت ابن خلدون نفسه عن ذكر هذا الكتاب ضمن مؤلفاته، خاصة في رحلته التي أشار فيها إلى كل صغيرة وكبيرة عن مؤلفاته، وثالثها أن نص الفتوى التي أفتاها ابن خلدون في كتابه هذا حول بعض كتب المتصوفة، لا ترد في كل النسخ التي نشرت لكتاب «شفاء السائل»[31]، وإنما نجدها في النسخة التي حققها محمد بن تاويت الطنجي ونشرها بتركيا، وجاء فيها: «وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة، وما يوجد من نسخها بأيدي الناس، مثل الفصوص والفتوحات لابن العربي، والبد لابن سبعين، وخلع النعلين لابن قسي، فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها متى وجدت بالتحريق بالنار، والغسل بالماء، حتى يمحى أثر الكتابة، لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين، بمحو العقائد المختلة، فيتعين على ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعاً للمفسدة، ويتعين على من كانت عنده التمكين منها للإحراق»[32].

ويقف الروائي بنسالم حميش من هذه الفتوى موقفاً مخالفاً لبعض دارسي ابن خلدون، إذ يرى فيها سبباً لسكوت العلامة عن ذكر هذا الكتاب «شفاء السائل»، كما يستنطق شخصية ابن خلدون في الرواية ليتراجع عن فتواه هذه، فيقول لكاتبه حمو: «أما ذنبي البليغ فقد اقترفته في بعض كلامي عن صوفية أبرار، لذا يحق لمن يقول إن رسالتي «شفاء السائل» عمل فج هزيل، محكوم باستجابة لدعوة سياسية إلى مناهضة فشو التصوف الشعبي والزوايا...»[33].

فالمراجعة والانتقاد هنا يأتيان على لسان شخصية ابن خلدون، لكنهما في الواقع من قناعات الروائي بنسالم حميش حول بعض مواقف ابن خلدون، إذ يقول حميش بعد دراسته لكتاب «شفاء السائل» في موضع آخر: «ختاماً، قد لا نخطئ الصواب إن اعتبرنا شفاء السائل عملاً فتيًّا محكوماً باستجابة لدعوة سياسية صريحة أو خفية إلى مناهضة فشو التصوف الشعبي والزوايا»[34].

بل إن حميش يذهب إلى أبعد من هذا حين يدعو على لسان شخصية ابن خلدون إلى تطبيق حكم الفتوى السابق الذكر على الفتوى نفسها: «ولا رجاء لي اليوم إلَّا أن يقدم كل قارئ لهذه الفتوى على تحريقها أو غسلها بالماء حتى يمحو أثرها ويريحني من إثمها»[35].

وكأننا أمام اعتراف من شخصية ابن خلدون بصدق ما ذهب إليه حميش في دراسته لكتاب «شفاء السائل»، وهو ما يؤشر على مسألة التماهي والتداخل بين شخصيتي ابن خلدون وبنسالم حميش في رواية العلامة كما سنرى.

4- التماهي والتداخل بين ابن خلدون وبنسالم حميش

نلمس هذا التماهي والتداخل عبر جل مقاطع الرواية، لكن يمكن الإشارة إلى بعض ملامحه البارزة من خلال مظهرين:

الأول: يتمثل في تضمين أقوال ابن خلدون في الرواية لمقاطع من كتابات بنسالم حميش، وهي كثيرة نمثل لها بحديثه عن الطاعون الأكبر الذي أصاب تونس وأدى إلى وفاة والد ابن خلدون وبعض شيوخه، فقد أورد ابن خلدون هذه الحادثة، وفسرها في رحلته، وفي المقدمة وفي تاريخه، كما درس هذه الظاهرة بنسالم حميش في «الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ»، لكن الأمر يختلط في رواية «العلاّمة»، حيث تمتزج آراء ابن خلدون في كتاباته السابقة مع دراسة بنسالم حميش لتقدم لنا فسيفساء من النصوص والأفكار والآراء، لا نكاد نميز ما يعود منها لابن خلدون مما يعود لبنسالم حميش، ونكتفي بهذين المقطعين من «العلاّمة» و«الخلدونية»: «وبحسب علمي، ليس هناك أي سجل لمواصفات طبية أو إجراءات قانونية رسمية، هدفها التصدي لمضاعفات الوباء على الناس والحفاظ على توازن حيوي في البلاد، وسببه أن الدول في المغرب، وأظنها كذلك في المشرق، خلاف لدول الإفرنجة، عاجزة عن التدخل لرصد الوباء والعمل على وقف فشوه خصوصاً إن وافق طور هرمها وتلاشيها...»[36].

فهذا النص جاء على لسان شخصية ابن خلدون في حديثها مع حمو الحيحي، ولنتأمل النص الوارد في «الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ»: «حسب علمنا، ليس في كتاباتنا ووثائقنا أي سجل مواصفات طبية أو إجراءات قانونية يكون هدفها التصدي لمضاعفات الوباء الاجتماعية والاقتصادية، والحفاظ على توازن حيوي في البلاد، فهل لأن الدول المغاربية، خلافا للدول الأوروبية وحتى للجارة الإسبانية، كانت عاجزة عن التدخل لوقف انتشار الوباء، نظراً لأنه، كما يسجل ابن خلدون، لا يتفشى إلَّا في طور هرم الدولة ودخولها مرحلة الهدم والتلاشي»[37].

فالملاحظ هنا أن بنسالم حميش يعتمد في دراسته لوباء الطاعون على بعض آراء ابن خلدون، ثم يأتي في رواية «العلاّمة»، ويُنطق شخصيةَ ابن خلدون بكلام حول وباء الطاعون جانب منه هو من آراء ابن خلدون نفسه، وجانب آخر يمثل آراء بنسالم حميش وما توصل إليه في دراسته للظاهرة، وهو ما يجعل مسألة الفصل بين آراء ابن خلدون وآراء حميش في متن الرواية أمراً صعباً، نظراً لدرجة التماهي بين أفكار الروائي وأفكار شخصية روايته، وقد شغل أمر الطاعون هذا أربع صفحات من رواية العلامة، وثلاث صفحات من «الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ» متداخلة فيما بينها.

الثاني: يتمثل في صوغ الروائي لبعض المقاطع في روايته هي من نسيج وأسلوب الكتابات الخلدونية، مثل هذه النماذج:

- «السياسة يا حمو أمانة وتفويض، ولا مجرى لها إلَّا بين تضاريس المحاسبة والتوضيح، فليس لأحد الحق في امتلاك أركانها قصد تحويل المذكِّر إلى مسيطر، أو باسم استخلاف إلهي وما شابه، وإلَّا فستبقى دواوين التاريخ مفتوحة على أخبار التسلط والتحكم»[38].

واضح أن الكلام موجه لانتقاد السياسة المعاصرة، وقد جاء الروائي بهذا الكلام على لسان ابن خلدون لينتقد راهن السياسة، وبذلك تتحقق راهنية الرواية من خلال إسقاط الخطاب الخلدوني على قضايا معاصرة، والأمر نفسه ينطبق على المثال الموالي:

- «أعمدة السلب النخر –مع تفاوت في الدرجة- هي دوماً نفسها: سلطان يستبد أو يهون، يحوطه أرباب السيوف والأقلام، ويدور في فلكه ملاك العقار والسلع والقطعان، وهكذا دواليك من دولة إلى أخرى»[39].

 

 

 

 



[1] مثلاً: - محمد عبد الله عنان، ابن خلدون: حياته وتراثه الفكري، القاهرة: مكتبة دار الكتب والوثائق القومية، ط4، 2006.

- عبد الغني مغربي، ابن خلدون، حياته وأعماله، الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1974.

- عبد الواحد وافي، عبد الرحمن بن خلدون، حياته وآثاره ومظاهر عبقريته، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975.

[2] الأمين العمراني، الرواية المغربية بين قيود التأثر ومغامرة التجريب، طنجة: مطبعة ألطوبريس، ط1، 2003.

[3] بنسالم حميش، التراكم السلبي والعلم النافع: عن قراء ابن خلدون، المغرب: أفريقيا الشرق، ط1، 2001، ص 54.

[4] بنسالم حميش، العلامة، ص 91.

[5] بنسالم حميش، العلامة، ص 58.

[6] بنسالم حميش، العلامة، ص 58.

[7] بنسالم حميش، العلامة، ص 46. وكذا: ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج3، ص 1220.

[8] بنسالم حميش، العلامة، ص 46، وكذا: ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج2، ص 514.

[9] بنسالم حميش، العلامة، ص 48، و ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج2، ص 488.

[10] بنسالم حميش، العلامة، ص 58، و ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، ج1، ص 379.

[11] انظر نص الحكاية في: بنسالم حميش، العلامة، ص: 39-40، وفي: ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج2، ص: 552/553.

[12] بنسالم حميش، العلامة، ص 40.

[13] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج2، ص 553.

[14] بنسالم حميش، العلامة، ص 9.

[15] بنسالم حميش، العلامة، ص 54.

[16] بنسالم حميش، العلامة، ص 78.

[17] بنسالم حميش، العلامة، ص 78

[18] بنسالم حميش، العلامة، ص 78.

[19] بنسالم حميش، العلامة، ص 78-79.

[20] ابن خلدون مقدمة ابن خلدون، ج3، ص 954.

[21] انظر: ابن خلدون مقدمة ابن خلدون، ج3، ص 1140.

[22] بنسالم حميش، العلامة، ص 79.

[23] بنسالم حميش، العلامة، ص: 82، والنصوص الثلاثة الموضوعة بين المزدوجتين مأخوذة من: ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون الصفحات: 844 و848 و849 على التوالي.

[24] بنسالم حميش، العلامة، ص 41.

[25] بنسالم حميش، العلامة، ص41.

[26] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج1، ص 304.

[27] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص 306.

[28] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج2، ص 633.

[29] بنسالم حميش، العلامة، ص 41-42.

[30] بنسالم حميش، العلامة، ص 42.

[31] انظر مثلاً: أبو يعرب المرزوقي، شفاء السائل لتهذيب المسائل: دراسة تحليلية للعلاقة بين السلطان الروحي والسلطان السياسي، الدار العربية للكتاب، 1991.

[32] ابن خلدون، شفاء السائل لتهذيب المسائل، تحقيق: ابن تاويت الطنجي، إسطانبول 1958، وبنسالم حميش، الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ، بيروت: دار الطليعة، ط1، 1998، ص 29. ورواية العلامة، ص 43.

[33] بنسالم حميش، العلامة، ص 42.

[34] بنسالم حميش، الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ، ص 29.

[35] بنسالم حميش، العلامة، ص 42.

[36] بنسالم حميش، العلامة، ص 91.

[37] بنسالم حميش، الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ، ص 64.

[38] بنسالم حميش، العلامة، ص 65.

[39] بنسالم حميش، العلامة، ص 67.