فقه التعايش
غير المسلمين في المجتمع الإسلامي: حقوقهم وواجباتهم
محمد تهامي ذكير
الكاتب: روح الله شريعتي.
ترجمة: علي آل دهر الجزائري.
الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي – بيروت.
الصفحات:432 من القطع الوسط.
سنة النشر: الطبعة الأولى 2010م.
* لماذا الحديث عن حقوق الأقليات الآن؟
كتب الكثير عن حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية في العقود الأخيرة، كما نظمت ندوات ومؤتمرات ناقشت بحوثها ودراساتها مجمل ما يتعلق بالوضع القانوني والحقوقي والإنساني لغير المسلمين داخل المجتمعات والدول المسلمة، وخصوصاً أهل الكتاب (اليهود والنصارى)، وكيف أنهم تمتعوا بوضع قانوني واجتماعي وحقوقي لائق ومحترم إلى حد كبير على طول التاريخ العربي والإسلامي، حيث نعموا بالاحترام لدينهم ومقدساتهم، وعاشوا بأمان في كنف الدول المسلمة وبين المسلمين، باستثناء حالات فردية نادرة وشاذة لا يقاس عليها.
والسبب في ذلك يعود للتشريع الإسلامي الذي خصهم دون غيرهم من المخالفين (الكفار) بمنظومة من التشريعات القانونية والأخلاقية، جعلتهم لا يتعايشون مع المسلمين فقط، بل يساهمون في بناء الحضارة العربية والإسلامية، جنباً إلى جنب مع المسلمين، وقد اشتهر عدد منهم في الحضارة الإسلامية كأطباء وعلماء ومفكرين وفلاسفة، وكانوا مقربين من دوائر السلطة واستُعين بهم في أكثر من مجال.
كما كتب الكثير عن الإشكاليات التي طرحت مؤخراً مع التطور الذي حصل في بنية الدولة وفي الفكر السياسي على وجه الخصوص، وظهور الدولة القطرية القومية والعلمانية، في المشرق العربي، و الحديث عن الدولة المدنية والمواطنة وحقوق الإنسان. حيث طالب عدد من المفكرين –من المسيحيين العرب على وجه الخصوص- بإعادة النظر في التشريعات الإسلامية الخاصة بالأقليات الدينية، وكذلك تطوير الخطاب الديني – الإسلامي المتوجِّه لغير المسلمين في المجتمعات المسلمة.
وأهم قضية طرحت للنقاش وكَثُر حولها الجدل مفهوم الذمة ومصطلح الجزية، الذي انتقد البعض تداوله، طالبوا بضرورة تجاوزه في أي خطاب دعوي أو فكري أو قانوني إسلامي يتعلق بالتعامل والتعاطي مع أهل الكتاب اليوم من اليهود والنصارى أو المسيحيين.
وهذه القضايا التي شغلت الفكر العربي والإسلامي في بدايات القرن الماضي وخلاله، كادت تُنسى وتخفت وتتوارى عن ساحات الفكر مع تجاوزها على أرض الواقع عمليًّا، فأغلب الدول العربية والإسلامية اليوم لها دساتير وضعية – علمانية، وكثير من المفاهيم السياسية والتشريعية المرتبطة بالدولة الدينية - الإسلامية قد اختفت، ومن يعيش داخل هذه الدول الإسلامية المعاصرة من غير المسلمين هم مواطنون يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة مع احترام خصوصياتهم الدينية والثقافية المعترف بها قانونيًّا كذلك.
لكن صعود الإسلام السياسي -كما يصفه البعض- ووصول الإسلاميين إلى سدة الحكم والسلطة في عدد من الدول العربية والإسلامية، والمطالبات بتحكيم الشريعة والعودة إلى اعتبارها المصدرالأول للتشريع وسن القوانين في الدول الإسلامية، من جهة، وما صدر عن بعض الحركات السلفية – القتالية (الجهادية؟) من جهة أخرى، التي أعادت إلى التداول مفاهيم الجهاد والغزو ومقاتلة الكفار وعلى رأسهم اليهود والنصارى، ودفع الجزية.. إلخ، وما واكب ذلك من اعتداءات على كنائس ودور عبادة لأهل الكتاب، حيث دمرت وخطف وقتل وهجر الكثير من المسيحيين في كل من العراق وسورية ومصر وتونس وليبيا ونيجيريا.
كما انتُهك الكثير من حقوق المسيحيين في هذه الدول، ما دفعهم إلى الهجرة إلى الغرب، بعدما عاشوا آلاف السنين بين المسلمين في وئام وسلام وتعايش تام، وفي إطار منظومة من الحقوق والواجبات والأعراف الأخلاقية، خلفيتها نصوص قرآنية ونبوية حثَّت على احترام أهل الكتاب وضرورة التعامل معهم برفق ورحمة لأنهم في ذمة الله ورسوله، كما حذَّرت من أي اعتداء عليهم أو على رموزهم ومقدساتهم الدينية.
هذا الوضع الجديد -وخصوصاً بعد الحراك الشعبي العربي والإسلامي أو الثورات العربية أو الربيع العربي كما يصفه الإعلام الغربي؟!!- جعل موضوع حقوق الأقليات الدينية يطرح من جديد للنقاش والجدل، للتعرف على الموقف الصحيح للإسلام من غير المسلمين الذين يعيشون في الدول الإسلامية كمواطنين يحملون جنسية البلدان التي يقطنون فيها لآلاف السنين، وما هي حقوقهم القانونية وواجباتهم، وهل سيطرأ أي تغيير على وضعهم إذا ما سيطر الإسلاميون على الحكم وبدؤوا في تطبيق الشريعة؟
من هنا تظهر أهمية هذا الكتاب الذي سنحاول -في عجالة– تسليط الضوء على أهم ما ورد فيه بخصوص حقوق غير المسلمين في المجتمع الاسلامي، أو فقه التعايش كما سماه المؤلف.
وهل تنسجم هذه الحقوق كما أقرها الفقهاء القدامى وما يحدث من انتهاكات لحقوقهم اليوم باسم الجهاد أو الدعوة أو مشروع إقامة الخلافة الإسلامية؟
تظهر هذا الأهمية ابتداء في العنوان (فقه التعايش) على غرار فقه الدولة والفقه السياسي وفقه البيئة، وهي مصطلحات جديدة بدأت تظهر في الكتابات الفقهية المعاصرة، وتدل على أن العقل الاجتهادي الإسلامي بدأ يعالج قضايا جديدة ويضيفها إلى أبواب الفقه التقليدي، سواء في إطار تأصيل اجتهادي جديد لقضايا معاصرة ونوازل جديدة لم يتناولها الفقه القديم، أو قضايا قديمة لكن المعطيات الجديدة فرضت على العقل الاجتهادي المعاصرأن يخصص لها باباً فقهيًّا يجمع فيه متفرقاتها ويضيف عليها، بحيث يتمكن من خلال فتح باب الاجتهاد فيها وانطلاقاً من المعطيات المعاصرة أن يقدم رؤية إسلامية – اجتهادية جديدة تجيب عن أسئلة الواقع وتعالج إشكالياته وتقدم رؤية الإسلام أو نظريته في هذا المجال.
وهذا ما ينطبق تماماً على هذا الكتاب، فهو فعلاً يقدم نظرية إسلامية – فقهية متكاملة، في موضوع الوضع القانوني وحقوق وواجبات غيرالمسلمين داخل الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، سواء أكانوا من أهل الكتاب (يهود، نصارى، زراديشتيين..) أو أصحاب ملل وأديان غير سماوية أو حتى لا دينيين، ممَّن يُفضِّل العيش والإقامة الدائمة أو المؤقتة في الدولة المسلمة.
لكن ما يثير في هذا العنوان ويتطلب منا الإشارة إليه، هو استخدامه لمصطلح (التعايش)، وهو من المصطلحات الحديثة والمعاصرة التي وردت في الكتابات الحقوقية والمواثيق الدولية، والتي جاءت لتؤطر -على المستوى الحقوقي والاجتماعي- التعدديات الإثنية والدينية والمذهبية داخل الدولة (المدنية – العلمانية) المعاصرة لنزع فتيل أي صراع أو احتراب بين هذه المكونات.
وبالتالي فالمقصود (بفقه التعايش) التأصيل الفقهي لمفهوم التعايش والعيش المشترك بين المكونات الاجتماعية – الدينية داخل المجتمع الإسلامي، وفي هذا المجال فالمؤلف لم ينطلق من فراغ، وإنما وجد منظومة كبيرة وشبه متكاملة من النصوص والفتاواى والآراء الاجتهادية والقواعد الفقهية والمواقف لكبار العلماء والفقهاء، تصب كلها في كشف الرؤية الاسلامية تجاه عيش وإقامة غير المسلمين داخل الدولة والمجتمع الإسلاميين من حيث الحقوق والواجبات وأسس التعامل الاجتماعي والأخلاقي معهم، بحيث يتحقق السلم الاجتماعي ومقاصد الشريعة العليا في تحقيق كمال الفرد والمجتمع بنشر الحق والعدالة الإلهية في الأرض.
لكن هذه المنظومة في حاجة إلى إعادة النظر الاجتهادي في بعض المفاهيم والمصطلحات، بناء على المعطيات الواقعية الجديدة وكذلك التطور الحاصل في مفهوم الدولة المعاصرة وأسس التعاقد الاجتماعي، وحقوق المواطن، وبالتالي فالمطلوب من الفقه الإسلامي أن يواكب العصر وأن يُولي المعطيات المعاصرة الاهتمام المطلوب، كي نخرج الفقه الإسلامي والرؤية الإسلامية تجاه القضايا المعاصرة من دائرة الاستهداف والنقد نتيجة الجمود أو الضبابية التي تلفّ الموقف الاجتهادي المعاصر من عدد من القضايا.
في هذا الكتاب نحن أمام منهج فقهي – فكري يستعرض أقوال وآراء كبار الفقهاء القدامى وخصوصاً فقهاء الشيعة الإمامية، في كل ما يتعلق بحقوق غير المسلمين داخل الدولة والمجتمع الاسلاميين..، يناقش ويحلل ثم يوازن ويرجّح، مع الاستحضار والالتفات إلى أقوال واجتهادات الفقهاء المعاصرين كذلك، لأنهم أقدر على مقاربة الموضوع من خلال المعطيات الجديدة.
والخلاصة التي توصّل إليها المؤلف يمكن تلمسها في العنوان (فقه التعايش)، فالإسلام في نهاية المطاف هدفه التعايش والسلم والأمن الاجتماعي. والتشريعات التي وضعها هدفها تحقيق هذا التعايش الإنساني العام، والبعد عن أي تحارب وصدام وصراع وتنازع يدمر الاجتماع الإنساني.. وهذا واضح جلي في نصوص الوحي التي أشارت إلى أن الاختلاف سنة كونية، وأن الاختلاف الديني والمذهبي والعرقي واقع وسيستمر، وأن يوم القيامة هو يوم الفصل بين الجميع.
يقول عز من قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ..}[1].
وقوله أيضاً: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[2].
طبعاً لا يمكن استعراض كل ما جاء في الكتاب من منقاشات ومعالجات تفصيلية لأمهات القضايا في هذا الموضوع، وإنما سنقدم للقارئ بعض النماذج الكاشفة عن طبيعة المعالجة الفقهية – الاجتهادية وأهم ما توصل إليه المؤلف، من خلال أربعة أقسام وملاحق، تناول فيها الكثير من العناوين والمواضيع.
فقد تحدث بالتفصيل عن التصنيفات المختلفة لغير المسلمين في كتب الفقه الإسلامي، وأصول العلاقة مع غير المسلمين سواء بالنسبة للدولة أو الأفراد والمجتمع المسلم، ثم تحدث بالتفصيل عن حقوق أهل الكتاب وحقوق غير أهل الكتاب وحقوق المقيمين مؤقتاً.
كذلك تحدث مفصلاً عن اتفاقيات الحكومة الإسلامية مع غير المسلمين، وطبيعة عقد الذمة أو التجنيس، والفرق بين عقد الأمان أو العهد والميثاق.
تحدث المؤلف كذلك بالتفصيل عن جرائم غير المسلمين داخل الدولة الإسلامية وعقوباتها، وأخيراً خصص المؤلف الملحق للحديث عن كيفية تعامل المسلمين مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، والضوابط الشرعية والأخلاقية الحاكمة لهذه العلاقة.
وبشكل عام فنحن أمام سفر أو موسوعة مختصرة وجامعة لكل ما يتعلق بالموقف الإسلامي – الفقهي من موضوع وضع وحقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، مع المناقشة والتحليل وإعادة النظر الاجتهادي في الكثير من القضايا المختلف فيها أو التي تعاني من التباس أو سوء فهم لدى غير المسلمين من مفكرين وحقوقيين.
وفيما يلي سنسلط الضوء باختصار على أهم القضايا التي تناولها المؤلف مثل: عقد الذمة والجزية والحقوق المترتبة على هذا العقد. وكذلك سنستعرض بعض ما توصل إليه المؤلف من نتائج مع الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب، فالاختصار لا يغني عن التفصيل، كما لا يغني الفرع عن الرجوع إلى الأصل.
* عقد الذمة أو التجنيس
في الفقه الإسلامي يعتبر «عقد الذمة» معاهدة أو ميثاقاً شرعيًّا بين الحاكم المسلم وغير المسلمين، يضمن به غير المسلم والكتابي على وجه الخصوص (اليهودي والمسيحي والزراديشتي) العيش والإقامة الدائمة في الدولة الإسلامية وفي المجتمع المسلم، كمواطن له حقوق وعليه واجبات يحددها عقد الذمة بالإضافة إلى التشريعات الأخرى المعمول بها في الدولة المسلمة. وقد وقع التباس لدى بعض الكتّاب والحقوقيين عندما نظروا بسلبية لمصطلح (الذمة)؛ لذلك خصص المؤلف فصلاً لتوضيح مفهوم (الذمة) وماهيته وأهدافه والشروط الموضوعية لهذا العقد والميثاق في نظر الفقهاء المسلمين وفقهاء الشيعة على وجه الخصوص...
فالذمة والذمم تأتي بمعنى العهد والأمان، وفي المنجد: أنت في ذمة الله أي في كنفه وجواره. وعليه فإن أهل الذمة هم الأقلية الدينية غير المسلمة التي أعطيت لها حقوق داخل الدولة المسلمة (حق الإقامة الدائمة والبقاء على دينها وحماية مقدساتها) بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله، فهم مواطنون في حماية الدولة بمقتضى ميثاق وعهد قانوني، كما يقع تماماً مع المسلمين إذا ما اختاروا الإقامة الدائمة أو المؤقتة في بلد غير إسلامي.
فهناك قوانين ومواثيق حقوقية تنظم تلك الإقامة. وقد وقعت إشكالية حقوقية قبل سنوات عندما فُرض على المسلمين المجندين في الجيش الأمريكي المشاركة في غزو العراق، على اعتبار أن من شروط الجنسية التجنيد والمشاركة في الدفاع عن الدولة التي منحته الجنسية (وسنرى لاحقاً أن من مسقطات الجزية المشاركة إلى جانب المسلمين في الحرب من طرف أهل الذمي).
وعليه، فالدولة الإسلامية باعتبارها دولة دينية تقوم على أساس الاحتكام للشريعة، لذلك يأتي عقد الذمة والأمان لينظم الوضع القانوني والحقوقي لهذه الأقليات، كي لا تتعرض لأي إجحاف أو ظلم أو تفرض عليها قوانين مخالفة لشريعتها، وخصوصاً في مجال الأحوال الشخصية.
ويرى المؤلف أن مفهوم (الذمة) يختلف بعض الشيء عن معنى المواطنة المعاصر، ولكن يمكن اعتبار المواطنة الاصطلاح الحديث لمفهوم (الذمة) من حيث ضمان الحقوق والواجبات، وسبب وجوده هو وجود دولة دينية أغلبية شعبها يعتنقون الدين الإسلامي مع وجود أقليات فضَّلت البقاء على دينها مع الإقامة في هذه الدولة. فعقد الذمة هنا ميثاق قانوني يُشرعن هذا الوجود وينظم العلاقة بين الأقلية والأغلبية الدينية، وبموجب هذا العقد تتعهد الأقلية الدينية (أهل الكتاب من اليهود والنصارى والزراديشتيين) باحترام دين الأكثرية وقوانين الدولة المعمول بها، وفي المقابل تتعهد الدولة والحكومة الإسلامية بضمان حقوق المواطنة لمن اختار الإقامة الدائمة في ربوعها وخصوصاً الحقوق الدينة وكل ما يتعلق بها.
وقد تحدث المؤلف بالتفصيل عن التمييز الموجود في الفقه الإسلامي بين عقد الذمة مع أهل الكتاب وعقد الذمة مع الكافر من غير أهل الكتاب، فعلى مستوى الحقوق لا يعترف بدين أو شريعة غير الكتابي، بينما يتمتع أهل الكتاب بهذا الاعتراف والاحترام، وسيأتي لاحقاً الحديث بالتفصيل عن ذلك عندما نتناول حقوق أهل الكتاب في الدولة المسلمة التي يضمنها عقد الذمة.
لكن الإشكالية اليوم أن المواطنة لم تعد تتعين أو تحدد بالانتماء لدين أوعقيدة أو أي أيديولوجية ما، وإنما بالإقامة الدائمة في بلد معين، وهناك شروط قانونية إذا توافرت حصل الإنسان على جنسية البلد الذي يُقيم فيه سواء للعمل أو اللجوء السياسي أو الإنساني، بغض النظر عن دينه الذي يعتنقه، بل إن هناك مشاريع قوانين دولية في طريقها للإقراروالاعتماد من طرف الأسرة القانونية الدولية، وهي ترى أن من حق أي مواطن في العالم أن يحصل عل جنسية البلد الذي يقيم فيه للعمل إذا بلغت الإقامة عشرين سنة، دون اعتبار للدين أو الأيديولوجية التي يعتنقها، وهذا القرار إذا ما أُقر ونُفِّذَ عالميًّا فستكون له تداعيات سلبية، وسيثير الكثير من الإشكاليات القانونية والحقوقية للمجنسين، لما سيترتب عليه من حقوق وخصوصاً في الدول ذات الغالبية المسلمة التي يعمل فيها عدد كبير من الآسيويين الذين يعتنقون أديان وضعية كالهندوسية والبوذية، وقد تجاوزت مدة إقامتهم العقدين من الزمن.
والخلاصة التي يتوصَّل إليها المؤلف في هذه المسألة أن الأقليات الدينية يمكنها أن تعيش وتقيم إقامة دائمة في الدولة الإسلامية، لكن ضمن عقود ومواثيق شرعية تشرعن هذا الوجود وتنظم العلاقة والحقوق، والعبرة في العقود بالمقاصد والغايات وليس بالألفاظ والمصطلاحات؛ لأن العقود الإسلامية بمقاصدها، وهذه قاعدة فقهية مشهورة، أي للحاكم المسلم والدولة الإسلامية أن تنظم هذا الوجود وتُقنِّنه بما يضمن حقوق الطرفين، الدولة المسلمة والمجتمع المسلم من جهة والأقليات الدينية من جهة أخرى.
خصائص عقد الذمة وأهدافه
كما تحدث المؤلف بالتفصيل عن خصائص عقد الذمة (الحماية والأمان)، فهو بعد انعقاده يكون لازماً من جانب الحكومة ولا يصح نقضه، أما من جهة الأشخاص الذين أبرم معهم فهو قابل للفسخ، أي يمكنهم متى شاؤوا أن يتركوا جنسية البلد الإسلامي ويخرجوا عن حمايتهم (ص176)، كما لا يشترط أن يكون مكتوباً، ويمكن القول: إن الكثير من شروط عقد الذمة –حسب المؤلف- تعتبر اليوم من القوانين أو الأعراف المسلم بها في المجتمعات وتجاوزها يستتبع عواقب وخيمة (ص178).
أما أهداف عقد الذمة فهي كثيرة، أهمها إيجاد فرصة للتعرف على الإسلام، وهذا ما أكده الفقيه السرخسي في كتابه المبسوط عندما قال: «المقصود (من عقد الذمة) ليس هو المال بل الدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه، لأنه بعقد الذمة يترك القتال أصلاً ولا يقاتل من يقاتل، ثم يسكن بين المسلمين فيرى محاسن الدين ويعظه واعظ فربما أسلم» (ص180).
بالإضافة إلى تحقيق وحدة المجتمع وإشاعة أجواء السلم والتعايش بين الأ كثرية والإقلية الدينية وتبادل المصالح والمنافع المشتركة، واندماج الأقلية اندماجاً يحترم التنوع والتعدد الديني والثقافي ويحافظ على هذا التنوع بحكم القانون وحقوق المواطنة.
وهذا ما وقع بالفعل في التاريخ الإسلامي فقد اشتهر عدد كبير من اليهود بتجارة الذهب والفضة كما اشتهر عدد من النصارى بمهنة الطب، وكان المسلمون يقبلون على التعامل معهم باعتبارهم مواطنين، بل بلغ الاندماج والتعايش حد الزواج والتصاهر العائلي، لأن الإسلام يبيح الزواج من الكتابية، لذلك لم يجد عدد من الأمراء والتجار وعوام الناس أي حرج من الزواج من يهوديات ومسيحيات مع بقائهن عل دينهن، واليوم في لبنان والعراق ومصر هناك المئات من الشباب المسلم متزوجون من كتابيات...
* الجزية ومن يدفعها من أهل الكتاب
طبعاً عقد الذمة كما يترتب عليه مجموعة من الحقوق لأهل الكتاب (سنتحدث عنها بعد قليل) يتوجب عليهم بموجب هذا العقد دفع مبلغ من المال اصطلح عليه بـ(الجزية)، وقد اختلف الفقهاء في أصل هذا المصطلح، حيث ذهب بعضهم الى أن أصله فارسي (كزيت) أي ضريبة كان الفرس يأخذونها من بعض رعاياهم، أما لدى الفقهاء فهي مقدار من المال يدفعه أهل الكتاب لقاء حمايتهم من جهة، والمشاركة في نفقات الدولة من جهة أخرى، على غرار ما يدفعه المواطنون المسلمون الذين يدفعون الزكاة والخمس وضرائب أخرى قد تضعها الدولة المسلمة. جاء في الأحكام السلطانية: ويلتزم لهم ببذلها –أي الجزية– حقان، أحدهما: الكف عنهم (أي لا يُقاتَلون ويبقون على دينهم وشريعتهم)، والثاني: الحماية لهم ليكونوا آمنين وبالحماية محروسين (ص112 نقلاً عن الماوردي). كما ذكر أكثر من فقيه أن الجزية هي بدل المشاركة في الحرب بدليل أن مشاركتهم في الحرب ضد أعداء الدولة المسلمة من موارد إعفائهم من دفع الجزية (ص219).
وهناك كلمة للإمام علي C تكشف الفلسفة والغاية من دفع الجزية يقول فيها: «إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا».
إذن هي عبارة عن مشاركة مالية في تحمل أعباء الحماية والدفاع عن الوطن، ضريبة كباقي الضرائب التي يدفعها المسلمون، وليس كما ادَّعى بعض الكتاب والمستشرقين أنها (إتاوة) أو مظهر من مظاهر التمييز أو الظلم والإجحاف في حق مواطنين لأسباب دينية، بدليل أنها تسقط بالمشاركة الطوعية في الحرب والدفاع عن الدولة.
وبالتالي، وبناء على القاعدة الفقهية «الأمور بمقاصدها»، فإن للحكومة الإسلامية أن تفرض عليهم ضريبة معينة يدفعونها كباقي المواطنين، سواء بعنوان الجزية أو عناوين أخرى، حسب مصلحة الدولة، وإذا اقتضت المصلحة إسقاطها تسقط كذلك، كما أكد أكثر من فقيه وعالم مسلم. وعلى اعتبار أنها من العقود التي يبرمها الحاكم المسلم فهو الذي يحدد المصلحة في إبرامها وإجرائها، وكذلك في تعيين مقدارها. وقد تحدَّث المؤلف مفصلاً عن هذه المسائل وما يتفرع عنها من مسائل جزئية منصوص عليها في كتب الفقه وموسوعاته.
أما من يدفعها من أهل الكتاب، فهي لا تؤخذ من الأطفال والكهول والنساء والمرضى والفقراء والرهبان والقساوسة؛ لأنهم لو كانوا مسلمين لما وجب عليهم الجهاد كما يقول المؤلف (ص 104).
وعليه، فهي لا تؤخذ إلَّا من المقتدرين على الدفع ومن أصحاب التجارات والأملاك والأعمال.
والخلاصة التي توصل إليها المؤلف في هذه المسألة هي عدم اشتراط أن يدفع أهل الكتاب اليوم هذا المبلغ المالي المستحق عليهم بعقد الذمة بعنوان الجزية، بل يجوز أخذه بعناوين مختلفة كالضرائب مثلاً، والمهم أن يكون العقد ومقدار الماليات بتراضيهم (ص243).
وبذلك نكون قد تجاوزنا الإشكالات الإصطلاحية واللغوية التي يثيرها البعض حول هذا العقد، ونكون كذلك أقرب إلى لغة العصر وأكثر انسجاماً مع المفاهيم الحقوقية المعاصرة دون المساس بجوهر الشريعة الإسلامية ومقاصدها العليا.
* حقوق أهل الكتاب
كما يترتب على عقد الذمة دفع مبلغ مالي (الجزية) يترتب عليه من جهة حقوق لأهل الكتاب (اليهود والنصارى والزراديشتيين)، حقوق دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية... إلخ وقد خصص المؤلف لهذه الحقوق فصلاً، عرض فيه بالتفصيل أقوال وآراء واجتهادات أعلام الفقهاء من الشيعة الإمامية وغيرهم من فقهاء المذاهب السنية المشهورة.
في البداية لا بد من التذكير بأن حقوق أهل الكتاب ترتكز –بموجب عقد الذمة– على أساس شرعي متين، وهو الاعتراف بهم قرآنيًّا بأنهم أصحاب كتب منزلة من السماء، وأتباع أنبياء معترف بهم وبنبوتهم كذلك، والمشكل معهم ينحصر في عدم إيمانهم بنبي الإسلام ورسالته.
وهذا الاعتراف والإقرار يترتب عليه تلقائيًّا اعتراف بحقوقهم الدينية والثقافية، وبما أنهم أصبحوا مواطنين ويحملون جنسية الدولة المسلمة التي يعيشون في كنفها، فإنهم يتمتعون كذلك بكل حقوق المواطنة مع وجود استثناءات قليلة لها علاقة بالخصوصية الدينية لهم.
فعلى المستوى الديني لهم الحق في التمتع بالحرية الدينية اعتقاداً وممارسة، ولا يُكرهون على الإسلام، بل طُلب من المسلمين إذا أرادوا أن يدعوهم إلى الإسلام أو يجادلوهم في الدين أن يجادلوهم بالتي هي أحسن، وهناك نصوص نبوية تحث على الرفق بهم وعدم الاعتداء عليهم وتحذر من هذا الإعتداء.
ويترتب على هذا الحق حق امتلاك الكنائس والمعابد، وقد وقع نقاش بين الفقهاء حول السماح باستحداث كنائس جديدة، وهل يعتبر ذلك من المساعدة على المنكر؟
فحسب السيرة والتاريخ ومواقف الفقهاء لا يجوز أثناء الفتح الاستلاء عليها لتحويلها إلى مساجد لأنها موقوفة على أصحابها، ومع عقد الذمة تصبح هذه المعابد في حماية الدولة المسلمة، ويجوز ترميمها إذا هدمت بل يجوز استئجار المسلمين لترميمها، وإن كان البعض قد اشترط أن يكون ذلك ضمن العقد، وكذلك اشتراط بناء معابد وكنائس جديدة.. لكن البعض الآخر من الفقهاء ربط الجواز والمنع بموقف الحاكم الشرعي، فهو حسب المصلحة يعطي الإذن بالبناء أو يمنع في بعض الأحيان، لكن المؤلف يرجح وينتصر لرأي العلامة الحلي الذي يرى أن الإذن لهم بالعيش في البلد المسلم قرينة حالية على السماح لهم بممارسة العبادة، ولما احتاجت العبادة إلى معبد جاز لهم استحداث معبد، وإن لم يُقيَّد في معاهدة الذمة. وهذا الرأي الفقهي -في نظرنا- هو أقرب إلى الواقع ومصلحة الدولة وحقوق مواطنيها، وهذا ما تعترف به كذلك التشريعات القانونية والمواثيق الحقوقية الدولية، فالغرب اليوم يسمح ببناء المساجد للجاليات المسلمة، بحيث لا تكاد عاصمة أوروبية أو أمريكية تخلو من مسجد يُرفع فيه الأذان وتُقام فيه الصلاة. مع أن أغلب المسلمين غير مجنسين وإقامتهم مؤقتة، فما بال من هم مواطنون دائمو الإقامة في الدولة المسلمة؟
هذا نموذج للنقاش حول الحقوق الدينية كما ورد في الكتاب. كذلك تحدث المؤلف مفصلاً عن الحقوق السياسية مثل حق المشاركة في الانتخابات وتشكيل الأحزاب والجمعيات المتعددة الأهداف والأنشطة... إلخ.
فبحكم عقد الذمة يتمتع أهل الكتاب بجميع الحقوق السياسية كباقي المواطنين، لكن هناك استثناءات ينص عليها القانون العام، هناك مثلاً وظائف لا يمكنهم مزاولتها مثل الترشح لرئاسة الدولة في بلد غالبيته من المسلمين؛ لأن الولاية العامة لا تجوز لغير المسلم على المسلم.
وكذلك تولي منصب القضاء العام؛ لأن المحاكم الإسلامية تحكم بالشريعة، وأهل الكتاب غرباء عنها.
وهذه الموارد والاستثناءات موجودة في أغلب القوانين الدولية، فهناك شروط خاصة لتولي بعض المناصب الحساسة في الدولة، وقد تطال هذه الشروط حتى المسلم نفسه، لذلك لا يمكن الحديث هنا عن تمييز طائفي أو انتهاك حقوقي لأهل الكتاب.
إذن المواطن من أهل الكتاب يتولى جميع المناصب في الدولة الإسلامية إلَّا بعض المناصب المستثناة التي يشترط فيها الإسلام مثلاً.
ويتفرع عن الحقوق الاقتصادية حق التملك والتصرف في الأملاك والتسلط على الممتلكات والأموال، وهي حقوق جميعها مضمونة لأهل الكتاب. ومن عدالة الإسلام أن سمح لهم بامتلاك ما لا يسمح للمسلم بامتلاكه أو التصرف فيه، فقد ذكر الفقهاء أن المسلم يضمن الخمر والخنزير وآلة اللهو إذا أتلفها وهي لأهل الكتاب؛ لأنها أموال محترمة لديهم بشرط قيام الذمي بشرائط الذمة والتي منها الاستتار.
وبالتالي فالقاعدة الفقهية: «من أتلف مال الغير فهو ضامن له» تنطبق على جميع المواطنين ومن ضمنهم أهل الكتاب، وبما أن هذه الأشياء أموال محترمة وجائزة في شريعتهم فهي محمية ومصانة في الدولة المسلمة.
والحقوق الاجتماعية كذلك تحدث المؤلف مطولاً عنها، وخلص إلى أن أهل الكتاب هم مواطنون يتمتعون بجميع حقوق المواطنة، وأن الاستثناء عندما يوجد فليس فيه أي ظلم أو تجاوز للعدالة، وأنما هو العدل بعينه، فمثلاً من حق أهل الكتاب أن تكون لهم محاكم خاصة بهم وخاصةً في قضايا الأحوال الشخصية، وما يصدر عن هذه المحاكم من عقود وأحكام تعتبر شرعية ومحترمة ومعترف بها داخل الدولة المسلمة؛ لأنها تنظم شؤونهم الاجتماعية في إطار شريعتهم الخاصة..
وكذلك في الجنايات والجرائم فهناك تفاصيل مهمة ذكرها المؤلف كلها تصب في تحقيق العدالة، فإذا كان الفعل مُجرَّماً في شريعتهم فمحاكمهم أولى بالنظر فيه والحكم عليه، أما إذا كان محرماً في الشريعة الإسلامية فالعودة إلى عقد الذمة لمعرفة ما يتوجب على الذمي عند المخالفة، أما إذا كان من المخالفات لأحكام القانون الولائي (الحكومي) فيرجع فيه للمحاكم الوطنية؛ لأن القانون هنا يشمل جميع المواطنين دون استثناء.
وعليه، فالقاعدة في التعامل مع أهل الكتاب بموجب عقد الذمة هي تحقيق العدالة والمساواة واحترام الحقوق والالتزامات والعقود. وموارد التمييز على قلتها ومحدوديتها ليست اعتباطية بل هي كذلك وجه من وجوه تحقيق العدالة الإسلامية.
والخلاصة، من يطَّلع على ما ورد في هذا الكتاب من نقاشات وأقوال لكبار فقهاء المذاهب الإسلامية، ومواقف وتشريعات تخص أهل الكتاب الذين اختاروا الإقامة الدائمة في كنف الإسلام ودولته ومجتمعه، لا يسعه إلَّا الاعتراف بما أعطته الشريعة لهذه الشريحة من المواطنين من حقوق وامتيازات، والاستغراب كل الاستغراب ممن يتَّهم الإسلام وشريعته بالظلم والتمييز الطائفي أو الإجحاف، فهولاء مثلهم مثل التيارات السلفية – القتالية، يجهلون الفقه الإسلامي ومقاصد الشريعة الإسلامية، وليس لديهم معرفة تفصيلية بحقوق أهل الكتاب (أهل الذمة) في الإسلام وشريعته.
فكيف يعلن الجهاد على المسيحيين وهم مواطنون في الدولة الإسلامية لآلاف السنين؟
وبأي حق تُهدم كنائسهم أو تُنجَّس مقدساتهم؟ وتُعتبر ممتلكاتهم مغانم كما يحصل اليوم في العراق وسورية؟
وقبل كل ذلك بأي مبرر شرعي يُقتلون ويُهجرون ويُخطفون ويُعتدى عليهم؟
من خلال ما ورد في هذا الكتاب، ومن خلال الفقه الإسلامي، وأقوال معظم فقهاء المذاهب السنية والشيعية نقول: إن ما نشاهده اليوم وما نسمعه من أخبار عن الاعتداءات التي تطال أهل الكتاب وخصوصاً المسيحيين في أكثر من دولة عربية وإسلامية، باسم الجهاد أو الدعوة أو شعار إقامة دولة الخلافة... إلخ، هي جرائم «إرهابية» واجتهادات أعرابية خوارجية لا علاقة لها بالإسلام ولا بالفقه الإسلامي ولا باجتهادات المذاهب الفقهية السنية والشيعية المشهورة، ويجب التعامل مع هذه الأفعال باعتبارها خروجاً عن الشريعة والقانون، وانتهاكاً لحقوق مصونة ومحصنة، ويجب أن يُحاكم المحرضون عليها والمنفذون لها، مثلها مثل الجرائم التي تُرتكب اليوم كذلك من طرف هذه الحركات الخوارجية في حق المخالف المذهبي، الذي يُكفَّر لشبهات اجتهادية، ويُستباح بعد ذلك دمه وماله وعرضه، ليس دفاعاً عن الإسلام وعقيدة التوحيد كما يُدَّعى وإنما لتفتيت هذا الأمة وإعادة تقسيمها خدمة لمشاريع سياسية استعمارية مشبوهة..؟!