الفارابي
ومنهجه في التقريب بين المنطق والنحو
الدكتور جمال حمود*
* أستاذ محاضر، رئيس قسم الفلسفة، جامعة منتوري قسنطينة – الجزائر. البريد الإلكتروني: hamouddjamel@yahoo.fr
ﷺ المقدمة
لقد حظيت العلاقة بين النحو العربي والمنطق الأرسطي، باهتمام بالغ لدى الفلاسفة والمناطقة وعلماء اللغة والنحو المسلمين أمداً طويلاً. وقد تناول الفارابي تلك العلاقة في العديد من مؤلفاته الهامة، يأتي في مقدمتها كتابه الهام المسمى «الحروف»، وقد تناول في هذا المؤلف جملة من المسائل الهامة تقع على الحدود المشتركة بين الفلسفة واللغة، بين المنطق والنحو.
وإذا نظرنا في الحدود المشتركة بين النحو العربي وبين المنطق الأرسطي، فإننا نجد أن نظرية المقولات الأرسطية هي النظرية الأكثر تناولاً بالدرس، سواء أكان عند المناطقة أو عند علماء النحو، ومرد هذا إلى أن المقولات الأرسطية -كما يرى الفارابي- ليست سوى المعقولات المفردة المعبر عنها بألفاظ مفردة[1]. ولأن الفلسفة ليست تنظر في شيء آخر غير المقولات أولاً[2].
ولأن علاقة الفلسفة باللغة كانت ولا تزال تُشكِّل موضع اهتمام الكثير من الفلاسفة، لدرجة أن اتِّجاهات فلسفية معاصرة بأكملها قامت على أساس البحث في علاقة الفلسفة باللغة، منها على سبيل الذكر لا الحصر الفلسفة التحليلية، والفلسفة اللغوية وفلسفة التأويل... وغيرها.
وعليه فقد أردنا أن نتناول بالدراسة موضوع علاقة النحو العربي بالمنطق الأرسطي عند كبير المناطقة المسلمين أبي نصر الفارابي، هدفنا من ذلك إبراز ملامح النظرة الفارابية لعلاقة النحو بالمنطق، وهذا من خلال إثارتنا لجملة من المسائل رأيناها أساسية في إبراز تلك النظرة، هذه المسائل هي:
- النحو العربي بين اللحن وقلق عبارة أرسطو.
- منهجية الفارابي في إزالة قلق عبارة أرسطو.
- التقريب بين المنطق والنحو.
- اللغة الفلسفية واللغة العلمية.
أولاً: النحو العربي بين اللحن وقلق عبارة أرسطو
إذا نظرنا في أصل اللغة العربية فإننا نجد مصدرها يتشكَّل من رافدين أساسين هما: اللفظة العربية الجاهلية واللفظة الإسلامية التي جاء بها القرآن. أما المصدر الأول فقد غلب عليه طابع الحياة الجاهلية وعقلية العرب الأوائل. أما المصدر الثاني أي القرآن، فقد أعطى القرآن مضامين جديدة للألفاظ الجديدة وأضفى عليها طابع المعاني الروحية والماورائية إلى جانب الطابع العملي[3].
هذان المصدران حدَّدا مسار اللغة العربية وطبائعها وبنيتها وخصوصيتها، كما حدَّدا مكانتها ضمن المنظومة الثقافية في المجتمع العربي الإسلامي. غير أن اللغة العربية وعلم النحو تحديداً تعرَّضا إلى جملة من المشاكل كانت تتهددهما، نذكر اثنين من هذه المشاكل لما لهما من ارتباط وثيق ببعضهما، هما اللحن في الكلام، وقلق عبارة أرسطو.
1. اللحن
لكلمة لحن في اللغة العربية عدة معانٍ، يهمنا من بينها القائل: إنها «الخطأ في الإعراب واللغة»[4]. إن موقف العرب من ظاهرة اللحن يكتسي أهمية بالغة الأهمية بالنسبة للموضوع الذي نحن بصدده، ذلك أنه يكشف عن مدى المكانة التي كانت تحظى بها اللغة العربية في المجتمع العربي الإسلامي، فالكثير من المراجع التاريخية تشير إلى أن العرب كانوا ينظرون إلى ظاهرة اللحن في اللغة على أنها من بين الخطايا التي يجب تجنبها، من ذلك ما ورد في كتاب «أخبار النحويين» من أن رجلاً كان إلى جنب ابن عمر، فلحن في القول فأرسل إليه: «إما أن تنحى عنا وإما أن نتنحى عنك»[5]. بل لقد عد اللحن من الآثام التي يتوجَّب تركها، فقد كان بعض الناس يستغفرون إذا هم لحنوا في أقوالهم[6].
وقدَّم لنا ابن خلدون صورة واضحة عن اعتقاد المسلمين الراسخ في ضرورة أن يتلازم السلوك اللغوي مع العقيدة الدينية حين قال: «والدين إنما يستفاد من الشريعة وهي بلسان العرب لما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عربي، فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها، فلما هجر الدين اللغات الأعجمية وكان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربيًّا هجرت كلها في جميع ممالكها، لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام»[7].
ومن هنا يتبيَّن أن اللغة العربية لم تكن بنظر متكلميها مجرد أداة تواصل مثلها مثل باقي اللغات، فقد أكسبها القرآن نوعاً من القداسة بين أهلها. حيث إن لغة استطاعت أن تستوعب جميع معاني القرآن لا يعقل في عرف أهلها أن تعجز عن تسديد العقول نحو الصواب، ومن ثم والحال هذه أن يتصور المواطن العربي منطقاً آخر غير اللغة العربية. وربما يكون ما قصده ابن السكيت حينما ألّف كتابه «إصلاح المنطق» الذي عالج فيه داء اللحن والخطأ في الكلام[8].
ومن ناحية أخرى لا يخفى على أحد درجة التطابق الكبيرة بين طريقة النحو وطريقة العلوم الشريعة في بعض الوجوه. إذا نجد مثلاً أن علم النحو يستند -وعلى غرار العلوم الشرعية- إلى القرآن والسنن النبوية، وإذا مهَّد النحو الطريقة لفهم القرآن والحديث ركني الشريعة، فإنه يصبح العلم الأصلي من العلوم الشرعية[9].
ومما سبق نفهم لماذا عندما حرّم بعض الفقهاء الاشتغال بالمنطق، لم يُفرِّقوا في علة ذلك بين الغلط في العبارة وبين الخروج عن عبارات الكتاب والسنة، وهذا ما ذهب إليه السيوطي مثلاً في كتابه «القول المشرق في الاشتغال بالمنطق»، حيث أرجع علة تحريمه المنطق قائلاً: «لأن قواعد التعبير بعبارة المنطق كثيرة الغلط وخارجة عن عبارة الكتاب والسنة واللسان العربي».
2. قلق عبارة أرسطو
إن قلق عبارة أرسطو اصطلاح ظهر مع الفيلسوف ابن رشد[10]، غير أن كثيراً من الفلاسفة المسلمين قبله لاقوا مشقة كبيرة في فهم عبارات أرسطو، من ذلك ما عبّر عنه الكندي بقوله: «... لكن الإحاطة بحدود الأشياء ورسومها صعبة المسالك»[11]. كما عانى أيضاً الشيخ الرئيس ابن سينا حين قال: «أما بعد، فإن أصدقائي سألوني أن أُملي عليهم حدود الأشياء يطالبونني بتحديدها فاستعفيت من ذلك علماً بأنه كالأمر المتعذر على البشر سواء كان تحديداً أو رسماً...»[12].
ولم يكن الفارابي بمنأى عن هذا القلق اللغوي، إذ يروي ابن خلكان أن الفارابي قرأ كتاب النفس لأرسطو مائتي مرة، ونقل عنه أنه كان يقول: قرأت السماع الطبيعي لأرسطوطاليس أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته[13].
كما عانى ابن رشد من هذا القلق في عبارة أرسطو حين ذهب إلى القول في شرحه لكتاب أرسطو في «السفسطة»: «إنه معتاصٍ جدًّا... من جهة الترجمة»[14].
كما أن اتِّباع الأسلوب اللفظي وفاء للمعنى، جعل المترجمين وأوائل الشراح يواجهون مشكلة المصطلح الفلسفي بذاته. إذ نقلوها كما هي نقلاً آليًّا لافتقارهم إلى المرادفات في مرحلة أولى. فنجد إسحق مثلاً يستعمل لفظ «قاطيغوريا»، وباري أرمينياس، وأنالوطيقا، وسلجسموس...[15].
وكانت للترجمة الحرفية آثار سلبية أخرى نذكر منها: الإخلال بمبدأ التفاوت بين المعجم اليوناني والمجتمع العربي، إذ ليس كل لفظ يوناني يقابله بالضرورة لفظ عربي، والاختلال بمبدأ التباين بين طرق التركيب في العربية وطرق التركيب في اليونانية[16].
من ذلك إقحام لفظة «هو» في الجملة العربية من أجل مقابلة الرابطة في القضية الثلاثية عند أرسطو، كما نجد هذا القلق اللغوي ماثلاً في مستويين هما:
1- على المستوى الصرفي: ويظهر هذا القلق في هذا المستوى بسبب نقل بعض الصيغ الصرفية اليونانية إلى اللغة العربية بصيغتها الأصلية مثل: «ليس في موضوع»، «يقال في موضوع»، «يقال على موضوع»، وهذه العبارات وضعت أصلاً للتفرقة على التوالي بين «الجوهر» وبين «العرض» سواء كان عامًّا أو شخصاً، وبين العام سواء كان جوهراً أو عرضاً[17]. كما يتجلَّى القلق اللغوي في هذا المستوى في إقحام بعض المفردات التي لا تخضع لقواعد الصرف العربي مثل: «المتى» و «المعا» وغيرهما.
2- على المستوى النحوي: ويظهر القلق في هذا المستوى من ناحيتين:
الأولى: من ناحية إدخال بعض الألفاظ الغريبة عن الجملة في اللغة العربية مثل: «هل يوجد»، «الموجود في»، «الموجود لـ»... إلخ.
الثانية: من ناحية استعمال بعض الأمثلة اليونانية لتوضيح بعض المسائل المنطقية مثل: «الماء في الإناء» للدلالة على معنى من معاني مقولة: «له»، و «المدي له حنطة» ليعني به أرسطو أن المدي فيه حنطة[18].
وغيرها من الأمثلة التي أدَّى استعمالها إلى إحداث اضطراب في الإدراك المباشر للنص. وهذا لمخالفتها لواقع العرب وعاداتهم في استعمال الأمثلة[19].
وقد اعتبرت هذه الأساليب الجديدة في الكلام نوعاً من التهويل، وهذا ما أشار إليه أبو حيان التوحيدي مخاطباً أهل المنطق على لسان السيرافي، بقوله: «وغايتكم أن تهوّلوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص، وتقولوا الهلية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرضية والجوهرية والهيلية والصورية والأيسية والليسية والنفسية»[20].
ثانياً: منهج الفارابي في التقريب بين المنطق والنحو
إن النظرة الشاملة لموقف الفارابي من الصلة بين النحو العربي والمنطق الأرسطي تقتضي منا الرجوع إلى تلك المناظرة الشهيرة التي جرت في العام 326 الهجري بين أبي بشر متى بن يونس المنطقي وأبي سعيد السيرافي النحوي، وقد شكَّلت هذه المناظرة نموذجاً هامًّا لكيفية الطرح الفلسفي واللغوي للعلاقة بين النحو العربي والمنطق الأرسطي في الفلسفة العربية الإسلامية، ومن ثم فقد وقع عليها اختيارنا بالنسبة لموضوع هذه المطالعة، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار النقاط الهامة التالية:
* لقد جرت المناظرة في بغداد وفي عصر الفارابي.
* لقد أخذ الفارابي المنطق وعلوم الحكمة عن أبي بشر[21].
* لقد أخذ اللغة العربية ونحوها عن ابن السرّاج، وهذا الأخير هو أستاذ السيرافي[22]. ويروي ابن أبي أصيبعة أن الفارابي كان يجتمع بابن السرّاج فيقرأ عليه صناعة النحو وابن السرّاج يقرأ عليه صناعة المنطق[23].
وقد كان لهذه الصلات التي ربطت الفارابي بكل من أبي بشر وابن السراج دور حاسم في توجيه منهجه في مقاربة إشكالية الصلة بين النحو العربي والمنطق الأرسطي. فقد ركّز لقاء الفارابي بابن السراج الصلة بين علوم النحو واللغة من جهة وعلوم المنطق والفلسفة من جهة، وكان صلة الوصل بين الفارابي والتراث النحو واللغوي العربي، من جهة أخرى.
كما أن الأسئلة النحوية والمنطقية التي دارت في مناظرة السيرافي وأبي بشر قد انعكست في أحد أهم مؤلفات الفارابي، ألا وهو كتابه «الحروف»، حيث أجاب فيه عن الأسئلة التي أثارها السيرافي والآراء التي دافع عنها في مناظرته مع أبي بشر[24].
ومن جهة أخرى فإن لكتاب «الحروف» أهمية أخرى تتمثَّل في أن الفارابي تناول جملة من المسائل النحوية والمنطقية، والتي أفرزتها حركة الترجمة. وسنركّز في هذا الصدد على مسألتين تتعلقان بمنهج الفارابي في إزالة قلق عبارة أرسطو أولاً، وبيان الصلة بين النحو المنطق ثانياً.
1. منهج الفارابي في إزالة قلق عبارة أرسطو
لقد احتل الفارابي مكانة مرموقة ضمن شرّاح أرسطو المسلمين، حيث ذكره القفطي بالقول: «شرح الكتب المنطقية وأظهر غامضها وكشف سرّها وقرّب متناولها وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبّهة على ما أغفله الكندي... ولا سبيل إلى فهم معاني قاطيغورياس وكيف هي الأوائل لجميع العلوم إلَّا منه»[25].
لقد استخدم الفارابي طريقة في الشرح، زاوج فيها بين الالتزام الحرفي بالنص الأرسطي من جهة حيث نجده يبدأ الفقرة بكلمة: «قال»، «قال أرسطو»، وبين ما سمي بالشرح المتوسط الذي سيستخدمه ابن رشد فيما بعد، وميزة هذا النوع الأخير من الشرح أن الشارح لا يتقيد بالنص الحرفي لما يشرحه، ونجد عدة شواهد على هذا المنهج عند الفارابي، حيث يشير إلى أرسطو مستخدماً كلمات: «يعني»، «يقصد» وغيرهما، والتي أراد من خلال استخدامها أن يتحرر إلى حدٍّ ما عن عبارة أرسطو[26].
زيادة على ما سبق وحرصاً على تبسيط وتقريب المعاني الأرسطية، نجد الفارابي يحث على استخدام الأمثلة المشهورة في اللسان العربي، حيث يقول: «... ويتحرى أن تكون العبارة عنها في أكثر ذلك بألفاظ مشهورة عند أهل اللسان العربي...»[27]. وفي هذا السياق نجده يستخدم مثلاً أسماء أعلام عربية مثل زيد وعمر في مقابل أسماء أعلام يونانية مثل سقراط وأفلاطون وغيرها، كما يستبدل أسماء المدن اليونانية مثل «لوقين» بـ«البيت»، كما يستشهد بالآيات القرآنية ويستخدم بعض المفاهيم الإسلامية مثل الصلاة والركوع والسجود وغيرها[28].
وكان غرض الفارابي من كل هذا هو أن يمكّن المتكلم باللسان العربي من أن يفهم أغراض أرسطو، إذا يُرجع الفارابي غموض أغراض أرسطو إلى واقع استخدامه لأمثلة مشهورة عند اليونان غريبة عند العرب، حيث يقول: «فإن أرسطوطاليس لما أثبت تلك الأشياء في كتبه، جعل العبارة عنها بالألفاظ المعتادة عند أهل لسانه، فاستعمل أمثلة كانت مشهورة متداولة عند أهل زمانه (ويواصل الفارابي قائلاً لذلك) صارت الأشياء التي قصد أرسطوطاليس بيانها بتلك الأمثلة غير بيّنة ولا مفهومة عند زماننا»[29].
ويرد الفارابي رفض بعض العرب للمنطق إلى هذا القلق اللغوي الناتج عن إبقاء المترجمين الأوائل على الأمثلة المشهورة في اللسان اليوناني وغير المتداولة في اللسان العربي، حيث يقول: «حتى ظن أناس كثير من أهل هذا الزمان بكتبه في المنطق أنها لا جدوى لها وكادت تطرح»[30].
وهنا نلاحظ أن هذه الفكرة بالغة الأهمية إذ تُبيِّن منهج الفارابي في النظر إلى مسألة رفض المنطق، حيث ينظر إليها نظرة لغوية، على خلاف نظرة بعض الفقهاء مثلاً، ومن ثم فهو يعالجها بما يتوافق مع تلك النظرة. ومن جهة ثانية من الواضح أن هذه الوجهة من النظر تنسجم تماماً مع مبدأ الفارابي في أنه لا تعارض بين الفلسفة والشريعة.
وينقلنا الفارابي إلى فكرة أخرى ذات أهمية بالغة ليس فقط في المنطق الصوري القديم، ولكن في المنطق الصوري الحديث على حد سواء، حيث يفصل بين قوانين أرسطو القياسية وبين الأمثلة الشارحة لتلك القوانين، يقول الفارابي: «... فإنه ليس اقتفاء أرسطوطاليس في شرح ما كتبه من القوانين أن تستعمل عبارته وأمثلته بأعيانها حتى يكون اقتفاؤنا إياه على حساب الظاهر من فعله، فإن ذلك من فعل من هو غبي، بل اقتفاؤه هو أن يحتذى حذوه على حسب مقصوده... كما أنه ليس الاقتداء به أن نجعل العبارة عنها لأهل لساننا بألفاظ اليونانيين... لكن الاقتداء به إيضاح ما في كتبه لأهل كل لسان بألفاظهم المعتادة»[31].
لقد كانت هذه التفرقة من الأفكار الهامة في المنطق الصوري الحديث، فها هو المنطقي البولندي لوكازيفتش مثلاً ينتقد خلط أرسطو بين الأقيسة باعتبارها قوانين منطقية والأمثلة اللغوية المعبرة عنها، حيث يرى لوكازيفتش أن الأقيسة الأرسطية المصاغة في حدود لغوية، ما هي إلَّا تطبيقات للقوانين المنطقية، وهي في حدِّ ذاتها لا تنتمي إلى المنطق، وأن الأقيسة باعتبارها قوانين منطقية لا بد أن تُصاغ في متغيرات[32].
2. التقريب بين المنطق والنحو
سبقت الإشارة إلى أن كتاب «الحروف» تضمن إجابات عن القضايا التي طرحت في المناظرة، وفيما يلي نذكر بعضاً منها لنرى كيف كان موقف الفارابي منها:
* عرّف أبو بشر المنطق بأنه «آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه».
* ادَّعى أبو بشر أن المنطقي لا حاجة له إلى الإحاطة باللغة والنحو.
* قال السيرافي: «إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها... فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضياً وحكماً»[33].
عالج الفارابي هذه القضايا من زاوية أخرى، تقوم على إعادة طرحها طرحاً فلسفيًّا لغويًّا جديداً يقوم على أساس بيان أن هناك اختلافاً بين المفكر فيه «المعقولات» والمعبّر به «الألفاظ».
ويبعد الفارابي كل إمكانية للتعارض والتصادم بين النحو والمنطق، إذ يُحدِّد لكل منهما مجال عمله، ويعقد مقارنة بديعة بين العلمين، حيث يقول: «... فكما أن علم النحو يقوّم اللسان عند الأمة التي جعل النحو للسانها، كذلك علم المنطق يقوّم العقل حتى لا يعقل إلَّا الصواب... فنسبة علم النحو إلى اللسان والألفاظ كنسبة علم المنطق إلى العقل والمعقولات... وكما أن النحو عيار اللسان فيما يمكن أن يغلط فيه اللسان من العبارة، كذلك علم المنطق عيار للعقل فيما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات»[34].
وإذا كان النحو والمنطق يتمايزان بموضوعهما، فإنهما يتمايزان أيضاً من جهة ترتيبهما للحروف بحسب الأنفع لكل منهما، حيث يقول: «وكذلك كثير مما سنعده في الحروف يرتّبه كثير من النحويين لا في الحروف لكن إما في الاسم وإما في الكلم (أي الأفعال). ونحن إنما نرتب هذه الأشياء بحسب الأنفع في الصناعة التي نحن بسبيلها»[35].
فنحن نجد الفارابي يبحث مثلاً في ألفاظ هي في اصطلاح النحويين من الأسماء، مثل الجوهر والذات والشيء[36]. ومن المهم أن نلاحظ هنا أن اختلاف ترتيب الحروف بين النحو والمنطق عند الفارابي لا يفهم منه أنه اختلاف في طبيعة الحروف ذاتها، وإلَّا كان معنى ذلك القول بأن لكل من النحو والمنطق اصطلاحاته الخاصة، ومن ثم لكل منهما لغته الخاصة، فهذه النتيجة يرفضها الفارابي بشدة كما سنرى لاحقاً.
وامتداداً لتفرقة الفارابي بين المنطق الأرسطي كمجموعة قوانين والأمثلة التي استخدمها أرسطو لشرح أغراضه، فإننا نجد الفارابي يذهب في التفرقة بعيداً، حيث يميّز بين النحو والمنطق من جهة الخصوصية والشمول، إذ يرى أن النحو وجد لكي يعطي قوانين خاصة بألفاظ أمة ما، في حين يعطي المنطق قوانين تشترك فيها ألفاظ الأمم جميعاً[37].
ومن هنا فإن الفارابي يريد أن يقول: إن هناك مستويين من النحو، النحو الخاص بكل أمة وهو نتاج عادات تلك الأمة في الكلام، والنحو العام أي المنطق فهو نتاج أفعال القوة الناطقة التي هي واحدة لدى جميع الإنسانية.
هذا التحليل الذي لا تقتصر أهميته في أنه يحدّد العلاقة بين المنطق والنحو بوضوح فحسب، ولكن أهميته تتجاوز ذلك بكثير، إذ فتح الفارابي بهذا التحليل آفاقاً جديدة وواسعة للأبحاث اللغوية والمنطقية والتي نجدها اليوم مجسدة في المفاهيم المتداولة في الفلسفة المعاصرة، منها: اللغة المنطقية، اللغة العلمية، اللغة العالمية وغيرها من المفاهيم.
3. اللغة الفلسفية واللغة العامية
انقسم فلاسفة هذا العصر إزاء مسألة العلاقة بين الفلسفة واللغة اتِّجاهين متباينين، اتِّجاهاً رأى أصحابه أن اللغة العادية قاصرة عن التعبير بدقة عن قضايا الفلسفة، لذلك وجب استبدالها بلغة اصطناعية اتخذت تسميات عديدة عند فلاسفة كثيرين، مثل «المدونة الرمزية» عند فريج، «اللغة الكاملة منطقيًّا» عند رسل، «اللغة المنطقية» عند فتغنشتاين... وغيرها.
أما الاتِّجاه الثاني فقد رأى أصحابه أن اللغة العادية صالحة للتعبير عن قضايا الفلسفة، وقد مثل هذا الاتِّجاه أحسن تمثيل فتغنشتاين في فلسفته المتأخرة. وقد تناول الفارابي هذه المسألة من عدة جهات، نقتصر على واحدة منها هي نظريته في علاقة اللفظ الفلسفي باللفظ العامي.
لقد رفض الفارابي في كتاب الحروف أن يكون اللفظ الفلسفي قد ولد من عدم، ويرى أنه جاء امتداداً للغة الأعراب التي يسميها «اللغة العامية»، حيث اعتبرها أصل اللغة. لذا نجده يذهب إلى أنه من «الأفضل أن تؤخذ لغات الأمة من سكان البراري منهم»[38]. ويؤكد هذه الفكرة في كتاب العبارة، حيث يرى أن الألفاظ الفلسفية هي امتداد لما هو موجود في اللغة العامية إذ يقول: «... ومتى استعمل في العلوم أمور مشهورة لها أسماء مشهورة، فإنه ينبغي لأهل العلوم وسائر أهل الصنائع أن يتركوا أسماءهم في صنائعهم على ما هي عليه عند الجمهور...»[39].
ومعنى هذا أن الفارابي يقول بإمكانية أن يستخدم اللفظ الواحد مشتركاً بين أكثر من صناعة واحدة، فقد سبق أن رأينا أن النحو والمنطق يستخدمان كثيراً من الحروف مشتركة بينهما، لكن بترتيب، أي بدلالات مختلفة.
ومن هنا فإن الفارابي يرفض فكرة أن تكون لغة الفلسفة لغة خاصة في مقابل اللغة العامية أو لغة الجمهور، ويرفض أن تخترع لغة وضعية ضمن اللغة الطبيعية أو إلى جانبها، لكنه يقول بتطوير اللغة العامية لتستوعب الوافد عليها[40]. ومن ثم يُفنِّد ما أُشيع عن المشتغلين بالفلسفة والمنطق من المسلمين من أنهم أرادوا «إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها»[41].
لكن واستناداً إلى معيار الفارابي في الأنفع للصناعة، فإنه يقر بضرورة أن يستخدم أصحاب الصناعات الألفاظ وفق المعاني التي تخدم صناعتهم، ولا يعد هذا بنظره إحداثاً للغة أخرى في اللغة العربية، ولا خروجاً عن الواجب، بل ونجده يرد التهمة التي وجَّهها السيرافي لأهل المنطق من أنهم يُهوِّلون باستخدام ألفاظ غير مألوفة، حيث يرد عليه بالقول: إن علماء النحو هم بدورهم يستخدمون الألفاظ بمعاني غير تلك التي عند الجمهور، حيث يقول: «وكذلك نَحوِيُّو العرب متى خاطبوا بالرفع والنصب والخفض لم يلتمس منهم أن يوقعوا هذه الأسماء على المعاني التي يوقعها عليه من ليس بنحوي. ولا إذا أوقع النحوي هذه الألفاظ على غير المعاني التي يوقعها عليه الجمهور كان ذلك خطأ من النحوي ولا خروجاً عن الواجب، وكذلك في سائر الصنائع»[42].
ﷺ خاتمة
في ختام هذه الدراسة نقول: إن دراسة الفارابي لمسألة العلاقة بين المنطق والنحو في ارتباطها بالمناظرة الشهيرة، وبمشروع إزالة قلق عبارة أرسطو انتهى إلى نتائج تفوق الأهداف التي قامت من أجلها. ففضلاً عن أن شروحاته في المنطق صارت لا غنى عنها لكل راغب في فهم المنطق الأرسطي، فإن الفارابي أعاد طرح الإشكالية اللغوية في الفلسفة طرحاً جديداً، اختلف به عن طرح أستاذه بشر حيث لم يقدم المنطق على أنه بديل للنحو، ولكنه مكمل له. كما شخّص مكمن القلق النحوي في العبارات المنطقية، وقدَّم حلولاً له. ومن ثم يكون أغلب العرب على إلفة له. وهذه مهمة جادة حاول الفارابي من ورائها إرساء قواعد المنطق في ثقافة جعلت من المنطق نحوها الخاص.
[1] الفارابي: شرح الفارابي لكتاب أرسطو في العبارة، بيروت: المطبعة الكاثوليكية، ط1، 1960، ص 20.
[2] المصدر نفسه، ص 23.
[3] جيرار جيهامي: الإشكالية اللغوية في الفلسفة العربية، ص29.
[4] ابن منظور: لسان العرب، بيروت: دار صادر، ط1، ج13، ص 381.
[5] عبد الواحد بن عمر: أخبار النحويين، تح: مجدي فتحي السيد، طنطا: دار الصحابة للتراث، ط1، ج1، ص30.
[6] المرجع نفسه، ج1، ص 379.
[7] ابن السكيت: إصلاح المنطق، تحقيق: أحمد شاكر وعبد السلام هارون، القاهرة: دار المعارف، ط4، 1949، ص12.
[8] جيرهارد أندرس: المناظرة بين المنطق الفلسفي والنحو العربي، مجلة تاريخ العلوم العربية، مجلد 1، عدد 2، ص 109.
[9] القنوجي: أبجد العلوم، تحقيق: عبد الجبار زكار، بيروت: دار الكتب العلمية، 1978، ج2، ص 545.
[10] طه عبد الرحمن: لغة ابن رشد الفلسفية من خلال عرضه لنظرية المقولات، أعمال ندوة ابن رشد، جامعة محمد الخامس، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1981، ص 193.
[11] عبد الأمير الأعسم: المصطلح الفلسفي عند العرب، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، ط1، 1997، ص 210.
[12] المرجع نفسه، ص 259.
[13] ابن خلكان: وفيات الأعيان، تح: إحسان عباس، بيروت: دار الثقافة، 1968، ج5، ص 154.
[14] ابن رشد: كتاب الجدل والمغالطة، تحقيق جيرار جيهامي، ص 729.
[15] جيرار جيهامي: الإشكالية اللغوية في الفلسفة العربية، ص27.
[16] طه عبد الرحمن: فقه الفلسفة، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 1996، ص 96.
[17] ابن رشد: كتاب المقولات، تحقيق جيرار جيهامي، ص9.
[18] أرسطو: منطق أرسطو، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ج1، ص 75.
[19] طه عبد الرحمن: لغة ابن رشد الفلسفية من خلال عرضه لنظرية المقولات، ص ص 193،194.
[20] طه عبد الرحمن: فقه الفلسفة، ص 324.
[21] ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج5، ص 154.
[22] لفارابي: كتاب الحروف، تحقيق: محسن مهدي، مقدمة المحقق، بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1970، ص 49.
[23] ابن أبي أصبيعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق نزار رضا، بيروت: دار مكتبة الحياة، ص 147.
[24] الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، مقدمة المحقق، ص 49.
[25] القفطي جمال الدين: إخبار العلماء بأخبار الحكماء، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 2005، ص 182-183.
[26] انظر الفارابي، شرح الفارابي لكتاب أرسطو في العبارة، ص 107-147-149.
[27] الفارابي: المنطق عند الفارابي، تحقيق: جيرار جيهامي ورفيق العجم، ج2، ص 45-55، 133-136.
[28] المصدر نفسه، ص 68-69.
[29] المصدر نفسه، ص ص 68-69.
[30] المصدر نفسه، ص 69.
[31] المصدر نفسه، ص 71.
[32] Lukasiewicz, J: La Syllogistique d’Aristote, dans la Perspective de la Logique Formelle Moderne, Présentation et Traduction Française de F, C, Zaslawski, Armand Colin, 1972, pp 45-46.
[33] أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، بيروت: المجمع الثقافي، ط1، 1999، ج1، ص 110.
[34] الفارابي: المنطق عند الفارابي، ج1، ص 55-56.
[35] الفارابي: كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، تحقيق: محسن مهدي، بيروت: دار الشرق، ط3، 2008، ص 45-46.
[36] الفارابي: إحصاء العلوم، تحقيق: عثمان أمين ومحسن مهدي، القاهرة: دار ومكتبة ببليون، ط2، 2007، ص 62.
[37] الفارابي: كتاب الحروف، ص 146.
[38] الفارابي، كتاب الحروف، ص 146.
[39] الفارابي: شرح كتاب أرسطو في العبارة، ص 143-144.
[40] المصدر نفسه، ص 144.
[41] أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ج1، ص 122.
[42] الفارابي: المنطق عند الفارابي، ج1، ص 64.