من قضايا الدرس اللغوي العربي..
مدخل لقراءة جديدة
الدكتورة مليكة حفان*
* أستاذة البلاغة القرآنية وتحليل الخطاب الشرعي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان مولاي سليمان - بني ملال - المغرب.
البريدي الإلكتروني: hafanmalika@gmail.com
تمهيد
اللغة ظاهرة صوتية يعبر بها الإنسان عن حاجاته وأغراضه، وتأملاته في الكون والحياة؛ وهي أيضاً ظاهرة اجتماعية، تُمكِّن الإنسان من التواصل والتفاهم مع أفراد مجتمعه. وهذا ما عبَّر عنه ابن جني بقوله: «أما حدُّها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم»[1]، وهو تعريف دقيق يقوم على أمور هي:
أ- أن الصوت هو المادة التي تتحقق من خلاله اللغة، فهي أصوات منطوقة ملفوظة؛ وبذلك يكون ابن جني قد أخرج الخط أو الكتابة من تعريفه للغة لأنها رموز مرئية للأصوات.
ب- أن اللغة وسيلة للتعبير عن الأفكار والمعاني والأغراض، ونقل المعرفة والتجارب من جيل إلى جيل داخل المجتمع الواحد.
ج- أنها وسيلة للتواصل بين أفراد المجتمع الواحد بحسب ما تواضعوا واصطلحوا عليه من لغة، ووسيلة لتحقيق الترابط والتماسك بينهم.
د- أن حياة اللغة وقوتها وبقاءها ووظيفتها تُستمد من المجتمع الذي تعيش فيه. فكل هذه الأمور تُبيِّن النظرة العلمية التي أقام عليها ابن جني تصوره لمفهوم اللغة.
واللغة باعتبارها أداة للتعبير والاتصال، أصبح البحث في طبيعتها ومستوياتها التركيبية والصوتية والصرفية والدلالية ووظيفتها المجتمعية، مثار اهتمام علماء اللغة قديماً وحديثاً، فدرسوها وفصَّلوا القول فيها.
والعرب كغيرهم من الأمم اهتموا بلغتهم، وعملوا على بيان كل الخصائص والقوانين المميزة لها، خاصة وأن هذه اللغة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالنص القرآني منذ نزوله على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بلسان عربي مبين؛ فأصبح فهمها ومعرفة خصائصها ومعهودها في القول والبيان، هو السبيل الوحيد لفهم هذا الكتاب، وشرح ألفاظه، وتفسير معانيه، واستنباط أحكامه.
لذلك عد العلماء -على اختلاف بيئاتهم العلمية- مفسرين، وفقهاء، ومتكلمين، وأصوليين، وبلاغيين، ونحويين وغيرهم اللغة أداة رئيسة من أدوات البحث في كتاب الله.
يقول ابن قتيبة (ت 276هـ): «وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات... وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها طرق القول ومآخذه، ففيها الاستعارة، والتمثيل، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار... وبكل هذه المذاهب نزل القرآن»[2].
لكن أهم ما يلفت نظر القارئ لكتب اللغة، تباين آراء العلماء واختلاف وجهات نظرهم حول قضايا لغوية متعددة، مثل البحث في أصل اللغة ونشأتها، والبحث في مشكل الدلالة، وكيفية دلالة الألفاظ على معانيها.
وقد كان سبب هذا الاختلاف في كثير من الأحيان يعود إلى الصراع الفكري والخلاف الكلامي الذي كان بين الفرق الدينية والمذاهب الفكرية، وعلى رأسها المعتزلة والأشاعرة[3].
فلكل فرقة مبادئها الفكرية التي تنطلق منها، ومعتقداتها الدينية التي تعتنقها. ونقصد بالمبادئ الفكرية والمعتقدات الدينية جملة أفكار وعقائد قام عليها المذهبان، مثل عقيدتهم في التوحيد والصفات، ورؤية الله، وقدم القرآن وحدوثه، والشفاعة والعدل الإلهي، والحسن والقبح... إلخ.
وقد كان معظم علماء اللغة يتوزعون بين المذهب المعتزلي والمذهب الأشعري، ومن ثم تأثرت معالجتهم لقضايا اللغة العربية بمبادئ ومعتقدات هذين المذهبين.
وسنحاول خلال هذا المقال أن نقف عند بعض القضايا اللغوية التي استأثرت باهتمام اللغويين العرب قديماً، وأثارت بينهم خلافاً كبيراً، لنُبيِّن سبب ذلك الخلاف، ولنكشف عن تلك الروابط الخفية بين آرائهم اللغوية ومبادئهم الفكرية ومعتقداتهم الدينية. وسنخص بالدراسة قضية أصل اللغة ونشأتها، وقضية الترادف والاشتراك اللفظي والأضداد، باعتبارها ظواهر لغوية عربية أصيلة، وشكلاً من أشكال التعبير عن دلالة اللفظ على معناه.
- 1 -
نشأة اللغة
يعد البحث في أصل اللغة ونشأتها من القضايا التي شغلت علماء العربية قديماً، خاصة علماء اللغة، وعلماء أصول الفقه، كابن جني (ت 392 هـ)، وابن فارس (ت 395هـ)، والقاضي عبد الجبار(ت 415هـ)، وابن حزم (ت 456هـ)، والإمام الغزالي (ت 505هـ)، وفخر الدين الرازي (ت 606هـ) وغيرهم؛ وجرى بينهم نقاش وجدال حول هذه النشأة، وأثاروا حولها أسئلة كثيرة مثل: ما حقيقة اللغة وما طبيعتها؟ متى نشأت؟ هل هي توقيف ووحي من الله، أم أنها من وضع الإنسان وصنعه؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تروم تفسير هذه النشأة.
وقد انقسم علماء المسلمين حول هذه النشأة إلى فرق عدة: فريق يذهب إلى أن اللغة توقيف ووحي من الله، وفريق آخر يذهب إلى أن اللغة تواضع واصطلاح، وفريق يرى أن ابتداء اللغة من الناس، والتتمة من الله، وآخر يرى أن الابتداء من الله والتتمة من الناس.
ونورد هنا نصًّا لفخر الدين الرازي يكشف فيه عن هذا الخلاف الذي نشأ بين علماء المسلمين حول هذه النشأة يقول فيه: «الألفاظ إما أن تدل على المعاني بذواتها، أو بوضع الله إياها، أو بوضع الناس، أو يكون البعض بوضع الله والباقي بوضع الناس. والأول مذهب عباد بن سليمان، والثاني مذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وابن فورك، والثالث مذهب أبي هاشم (المعتزلي). وأما الرابع فإما أن يكون الابتداء من الناس والتتمة من الله، وهو مذهب قوم، أو الابتداء من الله والتتمة من الناس، وهو مذهب ابن إسحاق الإسفراييني»[4].
والقول بتوقيفية اللغة معناه أن الله سبحانه وتعالى هو واضع اللغة، وإلى هذا الرأي ذهب أبو الحسن الأشعري ومن تبعه من الأشاعرة. ويقصد بالوضع: «تخصيص الشيء بالشيء، بحيث إذا أطلق الأول فهم منه الثاني... كوضع لفظ (إنسان) للحيوان الناطق، وكوضع (قام) لحدوث القيام في زمن مخصوص، وكوضع (لعل) للترجي ونحوها»[5].
فالله تعالى هو الذي وضع اللغة، وأوحى إلى آدم بها، وأوقفه على أسماء الأشياء كلها بكل اللغات مباشرة أو بواسطة، بعد أن علَّمه النطق. يقول أحمد بن فارس: «إن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله جل ثناؤه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}[6]. فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها... والذي نذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابن عباس»[7].
فالمراد بالأسماء في الآية الكريمة -حسب ابن فارس- هي اللغة، وهي هذه الألفاظ التي يتكلم بها الإنسان من دابة وأرض وسماء وسهل وجبل وامرأة... إلخ، علمها الله آدم، ثم قام آدم بتعليم أبنائه تلك الأسماء وبجميع اللغات.
وقد ذكر ابن جني عن أصحاب التوقيف هذا الرأي فقال: «إن الله سبحانه علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية والفارسية، والسريانية، والعبرانية، والرومية، وغير ذلك من سائر اللغات؛ فكان آدم وولده يتكلمون بها، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا، وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات، فغلبت عليه، واضمحل عنه ما سواها لبعد عهدهم بها»[8].
ويمكن فهم موقف ابن فارس من اللغة فهماً صحيحاً في ضوء عقيدته الأشعرية التي تنص على أن كلام الله صفة أزلية قديمة قائمة بذاته تعالى كعلمه وقدرته وحياته، وليس من صفة الأفعال كما ذهب إلى ذلك المعتزلة. وحقيقة المتكلم عندهم من قام به الكلام لا من فعل الكلام.
يقول الباقلاني: «اعلم: أن الله تعالى متكلم... وأن كلامه قديم ليس بمخلوق، ولا مجعول، ولا محدث، بل كلامه قديم صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك من صفات الذات»[9].
فإذا كان الكلام قديماً، وكان الله متكلماً منذ الأزل؛ فإن الله تعالى هو واضع اللغة، وهو الذي علَّم الإنسان التعبير عن المعاني بألفاظ تلك اللغة، كما أخبر بذلك عن نفسه رب العزة فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}»[10].
ثم إن العقيدة الأشعرية التي تنص على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، محدثة فيهم، مقدرة عليهم من قبل الله تعالى، كما قال أبو الحسن الأشعري: «أعمال العباد مخلوقة لله مقدرة كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[11]، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً، وهم يخلقون، كما قال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}[12]»[13].
كان من شأنها أن تؤثر في موقف علماء الأشاعرة من أصل اللغة، ومن طبيعة العلاقة القائمة بين الألفاظ ومعانيها.
يقول مصطفى مندور: «فعندهم أن القدرة الإلهية هي علة وجود العالم، ولن تخرج اللغة عن طاقة العلة ودورها»[14]. فإذا كان الله تعالى هو الخالق لأفعال عباده، فإنه تعالى هو خالق اللغة، وواضع الألفاظ للمعاني، وقد أوحى إلى آدم بها، وعلمه التعبير عن المعاني بتلك الأسماء التي أوحى له بها.
ويتجلى هذا واضحاً في مقدمة السيوطي لكتابه (المزهر) حيث يقول: «الحمد لله خالق الألسن واللغات، واضع الألفاظ للمعاني، بحسب ما اقتضته حكمه البالغات، الذي علَّم آدم الأسماء كلها، وأظهر بذلك شرف اللغة وفضلها»[15].
أما دليل الأشاعرة العقلي على توقيفية اللغة، فهو أن الاصطلاح لا يكون إلَّا بلغة تم التواضع عليها من قبل، وإلَّا استحال التخاطب والتواصل بين الناس. فكل مواطأة أو مواضعة لغوية تحتاج في التخاطب بها إلى مواضعة أخرى قبلها يفهم منها قصد الاصطلاح؛ فدل ذلك على أن اللغة توقيف من عند الله تعالى.
يقول السيوطي: «واحتج القائلون بالتوقيف بوجوه... ورابعها -وهو عقلي- لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة، ويعود إليه الكلام، ويلزم إما الدور أو التسلسل في الأوضاع وهو محال، فلا بد من الانتهاء إلى التوقيف»[16].
ونعتقد أن بعض متأخري الأشاعرة الذين تمرسوا بالجدل الكلامي والنظر العقلي، كالإمام الجويني (ت478هـ) والإمام الغزالي (ت 505هـ) قد أفادوا من جهود المعتزلة، واقتنعوا بتلك الحجج العقلية والمنطقية التي استدلوا بها على اصطلاحية اللغة، فحاولوا التوفيق بين المذهبين، فجوزوا الرأيين معاً.
جاء في المزهر: «وقال إمام الحرمين في البرهان: اختلف أرباب الأصول في مأخذ اللغات، فذهب ذاهبون إلى أنها توقيف من الله تعالى، وصار صائرون إلى أنها تثبت اصطلاحاً وتواطؤاً... والمختار عندنا أن العقل يجوّز ذلك كله... وقال الغزالي في المنخول: قال قائلون: اللغات كلها اصطلاحية... وقال آخرون: هي توقيفية... ونحن نجوّز كونها اصطلاحية... ويجوز كونها توقيفية...وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} ظاهر في كونه توقيفيًّا وليس بقاطع، ويحتمل كونها مصطلحاً عليها من خَلْقِ الله تعالى قبل آدم»[17].
وسيزداد تأثر علماء الأشاعرة بالفكر الاعتزالي، وبموقفهم من أصل اللغة مع فخر الدين الرازي الذي أقر باصطلاحية اللغة، فقال: «ظهر ما قلناه أنه لا معنى للكلام اللساني إلَّا الاصطلاح من الناس على جعل الأصوات المقطعة والحروف المركبة معرفات لما في الضمائر، ولو قدرنا أنهم كانوا قد تواضعوا على جعل أشياء غيرها معرفات لما في الضمائر لكانت تلك الأشياء كلاماً أيضاً. وإذا كان كذلك لم يكن الكلام صفة حقيقية مثل العلم والقدرة والإرادة بل أمراً وضعيًّا اصطلاحيًّا»[18].
أما القائلون بأن اللغة تواضع واصطلاح فهم المعتزلة، يقول القاضي عبدالجبار: «فأما أبو هاشم رحمه الله، فإنه يبطل حاجة اللغات إلى التوقيف، بل يقول: إن القول بأن أصولها مأخوذة من التوقيف يستحيل؛ لأن التوقيف في تعليم الأسماء والصفات لا يصح أن يرد على وجه يعرف به المراد إلَّا والمواضعة على بعض اللغات قد تقدمت، ومتى لم تتقدم استحال ذلك»[19].
ويقصد المعتزلة بالوضع والاصطلاح أن اللغة نشأت نتيجة اتفاق وتواضع بين أفراد المجتمع للتواصل فيما بينهم: «وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيضعوا لكل واحد منها سِمَة لفظاً، إذا ذكر عرف به ما مسماه، ليمتاز من غيره، ولِيُغْنَى بذكره عن إحضاره إلى مَرْآة العين، فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره، لبلوغ الغرض في إبانة حاله»[20].
وكما قلنا سابقا فإن الإطار الصحيح الذي يمكننا من فهم موقف المعتزلة من هذه القضية هي الأسس الفكرية والعقدية التي يقوم عليها مذهبهم، خاصة عقيدتهم في التوحيد، والعدل. فأهل الاعتزال اعتمدوا العقل والجدل للدفاع عن العقيدة الإسلامية، ولنصرة مبادئهم وأصولهم الفكرية.
فالعقل عند أهل الاعتزال هو وسيلة الإنسان لمعرفة الله تعالى، وإدراك وحدانيته وتنزيهه عن الشبيه والمثيل. وهو وسيلتهم للتمييز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل. وهو أيضاً وسيلتهم لفهم الشريعة، وللدفاع عن العقيدة، ولنصرة مبادئهم وأصولهم الفكرية.
فكل ما ورد في القرآن من آيات يجب عرضها على دليل العقل، فما وافقه من آيات حمل على الظاهر، وما خالفه حمل على المجاز؛ ولا يكتمل عمل العقل إلَّا بالقدرة والاستطاعة التي زود الله بها عباده لتعينهم على القيام بواجب التكليف.
يقول القاضي عبدالجبار: «فكما أنه يقبح التكليف مع زوال العقل، وكذلك مع عدم القدرة، وإن شئت ذكرت الآلة فتقول: إن الفعل كما يحتاج إلى الآلة، فكذلك يحتاج إلى القدرة»[21].
وقد كان من الطبيعي أن يقوم تصور المعتزلة لأصل اللغة ولنشأتها على أساس عقلي، وأن يكون منسجماً مع مبادئهم ومعتقداتهم. فاللغة عندهم ظاهرة اجتماعية يصنعها الإنسان الذي يملك القدرة على صنعها، فهو خالق لأفعاله خيرها وشرها، حسنها وقبيحها، بحسب قصده ودواعيه، وبمقتضى حريته واختياره، وبقدرة خلقها الله فيه؛ إذ لو لم يكن خالقاً لأفعاله لبطل التكليف.
يقول القاضي عبدالجبار: «أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم المحدثون لها... وتحريرها هو أن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا، ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا»[22].
أما قوله تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[23]، فظاهر الآية يفيد أن الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد، لذلك حملها المعتزلة على المجاز وأوَّلوها تأويلاً يتفق وعقيدتهم في العدل. فعندهم أن الآية تدخل في باب المبالغة، لأننا إذا اعتبرنا أن الله تعالى خالق حقيقة كل شيء، لتوهم أنه خالق كذلك لأفعال عباده خيرها وشرها، حسنها وقبيحها، وذلك غير جائز، لأنه يفيد الجبر وينافي عدله سبحانه وتعالى.
يفسر القاضي عبدالجبار الآية بقوله: «وجوابنا أن هذا الظاهر متروك بالاتفاق... فنتأوَّله على وجه يوافق الدليل العقلي، فنقول: إن المراد به {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي معظم الأشياء، والكل يُذكر ويُراد ما أردنا، قال الله تعالى في قصة بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ}[24]، مع أنها لم تؤتَ كثيراً من الأشياء»[25].
ثم إن القول باصطلاحية اللغة ينسجم مع مفهوم التوحيد -كما تصوره المعتزلة-، فهو تعالى منزه عن كل شريك أو مثيل أو شبيه تنزيهاً مطلقاً، والتوقيف يفيد مشابهة الله تعالى للبشر؛ لأن مواضعة الله جل شأنه لآدم على اللغة، أي تعليمه أسماء الأشياء، تحتاج للإشارة الحسية الجسدية، إما باليد أو العين أو الحاجب أو غيرها، نحو المومأ إليه والمشار نَحْوَه لتخصيصه بالاسم.
يقول ابن جني: «ثبت أن المواضعة لا بد معها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه، والمشار نحوه. والقديم سبحانه لا جارحة له فيصح الإيماء والإشارة بها منه، فبطل عندهم أن تصح المواضعة على اللغة منه»[26].
وهذا الرأي يؤكده القاضي عبدالجبار بقوله: «وأما أول المواضعات فلا بد فيه من تقدم الإشارة التي تخصص المسمى... ولذلك جوزنا من القديم تعالى تعليمه لغة بعد تقدم المواضعة على لغة، ولم نجوّز أن يبتدئ بالمواضعة لاستحالة الإشارة عليه سبحانه»[27].
أما حججهم النقلية التي تزكي ما يقره العقل، فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}[28]، فهذه الآية دليل نقلي قاطع -حسب المعتزلة- على أن الواضع للغة هو الإنسان، فهي نتاج بشري خالص تواضع عليه أفراد المجتمع للتواصل فيما بينهم، وليفهم بعضهم عن بعض، وهي تتقدم في الوجود على بعثة الأنبياء إلى أقوامهم[29].
فلكي يكون كلامه تعالى مفهوماً ومفيداً لمن يخاطبهم، لا بد أن تسبقه مواضعة ومواطأة على اللغة بين البشر حتى يصح أن يخاطبهم الله تعالى بما يفهمون، وبما تواضعوا عليه. يقول القاضي عبدالجبار: «لا بد من مواضعة يتواضع عليها المخاطب أولاً ليصح أن يفهم عن الله سبحانه ما يخاطبه به... فمتى لم يتقدم عن المخاطب لغة، لم يعلم مراده عز وجل بكلامه، لأنه إنما يعلم ذلك متى تقدم منه ما يقتضي صرف خطابه إلى ما تعارفه من اللغات، فيكون خطابه دلالة على مراده بتقدم المواضعة»[30].
أما قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}[31]، فليس المقصود بـ(علَّم) في الآية أوحى إلى آدم وعلمه اللغة، بل المقصود أقدره على صنع اللغة ووضعها. يقول ابن جني: «إلَّا أن أبا علي رحمه الله قال لي يوماً: هي من عند الله، واحتج بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}، وهذا لا يتناول موضع الخلاف، وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها»[32].
ويؤكد القاضي عبدالجبار هذا بقوله: «وإذ قد عرفت حقيقة الكلام، فاعلم أنه من نعم الله تعالى العظام، لأنه به يتصور الإفهام والاستفهام... فلولا أنه تعالى بفضله وسعة جوده ألهمنا المواضعة على ذلك، وإلَّا كنا لا نتمكن من شيء من هذه الأشياء التي ذكرناها»[33].
أما الأسماء التي علمها الله آدم (عليه السلام) في الآية الكريمة {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} فالمقصود بها تلك الأسماء التي تقدمت المواضعة عليها بين الناس. يقول القاضي عبدالجبار: «ما علمه من الأسماء هو ما تقدمت المواضعة عليها وصارت بذلك أسماء، لأن الاسم إنما يسمى بذلك متى تقدمت فيه مواضعة، أو ما يجري مجراه؛ لأنه إنما يصير اسماً للمسمى بالقصد، ومتى لم يتقدم تعلقه بالمسمى لأجل القصد لم يسم بذلك»[34].
فالمواضعة الأولى لا بد وأن تصاحبها الإشارة بالجارحة، مضافاً إليها قصد المتكلم الذي يحقق للكلام بعده الدلالي، وكل كلام تكلم به المتكلم من غير قصد لم يكن دالًّا. ولما كان الله تعالى لا جارحة له فيصح الإيماء والإشارة بها منه، لم يصح أن تكون عملية الوضع الأولى للغة منه وإنما من وضع البشر.
لكن رغم هذا التأويل الذي افترضه ابن جني والقاضي عبدالجبار للآية الكريمة، فإن ذلك لا يمنعنا من القول بأن هذه الآية أوقعت المعتزلة في مأزق كبير، لأن ظاهرها صريح بأن الله هو الذي علَّم آدم اللغة.
ولذلك وجدنا بعض علماء المعتزلة تراوحت آراؤهم -كما رأينا ذلك مع بعض علماء الأشاعرة- بين الاصطلاح والتوقيف، كأبي علي الفارسي، وابن جني الذي يقول: «واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي... وذلك أنني إذا تأمَّلت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك عليَّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمح له أمام غَلْوَة السحر... وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل؛ فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفاً من الله سبحانه، وأنها وحي»[35].
لكن رغم حيرة ابن جني وتردده بين التوقيف والاصطلاح، فإننا نعتقد أنه يميل إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية وضعها الإنسان للتعبير والتواصل مع غيره من البشر؛ يؤكد ذلك تعريفه للغة بأنها «أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم»[36].
وهو تعريف يتفق مع تصور المعتزلة لماهية الكلام بوصفه صوتاً مقطعاً منظوماً؛ و قد قاسوا كلام الله تعالى على هذا الكلام المعقول في الشاهد، فاعتبروه كذلك حروفاً منظومة وأصواتاً مقطعة. يقول القاضي عبدالجبار: «كلام الله عز وجل من جنس الكلام المعقول في الشاهد، وهو حروف منظومة وأصوات مقطعة»[37].
فإذا كان القرآن الكريم نصًّا لغويًّا، وكان عبارة عن حروف وأصوات؛ والأصوات أعراض فانية لا يتصور وجودها في ذاته تعالى منذ الأزل، فالقرآن لا يمكن أن يكون صفة قديمة قائمة بذاته تعالى كما ذهب إلى ذلك الأشاعرة، وإنما هو محدث مخلوق. يقول القاضي عبدالجبار: «كلام الله تعالى ووحيه، وهو مخلوق محدث أنزله الله على نبيه، ليكون علماً ودالًّا على نبوته»[38].
ولما كان موضوع اللغة وثيق الصلة بالكلام، كان من غير المعقول أن يخرج الرأي في اللغة عمَّا وجب القول به في الكلام. فإذا لم يكن القرآن صفة قديمة لأنه عبارة عن حروف وكلمات وأصوات، فاللغة كذلك ليست قديمة لأنها أصوات، ويستحيل أن تتحقق في ذات الله منذ القدم. فاللغة إذن ليست من وضع الله تعالى وصنعه، وإنما هي تواضع واصطلاح بين بني البشر.
نختم حديثنا عن قضية أصل اللغة ونشأتها بالقول: إن علماء اللغة قديماً عالجوا هذه القضية انطلاقاً من مبادئهم الفكرية، وانتماءاتهم المذهبية، فكان لكل عالم تصوره الخاص لأصل اللغة ونشأتها.
ونظراً لقدم اللغة، وانعدام أدلة علمية دقيقة وكافية يمكن الاعتماد عليها في تحديد هذه النشأة، فقد أدَّى ذلك إلى وقوع العلماء في حيرة، كانت تظهر أحياناً في تجويزهم للرأيين معاً أي التوقيف والاصطلاح، كما رأينا ذلك مع الإمام الجويني والإمام الغزالي، وابن جني.
وهذا الذي دفع بعض العلماء إلى الانصراف عن الخوض في هذه النشأة واعتبار البحث فيها بحث عقيم وفضول من القول. يقول الإمام الغزالي: «وقد ذهب قوم إلى أنها اصطلاحية، إذ كيف تكون توقيفاً ولا يفهم التوقيف إذا لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفاً للمخاطب باصطلاح سابق. وقال قوم: إنها توقيفية، إذ الاصطلاح لا يتم إلَّا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع، ولا يكون ذلك إلَّا بلفظ معروف قبل الاجتماع للاصطلاح. وقال: قوم القدر الذي يحصل به التنبيه والبعث على الاصطلاح يكون بالتوقيف، وما بعده بالاصطلاح... أما الواقع من هذه الأقسام فلا مطمع في معرفته يقيناً إلَّا ببرهان عقلي، أو بتواتر خبر، أو سمع قاطع. ولا مجال لبرهان العقل في هذا، ولم ينقل تواتر، ولا فيه سمع قاطع؛ فلا يبقى إلَّا رجم الظن في أمر لا يرتبط به تعبد عملي ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة، فالخوض فيه إذن فضول لا أصل له»[39].
وهذا الرأي هو الذي توصَّل إليه علماء اللغة في العصر الحديث، إذ عدوا البحث في هذا الموضوع ضرباً من ضروب الحدس والتخمين، لأن نشأة اللغة غير معروفة، ويتعذر على الدارسين دراستها دراسة علمية دقيقة[40].
- 2 -
قضايا دلالية في الدرس اللغوي العربي
اهتم الدرس اللغوي العربي القديم بالبحث في الألفاظ ودلالتها، ضمن انشغاله بالبحث في أصل اللغة ونشأتها، وخصائص العربية وعلومها. وتكفي نظرة بسيطة يُلقيها الدارس على كتب اللغة، ككتاب (فقه اللغة) لابن فارس (ت395هـ)، و(فقه اللغة وسر العربية) للثعالبي (ت429هـ)، و(الخصائص) لابن جني (ت392هـ)، و(المزهر) للسيوطي (ت 911هـ)؛ ليلاحظ تلك الجهود الكبيرة التي بذلها هؤلاء العلماء لخدمة لغتهم.
ومن أهم القضايا التي استأثرت باهتمام علماء اللغة العرب قديماً قضايا الدلالة، أو بعبارة أدق علاقة الألفاظ بمعانيها، وطرق دلالتها عليها. فدلالة اللفظ على معناه عند اللغويين العرب تحتمل وجوهاً متعددة، أشار إليها ابن فارس في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة) باب (الأسماء وكيف تقع على المسميات) بقوله: «يسمى الشيئان المختلفان بالاسمين المختلفين، وذلك أكثر الكلام كرجل وفرس. وتسمَّى الأشياء الكثيرة بالاسم الواحد نحو: عين الماء، وعين المال، وعين السحاب. ويسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة، نحو: السيف والمهند والحسام... ومن سنن العرب في الأسماء أن يسموا المتضادين باسم واحد، نحو (الجَوْن) للأسود و(الجَوْن) للأبيض»[41].
حصر ابن فارس -في هذه القولة- دلالة الألفاظ على معانيها في مستويات أربعة هي:
1- ألفاظ متباينة ذات معانٍ متباينة، كرجل وامرأة وفرس وسيف ورمح، وهذا أكثر الكلام.
2- لفظ واحد يطلق على معانٍ متعددة ومتنوعة، كلفظة العين تطلق على عين الماء، وعين السحاب، وعين المال، وعين الميزان، وعين الركبة، وهذا ما يسمى بالاشتراك اللفظي.
3- ألفاظ متعددة ومتباينة تطلق على معنى واحد، كالسيف والمهند، والعضب والحسام. وهذا ما يسمى بالترادف.
4- لفظ واحد يطلق على معنيين مختلفين متضادين، كإطلاق لفظ الجون على الأبيض والأسود، وهو ما يسمى بالتضاد.
وليس هدفنا من دراسة هذه الظواهر اللغوية، أن نثبت صحة وقوعها أو عدمه في اللغة العربية، ولا أن نبحث عن الأسباب التي أدَّت إلى وقوعها في اللغة، ثم نفسر تلك الأسباب ونعللها تعليلاً علميًّا، فكل هذه الأمور وقف عندها الدارسون المحدثون وفصلوا القول فيها[42].
لقد انصب اهتمامنا طيلة هذه الدراسة على الكشف عن تلك العلاقة القوية بين مواقف العلماء من الترادف والاشتراك اللفظي والأضداد، وبين مبادئهم الفكرية والعقدية التي ينطلقون منها، إيماناً منا بأن هذه الخطوة ستقودنا إلى الفهم الصحيح لمواقف العلماء من هذه الظواهر اللغوية.
2-1- الترادف
معناه -كما رأينا مع أحمد بن فارس- تسمية الشيء الواحد بالأسماء المختلفة، نحو السيف والمهند والحسام. جاء في كتاب التعريفات للشريف الجرجاني (ت816هـ): «المترادف ما كان معناه واحداً، وأسماؤه كثيرة، وهو ضد المشترك أخذاً من الترادف الذي هو ركوب أحد خلف آخر، كأن المعنى مركوب، واللفظين راكبان عليه، كالليث والأسد»[43].
وقد أثارت ظاهرة الترادف خلافاً وجدالاً واسعاً بين علماء اللغة العرب قديماً، من حيث وقوعها في اللغة العربية وعدمه؛ فأنكر فريق منهم وقوعها، ووضع المصنفات والكتب لالتماس الفروق اللغوية بين الكلمات؛ وأثبتها فريق آخر، واعتبرها خاصية عربية، ومظهراً من مظاهر ثرائها واتساعها في القول والتعبير، واهتم بجمع الألفاظ المترادفة في اللغة، وأفردها بالتأليف والتصنيف.
والواقع أن هذا الخلاف كان مرده في أحيان كثيرة إلى خلاف فكري ومذهبي بين علماء اللغة قديماً حول أصل اللغة ونشأتها، فعن تصورهم لحقيقة هذه النشأة تحدد موقفهم من ظاهرة الترادف.
فمن أبرز العلماء الذين أنكروا الترادف في اللغة العربية ابن العربي (ت233هـ)، وابن درستويه (ت347 هـ)، وأبو علي الفارسي (ت377هـ)، وأبو هلال العسكري (ت 386هـ)، وأحمد بن فارس (ت 395هـ).
فالترادف الحقيقي -حسب هؤلاء المنكرين- هو ما حصل بين ألفاظ بينها تطابق واتحاد تام في المعنى، وما تحقق في اللهجة الواحدة، أما ما كان من لهجتين مختلفتين أو أكثر، أو كان بين كلمات بينها فروق معنوية، فليس من الترادف في شيء[44].
يقول ابن درستويه: «لا يكون فَعَلَ وأَفْعَلَ بمعنى واحد، كما لم يكونا على بناء واحد، إلَّا أن يجيء ذلك في لغتين مختلفتين، فأما من لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظان والمعنى واحد، كما يظن كثير من اللغويين والنحويين، وإنما سمعوا العرب تتكلم بذلك على طباعها، وما في نفوسها من معانيها المختلفة، وعلى ما جرت به عادتها وتعارفها، ولم يعرف السامعون لذلك العلة فيه والفروق، فظنوا أنهما بمعنى واحد، وتأوَّلوا على العرب هذا التأويل من ذات أنفسهم... وليس يجيء شيء من هذا الباب إلَّا على لغتين متباينتين كما بيَّنَّا، أو يكون على معنيين مختلفتين»[45].
فالاسم الواحد في لغة العرب -حسب هؤلاء العلماء- قد يسمى بأسماء مختلفة، ولكن عند التدقيق والتأمل نجد أن له اسماً واحداً في الأصل، وبقية الأسماء صفات للمسمى تختلف باختلاف خصائص ذلك الاسم. فالسيف مثلا هو الاسم، وبقية أسمائه الأخرى صفات له.
جاء في المزهر: «حكى الشيخ القاضي أبو بكر بن العربي بسنده عن أبي علي الفارسي قال: كنت بمجلس سيف الدولة بحلب وبالحضرة جماعة من أهل اللغة وفيهم ابن خالويه؛ فقال ابن خالويه: أحفظ للسيف خمسين اسماً، فتبسم أبو علي وقال: ما أحفظ له إلَّا اسماً واحداً وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المهند والصارم وكذا وكذا؟. فقال أبو علي: هذه صفات، وكأن الشيخ لا يفرّق بين الاسم والصفة»[46].
ويعد أحمد بن فارس من أبرز العلماء الذين أنكروا وقوع الترادف في اللغة، حيث يقول: «والذي نقوله في هذا: إن الاسم واحد وهو السيف، وما بعده من الألقاب صفات. ومذهبنا أن كل صفة منها فمعناها غير معنى الأخرى... وبهذا نقول، وهو مذهب شيخنا ابن العباس أحمد بن يحيى بن ثعلب»[47].
يتضح من كلام ابن فارس أنه ينكر وقوع الترادف في اللغة، فليس هناك تطابق تام بين دلالة كلمتين، بل هناك فروق معنوية دقيقة بين الكلمات تلحظ في الاستعمال من خلال السياق.
ومن ثم فقد حمل الترادف على الوصف، فجعل ألفاظاً مثل المهند والحسام والفيصل والبتار والصارم والهندي واليمني، صفات تدل على خصائص السيف لا السيف نفسه؛ ولكل صفة من هذه الصفات معنى خاص يخالف معنى الصفة الأخرى. فالصارم مثلاً يدل على السيف مع صفة الحدة والشدة، والهندي يعني أنه منسوب إلى بلاد الهند، واليمني منسوب إلى بلاد اليمن، والفيصل لأنه يفصل أجزاء الجسم بعضها عن بعض، والحسام لأنه يحسم أي يقطع ويفصل.
وما ينطبق على الأسماء ينطبق على الأفعال كذلك، فلكل فعل معنى خاص ينفرد به، وإذا شارك فعل فعلاً في جانب من الدلالة خالفه في جانب آخر، وهذه المخالفة تجعله فعلاً آخر ذا مدلول آخر.
يقول ابن فارس: «وكذلك الأفعال نحو: مضى وذهب وانطلق وقعد، وجلس ورقد، ونام وهجع. قالوا: ففي (قعد) معنى ليس في (جلس)، وكذلك القول فيما سواه... ونحن نقول: إن في (قعد) معنى ليس في (جلس)، ألا ترى أنا نقول: (قام ثم قعد) و(أخذه المقيم والمقعد)... ثم نقول: (كان مضطجعاً فجلس) فيكون القعود عن قيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس، لأن (الجلس): (المرتفع)، فالجلوس ارتفاع عمَّا دونه، وعلى هذا يجري الباب كله»[48].
ونعتقد أن الأسباب الحقيقية التي دفعت أحمد بن فارس وغيره من العلماء إلى إنكار الترادف، إيمانهم بتوقيفية اللغة. فالله تعالى قد سمى الأشياء بأسمائها، فسمى كل شيء باسم واحد وليس أكثر، لأن تسمية الشيء بغير اسم واحد يدل على تعدد الواضع، وهذا يتنافى مع القول بتوقيفية اللغة، وأنها من وضع الله تعالى وصنعه، لأننا: «إذا عددنا هذه الأسماء مرتجلة في الأصل لِتَدُل كل كلمة على معنى، فإن تعددها يعني الوضع والاصطلاح، ويخالف مذهب ابن فارس في نشأة اللغة. وإذا عددناها صفات مشتقة من أصول، فهذا يعني أن الناس نقلوها من أصولها الاشتقاقية الأولى، فوصفوا بها الشيء الأول المرتجل كالحجر والسيف والأسد، وهذا النقل من استعمال إلى استعمال لا ينزع منها صفة التوقيف، فتبقى بذلك إلهية الأصل، بشرية النقل، أو توقيفية الارتجال، اصطلاحية الاستعمال كما يريد ابن فارس للغة أن تكون»[49].
ثم إن القول بالترادف -حسب المنكرين- لهذه الظاهرة اللغوية، يفيد عدم حكمة الواضع الأول للغة الذي هو الله تعالى. فاللغة في الأصل إنما وضعت للإبانة عن المعاني، ووجود الكلمات المتعددة التي تدل على المعنى الواحد تتنافى مع هذا الغرض؛ ومن ثم كان الإقرار بالترادف قول فاسد، مخالف للحكمة والصواب.
يقول أبو هلال العسكري: «الشاهد على أن اختلاف العبارات والأسماء يوجب اختلاف المعاني، أن الاسم كلمة تدل على معنى دلالة الإشارة، وإذا أشير إلى الشيء مرة واحدة فعرف، فالإشارة إليه ثانية وثالثة غير مفيدة. وواضع اللغة حكيم لا يأتي فيها بما لا يفيد. فإن أشير منه في الثاني والثالث إلى خلاف ما أشير إليه في الأول كان ذلك صواباً، فهذا يدل على أن كل اسمين يجريان على معنى من المعاني، وعين من الأعيان في لغة واحدة، فإن كل واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر، وإلَّا لكان الثاني فضلاً لا يحتاج إليه»[50].
وقد حرص هؤلاء العلماء المنكرون لوقوع الترادف في اللغة على إظهار الفروق الدلالية الدقيقة الخفية بين الألفاظ التي يظن أنها مترادفة، إذ في كل لفظين وإن دلَّا على معنى واحد، معنى خاص يميزه من الآخر. يقول ابن فارس: «وقد جردنا في هذا كتاباً ذكرنا فيه ما احتجوا به، وذكرنا رَدَّ ذلك ونقضه، فلذلك لم نكرره. من ذلك (المائدة) لا يقال لها (مائدة) حتى يكون عليها الطعام، لأن المائدة من(مادني يميدني) إذا أعطاك، وإلَّا فاسمها (خوان). وكذلك (الكأس) لا يكون ( كأساً) حتى يكون فيها شراب، وإلَّا فإنها (قدح) أو (كوب)... ومن ذلك ( السَّجْل) لا يكون (سجلاً) إلَّا أن يكون دلواً فيه ماء»[51].
ولعل أشهر الكتب التي اهتمت بإظهار الفروق المعنوية بين الكلمات التي يعتقد أنها مترادفة، كتاب (الفروق اللغوية) لأبي هلال العسكري، حرص فيه على بيان الفروق الدلالية بين الألفاظ، وعلى تحديد معاني الكلمات تحديداً دقيقاً؛ فخصص لكل معنى اللفظ المناسب والملائم له؛ من ذلك مثلاً تفريقه بين (التأليف والتنظيم والترتيب) حيث يقول: «الفرق بين التأليف والترتيب والتنظيم، أن التأليف يستعمل فيما يؤلف على استقامة أو على اعوجاج. والتنظيم والترتيب لا يستعملان إلَّا فيما يؤلف على استقامة، ومع ذلك فإن مع الترتيب والتنظيم فرقاً، وهو أن الترتيب هو وضع الشيء مع شكله، والتنظيم هو وضعه مع ما يظهر به. ولهذا استعمل النظم في العقود والقلائد، لأن خرزها ألوان يوضع كل شيء منها مع ما يظهر به لونه»[52].
أما المثبتون للترادف فهم أغلب علماء اللغة، نذكر منهم سيبويه (ت 180هـ ) وابن خالويه (ت 272هـ)، والمبرد (ت 285هـ) والرماني (ت 384هـ) صاحب كتاب «الألفاظ المترادفة»؛ ثم ابن جني الذي اعتبر الترادف من خصائص اللغة العربية، ودليلاً على شرفها، حيث يقول: «هذا فصل من العربية حسن كثير المنفعة، قوي الدلالة على شرف هذه اللغة، وذلك أن تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة، فتبحث عن أصل كل اسم منها، فتجده مفضي المعنى إلى معنى صاحبه»[53].
إن الترادف حسب كل هؤلاء العلماء، ظاهرة لغوية عربية أصيلة، وخاصية من خصائصها المميزة لها؛ ومن ثم لم ينشغلوا بالتماس الفروق المعنوية بين الكلمات المترادفة، بل أنكروا على الفريق المنكر لوقوع هذه الظاهرة في اللغة تكلفهم وتعسفهم في البحث عن هذه الفروق؛ فحتى وإن وجدت، فلا مناص من التسليم بوجود الترادف في لغة العرب الذي يعتبر دليلاً قويًّا على ثروتها اللفظية، واتساع طرق تعبيرها في الكلام؛ وهذا ما جعلها تحتل الريادة في التعبير، والصدارة في الفصاحة والبلاغة.
يتحدث السيوطي على لسان هؤلاء العلماء عن الإمكانات التعبيرية والبلاغية التي يتيحها الترادف لمتكلمي اللغة العربية فيقول: «وله فوائد منها: أن تكثر الوسائل -أي الطرق- إلى الإخبار عمَّا في النفس... ومنها التوسع في سلوك طرق الفصاحة وأساليب البلاغة في النظم والنثر، وذلك لأن اللفظ الواحد قد يتأتى باستعماله مع لفظ آخر السجع والقافية والتجنيس والترصيع، وغير ذلك من أصناف البديع، ولا يتأتى ذلك باستعمال مرادفه مع ذلك اللفظ»[54].
ويجمع المثبتون للترادف في اللغة على أن أهم أسباب حدوث هذه الظاهرة اللغوية هي: تعدد اللهجات القديمة، حيث تضع إحدى القبائل اسماً لشيء معين، ثم تضع قبيلة أخرى اسماً آخر لذلك الشيء ذاته، وبسبب احتكاك هذه القبائل بعضها مع بعض، أخذت كل لهجة مفردات كثيرة من لهجات أخرى، وقد تكون بعض هذه المفردات لها نظائرها في تلك اللهجة؛ وعندما جمع العلماء لغة العرب، لم يفرقوا بين اللهجات، وهذا ما أدى إلى وجود كثير من الألفاظ التي تدل على مسمى واحد.
وهذا أمر لا ينكره حتى بعض اللغويين المنكرين للترادف، كابن درستويه الذي جوز وقوع الترادف بين كلمتين مختلفتين من لهجتين أو لغتين مختلفتين حيث يقول: «ولا يجوز أن يكون لفظان مختلفان لمعنى واحد، إلَّا أن يجيء أحدهما في لغة قوم والآخر في لغة غيرهم، كما يجيء في لغة العرب والعجم، أو في لغة رومية ولغة هندية»[55].
وقد أخبر السيوطي عن هذه الحقيقة بقوله: «قال أهل الأصول: لوقوع الألفاظ المترادفة سببان: أحدهما أن يكون من واضعين وهو الأكثر، بأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين، والأخرى الاسم الآخر للمسمى الواحد، من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى، ثم يشتهر الوضعان، ويخفى الواضعان، أو يلتبس وضع أحدهما بوضع الآخر، وهذا مبني على كون اللغات اصطلاحية»[56].
فالقول بالترادف في اللغة، يتوافق -حسب السيوطي- مع الرأي القائل باصطلاحية اللغة. فإذا كانت اللغة قد استحدثت بالتواضع والاتفاق، أي ما يتفق عليه الناس من ألفاظ إذا اجتمعوا فاحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء؛ فلا مانع من أن يجتمع حكيمان أو أكثر في مكان ما، فيتواضعون على لفظ لمعنى ما، ويجتمع آخرون في مكان آخر فيتواضعون على لفظ آخر للمعنى نفسه. فنظرية الاصطلاح تتوافق مع إعطاء المعنى الواحد أكثر من اسم واحد، لتعدد الواضع للأسماء.
2-2- الاشتراك اللفظي
لقي المشترك عناية كبيرة من قبل اللغويين العرب قديماً، ومعناه دلالة اللفظ الواحد على أكثر من معنى. جاء في المزهر: «وقد حده أهل الأصول بأنه اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر، دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة»[57].
ويكون في الأسماء، كما يكون في الأفعال والحروف. فمثاله في الأسماء لفظ (العين) يطلق على عين الماء، وعين السحاب، وعين المال. ومثاله في الأفعال: فعل (قضى) يكون بمعنى (حتَم)، ويكون بمعنى (أمر) وبمعنى (أعلم)، وبمعنى (صنع)، كما يكون بمعنى (فرغ)[58]. ومثاله في الحروف: حرف (من) فإنه يفيد معنى الابتداء والتبعيض والجنس.
وكما اختلف العلماء حول وقوع الترادف في اللغة، اختلفوا كذلك حول وقوع المشترك، وأسباب وقوعه فيها. فذهب فريق إلى إنكار وروده في اللغة، وذهب أغلب اللغويين إلى الإقرار بوقوعه، واعتبروه مظهراً من مظاهر الاتساع في العربية. ومن هؤلاء أبو عبيدة (210هـ)، والأصمعي (ت215هـ)، وابن خالويه (ت 370هـ)، وأحمد بن فارس (ت 395هـ)، وفخر الدين الرازي (ت 606هـ).
يقول السيوطي: «فالأكثرون على أنه ممكن الوقوع، لجواز أن يقع إما من واضعين، بأن يضع أحدهما لفظاً لمعنى، ثم يضعه الآخر لمعنى آخر، ويشتهر ذلك اللفظ بين الطائفتين في إفادته المعنيين، وهذا على أن اللغات غير توقيفية... والأكثرون أيضاً على أنه واقع لنقل أهل اللغة ذلك في كثير من الألفاظ.
ومن الناس من أوجب وقوعه، قال: لأن المعاني غير متناهية، والألفاظ متناهية، فإذا وزع لزم الاشتراك»[59]، فحسب السيوطي، فإن القول بورود المشترك اللفظي في اللغة يتفق مع الرأي القائل باصطلاحيتها؛ ولذلك نجد أن كل اللغويين الذين قالوا بتواضع اللغة وأنها من صنع الإنسان، أقروا بوجود المشترك في اللغة، وفسروا وجوده بعدة أسباب أهمها: تعدد الواضع للغة، وتداخل اللهجات نتيجة توحد القبائل العربية بعد مجيء الإسلام.
وعلى الرغم من إيمان أحمد ابن فارس الشديد بتوقيفية اللغة، وأنها من وضع الله تعالى -وهو إيمان دفعه إلى إنكار وقوع الترادف في اللغة- فإنه أقر بوقوع المشترك كظاهرة لغوية عربية أصيلة، وسنة من سنن العرب في الكلام. وقد ضم كتابه «معجم مقاييس اللغة» أمثلة كثيرة منه، مما جاء فيه: «(سمو) السين والميم والواو أصلٌ يدل على العُلُوِّ. يقال سَمَوْت، إذا علوت. وسَمَا بصرُه: عَلا... والجمع سَماوٌ. والعرب تُسمِّي السّحاب سماءً، والمطرَ سماءً، فإذا أريدَ به المطرُ جُمع على سُمِيّ. والسَّماءة: الشَّخص. والسماء: سقف البيت. وكلُّ عالٍ مطلٍّ سماء، حتَّى يقال لظهر الفرس سَماء. ويتَّسِعون حتَّى يسمُّوا النَّبات سماء... ويقولون: (مازِلْنا نطأُ السَّماءَ حتَّى أتيناكم)، يريدون الكلأ والمطر»[60].
وقد تبع فخر الدين الرازي ابن فارس في الإقرار بالاشتراك، إلَّا أنه يعلل وقوعه في اللغة من وجهة فلسفية عقلية. فالألفاظ عنده محدودة متناهية، والمعاني غير محدودة ولا متناهية؛ فإذا وزع كل منهما على الآخر، عجزت الألفاظ عن الإحاطة بكل المعاني، لذلك لا ينبغي قصر لفظ واحد على معنى واحد، بل يلزم إطلاق اللفظ الواحد على معاني متعددة.
ويؤكد هذا قوله: «لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ، لأن المعاني التي يمكن أن تعقل لا تتناهى، والألفاظ متناهية؛ لأنها مركبة من الحروف، والحروف متناهية، والمركب من المتناهي متناهٍ، والمتناهي لا يضبط ما لا يتناهى، وإلَّا لزم تناهي المدلولات»[61].
وهو بهذا الرأي يوافق الجاحظ الذي يقول: «اعلم -حفظك الله- أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني معدودة، ومحصلة محدودة»[62].
وبالرغم من أن الإقرار بالمشترك اللفظي في اللغة أمر موضوعي، يشهد له الخطاب القرآني بكثرة مشتركه، وواقع الاستعمال اللغوي العربي كذلك؛ إلَّا أننا كنا ننتظر من ابن فارس وغيره من العلماء الذين أنكروا وقوع الترادف في اللغة -لأنه يتعارض مع القول بتوقيفيتها- أن يظلوا أوفياء لهذه العقيدة، كما كان الحال مع ابن درستويه.
فاللغة عند أحمد بن فارس -كما قلنا سابقاً- إلهية المنشأ، تتسم بالكمال بسبب أصلها الإلهي. فالله تعالى هو الذي علم آدم الأسماء كلها، ومن ثم فمدلولات هذه الأسماء ينبغي أن تكون واضحة محددة، لا يكتنفها نقص أو لبس منذ أن تلقَّاها آدم عن ربه، ثم علَّمها أبناءه أجمعين. فإذا كان لا يصح في حق الواضع الأول للغة أن يضع ألفاظاً متعددة للمعنى الواحد، لما في ذلك من تعمية وتغطية للمعنى؛ فإن وضع اللفظ الواحد للمعاني الكثيرة فيه كذلك لبس وتغطية للمعنى، وتعطيل لعملية الفهم والتبليغ التي من أجلها وضعت اللغة: «حدها أنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم»[63].
فاللغة هي أكبر وسيلة للتعبير عما في الضمائر، والإبانة والكشف عما في النفوس من المعاني الخفية؛ ولذلك جعلها الله تعالى من أعظم آياته فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[64].
والمعنى اللغوي لمصطلح البيان هو الإظهار والكشف والتوضيح، جاء في لسان العرب لابن منظور: «والبيان: ما بُيِّن به الشيء من الدلالة وغيرها. وبان الشيء بياناً: اتضح فهو بَيِّن... وأبنته أي أوضحته، واستبان الشيء: ظهر... وتبين الشيء ظهر... والتبيين أيضاً: الوضوح... ومنه حديث آدم وموسى على نبينا محمد وعليهما الصلاة والسلام: أعطاك الله التوراة فيها تبيان كل شيء: أي كشفه وإيضاحه»[65].
وهذا المدلول اللغوي يتفق ومعنى البيان في الآية الكريمة {خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي علمه المنطق الفصيح الموضح والمعرب عما في الضمير، وعلمه اللغة التي يعبر بها عن أغراضه، ويكشف بها عن أحاسيسه بأحسن الألفاظ وأفصحها.
يقول الطاهر بن عاشور: «علمه البيان خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإيجاد (خلق الإنسان)، أي علم جنس الإنسان أن يبين عما في نفسه... والبيان: الإعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق، وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم. وأما البيان من غير النطق من إشارة وإيماء ولمح النظر فهو أيضاً من مميزات الإنسان وإن كان دون بيان النطق. ومعنى تعليم الله الإنسان البيان: أنه خلق فيه الاستعداد لفعل ذلك، وألهمه وضع اللغة للتعارف، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}[66] في سورة البقرة»[67].
يتضح من كلام الطاهر بن عاشور أن اللغة وسيلة للإبانة والكشف عن المعاني والأفكار دقيقها وخفيّها، وإذا ابتعدت اللغة عن هذه الوظيفة أي الإيضاح والكشف، لم تعد بياناً، وأصبحت دافعاً للغموض والتعقيد والإبهام.
ويبدو أن ورود أمثلة كثيرة من المشترك في القرآن الكريم[68]، دفعت أحمد بن فارس وغيره من اللغويين وعلماء البلاغة والإعجاز إلى الاحتفاء بهذه الظاهرة اللغوية، والإقرار بوجودها في اللغة العربية وفي القرآن الكريم الذي جاء على معهود العرب في القول والبيان؛ بل لقد عده السيوطي وجهاً من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم فقال: «وقد جعل بعضهم ذلك من أنواع معجزات القرآن، حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجهاً وأكثر وأقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر»[69].
وقد عدد السيوطي لكلمة (الهدى) في القرآن الكريم سبعة عشر وجهاً هي: الثبات والبيان والدين والإيمان والدعاء والرسل والكتب والمعرفة والنبي والقرآن والتوراة والاسترجاع والحجة والتوحيد والسنة والإصلاح والإلهام والتوبة والإرشاد[70].
أما المنكرون لظاهرة الاشتراك في اللغة، فأبرزهم ابن درستويه (ت347هـ) الذي لم يُقر بوجوده في اللغة إلَّا على نطاق ضيق جدًّا، كما سبق وأنكر وقوع الترادف أيضاً. وسبب الإنكار عنده، أن الاشتراك في اللفظ يتنافى مع حكمة الوضع. فاللغة توقيفية من الله تعالى، وهو حكيم عليم، لا يجوز في حقه تعالى أن يضع اللفظ الواحد لمعانٍ كثيرة، لما في ذلك من لبس وغموض. يقول: «فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين أو أحدهما ضدٌّ للآخر، لما كان ذلك إبانة بل تغطية وتعمية. ولكن قد يجيء الشيء النادر من هذا لعلل... فيتوهم من لا يعرف العلل أنهما لمعنيين مختلفين وإن اتفق اللفظان، والسماع في ذلك صحيح من العرب، والتأويل عليهم خطأ. وإنما يجيء ذلك في لغتين متباينتين، أو لحذف واختصار وقع في الكلام حتى اشتبه اللفظان، وخفي سبب ذلك على السامع»[71].
وقد ذهب إلى هذا الرأي أيضاً ابن حزم (ت 456هـ) الذي طالب بتخصيص كل لفظ بمعنى واحد لما في ذلك من حكمة يقتضيها العقل والنقل معاً. فقال: «لكل مسمى من عرض أو جسم اسماً يختص به، يتبين به مما سواه من الأشياء ليقع بها التفاهم، وليعلم السامع المخاطَب به مراد المتكلم المخاطِب له، ولو لم يكن ذلك لما كان تفاهم أبداً، ولبطل خطاب الله تعالى لنا، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ}[72]، ولو لم يكن لكل معنى اسم منفرد به لما صح البيان أبداً، لأن تخليط المعاني هو الإشكال نفسه، فإذن الأصل ما ذكرناه بضرورة العقل، وبنص القرآن؛ ثم وجدنا في اللغة أشياء مما ذكروا من أسماء تقع على معان شتى، ووجدناها أيضاً أسماء يختص كل اسم منها بمسماه فقط، وعلمنا أن المراد باللغة إنما هو الإفهام لا الإشكال، لزمنا أن نلزم الأصل الذي هو اختصاص كل معنى باسمه دون أن يشاركه فيه غيره»[73].
واضح من هاتين القولتين أن ابن درستويه وابن حزم ينكران وقوع المشترك في اللغة، لما في ذلك من مفسدة ومجانبة للصواب والحكمة، لا تجوز أن تصدر عن واضع اللغة أي الله تعالى، فالألفاظ إنما وضعت للإبانة عن المعاني، فإذا وضع لفظ واحد لمعان كثيرة لم يكن ذلك إبانة، بل غموضاً وإبهاماً، وإخلالاً بعملية الفهم والإفهام.
أما ما ورد منه في اللغة فهو حسب ابن درستويه قليل ونادر، وقد جاء لعلل وأسباب أهمها: اختلاف وتداخل اللهجات، والحذف والاختصار في الكلام، أو بسبب التوسع المجازي في المعنى؛ فهو ليس من المشترك اللفظي حقيقة، وإنما يوهم بذلك، لأن الكلمة انزاحت عن معناها الأصلي في اللغة إلى «معاني أخرى تنطوي على شيء من ذلك المعنى العام الذي ينتظم تلك المعاني، أو تختلف بعد ذلك في دلالاتها الخاصة بما لا يخرج عن ذلك المعنى الشامل»[74].
فكلمة (العين) مثلاً من الألفاظ المشتركة في العربية، تدل على معان كثيرة ذكرها السيوطي في المزهر: «قال الأصمعي في كتاب الأجناس: العين النقد من الدراهم والدنانير... والعين مطر أيام لا يقلع... والعين عين الإنسان التي ينظر بها، والعين عين البئر وهو مخرج مائها... والعين عين الركبة وهي النقرة التي عن يمين الرضفة وشمالها... وقال أبو عبد الله محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص: للعين في كلام العرب مواضع كثيرة: فالعين لكل ذي روح يبصر بها... والعين عين الميزان... والعين عين الكتابة، والعين التي تصيب الإنسان... والعين عين الشمس، والعين اسم من أسماء الذهب»[75].
فالأصل في لفظة العين أنها تطلق على عضو الإبصار عند الإنسان والحيوان، أما المعاني الأخرى فمن باب التوسع والتجوز في المعنى.
وقد حاول (حسن ظاظا) في كتابه (كلام العرب: من قضايا اللغة العربية) أن يقف على الدلالات المجازية لتلك المعاني الكثيرة التي تدل عليها كلمة (عين) فقال: «أما دلالتها على عين الماء، فلأن هذه تبدو للوارد عليها من أعالي الصحراء قطعة لامعة من الماء يحف بها النبات، فتكون أشبه بالعين بأهدابها. والعين بمعنى الدراهم والدنانير، سميت كذلك من نقد هذه النقود، وعدم جعلها ديناً أو مؤجلة، أي إنها تبرز تحت عين الطرفين، ولذلك يقولون: (أعطاه الثمن عيناً) أي نقداً... والعين بمعنى الإصابة بنظرة حاسدة، لأن العين أي عين الحسود، هي المتسببة في هذه الإصابة عند من يعتقدون ذلك. والعين أي ثقب الإبرة، لأن النور يدخل منه كما يدخل من العين المبصرة. كل هذا توسع، والمعنى اللغوي الأصلي هو العين المبصرة لا غيرها»[76].
فالواضع الأول للغة لم يكن يقصد كل تلك المعاني المختلفة للفظ العين، وإنما كان يقصد معنى واحداً، ثم استعمل مجازاً في معانٍ أخرى، اشتهرت وحصل تواطؤ عرفي ومجتمعي حولها.
إن المشترك الحقيقي حسب ابن درستويه إنما يكون حينما لا نلمح صلة بين المعنيين، كأن يقال مثلاً: أن الخال هو أخو الأم، وهو الشامة في الوجه، وهو المكان الخالي، والعصر الماضي، والسحاب، والجبل الأسود، والثوب الذي يستر به الميت، والبعير الضخم، والظن والتوهم، والرجل المتكبر، والرجل الجواد، والأكمة الصغيرة...إلخ[77].
فمثل هذه الألفاظ التي اختلف فيها المعنى اختلافاً بيِّناً قليلة جدًّا، بل نادرة في اللغة، وتحدث بسبب تداخل اللهجات.
2-3- الأضداد
يعتبر التضاد كذلك من الظواهر اللغوية التي أثارت نقاشاً طويلاً بين اللغويين قديماً، وانقسموا حولها بين مثبت ومنكر. ومعناه اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين متضادين داخل اللغة الواحدة، مثل: إطلاق لفظ (الجَوْن) على الأبيض والأسود، ولفظ (الصريم) على الليل والنهار، ولفظ (الجلل) على الكبير والصغير والعظيم، ولفظ (الرجاء) على الرغبة والخوف[78].
والتضاد كما يذهب إلى ذلك السيوطي هو نوع من المشترك، لأن «المشترك يقع على شيئين ضدين، وعلى مختلفين غير ضدين، فما يقع على الضدين كالجون وجلل، وما يقع على مختلفين غير ضدين كالعين»[79].
فمن أقر من علماء اللغة بالاشتراك كظاهرة لغوية عربية أقر بالتضاد، ومن أنكرها أنكر التضاد كذلك. ومن ثم فإن ما قاله السيوطي بخصوص الاشتراك يصدق كذلك على التضاد: «فالأكثرون على أنه ممكن الوقوع لجواز أن يقع إما من واضعين مختلفين... وهذا على أن اللغات غير توقيفية»[80].
فالقول بالتضاد -كما يظهر من نص السيوطي- يتفق مع القول بأن اللغة تواضع واصطلاح، وضعها الإنسان للتعبير عن أحاسيسه وأغراضه، وللتواصل مع بني جنسه من البشر ومن ثم فالعلاقة التي تربط بين الألفاظ ومعانيها هي علاقة اتفاقية، تقوم على ما يتفق عليه الناس، ويصطلحون على استخدامه.
وقد ظهر التضاد في العربية بسبب تعدد الواضع، بحيث يضع أحد الأفراد لفظاً لمعنى من المعاني في بيئة لغوية معينة، ويضع فرد آخر اللفظ ذاته لمعنى آخر مضاد للمعنى الأول، وعند جمع اللغة العربية، لم يفرق اللغويون بين اللهجات فوقع التضاد.
جاء في المزهر: «إذا وقع الحرف (يقصد اللفظ) على معنيين متضادين، فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما، ولكن أحد المعنيين لحي من العرب، والمعنى الآخر لحي غيره، ثم سمع بعضهم لغة بعض، فأخذ هؤلاء عن هؤلاء، وهؤلاء عن هؤلاء. قالوا: فالجون: الأبيض في لغة حي من العرب، والجون: الأسود في لغة حي آخر، ثم أخذ أحد الفريقين من الآخر»[81].
ويقع التضاد أيضاً في اللغة بسبب المجاز والتوسع والاختصار في الكلام، إذ الأصل في اللغة أن يوضع اللفظ الواحد للمعنى الواحد، لكن قد تتداخل الألفاظ على جهة الاتساع، كما رأينا سابقاً مع المشترك. فمن ذلك مثلا قوله تعالى: {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}[82]، فالقرء يطلق على الحيض والطهر. ومنه أيضاً قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}[83]، فلفظ (عسعس) مشترك بين الإقبال والإدبار.
ويؤكد السيوطي هذا الذي ذهبنا إليه بقوله: «إذا وقع الحرف على معنيين متضادين، فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع؛ فمن ذلك (الصريم)، يقال لليل صريم، وللنهار صريم؛ لأن الليل ينصرم من النهار، والنهار ينصرم من الليل، فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع»[84].
ويعد ابن درستويه من أبرز العلماء الذين أنكروا وقوع التضاد في اللغة -كما سبق وأنكر الترادف والمشترك- وأن يكون اللفظ الواحد قد وضع للشيء وضده؛ وألَّف كتاباً سمَّاه (في إبطال الأضداد) ذكره السيوطي في المزهر في قوله: «قال ابن درستويه في شرح الصحيح: النوء الارتفاع بمشقة وثِقل، ومنه قيل للكوكب قد ناء إذا طلع، وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط أيضاً، وأنه من الأضداد. وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في إبطال الأضداد»[85].
فابن درستويه ظل وفيًّا لموقفه من أصل اللغة، فهي توقيف من الله تعالى أوحى بها إلى آدم، ولقَّنه إياها؛ ومن ثم فالعلاقة القائمة بين الألفاظ ومعانيها هي كذلك من وضعه تعالى ووحيه، ويستحيل في حقه تعالى -وهو الحكيم العليم- أن يضع اللفظ الواحد لمعنيين مختلفين، لما في ذلك من تعارض مع حكمته تعالى، ولما في ذلك أيضاً من غموض ولبس في المعنى، وتعطيل لعملية الإفهام والفهم.
فالألفاظ -كما قلنا سابقاً- إنما وضعت للإبانة عن المعاني، فإذا وضع لفظ واحد للشيء وضده لم يكن ذلك إبانة أبداً. يقول ابن درستويه: «فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين، أو أحدهما ضِدٌّ للآخر، لما كان ذلك إبانة بل تعمية وتغطية»[86].
أما ما ورد منه في اللغة وهو قليل ونادر، فهو نتيجة حذف واختصار وتجوز في الكلام، أو بسبب اختلاف اللهجات، بحيث تستعمل إحدى اللهجات كلمة بمعنى ثم تستعمل لهجة أخرى الكلمة نفسها في المعنى المضاد، وعند جمع اللغة لم يفرق اللغويون بين اللهجات فوقع التضاد[87].
أما المثبتون للأضداد فهم كثيرون -كما قال السيوطي-، وأبرزهم ابن الأنباري (ت 327هـ) الذي يقول: «إن كلام العرب يصحح بعضه بعضاً، ويرتبط أوله بآخره، ولا يعرف معنى الخطاب منه إلَّا باستيفائه واكتمال جميع حروفه (يقصد ألفاظه). فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين، لأنها يتقدمها ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر»[88].
واضح من هذه القولة أن ابن الأنباري تنبَّه إلى ما يمكن أن تؤدي إليه الأضداد من غموض وإبهام في المعنى، مما يؤدي إلى تعطيل عملية الاتصال التي لا تتحقق إلَّا عن طريق البيان والوضوح؛ لذلك وجدناه يشير إلى دور السياق في تحديد المعنى المراد تحديداً يمنع اللبس والغموض الذي قد ينشأ من التضاد؛ وهو الأمر الذي يستند إليه ابن درستويه وغيره من منكري التضاد في اللغة.
يقول ابن الأنباري: «ومجرى حروف الأضداد التي تقع على المعاني المختلفة وإن لم تكن متضادة، فلا يُعرف المعنى المقصود منها إلَّا بما يتقدم الحرف ويتأخر بعده، مما يوضح تأويله»[89]. ويضرب ابن الأنباري مثالاً قول الشاعر:
كل شيء ما خلا الموت جلل
والفتى يسعى ويلهيه الأمل[90]
فكلمة (الجلل) في لغة العرب تطلق على الشيء العظيم، وعلى الشيء اليسير، والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد من الكلمة؛ وفي البيت الشعري يقصد بها الشيء اليسير. يقول ابن الأنباري: «فدل على ما تقدم قبل (جلل) وتأخر بعده، على أن معناه: كل شيء ما خلا الموت يسير، ولا يتوهم ذو عقل وتمييز أن (الجلل) ها هنا معناه عظيم»[91].
وممَّن أقر بالتضاد أيضاً ابن فارس الذي اعتبره سُنَّة من سنن العرب في الكلام، ومظهراً من مظاهر اتساعها في القول. يقول: «ومن سنن العرب في الأسماء أن يسموا المتضادين باسم واحد، نحو (الجَوْن) للأسود، و (الجَوْن) للأبيض»[92]؛ واستنكر ما ذهب إليه بعض العلماء كابن درستويه من إنكارهم وقوع التضاد في العربية فقال: «وأنكر ناس هذا المذهب، وأن العرب تأتي باسم واحد لشيء وضده. وهذا ليس بشيء، وذلك أن الذين رووا أن العرب تسمي السيف مهنداً، والفرس طِرْفاً، هم الذين رووا أن العرب تسمي المتضادين باسم واحد»[93].
والسؤال الذي يمكن أن نطرحه في هذا المقام لماذا أنكر ابن فارس الترادف في اللغة وأقر بوقوع المشترك اللفظي والأضداد؟ أليس الترادف سُنَّة من سنن العرب في الكلام كالمشترك اللفظي والأضداد؟
إن معظم علماء العربية أقروا بأن الترادف خاصية عربية أصيلة، ودليل على الثروة اللفظية للغة الضاد. يقول سيبويه: «اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين... فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب. واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق. واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدت عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وجدان الضّالة. وأشباه هذا كثير»[94].
فالترادف والاشتراك والتضاد كلها ظواهر عربية أصيلة، ومظهر من مظاهر اتساعها في القول. وابن فارس أقر بذلك حين قال: «وذلك أن الذين رووا أن العرب تسمي السيف مهنداً، والفرس طِرْفاً».
ونؤكد مرة أخرى أن الذي حمل ابن فارس على رفض وقوع الترادف في لغة العرب، إيمانه بأن اللغة توقيف من الله، فلو أقر بالترادف لوقع في التناقض لأنه يفيد تعدد الواضع.
ونعتقد -كما ذهبنا إلى ذلك عند حديثنا عن ظاهرة الاشتراك- أن إقرار ابن فارس وغيره من العلماء بظاهرة التضاد، ورود بعض الأمثلة منه في القرآن الكريم، كلفظ (أسر) الذي ورد بمعنيين متضادين، بمعنى (الإظهار) في قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ}[95]، وبمعنى ( الإخفاء) في قوله تعالى: {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ}[96]، وقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ}[97]. وكلفظ (ظن) الذي ورد بمعنى (الشك) في قوله تعالى: {قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا}[98]، وبمعنى (اليقين) في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ}[99].
يقول أبو حاتم السجستاني في كتابه الأضداد: «حملنا على تأليفه أنا وجدنا من الأضداد في كلامهم والمقلوب شيئاً كثيراً، فأوضحنا ما حضر منه، إذ كان يجيء في القرآن الظن يقيناً وشكًّا، والرجاء خوفاً وطمعاً، وهو مشهور في كلام العرب»[100].
ثم إن إقرار ابن فارس بالأضداد إنما كان دفاعاً عن العربية وعن القرآن في وجه الحركة الشعوبية التي اتَّخذت من الأضداد حجة للطعن في كتاب الله والحكم عليه بالتناقض، وفساد النظم؛ كما اتخذته حجة لازدراء العرب واتهامهم بضعف لغتهم وبعدها عن البلاغة والفصاحة. يقول ابن قتيبة: «وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون لغواً فيه، واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول، فحرَّفوا الكلم عن مواضعه، وعدَّلوه عن سبيله، ثم قضوا عليه بالتناقض والاستحالة، واللحن والاختلاف، وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر، والحديث الغر، وعرضت بالشبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور»[101].
ومن ثم فقد سعى هؤلاء العلماء إلى الدفاع عن لغتهم، باعتبار الأضداد سُنَّة من سنن العرب في الكلام، والدفاع عن كتابهم، وعن عربيته، وأنه جاء على معهودهم في القول والبيان. يقول أبو عبيدة: «ففي القرآن ما في الكلام العربي من الغريب والمعاني، ومن المحتمل من مجاز ما اختصر، ومجاز ما حذف، ومجاز ما كف عن خبر، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على الجمع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع ووقع معناه على الاثنين... وكل هذا جائز قد تكلموا به»[102].
خاتمة
في ختام هذه الدراسة نرجو أن نكون قد وُفِّقنا في تقديم قراءة جديدة لبعض قضايا اللغة العربية، وأن نكون قد كشفنا عن تلك الخلفيات المعرفية التي كانت تُوجِّه علماء اللغة في معالجتهم لهذه القضايا، وأن نكون قد أجبنا عن بعض الأسئلة التي ترد على ذهن القارئ للتراث اللغوي العربي من مثل: لماذا اختلفت وجهات نظر العلماء حول أصل اللغة ونشأتها؟ لماذا كانت اللغة عند بعض علمائنا القدامى توقيفية وإلهاماً سماويًّا؟ ولماذا كانت عند البعض الآخر اصطلاحية من صنع الإنسان؟ لماذا أقر بعضهم بالترادف والاشتراك والأضداد كظواهر لغوية عربية أصيلة، وأنكر آخرون وقوعها في اللغة؟
لقد قررنا منذ البداية أن ندرس بعض قضايا الدرس اللغوي العربي في ضوء المعتقدات الفكرية والانتماءات المذهبية للعلماء، إيماناً منا بتلك العلاقة العضوية الوثيقة بين ما هو فكري عقدي وما هو معرفي، فأوضحنا بما فيه الكفاية أن علماء العرب قديماً نظروا إلى قضايا اللغة من زاوية تتفق ومعتقداتهم ومبادئهم، وعنها كانت تصدر كل آرائهم ومواقفهم، ومن ثم كان خلافهم الديني والمذهبي ينعكس على مواقفهم من قضايا اللغة.
وقد رأينا ذلك مع أحمد بن فارس الذي أنكر ورود الترادف في اللغة، لأن الإقرار به يتعارض مع القول بتوقيفيتها، ويفيد تعدد الواضع لها. لكن ذلك لم يمنع كثيراً منهم أن يتحرَّر من تلك المعتقدات والمبادئ، ويتَّخذ مواقف متعارضة معها، كما رأينا ذلك مع فخر الدين الرازي، فرغم أشعريته قال باصطلاحية اللغة، وأنها فعل لساني من وضع الإنسان.
ورأينا ذلك أيضاً مع أحمد بن فارس الذي أقر بورود المشترك اللفظي والأضداد في اللغة، واعتبرهما من سنن العرب في الكلام، رغم أن الإقرار بهما يتعارض مع القول بتوقيفية اللغة، ويفيد تعدد الواضع الأول لها.
[1] أبو الفتح عثمان بن جني، الخصائص. تحقيق: محمد علي النجار، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان. 1/ 33.
[2] عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تأويل مشكل القرآن. تحقيق: سيد صقر. المكتبة العلمية، المدينة المنورة. الطبعة الثالثة 1401هـ - 1981م. ص22-27.
[3] انظر: أحمد أبو زيد، مقدمة في الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن. دار الأمان - الرباط، 1989م. ونصر حامد أبو زيد، إشكالية القراءة وآليات التأويل. المركز الثقافي العربي بيروت - لبنان/ الدار البيضاء - المغرب، الطبعة الثانية 1992م. ومنير سلطان، إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة. منشأة المعارف الإسكندرية، الطبعة الثالثة 1986م. ونصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1980م.
[4] جلال الدين السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها. تحقيق: محمد أحمد جاد المولى بك وآخرون. منشورات المكتبة العصرية بيروت لبنان. 1408هـ-1987م. 1/17.
[5] المصدر السابق، ص: 38-42.
[6] البقرة: 30.
[7] أبو الحسين أحمد بن فارس، الصاحبي في فقه اللغة. تحقيق: عمر فاروق الدباغ. مكتبة المعارف، بيروت - لبنان. الطبعة الأولى 1414هـ/ 1993م. ص: 36.
[8] الخصائص، ابن جني. م.س. 1/41.
[9] أبو بكر بن الطيب الباقلاني، الإنصاف في ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به. تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر. عالم الكتب، الطبعة الأولى 1407هـ/1986م، ص: 115.
[10] البقرة: 30.
[11] الصافات: 96.
[12] فاطر: 3.
[13] أبو الحسن الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة. اعتنى به: الناجي السويدي. دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء - المغرب. 1433هـ/2012م. ص: 17.
[14] مصطفى مندور، اللغة بين العقل والمغامرة، منشأة المعارف بالإسكندرية 1974. ص: 46.
[15] المزهر، السيوطي. م.س. 1/1.
[16] المصدر السابق: 1/ 18.
[17] المزهر: م.س. 1/21 – 23.
[18] الإمام فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب. دار إحياء التراث العربي، بيروت. الطبعة الثالثة 1420هـ، 1/40.
[19] القاضي عبد الجبار الأسد آبادي، المغني في أبواب التوحيد والعدل. تحقيق: محمود محمد قاسم، إشراف: طه حسين. وزارة الأوقاف والإرشاد القومي، مصر 1385هـ/1965م. 15/106.
[20] الخصائص، م.س. 1/ 44.
[21] القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة. اعتنى به: سمير مصطفى رباب. دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان. الطبعة الأولى 1422هـ/ 2001م، ص: 275.
[22] المصدر السابق. ص: 227.
[23] الزمر: 62.
[24] النمل: 23.
[25] شرح الأصول الخمسة، م.س. ص: 257.
[26] الخصائص: م.س. 1/ 45.
[27] القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد و العدل. تحقيق محمود محمد الخضيري. القاهرة 1965. 5/ 164.
[28] إبراهيم: 5.
[29] المزهر: م.س. 1/ 18.
[30] القاضي عبد الجبار، المغني. تحقيق: إبراهيم الأبياري وطه حسين. القاهرة 1381هـ/ 1960م. 7/ 166.
[31] البقرة: 30.
[32] الخصائص: م.س.1/ 40-41.
[33] شرح الأصول الخمسة: م.س. ص: 359.
[34] المغني: م.س. 5/ 169.
[35] الخصائص: م.س. 1/ 47.
[36] المصدر السابق. 1/ 33.
[37] المغني، م.س. 7/ 3.
[38] شرح الأصول الخمسة، م.س. ص: 357.
[39] أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول. تحقيق: عبد السلام الشافي، دار الكتب العلمية. 1413هـ/1993م. 1/ 181.
[40] انظر: محمود السعران، علم اللغة. دار النهضة العربية بيروت. ص: 11-12. وانظر أيضاً: رمضان عبد التواب: المدخل إلى علم اللغة. الطبعة الثانية 1404ه /1985م، مكتبة الخانجي القاهرة. ص: 123-124.
[41] الصاحبي في فقه اللغة، أحمد بن فارس. م.س. ص: 97-99
[42] انظر: إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ. مكتبة الأنجلو، الطبعة الثانية 1963. انظر أيضاً: أحمد محمد قدور، المدخل إلى فقه اللغة العربية. منشورات جامعة حلب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية.1412هـ/1991م. انظر أيضاً: حسن ظاظا، كلام العرب من قضايا اللغة العربية. دار القلم - دمشق/ الدار الشامية - بيروت. الطبعة الثانية 1410هـ/ 1990م. وانظر أيضاً: حلمي خليل، مقدمة لدراسة فقه اللغة. دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية، 1993م.
[43] الشريف الجرجاني، التعريفات، تحقيق جماعة من العلماء بإشراف الناشر. دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. الطبعة الأولى 1403هـ/1983م. ص: 199.
[44] المزهر: م.س. 1/ 404.
[45] المصدر السابق: 1/384- 385.
[46] المزهر: م.س. 1/405.
[47] الصاحبي: م.س. ص: 97- 98.
[48] المصدر السابق: 98-99.
[49] غازي مختار طليمات، نظرات في علم دلالة الألفاظ عند أحمد ابن فارس. حوليات كلية الآداب، جامعة الكويت، الحولية الحادية عشرة، الرسالة الثامنة والستون، السنة الحادية عشرة، 1410هـ/ 1990م. ص: 53-54.
[50] أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، تحقيق: حسام الدين القدسي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان 1401هـ/1981م. ص: 10-11.
[51] الصاحبي في فقه اللغة، م.س. ص: 99-100.
[52] الفروق اللغوية. م.س. ص: 122.
[53] الخصائص: م.س. 2/113.
[54] المزهر: م.س. 1/406.
[55] المزهر: م.س. 1/ 386.
[56] المصدر السابق: 1/ 405- 406.
[57] المزهر: م.س. 1/369.
[58] المصدر السابق: 1/ 389.
[59] المزهر: م.س.1/ 369.
[60] معجم مقاييس اللغة: أحمد بن فارس، مادة (سمو).
[61] المزهر: م.س. 1/ 41.
[62] أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين. تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة ابن سينا للنشر والتوزيع، القاهرة. الطبعة الأولى 2010م. 1/70.
[63] الخصائص: م.س. 1/ 33.
[64] الرحمن: 3-4.
[65] لسان العرب: ابن منظور، مادة (بين).
[66] البقرة: 30.
[67] محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير. الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس، 1984. 27/233.
[68] مثلاً كلمة (أمة) استعملت في القرآن بمعنى ( الجماعة ) في قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} (البقرة: 141)، وبمعنى (الدين ) في قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الخرف: 23) وبمعنى (بعد حين) كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} (يوسف: 45)
[69] جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن. دار ابن حزم بيروت. الطبعة الأولى 1429هـ/2008م. ص: 264.
[70] المصدر السابق، ص: 264-265.
[71] المزهر: م.س. 1/ 385.
[72] إبراهيم: 5.
[73] أبو محمد علي بن حزم الظاهري، الإحكام في أصول الأحكام. دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. الطبعة الأولى 1405هـ/1985م. 3/276.
[74] محمد نور الدين المنجد، الاشتراك اللفظي في القرآن، دار الفكر - دمشق / دار الفكر المعاصر - بيروت، الطبعة الأولى 1419هـ-1999م، ص: 34.
[75] المزهر 1/ 372- 373.
[76] حسن ظاظا، كلام العرب: من قضايا اللغة العربية، م.س. ص: 90.
[77] المزهر، م.س. 1/.376.
[78] المزهر، م.س. 1/ 388.
[79] المصدر السابق: 1/ 387.
[80] السابق: 1/ 369.
[81] المزهر: م.س. 1/ 401.
[82] البقرة: 226.
[83] التكوير: 17.
[84] المزهر: م.س. 1/ 401.
[85] المصدر السابق: 1/ 396.
[86] المزهر: م.س. 1/ 3850.
[87] المصدر السابق: 1/ 369.
[88] محمد بن القاسم بن الأنباري، الأضداد. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دائرة المطبوعات والنشر، الكويت، 1960. ص: 2.
[89] المصدر السابق: ص: 4.
[90] عبد الملك بن قريب الأصمعي، الأضداد، ضمن ثلاث كتب في الأضداد، نشرها أوغت هفنير. دار المشرق، بيروت - لبنان. ص: 9.
[91] ابن الأنباري، الأضداد. م.س. ص: 2.
[92] الصاحبي في فقه اللغة. م.س.ص: 99.
[93] المصدر السابق، ص: 99.
[94] أبو بشر سيبويه، الكتاب. تحقيق: عبد السلام هارون. مكتبة الخانجي القاهرة. الطبعة الثالثة 1408هـ/1988م. 1/24.
[95] يونس: 54.
[96] الرعد: 10.
[97] الملك: 13.
[98] الجاثية: 22.
[99] الحاقة: 18-19.
[100] أبو حاتم السجستاني، الأضداد. نقلاً عن كتاب: محمد مختار عمر: "علم الدلالة». عالم الكتب، الطبعة الثانية 1988. ص: 201-202.
[101] ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن. م.س. ص: 22.
[102] أبو عبيدة معمر بن المثنى، مجاز القرآن. تحقيق: محمد فؤاد سزكين. مؤسسة الرسالة، بيروت. الطبعة الثالثة 1401هـ/1981م. 1/18-19.