طه عبدالرحمن
مشروعه الفكري.. والهوية الموؤودة
شريف الدين بن دوبه*
* أستاذ مساعد، قسم الفلسفة، جامعة سعيدة، عضو متعاقد مخبر التراث والفكر المعاصر، وهران - الجزائر، البريد الإلكتروني: bendouba.philos@yahoo.fr
مدخل
التعالي ملمح رئيس لفعل التنظير، فالحدث، أو الموضوع المشكِّل لمادة الممارسة التنظيرية في كلِّيته، يصبح غريباً عن أصله وهويّته، ويتحوَّل إلى رمز في عالم الأموات، فالنصّ قتلٌ للمعنى المحمول، والمقصود الغائي من إنتاج النص نفسه، فالدلالات التي تختلج في قوى النفس التفكرية، لا تجد نفسها إلا في المحدودية التي تحدّ آفاقها الدلالية، على قاعدة الارتباط القائم بين الذات في لحظة التوليد للمعنى، فدون اللغة أو العلامات الدلالية تصبح المعاني مجرد أشباح، أو حدود جوفاء في حدّ الوضعية المنطقية، والحياة تحايث الوجود من خلال الإنية، وليس بمجرد الاعتقاد في الوجود.
وإن كان حد الإنية السينوي لا يرضي شهوة الانبهار بالغرب عند المعاصرين، فجمالية الدازاين (dazein) الوجود هنا عند هايديغر، مستمدة من البعد الجلالي للكلمة، الجلال الناتج عن المخيال، ففعل الوجود أو الحضور في ساحة الكينونة يغيب في عالم الصورنة، الذي تتجلّى الفلسفة من خلاله، فهي كنص أولاً وكخطاب ثانياً، لا تخرج عن خصوصيات المبدع، أو الأثر.
والنصّ قتلٌ للمعنى المحمول، والمقصود الغائي من إنتاج النص نفسه، فصورنة الحدث ضرورة منطقية ومنهجية يقتضيها البحث عن المعرفة كمبدأ والحقيقة كقصد، وآليات التواصل بين بني البشر تفرض أيضاً فعل التجريد الذهني لتلك المعطيات، فكانت إذن الهوّة بين الواقع والنظرية، وتوارث الفكر الإنساني وهم المفارقة بينهما.
وقراءة الخطابات الفلسفية في أنساقها، أو في مقارباتها مع بعض تضعنا أمام محاولات لتجذير وتأصيل هذه المفارقة بين عالم الفكر، وعالم الأرض، حيث كان نصيب النظر النعت والإشارة بالاستهجان، فهو عالم السماء تارة، وفضاء رحب للخيال تارة أخرى، وتأسيس لخطاب طوباوي لا يمتُّ بصلة لعالم الحقائق؛ وضحكة الفتاة التراقية أمام سقوط الفيلسوف اليوناني طاليس في البِركة دليل على الشرخ الموجود بين العالمين، والتأمّل في قضايا أنطولوجية يجعل من إدراك المكان الحسي في أبسط معطياته عند المفكّر أقلّ من المستوى الذي يدرك به العامي عالم المكان.
أما الطرف الثاني في التعايش المعرفي والمتجسّد في وعي الإنسان العامي، فالمعطى المعرفي الذي يصل إليه الفيلسوف، بعيد، ومفارق لعالم الواقع، الذي يمثِّل المعيار الأمثل للحقيقة، وتصبح النظرية الفلسفية بالضرورة مجانبة للحق، الذي يقرِّره الواقع، كمعطى إدراكي، وأصل قيمي في مبدأ صدقية المعارف، على قاعدة تمكُّن الواقعية كمنظومة معيارية من مخيال الفرد والجماعة اللاواعي.
محنة الفلسفة مع الواقعية الساذجة، لحظة تاريخية، لازمت التفكير الفلسفي عبر سيرورته التاريخية عند جميع بني الإنسان، ونكبة سقراط و سورانوس وابيكتيت في الثقافة الغربية تؤكِّد غربة الفلسفة، مع المفارقة الفكرية والحياتية بين النظر والعمل، والحال نفسها كان مآل الفلاسفة العرب مثل ابن سينا وابن رشد، وأسست وضعية المعايشة للمفارقة لإرث ثقافي في مخيال العربي والإسلامي. والتصادم الظاهر بين المشاريع الفكرية العربية، والإسلامية دليل على عمق هذا الجرح الثقافي في مجتمعاتنا.
المأخذ الأساس الذي قبرت به المشاريع العربية، وفيه هو غربة المشروع الفكري عن إمكانية التطبيق، وافتقاره للقدرة على الانتقال بالفكر العربي والإسلامي من لحظة الانتكاس، إلى عهد الثورة، والارتقاء، وتجاوز المحنة، وقد كانت هزيمة 1967 توثيقاً تاريخيًّا، لهذه الأزمة، التي امتدت بجذورها إلى قلب اللاوعي الجمعي للمجتمع العربي والإسلامي، فكان الغرب الثقافي بديلاً، وأملاً في النجاة، وفي تجاوز محنة الانتكاسة في بعض المشاريع الفكرية، وإن كانت في الحقيقة دلالة الكلمة التبعيضية غير مناسبة لحمل المدلول، فالبعض منها أقام صرحه الفكري عن وعي وإرادة، على ثقافة المستعمر، والآخر لم يدرك أن ما يعتز بإنشائه، ويتشدق بخطاباته فيه أنه مجرد تمثل، وإعادة تمثيل من طرف قواه الوهمية لما قبل الغرب به له.
وأخذت الساحة الفكرية في الوطن العربي منحى منحرفاً في أشكلة الأزمة، فكان الجدل بين الباحثين قائماً حول إمكانية قيام فلسفة عربية، أو عدم إمكانها، وهو سؤال يستبطن مغالطة، حيث نجد أن تسليم العقل بمبدأ الثالث المرفوع يقتضي الإقرار بإحدى القضايا فقط، وإمكانية الادِّعاء أو القبول بعدم الإمكانية نتيجة لازمة منطقيًّا، فإمّا أن تسلِّم بوجود فلسفة عربية أو لا تسلِّم.
ولكن القول أو القبول بإحدى القضايا يتضمن في حد ذاته حكماً قيميًّا، والإقرار بإحدى القضايا هو انحياز صريح لموقف معين وأدلوجة ما، وتحوُّل هذه المسألة من أهم الإشكالات الرئيسة في الفكر العربي المعاصر، فكانت في اعتقادنا مظهراً لسذاجة الفكر العربي.
فأصل العجز عن إبداع فلسفة عربية يكمن عند المفكِّر المصري زكي نجيب محمود في ستة عوائق: أولها عجز المفكر العربي المعاصر على التوفيق الإيجابي بين الأصالة والمعاصرة، حيث لم يقدر على الجمع بين هذين الاتجاهين المتعاكسين، وثانيها يكمن في غياب روح التجديد داخل المنهج في التراث العربي الإسلامي، فالمنهج الجديد الذي أسسه بيكون، كمقابل للمنهج العقلي، يمثل لحظة تحول وإبداع داخل الحقل التراثي الغربي، في حين يلحظ غياب هذه اللحظة داخل هذا الفكر، ممّا شكَّل عائقاً ذاتيًّا أمام الإنتاج الجديد في الفكر العربي والإسلامي.
العائق الثالث فيكمن في نوعية النظرة التي تعاطى بها الفكر العربي والإسلامي مع التراث، إذ تعامل مع تراثه في شكل كلّي، متكامل، في حين كان التعاطي العربي والإسلامي مع تراثه بشكل تجزيئي، أفقده خاصية الهوية الأنطولوجية للجماعة الثقافية، أما الرابع فيظهر في قداسة الماضي وسلطته، فهو ملاذ رئيس يستنجد به المفكِّر دوماً عندما يصطدم بإشكالات جديدة، أما الخامس والأخير، فيظهر في هيمنة السياسة على الحياة الفكرية، والسادس يتمثّل في سيادة الفكر الخرافي وتأثيره في طريقة التفكير بحيث يؤدي إلى تعطيل القوانين الطبيعية.
يبدو أن تعليل الأستاذ زكي نجيب محمود لا يلمس إلَّا الملمح الخارجي للعلّة، إذ أصبحت التهمة ضد مجهول، وذلك هو دأب وديدن الفكر العربي عند معايشته الأزمة، فأين تكمن علة العجز عند المفكر في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، هل يكمن الخلل في آليات التعامل مع التراث الثقافي الأصيل ومع الفكر الغربي؟ أم في عقم التراث الأصيل على مواكبة العصر في حركته وسيرورته العلمية والتقنية؟
والنتيجة دوماً مسجّلة في أرشيف الكتابة العربية ضد مجهول، حتى يستشعر المفكر العربي مبررات لضعفه، وعجزه عن تجاوز الواقع المرير، أما المبرّر الثاني الذي يقدمه المفكر زكي نجيب محمود والمتمثل في اللحظة المنهجية التي كانت لحظة قطيعة بين منهج عقلي كرّس لمنظومة القيم، ولمبادئ ذهنية لا تجد إلَّا في سديم المجرد حقلها الأثير، حيث لا بد لعقل المرء أن يتجمّد في صقيع المجرد، فإننا نجده، وغير مبرر تاريخيًّا، حيث يؤكد التاريخ، عموماً وتاريخ العلم خصوصاً أن التجربة المنهجية عند علماء العرب أقوى بكثير من الثورة المنهجية التي قام بها الغرب، وإنجازات ابن الهيثم وجابر بن حيان تفي بالغرض من التعليل.
أما التبريرات التي أخذ بها الأستاذ زكي نجيب محمود في تفسير عجز المشاريع العربية عن إنجاز فلسفة عربية أصيلة وقادرة على إثبات حضورها في الساحة العالمية، مثل العود الأبدي، والمستمر للماضي كمرجع، لا يستقيم مع القول بالثوابت الأصولية، والثقافية للجماعة الحضارية، في إمكانية القول بفلسفة عربية.
وإذا استأنسنا بمفكِّر مغربي بغية الكشف عن علل العجز فنجد في موقف الأستاذ محمد وقيدي من الأزمة التي تعيشها الفلسفة في الوطن العربي، مع الإشارة إلى وجود فلسفة في مقابل البعض من الباحثين العرب الذين يقررون بشكل قطعي عدم وجود فلسفة عربية، تعليلاً يرجعها إلى ثلاث عناصر، يتمثل الأول في عجزها على مواكبة الواقع، يقول: «تبدو الفلسفة العربية في اتجاهاتها السائدة غير قادرة على الالتحام بالواقع العربي المعاصر لها، فلا هي تستلهمه، ولا هي قادرة على أن تجد لنفسها المسار للتأثير فيه»[1].
أما الثاني فيظهر في غربة الفلسفة العربية عن لحظتها التاريخية، ومعايشة تجارب الآخرين، ويتمثّل الثالث في عجزها عن استيعاب العلاقة بينها وبين العلوم الإنسانية، فلا هي أصبحت قادرة على دفع البحث الإنساني خطوة نحو الأمام، ولا استطاعت أن تفهم التجارب، والمنتوج الفكري المقدّم من طرف العلوم الإنسانية.
وإذا أردنا معايشة لحظة الأزمة في الفلسفة العربية، انطلاقاً من الواقع الراهن، فإننا سنتخذ من الدراسات الفلسفية في الجزائر مرجعية في تشخيص الأزمة، على قاعدة القرب، وليس على قاعدة الأفضلية، وستكون لنا وقفة مع الأستاذ الجزائري عمارة الناصر، في مداخلة له بعنوان: فلسفة عربية هل هي ممكنة؟ يتقدم الأستاذ بجرأة غير مسبوقة في مناقشة علل الأزمة، فيحدد نقاط العجز عن تشييد فلسفة عربية في:
العجز عن التجذير: Déficit de radicalité
يقرّ الباحث الجزائري بضرورة اعتماد الفلسفة على التجذير اللغوي، ومما جاء في المداخلة: «يتميز خطاب الفيلسوف عن خطاب المشتغل بالفلسفة بأنه جذري، أي إنه يعود إلى تعيينات أصلية للوجود في تحليل القضايا، ولذلك يُظهر تاريخ الفلسفة قوة ممارسة فعل التجذير في تأثير الفلاسفة (أرسطو، نيتشه، هيدغر مثلاً)، ويستمدّ التجذير صلابته من خارج الفلسفة ومن اللافلسفة، أي من الخطابات المجاورة من التيولوجيا، العلم، الأسطورة، الفن..، وهي براديغمات لصناعة الجذر الفلسفي حيث تتلبس الفلسفة على مثالاتها ويتم الدفع بالقضايا الفلسفية إلى داخلها معطية لها القدرة على الحجاج بذاتها.
واعتماداً على ما سبق توصل الباحث إلى الخلاصة التالية: «إن الحديث عن اللغة العربية كلغة ممكنة للفلسفة، يعني بالأساس التاريخ الذي تشكّل داخلها، وليس فقط مجرد القواعد والبنيات التي تحكمها، ومنه فهي لغة لم تتغير منذ قرون، لأنها لم تحمل أي حدث يمكنه أن يحوّل وجهة التفكير بشكل يجعلنا نشعر أننا دخلنا أزمنة جديدة، والأزمنة الجديدة هنا تعني من بين ما تعني أن اللغة لا تعيش لنفسها وإنما لعالم تعيد تشكيله عقلانيًّا»[2].
العجز عن الكليانية: Deficit d’universalité
القدرة على رفع القيّم والمعاني إلى مستوى الكلي هي ملَكة فلسفية، كأن ترتفع القيم الاجتماعية إلى مستوى كليات العقل في صورة مبادئ العقل المنطقية، أو ترتفع الرموز الأنثروبولوجية عبر مخيال اجتماعي إلى مستوى أسطوري أو ديني، أو ترتفع لغة طبيعية عادية عبر مفهمة خاصة إلى فلسفة، ويعني فعل الكليانية (Universalisation) القدرة على جعل فهم جزئي فهماً كونيًّا بتضمينه أبعاداً منطقية أو جمالية أو وجودية أو أنثروبولوجية.
العجز عن التمفصل: Déficit d’articularité
لكل خطاب حياته الداخلية، وحياة الخطاب الفلسفي يستمدها من تغذّيه على خطابات أخرى مجاورة له، فيأخذ قدرته على التمثل والتخيل من الفن والأسطورة، وقدرته على البناء القيمي والأنطولوجي من التيولوجيا والدين عموماً، وقدرته على التأسيس المنهجي والإبستيمي من العلم، ويظهر تأثير هذا التمفصل الخطابي واضحاً في بنية الأنساق والخطابات المجاورة.
العجز عن التخييل: Déficit d’imagination
يقوم الخطاب الفلسفي على مؤسسة رمزية يبني داخلها عوالم تخييلية هي إمكانات للحقيقة، حيث لم تعد الحقيقة هدفاً للفلسفة بل اللاحقيقة، أي فيما يضللنا ويخدعنا، والذي لا يمكن الإمساك به إلَّا داخل عالم متخيل، فقد حاصر هيدغر الميتافيزيقا التي تحجب كينونة الكائن داخل الأنطولوجيا مقوّضاً خداعها في تخييل «الأرض الموعودة» التي ينتهي عندها الوجود الذي تستند إليه كل حقيقة.
وفذلكة القول نجد أن القواسم التي تتقاطع المواقف الفكرية العربيّة فيه في مسألة التشخيص، وفي المأمول يظهر أوّلاً في عجز المفكِّر العربي عن تفعيل التراث العربي والإسلامي، وتحيينه بشكل يرقى إلى منافسة أو في إجبار الآخر على الاعتراف بحقه في العلم والمعرفة، وفي التميّز بهويّة منهجية يتعالى فيها المفكر العربي عن الحاجة إلى الاستئناس بالأدوات المنهجية الغربية، ويكون التراث هو الأصل والمبدأ في حصول هذا الإبداع.
والملمح الآخر الذي يشترك فيه المفكرون العرب هو البحث عن النسقية في المشروع الفكري، باعتماد الغرب كمرجعية تأسيسية للموقف الفلسفي. وسنرى من خلال القراءة البسيطة لمنتوج الدكتور طه عبد الرحمن الفكري ملامح، أو بالأحرى معالم مشروع فكري، فلسفي، متماسك يتميّز بالجدة والعمق، والأخلاقية.
طه عبدالرحمن
هوية الكاتب من كتبه، فالكتاب كمخاض فكري، معلم رئيس في تحديد هويّة المفكّر وخصوصيّته الإبداعية، والمكتبة الطاهائية تعكس بشكل جلّي هذا التميّز والإبداع الفكري، الذي إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على الإمكانات الجبّارة التي كانت تملكها هذه الشخصية، والتنوّع الذي طبع مؤلّفات المفكر ينمّ عن تحصيل مبني على مسح واكتشاف دقيق وتفصيلي لكثير من الحقول المعرفية، وعنوان الإبداع في المشروع الطاهائي يظهر في التمكُّن، والقدرة الجبارة في امتلاك الآليات المنهجية، وعلى رأسها علوم اللغة وعلوم الميزان «المنطق».
كانت بداية رحلته العلمية مع البحث في التراث الفكري العربي والإسلامي، والعالمي مع اللغة، ومع قوانين الفكر، فكانت هذه الدراسات اللبنات التأسيسية، والأساس لمشروعه الفكري والمتكون من الأعمال الآتية:
(اللغة والفلسفة) 1979م
دراسة في البنيات اللغوية للأنطولوجيا، «أول مولود فكري للمفكر طه عبدالرحمن بعنوان تناول فيه البنى اللغوية للأنطولوجيا، كما اشتغل عليها النقلة العرب للفلسفة اليونانية، وكما مارسها المتفلسفة العرب المشاؤون.. كما كشف في الكتاب عن أعطال التعاطي الفكري العربي مع اللغة..»[3].
(المنطق والنحو الصوري) 1983م
يظهر في الكتاب هاجس المفكر طه عبد الرحمن بمسألة الهوية، إذ يدعو إلى: «التطبيق المحكم والتوسيع لمجال المنطق نفسه، وتطوير أساليبه وأدواته حتى تكون أنسب لوقائع اللسان المنطوق الدالية والدلالية والتداولية». فنقل المنطق وإسقاطه بجميع خصوصياته على اللسان العربي فيه شيء من الإجحاف، بل أكثر من الشيء المبعَّض، بل الفعل في حد ذاته ظلم وحيف بحق اللسان المنقول إليه، وسنرى في مناسبات عدة إشارة المفكر إلى الأصول اللغوية للمنطق الأرسطي.
(في أصول الحوار وتجديد علم الكلام) 1987م
يعتبر الكتاب بمثابة اجتهاد في تطوير المناظرة وتجديد علم الكلام، على قاعدة اعتبار التراث حقيقة تاريخية لا يمكن الانفصال عنها، ولا تقسيمها..[4]، والقصد من الكتاب لم يكن على حد تعبير المؤلِّف ابتغاء حشر متكثر ونشر متسرع لكل ما جاء في ثقافتنا من ألوان الفكر وأشكال القول.. وإنما كان بالأحرى طلب حفر دقيق وسبر عميق لجزء من الخطاب، جاء محرراً على رسم المتكلمين لنخرج منه أقصى إمكانات العطاء وأقوى أسباب الثراء الكامنة فيه[5].
(العمل الديني وتجديد العقل) 1989م
يطرح هذا الكتاب خطاباً جديداً، يتعلّق برؤية نابعة من تجربة ومعاناة فكرية خلص فيها طه عبدالرحمن إلى تقديم أسس لعقلانية موسّعة استلهمها من أطوار العقل التي يفاضل بينها، وكان الترتيب تفاضليًّا، فاعتبر العقل المجرد الذي يقدِّسه الغرب أدنى مراتب العقل، على قاعدة العجز الذي يلازم هذا النوع من العقول، فاليقين في المقاصد، والنجوع في الوسائل غائب فيه، ويأتي بعده العقل المسدّد الذي يملك اليقين في المقاصد، ولا يملك النجوع في الوسائل، وسيد هذه العقول العقل المؤيد أو العقل الواسع الذي يملك القدرتين، والمنحى الذي يسير فيه طه عبدالرحمن تجعل «العقل في حدود الدين»، وليس العكس «الدين في حدود العقل»، كما ذهب في ذلك إيمانويل كانت Kant، ويظهر الاتّجاه الصوفي جليًّا في اتّجاه المفكر.
(تجديد المنهج في تقويم التراث) 1994م
دلالة العنوان تنبئ القارئ بالمنهجية الطاهائية في التعامل مع التراث العربي والإسلامي، إذ يطرح المؤلّف فيها قراءته النقدية للمناهج الفكرية العربية في تعاطيها التفاضلي مع التراث والحداثة، وأكّد ضرورة الوعي الذي يجب أن يلازم الناظر في التراث بحيث يسلّط على منظوره العلمي الطرائق المنهجية نفسها التي هي من جنس ما حرّر به التراث نفسه.
(فقه الفلسفة.. الفلسفة والترجمة) 1995م
يشخِّص طه عبدالرحمن في هذا الكتاب علّة الانتكاسة الفكرية التي عايشتها الفلسفة العربية، التي تمثّلت في عجزها عن مواكبة التقدُّم الحضاري في الغرب، وفي غيابها عن الساحة الوطنية والقومية، إذ لم تقدر على تجاوز محنتها مع مخيال العربي والمسلم الذي تشكَّل عبر رواسب الماضي الثقافي للمجتمع العربي والإسلامي، فهي موقع خلاف تقييمي بين الشرائح الاجتماعية من حيث علاقتها بالكفر والإلحاد.
ومرد العجز في نظري يعود إلى ضعف المفكر العربي، وما جاء في الأثر يثبت ذلك: «أخذ الله عهداً على العلماء أن يُعلِّموا، ولم يأخذ عهداً من الجاهل حتى يتعلَّم»، فالمسؤولية تقع على كاهل المثقف، أو المفكر، وأين يكمن دور النخبة؟ هل في الكتابة والتلذذ برؤية المؤلفات على الرفوف؟ والأستاذ طه عبدالرحمن يضع يده على أهم بنية معرفية أسست لإعاقة حركية وذهنية للفلسفة، وهي الترجمة، فوضع «تصوراً لصلة الترجمة بالفلسفة مستشكلاً أضرب الترجمات التي جعلها ترجمة تحصيلية، وترجمة توصيلية، وترجمة تأصيلية ليقدِّم نموذجاً للنقل الفلسفي الأمثل».
(اللسان والميزان أو التكوثر العقلي) 1998م
يعكس هذا الكتاب القدرات المعرفية والمنهجية المتنوِّعة التي يملكها المفكّر الأصيل طه عبدالرحمن، وهو «يحمل اشتغالات في مجالي اللغويات والمنطقيات والفلسفيات سعى فيه طه إلى إبراز ازدواج اللغة بالمنطق، واقتران التفلسف بالمنطق، وقد قدّم فيه تجربته الخاصة التي تجمع بين الدراية الأكاديمية، والاجتهاد الشخصي، حيث جاب مضامير جعلها مجالاً للعقل المتكوثر الذي يتجاوز العقلانية المضيقة ويأخذ بأسباب اللسان الطبيعي مستلهماً أحدث الدروس من مختلف المجالات العلمية المنطقية والرياضية واللغوية».
(فقه الفلسفة.. القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل) 1999م
يعتبر هذا الكتاب حلقة تالية في مشروع طه عبدالرحمن الفلسفي، وقد حدَّد بنفسه أهداف الكتاب العامة في قوله: «ومعلوم لك أن هذه الفائدة تتحدَّد بالمقصد العام الذي وضعناه لكامل مشروعنا في فقه الفلسفة، ألا وهو إقدار المتلقي العربي على التفلسف، فتقوم إذن فائدة هذه الدراسة عن المفهوم الفلسفي في مدى توصلها إلى إقدارك على إنشاء مفاهيم فلسفية من عندك وعلى استثمار المفاهيم المنقولة بما يخص مجالك التداولي، لا بما يخص المجال المنقولة منه، ولا سبيل إلى تحرير مفاهيمك الفلسفية العربية إلَّا بتحصيل هذه القدرة»[6].
(سؤال الأخلاق.. مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية) 2000م
هذا الكتاب في نظرنا كعبة المشروع الطاهائي، فإذا كانت الكعبة كمركز مكاني، يتموقع في مكان منحدر تصب فيه جميع الاتجاهات، فكذلك البحث الأخلاقي عند طه هو لب المطلب، والهوية الأخلاقية التي ستكون محور بحثنا تجد الكثير في هذا المصنّف، إذا يطرح المفكر طه عبدالرحمن، إعادة تعريف الإنسان، كحيوان عاقل، وضرورة مراجعته، لأن البعد العقلي الذي عرّفه به الآخر، وأصبح قانوناً أبديًّا عندنا لا يعكس الحقيقة الإنسانية، بل الأخلاقية هي الأصل في الإنسانية، وعليها تُبنى العقلانية وليس العكس.
(الحق العربي في الاختلاف الفلسفي) 2002م
يواصل طه عبدالرحمن في هذا الكتاب بيان الغرض من مشروعه الفكري الذي يضع هاجس الهوية على رأس الاهتمامات، فيقول: «نحن العرب نريد أن نكون أحراراً في فلسفتنا، وليس من سبيل إلى هذه الحرية إلَّا بأن نجتهد في إنشاء فلسفة خاصة بنا تختلف عن فلسفة أولئك الذين يسعون بشتى الدعاوى إلى أن يحولوا بيننا وبين ممارستنا لحريتنا الفكرية، ولا ريب أن أقرب الطرق التي توصل إلى إبداع هذه الفلسفة هو النظر في هذه الدعاوى نفسها، التي يرسلونها إرسالاً ويبثونها فينا بثًّا كما لو كانت حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ويأتي في مطلع هذه الدعاوى القول بأن الفلسفة معرفة عقلية تشمل الجميع، أفراداً كانوا أو أقواماً، أي إن الفلسفة معرفة كونية».
(حوارات من أجل المستقبل) 2003م
عن هذا الكتاب يقول الدكتور طه: ما أضعه بين يدي القارئ هاهنا أنما هو عبارة عن خلاصات محكمة للحوارات التي أجرتها معي هذه المؤسسات الإعلامية في فترات متفاوتة خلال مناسبات ثقافية مختلفة، وهي الصحف المغربية التالية: (العلم) و(الاتحاد الاشتراكي) و(الأحداث المغربية)، وأيضاً الصحف العربية الآتية: (القدس) و(المستقلة) و(الشعب)، وأخيراً (الإذاعة الوطنية) و(القناة المغربية الثانية)؛ ولم تكن هذه الحوارات أبداً من نوع (الدردشات) التي يملأ بها الفراغ في الصحف أو يزجى بها الوقت عند الإرسال، وإنما كانت بيِّنات كاشفة وتأملات هادفة لا يقل فيها هم الاجتهاد والتجديد عما تنطوي عليه المؤلفات الكاملة؛ وقد أعدت ترتيب الأسئلة في هذه الحوارات بحسب الموضوعات التي دارت عليها، حتى أسهل على القارئ تحصيل رأي جامع في كل واحدة من المسائل التي شغلت بها ذهني أو ملأت بها صدري نحو (التراث)، و(الفلسفة) و(المنطق)، و(الترجمة) و(الإسلام)، و(التصوف)، و(الرشدية)، و(العولمة)، مؤملاً من وراء ذلك أن يظفر فيها القارئ بنظرات مجملة وميسرة للنظريات المفصلة والمعمقة التي تضمنتها مؤلفاتي المنشورة، قد تبعث فيه الرغبة في اقتحام تفاصيل هذه النظريات في مواضعها من كتبي.
(الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري) 2005م
يقدم طه عبدالرحمن في هذا الكتاب جوابه عن سؤال: كيف تجيب الأمة الإسلامية عن أسئلة زمانها؟ وعلى طريقته التي يبنيها بناء منطقيًّا، يصل إلى اعتبار روح الجواب الإسلامي عن أسئلة هذا الزمان تتجلى في حقيقتين اثنتين الأولى: الإيمان، ويتوصل إليه بالنظر في مختلف الآيات، أي بالنظر الملكوتي (الذي ينفذ إلى عمق الآيات) بوصفه مؤسّساً للنظر الملكي (على أساس الظاهر). والحقيقة الثانية: التخلق، ويتوصل إليه بالتعامل مع مختلف الأشخاص والأمم، أي بالعمل التعارفي بوصفه مؤسساً للعمل التعاوني، وهو يحمل جوهر التواصل مع كل البشر.
(روح الحداثة) 2006م
يتولّى هذا الكتاب الذي جاء بعد (سؤال الأخلاق)، وضع لبنات أساسية لتأسيس الحداثة الإسلامية، وذلك من خلال الانطلاقة من مسلمات المجال التداولي الإسلامي، واستلهام (روح الحداثة) ومبادئها الأساسية التي أصابتها أعطاب كثيرة جراء التطبيق الغربي لهذه المبادئ، ما يقوم دليلاً على ضرورة التفريق بين (واقع الحداثة) و(روح الحداثة)، والكتاب يتوجّه إلى المفكّرين المسلمين التراثيين ليخرجهم من عوائق التقليد، كما يتوجه إلى المفكرين الحداثيين العرب المسلمين ليُنبِّه على ضرورة (إبداع حداثة) لا تكون مقلدة بقدر ما تكون مجدّدة.
(سؤال العمل) 2012م
يطرح طه عبدالرحمن في الكتاب الرؤية الإسلامية العربية لدلالة العمل، وبعد أن يقوم بمسح تاريخي لدلالة العمل في الفلسفة وفي التاريخ الثقافي للغرب، يصل إلى وضع تقابلات مهمة بين مفهوم العمل في الفكر الغربي وتجليّاته، منذ اليونان، إلى الحقبة المعاصرة، وكيف ينظر الفلاسفة الغربيون لهذا المفهوم، ولهذا يعتبر «أن زمن العلمانية زمن كله مصروف للعمل الدنيوي وحده، مستغرقاً اليوم كله إلًّا قليلاً، ولا زمن للعمل التعبدي إلَّا في حدود هذا القليل المتبقي، مع أنه لا عمل يتقيد بالوقت تقيد العمل التقربي به، إذ العبادات فروض موقوتة، ولا فرض أوجب في وقته مما فرضه الخالق».
(روح الدِّين.. من ضيق العَلْمانية إلى سَعَة الائتمانية) 2012م
يطرح هذا الكتاب مقاربة جديدة كعادته بين الدين والسياسة، وهي ليست مقاربة تاريخية، ولا سياسية، ولا اجتماعية، ولا قانونية، ولا فقهية، ولا بالأحرى فكرانيّة (أيديولوجية)، وإنما قَصَدَ أن تكون مقاربة روحيّة، أو بتعبيرٍ آخر، نطّلع عليه في تقديم الكتاب، مقاربة ذِكرية غير نسيانية أو عمودية غير أفقية؛ من منطلق أنَّ الروح، حسب اعتقاد صاحب «روح الدين»، لا تنسى ولا تقعُد، وإنما تذكُر وتعرُج، فأبى إلا أن يكون في مقاربته ذِكرٌ لما نسيه «العَلمانيّ» وعُروج إلى ما قعد عنه «الدِّياني» أو الإسلامي الحركي.
تبيّن من خلال المسح الصوري لأعمال طه عبدالرحمن أن العنوان الرئيس الذي ميّز البحوث الطاهائية كان الهوية، وإن كانت الاهتمامات في شكلها الجزئي تتمحور في حقلين فكريين هما: الفلسفة، والحداثة الإسلامية، فكان فقه الفلسفة مشروعاً تأسيسيًّا لفلسفة عربية أصيلة، وإن كان البعض من المفكرين من اعتبر محاولة طه عبدالرحمن وأداً للفلسفة.
المشروع الفلسفي
توصيف البحث الطاهائي، باصطلاح المشروع يحمل الكثير من المشروعية في طياته، على قاعدة الفسحة الميدانية، أي اتساع الحقل الذي اشتغل عليه الأستاذ طه عبدالرحمن، فالإحاطة بالمقاصد اللغوية، والأصولية التي أشار إليها المفكر، من التماسك مع كثير من اللحاظ الفلسفية والوجودية، وعلى الأخص البنية الأخلاقية والهوية الاجتماعية، وهي بدرجة من التعقيد تدفع إلى القول بضرورة إنشاء مدرسة طاهائية، تتكفل بقراءة وتفكيك المنتوج الطاهائي، الذي كان الاختلاف في تقييمها دلالة على أهميتها العلمية، وعلى حد تعبير تلميذه الأستاذ إبراهيم مشروح فمعالم المشروع الطاهائي يظهر في عناصر ثلاثة وهي: العقلانية، والحوارية، والأخلاقية.
المنهج الطاهائي
ليست الهوية صفة، وخاصية عرضية، وفضيلة تتأسس على الفضل، أي الزيادة، بل هي روح البحث، وجوهره، وخصوصية المنهج لا تقف عند موقع الوسيلة، قاعدة النظر للوسائل بعين السبل المؤدّية للحقائق، مقارنة مع النتائج، التي تصبح في درجة أعلى، باعتبارها تجسيداً للأهداف والغايات النظرية، التي كانت قبليًّا ضمن قائمة المطالب، فأصبحت ضمن المكاسب في الفضاء البعدي.
وإذا كان المنهج في روحه مجموعة من الآليات المستخدمة بغية الوصول إلى الحقيقة، والوصل بينها وبين السؤال، فإننا نجد أن اللغة تمثل أكسير هذا المنهج، وما يلاحظ على الأستاذ طه عبدالرحمن الاعتماد على تفكيك اللغة، وإعادة تحيينها، في سياقات أبدع طه عبدالرحمن في التعبير عنها.
واللغة تضعنا بلحاظها وخصوصياتها في وضعيات إشكالية أكثر من التي نضعها فيها، فهي التي تدفعنا إلى مراجعة استعمالنا لها، على قاعدة الخصوبة والثراء الذي تتسم به، كما أن الكلمات أو الألفاظ -المخاض الرئيس للغة- هي البنيات الأولية التي تقتضي منا مراجعتها، والتي تكون في الوقت ذاته أداة للمراجعة.
وطبيعة المنهج البنيوي والتفكيكي تعكس الوظيفة الأخيرة للغة، والتسليم بالوظيفة التواصلية للألفاظ يستبطن توصيفاً فاصلاً بين اللغة والفكر، أي إن القول بأن اللغة وسيلة يفترض وجود معاني وأفكار مالكة لخاصية أنطولوجية تحتاج إلى أداة مستقلة بالوجود وموضوعية عن الذات هي الألفاظ.
فالبحث في طبيعة العلاقة بين الفكر واللغة، هو محاولة من الفكر في تفجير التماهي القائم بين الجوهر وصورته، التفجير الذي يحول الإجابة إلى شظايا، وظلال للحقيقة، أي إلى مجموعة إجابات، كما أن فعل الترجمة، أي إقامة جسور اتصال بين اللغات، يولد ويتمخض عن كثير من الاستشكالات الفلسفية والأنطولوجية، وأهمها الهوية الذاتية للغة وهوية الجماعة داخل اللغة.
وهذا ما ميّز طه عبد الرحمن في مشروعه، حيث اعتبر مهمة المفكر العربي مهمة لغوية بالأساس، فتحيين اللغة بصفتها مادة التفكير وصورته، يمنح الباحث الأهلية والاعتبار الوجودي المميز، فبدون اللغة لا نكون إلَّا خارج الدائرة الوجودية بالنسبة لذواتنا، وبالنسبة لغيرنا، ولما كانت اللغة روح الأمة، والمظهر الوحيد للفكر كما يقول إبراهيم مشروح.
فقد انطلق الأستاذ طه عبدالرحمن من إصلاحها بما أوتي من عدة استمدها من النظريات اللسانية العامة والنماذج المنطقية والفلسفات اللغوية، يقول: «وعلى الفيلسوف قبل أن يتّجه باجتهاده إلى التوعية بقدرة لغته الفكرية أن يميز لغته عمَّا ليس من لغته، أو يتعارض ولغته عمَّا هو لغو، ولغونا يظهر في التشويه الذي لحق أصول لغتنا وبناها وكبت فلسفتها.. وعلى الفيلسوف العربي أن يخلصنا من هذا اللغو الذي حال دون تحرّرنا العقلي، ودون إبداعنا الفكري، وبهذا تكون رسالة الفيلسوف العربي رسالة لغوية من منطلقها»[7].
و«لذلك نجد أن معالجته تعتمد أولاً على معالجة مشكلة المصطلحات، ثم على التقسيم المنطقي للموضوع، ثم على الاستدلال المنطقي لإثبات القضايا محل البحث، فالتماسك الداخلي والاستدلال الحجاجي وتقريب المنقول بما يتناسب والمجال التداولي، لغة وعقيدة ومعرفةً مواصفات يختص بها مشروع طه عبدالرحمن في استشكالاته المتعددة»[8].
والطريق لاستقلال الفلسفة الإسلامية عن كل منقول في نظر الأستاذ طه عبدالرحمن لا يحصل إلَّا عن طريق الجمع بين مقتضى «الإبداع الموصول» ومقتضى «الكونية المشخصة»، فالتميز أو الهوية المطلوبة في البحث الإسلامي مشروطة بالارتباط والاعتماد على المعطى التراثي الناتج عن التطور الفكري لنخبة الأمة.
وحينئذٍ، يلزم فلاسفة المسلمين أن يقيموا إنتاجهم الفكري على معطيات المجال التداولي الإسلامي، مجتهدين في استمداد الإشكالات الفلسفية منه، وعرض الإشكالات المنقولة عليه، فتجاوز التراث السابق ينم عن عجز، ومحدودية روح الإبداع في النخبة التي ورثت تراث السلف، كما يلزمهم أن يستثمروا، في تطلعهم إلى إضفاء الكونية على أسئلتهم وأدلتهم، خصوصية تعامل هذا المجال التداولي مع العقيدة الدينية، والخبر السمعي، وكذا العمل السلوكي واللسان العربي، فبدون توظيفهم لهذه المقولات الأربعة الخاصة في إنتاجهم الفكري، فإن جهودهم في تحرير الفلسفة الإسلامية من سلطان المنقول تذهب سدى.
وسنحاول في هذه المحطة الاستئناس بنموذج معرفي منقول، ألا وهو علم المنطق، الذي عايش ممتهنوه كثيراً من أشكال التهوين، «اتخذت هذه المضايقة أشكالاً متفاوتة في الحدة ومتباينة في الأسلوب: قد اعتبر المنطق فضولاً من القول أو خروجاً عن السليقة أو مرتعاً للشناعات أو مظنة للشبهات، بل رجماً بالغيب وخوضاً في لجج الباطل، ووقع تكريهه، بل تحريمه ومصادرته، كما ابتلي أصحابه بالتجريح أو الاتهام أو الإيقاع، بل بالمتابعة والمعاقبة»[9].
والأصل في موقف العامة من مناهضة المنطق له ما يبرِّره، في نظر الأستاذ طه عبدالرحمن، حيث إن التقريب التداولي الذي اقترحه فلاسفة الإسلام للمنطق وحيثياته أخلت في نظرهم بجملة من الخصوصيات التراثية التي تعكس الهويّة العربية، والمتعلقة بقواعد اللغة، ومعالمها الإبداعية، والتي يعبِّر عنها بالإخلال بقواعد الاستعمال اللغوي، والتي منها الإخلال بقاعدة الإعجاز، حيث أصبح المعيار الذي تخضع له القضية هي القواعد المنطقية لا غير، على قاعدة كليتها، وشموليتها.
والذي يلزم عنه إخلال بقواعد النحو الذي يمثِّل الأساس للتركيب السليم، أمراً محموداً وجب الأخذ به والإقرار بصحته، في حين أن الموجبات المنطقية تفترض صحة القضايا تبعاً لقواعد، رغم إخلالها بقوانين التركيب السليم.
أما القاعدة الثانية التي تخل بمقتضى الاستعمال اللغوي، وهي قاعدة الإنجاز، حيث يلخص الأستاذ مضمون هذا الخلل في قوله: «كان المنطقيون يميلون إلى صوغ عباراتهم بطرق محررة على مقتضى أساليب التعبير المنطقي المنقول إليهم، فجاءت هذه العبارات، في اصطلاحها وتركيبها، مخالفة لضوابط التبليغ العربي السليم.. مثل إدخال «ال» التعريف على الأدوات وعلى الضمائر، وإلحاق النسبة المصدرية بها نحو «الهلية»، الإنية والماهية والكيفية الكمية والهوية، وإدخال «ال» التعريف على الأفعال نحو الليسية...[10].
أما القاعدة الثالثة: الإخلال بقاعدة الإيجاز حيث أدى إدخال آليات المنطق الاستدلالية إلى تكثير عباراته وتكلف بعض أجزائها، وما يهمنا في الأمر هو التأكيد على بعد الهوية في النقد الذي أعاد به طه عبدالرحمن قراءة الموقف المناهض للمنطق، والذي أنتج في المخيال العربي والإسلامي انحرافاً للفئة المناهضة، في حين أن الهوية كانت هي السبب والمرجع في كل رفض، فالتنازل عن هوية اللغة هو تنازل عن الإرادة والحرية.
الهوية والأخلاقية
الأشْكَلة La problématisation هي وضعية تساؤلية، يحول الباحث فيها الموضوع بكل أنواعه مفهوماً أو علاقة، أو نتيجة إلى حقل تساؤل أو استفهام موجَّه بطلب معين، وتأخذ الصورة النظرية للبحث بعداً تعارضيًّا، تصبح الإجابة، أو اليقين فيها متعذراً، ويعمل الاختلاف بين المدارس الفلسفية على تأكيد هذه الصورة، أكثر مما يسعى الفلاسفة فيه إلى إزالتها، حتى إنه تهيأ للبعض من المندسين في الفلسفة أن مهمة الفلسفة فقط هي الإثارة، والبقاء في عالم الضبابية، والمؤسف أنه تم نقل هذه الخاصية إلى المخيال الشعبي، الذي تلقفها بلهفة، وبتزكية من السلطة الجماعية.
والأصل أن الإثارة الفلسفية ليست إلَّا مدخلاً للبحث في الموضوع، وليست هي الغاية، لأن التسليم لا يكون إلَّا ضرباً من الاستسلام للغير في قبول رأيه، والتنازل عن حق التفكير الطبيعي الذي يملكه كل شخص.
كما أن الاختلاف بين الفلاسفة ليس مبرراً للقول بتضمن، أو احتواء الفلسفة على روح التصادم، بل ملمحاً لبيان محدودية العقل الفلسفي في تلك الفترة على إيجاد حل للمسألة، ومها يكن، فإن الحل الذي يقدمه الفيلسوف آنذاك تبعاً لمشروطية معينة، لا يستطيع الصمود أمام التقدم الفكري والحضاري الذي يعرفه الإنسان، ويكون الاختلاف المصير الحتمي بين الفلاسفة، فالفلسفة هي العصر معبراً عنه في الفكرة.
يتجلّى الإبداع عند طه عبدالرحمن في جرأة المساءلة المسؤولة، أو ما اصطلح عليه بالسؤال المسؤول، ومراجعته لفحوى الدلالات إقرار بنسبية المعنى ومشروطية الدلالة بثقافة، وشخصية المفهوم، وسنرى من خلال مساءلته لاصطلاح الأخلاق، طابع الجدة والاجتهاد، وملمح الهوية الذي كان هاجساً بالنسبة للمشروع الطاهائي.
مساءلة المفهوم آلية منهجية في المشروع الطاهائي، تمكّن القارئ من معرفة التاريخ الثقافي للكلمة، وتمنح الشرعية والمشروعية لنتائج البحث، فدلالة الهوية كمخاض بشري، لم تصل إلى الثبات، والتواضع على المعنى له تاريخ، ملئ بالاضطراب، والتوتر، ويصطلح عليه طه عبدالرحمن بقانون التضاد: «حيث إن عدداً كبيراً من الكلمات العربية تفيد معنيين متضادين..»[11].
ولبيان وإجلاء العلاقة التاريخية والإثنية بين مفهوم الأخلاق ودلالاته التي يشير إليها، يذهب الأستاذ إلى قراءة المصطلح في سياقه اللغوي والتاريخي، فينبهنا إلى الجذور اللغوية لكلمة إيتيقا، وهو لفظ استعمله اليونان للدلالة على موضوع الأخلاق Ethikos، ونقله اللاتين إلى لغتهم بلفظ moralis حيث استعمل المتقدمون من فلاسفة الغرب اللفظين بمعنى واحد باعتبارهما مترادفين.
وطه عبدالرحمن يجد أن منهم من يؤثر استعمال هذا اللفظ أو ذاك، أمَّا المعاصرون منهم، فأبوا إلَّا أن يُفرِّقوا بينهما؛ وليس بدعاً أن يحدث المرء تفرقة اصطلاحية فيما كان مجموعاً تحت مصطلح واحد متى دعت الحاجة إلى أن يعبر بوضوح عن ضربين مختلفين من الانشغالات أو الاعتبارات أو الاستشكالات، لكن لا يبدو أن الأخلاقيين المعاصرين استوفوا شرط الوضوح الاصطلاحي في لجوئهم إلى التفرقة بين Moralis أو Morale وبين Ethics أو Ethique»[12].
وجد طه عبدالرحمن أن التفرقة بين اللفظين الأخلاق والإيتيقا لا تفي بالغرض في وضوح المعنى، إذ يمكن أن يتردّد القائل بالتفرقة بينهما بين وجهين فأكثر من وجوه التفرقة، أو ينساق إلى استعمال حد اللفظين في معنى الآخر، أو يورده في المواضع التي ينبغي أن يورد فيها هذا اللفظ الثاني.
فهذا يجعل morale عبارة عن جملة الأوامر والنواهي المقررة عند مجتمع مخصوص في فترة مخصوصة، في حين تكون ethique عنده عبارة عن العلم الذي ينظر في أحكام القيمة التي تتعلق بالأفعال، إن تحسيناً أو تقبيحاً، والحال أن الأوامر والنواهي التي تدور عليها الأولى هي بالذات الأصل في أحكام التحسين والتقبيح التي تدور عليها الثانية، بحيث لا تختلف morale عن Ethique إلَّا كما يختلف الشيء عن العلم بهذا الشيء، بمعنى أن morale إنما هي الموضوع ذاته الذي تختص «ethique» بالنظر فيه، وحينئذٍ لا غرو أن ينتهي واضع هذه التفرقة إلى الإقرار بوجود تداخل بين مسائل المفهومين المذكورين.
«الأخلاق» مفرده خلق بضم الخاء واللام، والخلق لغة هو الطبع، واصطلاحاً هو الصفة السلوكية محمودة كانت أو مذمومة، ويقابله في اللسان اليوناني: إيتوس بمد الهمزة المكسورة، وهو لفظ قريب من النطق من لفظ: إتوس بالهمزة المكسورة غير الممدودة ومعناه العادة، وقد أخذت الممارسة التراثية بالمعنيين معاً الطبع والعادة في تصنيفها للصفات الخلقية، فجعلتها على ضربين ما هو طبيعي من أصل المزاج، وما هو مستفاد بالعادة والتدريب، ورتبت عليهما مواقف ثلاثة: القول بالطبع، والقول بالتعود، والقول بتأليف بين الطبع والتعود.
والأخلاق في مجال الممارسة التراثية الإسلامية المنقولة عن اليونان، تفيد القصد نفسه أيضاً، وهو «عبارة عن أحوال راسخة في النفس رسوخ طبع أو رسوخ تعوّد، تصدر عنها أفعال توصف بالخير أو بالشر».
كما بيّن الأستاذ طه عبدالرحمن المرجعية اللغوية وأثرها في صياغة الإشكالات الأخلاقية، إذ بيَّن لنا أن التأسيس الأخلاقي لإشكالات الأخلاق كان مع أفلاطون من خلال محاورة النواميس، حيث جمع بين لفظ إيتوس بمد الهمزة الذي يدل على الخلق، ولفظ إتوس بعدم مد الهمزة المكسورة الذي يدل على معنى العادة، وأخذ عنه أرسطو هذا الربط فقال: «الخلق يكتسب من العادة جاعلاً منه حالة ناتجة عن التعود يسميها هيكسيس أي الاستعداد»، وهكذا يكون أفلاطون يفضل الوصل بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للإيتوس، وقد فتح الطريق لطرح إشكالين فلسفيين أحدهما اكتساب الأخلاق عن طريق التعود والثاني تحصيل الاستعدادات، وسيتولد من هذين الإشكالين بدورهما إشكالان آخران هما قابلية الأخلاق للتغير، ومنزلة الاستعداد من القوة والفعل.
وإذا سلّمنا بارتباط النظرية الأخلاقية اليونانية بالأصل اللغوي الخاص باللسان اليوناني، اعتقاداً منها بتفوق اللسان، ومشروعية التأسيس هذه تجعل من نقل المفاهيم إلى لغة أخرى يؤدي إلى التفاوت بين المعنى اللغوي للمفهوم الأخلاق بالمنقول، ومعناه الاصطلاحي في اللغة المنقول إليها، ذلك أن هذه اللغة قد تضطر إلى استعمال مقابل لا توجد فيه الصلة بين المعنيين على الوجه الذي توجد به في اللسان المنقول منه.
فيلزم بذلك من هذا التفاوت أن يشق على اللغة المنقول إليها إدراك الدقائق الدلالية والوجوه الاستعمالية التي استثمر بها هذا المفهوم الأخلاقي في اللسان المنقول منه، كما أنها تتعثر في تبين حقيقة الأحكام والإشكالات التي بنيت عليها، وعليه لا يصح أن تنزل أحكام الأخلاقيات اليونانية إنزالاً على الأخلاقيات الإسلامية.
كما أكد الأستاذ طه عبدالرحمن أن القول بغياب الدراسات أو ضحالة الفكر الأخلاقي الإسلامي يستبطن الحكم التالي: إن الاستشكال الفلسفي والاستدلال المنطقي اليونانيين ملزمان لكل ممارسة للنظر الأخلاقي، وعليه ينبغي مراجعة الأحكام التي يقيمها عمالقة الفكر العربي حول التراث العربي والإسلامي.
من أهم معالم الإبداع في المشروع الطاهائي الثورة على التأصيل اليوناني للجِبلّة الإنسانية، التي تدّعي في القول بأن العقلانية صفة ماهوية، وفاصلة لبني البشر عن غيره من الكائنات، ومضمون الأطروحة الطاهائية أن الأخلاقية هي الأصل، والفصل النوعي، ويلاحظ على الطرح الدقة في الاستدلال والحجاج.
فقراءة الطرح من خلال الرغبة في التميّز، والاختلاف عند الأستاذ ليست إلَّا دلالة على عجز، وقصور في النظر، وسنشرع في بيان الأطروحة من خلال المنطق، والممارسة المنهجية المتماسكة التي تحايث المشروع، وسنتفق منهجيًّا على تسمية المقدمات الطاهائية بمسلمات الإبداع في الأطروحة، وهي:
الهوية ومساءلة المفهوم
تاريخ اللفظ وتأثيله بيان يؤرخ لميلاد المعنى وفتوته وشيخوخته، وجعجعة المعاني ديدن الفكر البشري ودينه، وعاطفة الإعجاب والإكبار بما يملك الآخر، يساهم في سيرورة المعنى وصيرورته، والأصل الذي يعود إليه تاريخ الهوية هو الضمير الغائب الذي يكون، و«استعمل أول ما استعمل بمعنى الوجود، فقيل: «هوية زيد»، وأريد به وجود: زيد، وضدّه في هذا الاستعمال هو «الماهية»، وهو» المشتقّ من صيغة السؤال: ما هو؟ والمقصود بماهية الشيء: ما به يكون الشيء هو هو[13].
فالهوية إذن: «هي جملة الخصائص التي يدركها العقل من الشيء، والتي تجعله هو نفسه، لا غيره، بمعنى تفصله عن سواه كليًّا، وبيان هذا التضاد بين الهوية والماهية أنه يجوز أن نعرف وجود الشيء من غير أن نعرف كيف أن نصفه، كما أنه يجوز أن نعرف وصف الشيء من غير أن نعرف هل هو موجود أو غير موجود»[14].
والمسألة عند طه لا تطرح على مستوى الدلالة التي تحملها الهوية وفي وجهيها المتقابلين: الوجود والخصائص، ولكن في مضمون الخصائص المعبرة عن الهوية، فمن يملك المشروعية في تحديد الصفات، هل الإنسان نفسه هو من يضع مقاييس الفصل النوعي بين المُعرّفات، وأي إنسان هل هو العامي أم ممثل النخبة، وإذا قبلنا بأن الإنسان هو الذي يملك حق التواضع على الصفات، فهل بمقدور الواضع التعالي على ثقافته، وتراثه اللغوي والتاريخي والإثني.
ومن هنا نلمس مسؤولية السؤال الذي يطرحه الفيلسوف طه عبدالرحمن، كما نلاحظ الجرأة التي يملكها الفيلسوف، فلم نعهد مراجعة قطّ من قِبل أصحاب المشاريع الفكرية العربية قبله لهذه المسألة، فالكل يقبل ويسلم بما قاله أرسطو وغيره كقبوله الأحكام الشرعية حين يجد ميلاً من نفسه لها وحين تتطابق مقاصد الحكم مع أهواء نفسه.
تقع العاقلية في تعريف الإنسان موقع الفصل النوعي لبني الإنسان، فهي الخاصيّة التي يسمو بها الإنسان عن باقي الموجودات، فالعقل هو جوهر، وبه تكتمل الإنسانية، وما يحسب للأستاذ إثارته لبعض التساؤلات حول العقل والعقلانية، فإذا كانت العقلانية سمة مطلوبة وليست وجودية أي وجوبية وكيف يمكن قراءة، وتوصيف الإنسان الطفل أو المبتدئ في اكتساب العقلانية، فهل ينبغي إقصاؤه وإخراجه من دائرة الماصدق الذي ينطبق عليه المفهوم.
وعلى حد تعبير الأستاذ طه: «أضحى الجميع يتنافسون على نسبة العاقلية والمعقولية والعقلانية لما يقولون ويفعلون، لكي ينتزعوا المشروعية لأقوالهم والتزكية لأفعالهم..»[15]، وعملت الأيديولوجية على حذف العقلانية على الشخص الآخر، والذي يكون مخالفاً.
العقلانية لا تعكس الإنسانية، فالفعل هو البديل لمصطلح العقل عند طه عبدالرحمن، ومعلوم أن الفعل لم يرتبط بشيء قدر ارتباطه بالأخلاق، فيتحدَّد تبعاً لهذا أن التخلُّق مقابل للتعقل، كما يناقش فكرة أن الأصل في الأخلاق هو حفظ الأفعال الكمالية، حيث يستفاد من المعنى «أن الأخلاق أفعال يتوصل بها إلى ترقية الإنسان إلى مراتب لا تدخل فيها هويته ولا بالأولى وجوده، أي أفعال تتعلق بما زاد على هذه الهوية وعلى هذا الوجود، وعلامة ذلك الاسم الذي اشتهر بالدلالة على الأخلاق الحسنة، ألا وهو الفضائل فالفضيلة من الفضل، والفضل هو ما زاد على الحاجة أو ما بقي من الشيء بعد الوفاء بالحاجة..»[16].
إذا قرأنا الدلالة من خلال الغائيّة التي تملكها الأخلاق، أو من خلال الاصطلاح الذي تواضع عليها علماء اللغة، وفلاسفة الأخلاق، لوجدنا أنّ الأخلاق مجرّد خصوصيات عرضية لا تتعلّق إلَّا بالشكل، وبمرحلة في سُلّم الترقّي للشخصية الإنسانية، ويُصبح الإنسان كائن مجرد من الأخلاقية في البدء، وفي التكوين، كما يضع الأخلاق في مستوى التخليق، أو بلُغة فلاسفة الغرب: الأخلاق المكتسبة، وطه عبدالرحمن في مشروعه، مشروع البحث عن آليات تراثية لتنظيم، وتحيين الهوية، الهوية الموءودة، هوية العربي، وهوية المسلم، هي المرمى الذي استقطبه الاستشراق، ومهّدت له الأمة بمجموعها.
«الأخلاقية هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلاً عن أفق البهيمية، فلا مراء أن البهيمية لا تسعى إلى الصلاح في السلوك كما تسعى إلى رزقها مستعملة في ذلك عقلها، فالأخلاقية هي الأصل الذي تتفرّع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تستحقّ أن تتفرع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تستحقّ أن تنسب إليه ينبغي أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي»[17].
والأخلاقية ليست في مستوى واحد، بل هي متغيِّرة، ومتفاوتة، فهي نتاج فعل إرادي، وتراكم ثقافي، والقول بثبات الأخلاق، وتعاليها على الزمان والمكان، يقول: «إن هذه الأخلاقية ليست رتبة واحدة، وإنما مراتب مختلفة، أدناها رتبة الإنسانية التي تكتفي بأخلاق مجردة لا يقين في دوام نفعها وحسنها، تليها رتبة الرجولة التي هي كمال الإنسانية، ثم رتبة المروءة التي هي كمال الرجولة، وأعلاها رتبة الفتوة التي هي كمال المروءة»[18].
تتّسم طريقة التعاطي عند طه عبدالرحمن بالعمق والدقة في التطرق للقضايا الأخلاقية، فهو لم ينطلق من النتائج التي توصل إليها الفلاسفة في الحقل الأخلاقي على قاعدة اعتبارها حقائق مثل كثير من مفكرّي العرب المحدثين والمعاصرين، بل أعمل فكره فيها، بحثاً وتنقيباً، فكان له التميز والإبداع في استنطاق التراث اللغوي العربي في استخلاص بعض الحقائق، والتي وجدت تطبيقاً أثبت راهنية النتائج الطاهائية، فهي من حيث الأصل أصيلة، ومن حيث الواقع راهنية، ومن حيث الآفاق التي تعبر عنها تبقى مفتوحة على قاعدة تعلقها بأزمة الوجود العربي والإسلامي، وسنرى من خلال القراءة الطاهائية تراتبية القيم الأخلاقية، وعلاقتها بالواقع الحقيقي للأمة.
يقع القارئ لطه في حيرة ويصدم عند اطلاعه على النظرة الطاهائية لدلالة الإنسانية، ولا سيما عندما يضعها في أدنى مرتبة أخلاقية، فما يملكه المثقف في هذا العصر حول الإنسانية بأنها المطلب، والأمل لكل فرد وجماعة، فكيف تصبح في أدنى المراتب الأخلاقيَّة!..
يُنبئ البحث في تاريخ النزعة الإنسانية، وفي أفعال المتشدّقين بها، انحرافاً واضحاً في المجال الأخلاقي، والأصل في الزلل نابع أو عائد إلى تأسيس هذه النزعة على المرجعية العقلانية التي تحتاج إلى قراءة دقيقة، وتقعيد أخلاقي لها.
فدلالة العقل لا تنفصل عن تاريخه، وتتبع تاريخ العقل في الدراسات الفلسفية يسافر بنا إلى كثير من الدلالات، فهو تلك الملكة، التي نميز بها بين الصحيح والخاطئ، وتلك القدرة التي تؤهلنا لمعرفة الخير من الشر أيضاً، واعتباره العقل كقدرة وملكة سكونية طرحت عند طه عبدالرحمن كثيراً من التساؤلات، منها الاختلاف الحاصل في أنماط المعرفة، وهو «على الحقيقة -أي العقل- عقول شتى، لا بالإضافة إلى الأفراد المختلفين أو الطوائف الكثيرة، وإنما بالإضافة إلى الفرد الواحد.. فالعقل يتكثر من أجل جلب المنفعة لصاحبه، أما العقل الذي يجلب المضرّة لصاحبه فهو عقل متقلّل، وليس أبداً عقلاً متكثِّراً»[19].
وإذا كان العقل متكثراً، أي إنه متغيراً تبعاً لنوع الموضوع، ولطبيعة الغاية، فإن أوجه العلم تكون أيضاً متكثرة، والعلم على نوعين: علم يطلب لذاته، وهو علم معرفة الله تعالى، وصفاته، كالكمال، والجمال والوحدانية، كما جاء في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}[20].
وعلم يطلب تعلمه من أجل العمل به، وهذا النوع يسمّى العلم التطبيقي، وهو على نوعين: أولهما الأمور التي تؤدى بواسطة الجوارح، والأعضاء كالصلاة والصوم والحج، ويُدعى هذا العلم في علم الأخلاق بالفقه الأصغر، ثانيهما: علم الأعمال الروحية والنفسية، كالأعمال التي تؤدى بواسطة القلب والجوانح، وهو ما يسمى بالفقه الأكبر[21].
وعليه تكون العقلانية على قسمين رئيسين: «هناك العقلانية المجردة من الأخلاقية، وهذه يشترك فيها الإنسان مع البهيمة، وهناك العقلانية المسدّدة بالأخلاقية، وهي التي يختصّ بها دون سواه... والصواب أن الأخلاقية هي ما به يكون الإنسان إنساناً..»[22]، فالهوية الإنسانية لا تتأسس على العقل بل على الأخلاق.
التراث والهوية
لم يأخذ طه عبدالرحمن الدلالة التي أخذتها الإنسانية كما هو مألوف عند دهماء الناس، وحتى النخبة العربية لم تألو جهداً في البحث في تاريخ الدلالة، إذ شمّر على آلياته المنهجية والمنطقية في الحفر عن المعاني الأصيلة التي تملكها اللغة العربية، فإذا كانت اللغة اليونانية المرجعية الفكرية التي أخذ منها فلاسفة اليونان إشكالاتهم الفلسفية والعلمية، فإن لغة الضاد تملك من المقوّمات ما يفوق قدرة اللغة اليونانية، واللغات الأخرى.
وتحميل التبعة لبعض المفكرين للغة، هو إلحاق تبعة الجريمة ضد مجهول كعادتهم، والمتمثلة في العجز والانتكاسة، ولكن التميز الذي يرفع الأستاذ طه إلى مصاف المبدع، هي قدرته في استنطاق التراث اللغوي، والمفاهيم الطاهائية، أو الاصطلاحات القديمة بالقراءة التراثية الجديدة، مع راهنية الأمة: الإنسانية - الرجولة - المروءة - الفتوّة.
ارتبطت دلالة إنسانية بمفهوم إنسان، والتي وردت 65 مرة، وكانت في جلّها تُشير إلى البعد الأخلاقي لهذا الكائن أكثر من إشارتها إلى البعد المادي، وهو ما أكده أستاذنا طه عبدالرحمن، فالمراد من كلمة إنسان ليس الجسد الظاهري، أو الصورة الخارجية، بل المقصود هو الباطن والخلقة، واستعداد الإنسانية وفطرتها، وشعورها مثل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}.
يرى الأستاذ طه عبدالرحمن أن لفظ إنسان كان في الأصل يحمل مضموناً حسيًّا، وهو: «الكائن ذو الصورة الآدمية في مقابل الكائن ذي الصورة الحيوانية، ثم اتّسع مدلوله تدريجيًّا، فصار يحمل مضموناً غير حسي -أي معنوي- وهو كما تقدّم الكائن ذو الأخلاق»[23]، ووقوعها في المرتبة الأدنى من الممارسة الأخلاقية يظهرنها: «النزعة التي تقصر همّها على الإنسان باعتباره مستغنياً بذاته في وجوده وأفعاله، فلا تحتاج إلى اعتبار خالق لهذا الإنسان أو التماس دين منه..»[24].
والمعنى الثاني الذي يؤسس عليه طه عبدالرحمن مشروعه النقدي، والبنائي لمفاهيم أصيلة تساير أو بالأحرى تتعالى على الإبداع الغربي في نحت المفاهيم، خصوصاً لفظ إنسانية، وهو لفظ الرجولة أو الرجولية جملة الصفات الخلقية التي يحصل بها للكائن البشري كمال الإنسانية، وليس في مدلول الرجل ما يفيد اختصاصه بالعقل من دون الحيوان[25]، وهو في التداول الشعبي عند العربي، يفيد دلالة قيمية أكثر من الدلالة الذكورية، والمتعلقة بجنس الكائن، فرجولة العربي قائمة على الكرامة والشرف والعرض، فالقيم الأخلاقية الأساس، والمرجع الدلالي للمفهوم.
أماّ المعنى الثالث الذي يحمل الخصوصية البشرية في التراث العربي والإسلامي، فهو المروءة والمقصود به جملة الأخلاق التي يحصل بها للإنسان كمال الرجولة، أما المعنى الأخير فهو القصد الأول من التأسيس والتأثيل الطاهائي، وهو: الفتوة الذي يكون المعنى الأولي الذي يقدمه للمتلقي هو الكائن البشري الذكر الذي ليبس بطفل ولا كهل، أي الشاب الحدث، ثم توسع»، فأصبح يدل اصطلاحيًّا عل معنى أخلاقي صريح منذ زمن بعيد.
وينبهنا طه عبدالرحمن نتائج قبول المتلقي للدلالة الحسية للفتى يوقعنا في تناقضان دلالية في الفكر، فالفتى يتعالى على الإنسان وعلى الرجل والمروءة بخصوصيات أخلاقية، وأهمها كمال التدين، كمال القوة، كمال العمل، والذي يُزوِّد الفتى باتِّساع في الأخلاق، وهو لا يتسنى فيما عداها من رتب العمل، فالهوية الأصيلة إذن عند طه مرتبطة بالكمال في العمل، والفتوة هي الأكمل لامتلاكها هذه الخصوصيات، وتكون الهوية البشرية المؤسسة من طرف الفتوة هي الأوسع، والأقدر والأجدر.
أما اللطيف في الإبداع الطاهائي فيظهر في توظيف طه عبدالرحمن هذه المفاهيم الأربعة في قراءة وتفسير الواقع أو الراهن العربي، الذي يتحرك خبط عشواء في عالم، عَلِم بهويته، وعمل على فرض وجوده، وتصدير رؤيته للكون، وللإنسان إلى الغير.
وقراءة طه للانقسام السياسي في الأمة العربية على ضوء المفاهيم التراثية الأربعة، لا يبشر بخير، والخطر في الأمر أن الانقسام هو انشطار في الهوية، وانحرافٌ عن التقعيد الأخلاقي للهوية، فبما أن العقلانية كانت البديل عن الأخلاقية في التأسيس للهوية، فيصبح الانقسام أمر شرعي ومشروع على قاعدة الحرية في إعمال العقل، وفي الفهم والتأويل، والتصنيف الذي يقدمه الأستاذ طه عبدالرحمن، للطبقات أو الشرائح الاجتماعية المؤلفة للأمة، تشكّل إسقاطاً للتأثيل الأخلاقي الذي حدَّده للخاصية البشرية، وإذا كانت الإنسانية تعبيراً على النقص في التدين، على قاعدة الاحتكام إلى العقل باعتباره شريكاً حقيقيًّا للإنسان في تجاوز السلطة المتعالية التي يملكها المقدس الديني، والتمثيل الحسي الذي يقابل الخصوصية الإنسانية هو فئة الشريحة الداعية إلى التطبيع مع إسرائيل، وهي: «الفئة التي اختارت أن تسلك طريق التطبيع مع العدو الصهيوني، وأن تدعو إلى ثقافة السلام، مع العلم بأن السلام لا يعقل إلَّا في سياق تمتع كل واحد من الطرفين بحقوقه كاملة.. فهؤلاء المطبِّعون يتنكرون علناً للأخلاق ذات الأصل الديني...»[26].
والتنكّر للمقدس الديني في اعتقاد الأستاذ طه عبدالرحمن يسقط، أو بالأحرى أسقط هذه الفئة في مخيال امتلاك الصواب، حيث يكون الحق في النظر إلى القدس كمعلم إسلامي يؤسس لوحدة الأصل، ولوحدة المصير أيضاً، فالإيمان بالأخلاق المجردة أسس لهذا الاعتقاد، ويمكن أن نلمس مقاربة نيتشه للقيم الأخلاقية، التي يعتقد أن التجريد النظري للأخلاق هو الذي انحرف بالمسار الصحيح للأخلاق، وعليه فإن: «العقلانية التي يتشدقون بها ليست مطلقاً هي الخاصية التي تتحدَّد بها الهوية البشرية، وإنما تتحدَّد هذه الهوية بالأخلاقية الجامعة التي تندرج فيها العقلانية..».
أما مصداق الرجولة كمرتبة أخلاقية، فينزلها الأستاذ طه عبدالرحمن على الفئة التي ارتضت بمقاطعة العدو الصهيوني، فهم فئة استطاعت تجاوز البعد التجريدي في الأخلاق، الذي ميز سلوك فئة الإنسانية، ومنزلتهم في الحياة الأخلاقية أرفع، فتعظيمهم الأرض المباركة دليل على امتلاكهم مستوى من الأخلاق، ولكن لا يرفعهم إلى المراتب العليا في الأخلاق مثل مرتبة المروءة.
وهم من الفئات -في نظر طه- الذين قرروا رفض العدو الصهيوني في الأرض المقدسة، فهم على قاعدة الرفض يشكّلون مستوى معيناً من المقاومة، أما المرتبة العليا في السلّم الأخلاقي، التي هي الفتوة في الاصطلاح العربي، والتي برهن عليها الأستاذ من خلال اللغة، ومن خلال النص الديني على تعاليها وتساميها الأخلاقي معرفة، وفعلاً، فتمثل الانتفاضة أو المنتفضين، الذين تولوا بأنفسهم مقاومة وجود العدو الصهيوني، وممارسة حقهم في الجهاد والاستشهاد، وحاصل القول: «أن مواقف العرب من العدو الصهيوني تجعلهم طبقات أربع، طبقة الناس وتتكون من أهل التطبيع، وطبقة الرجال وتتكون من أهل المقاطعة، وطبقة ذوي المروءة وتتكون من أهل الرفض، وأخيراً طبقة الفتيان وتتكون من أهل الانتفاضة.
الحلقة المفقودة في المشاريع الفكرية العربية هي المبدأ في البحث بالأصل، ولكن الكثير من تغافل عن علّة البحث، والاجتهاد النظري، ولكن الأستاذ طه عبدالرحمن بلغته التقنية، وبآليته المنطقية استطاع أن يكتشف علة الخلل في الوجود العربي والإسلامي، فنكبة فلسطين، وتوالي الهزائم العربية، شكَّل لدى النخبة العربية هاجساً للبحث في دواعي النكسة، ولكنه أعجب بمدح المتلقين، فنسي الأصل الأول للبحث.
والمؤسف أننا نفتقد يوماً بعد يوم روح المشاركة الوجدانية مع أبناء فلسطين، ونكتفي فقط بذرف الدموع التي نستطيع من خلال جمعها إغراق إسرائيل، وإن كانت قد تفطنت استراتيجيًّا، فهيأت السدود لتحتفظ بتلك الدموع لتغرقنا بها بعد ذلك، فالهوية المفقودة هي هوية موؤودة، وهي فلسطين لا غير.
[1] محمد وقيدي، حوار فلسفي، دار توبقال للنشر، المغرب، الطبعة الأولى 1985، ص: 9.
[2] عمارة الناصر، فلسفة عربية هل هي ممكنة؟ مداخلة في الأسبوع العلمي لكلية العلوم الاجتماعية قسم الفلسفة وهران.
[3] إبراهيم مشروح، طه عبدالرحمن قراءة في مشروعه الفكري، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ص 249.
[4] طه عبدالرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2000، ص19.
[5] طه عبدالرحمن، المصدر نفسه، ص 160.
[6] طه عبدالرحمن، فقه الفلسفة: القول الفلسفي، المركز الثقافي العربي المغرب، الطبعة الأولى 1999ص 429.
[7] إبراهيم مشروح، مرجع سابق، ص: 30.
[8] عبد الرزاق بلعقروز، تحولات الفكر الفلسفي المعاصر، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، ط1، 2009، ص 39.
[9] طه عبدالرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، المغرب ط 2، ص 315.
[10] المرجع نفسه، ص 316.
[11] طه عبدالرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص: 172.
[12] طه عبدالرحمن، سؤال الأخلاق، المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة الرابعة، 2009م، ص 17.
[13] أبو الحسن الجرجاني، التعريفات، الدار التونسية للنشر، ص 104.
[14] طه عبدالرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص 172.
[15] المرجع نفسه، ص173.
[16] طه عبدالرحمن، سؤال الأخلاق، ص 53.
[17] طه عبدالرحمن، سؤال الأخلاق، ص14.
[18] طه عبدالرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص189.
[19] طه عبدالرحمن، اللسان والميزان، المركز الثقافي العربي، المغرب الطبعة الأولى 1998، ص 405.
[20] سورة محمد، الآية 19.
[21] جوادي آملي، الحياة الخالدة في علم الأخلاق، دار الهادي - بيروت، الطبعة الأولى 1996، ص9/10.
[22] طه عبدالرحمن، سؤال الأخلاق، ص13.
[23] طه عبدالرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص175.
[24] المرجع نفسه، ص 177.
[25] المرجع نفسه، ص 174.
[26] المرجع نفسه، ص 184.