خطاب التعارف والتواصل
الحضاري والإنساني في الكلمة
الدكتور: محمد الناصري*
* أستاذ باحث، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بني ملال، المغرب. البريد الإلكتورني: mohammedennassiri@yahoo.fr
بداية أعبر عن مدى سعادتي بهذا الدعوة الكريمة من لدن مجلة الكلمة –في شخص رئيس تحريرها الأستاذ زكي الميلاد الفاضل- القاضية بتقويم أثر المجلة في تجديد الفكر الإسلامي.
وأبادر بالقول: إن مجلة الكلمة قد أصبحت لها مكانة راسخة في الوسط الفكري العربي والإسلامي، كما غدت من أهم الدوريات الفكرية التي ينتظر صدورها المهتمون بشأن الفكر الإسلامي.
اهتمام الباحثين بالمجلة؛ راجع بالأساس إلى تضمن أعدادها دراسات تحليلية لقضايا تشكُّل إشكاليات مركزية في الفكر الإسلامي المعاصر: فلسفة الفقه، مقاصد الشريعة، قضية حقوق الإنسان والتنمية، مشكل التأويل، مشكلة الثقافة، نظرية المعرفة، المسألة التربوية، الإسلاميون وقضية الحكم، العلاقة مع الغرب...كما أنها تطرح أرضية لمجموعة من المشاريع الفكرية الناقدة، وغالبية مواد أعدادها هي أوراش فكرية نقدية في المواضيع والإشكالات السابقة الذكر.
ينضاف إلى إيجابيات المجلة هامش الحرية الواسع جدًّا فيها، فهي تستوعب الرأي والرأي الآخر، كما يُسجَّل في هذا الصدد انفتاحها غير المشروط على الأقلام الفكرية المختلفة عبر امتداد العالم الإسلامي حيث إن الحكم في النشر عندها مدى اتسام المادة الفكرية بالعلمية، والموضوعية والجدية في الطرح. فالأقلام التي تظهر في المجلة لا تجمعها هيئة سياسية، أو تنظيم حزبي، أو انتماء مذهبي، أو موقع جغرافي، يظهر ذلك من خلال تشكيلة الهيئة الاستشارية للمجلة، التي تضم مختلف التيارات الفكرية والمذهبية.
ولعل من أهم عوامل نجاح المجلة في تحقيق أهدافها، استهداف مختلف القراء في العالم الإسلامي، شيعة وسنة دون تحيُّز. وأعتقد أن هذا سر النجاح التي تحظى به. كما لا يفوتني التنويه بالشكل الجمالي للمجلة، بحيث إن أعداد المجلة تخرج في شكل جمالي رائع، مع كتابة جيدة، ممَّا يعطي جاذبية للمجلة.
أرجع وأقول: إن بداية تعرُّفي إلى المجلة تعود إلى بداية اهتمامي بموضوع العلاقة مع الآخر في بعديها الديني والحضاري، فمعلوم أن العلاقة مع الآخر شكَّلت موضوعاً من أهم الموضوعات التي عرفها الفكر الإنساني عموماً، فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ برزت رؤيتان تفسران هذه العلاقة؛ رؤية صدام الحضارات مع صمويل هنتنجتون، ورؤية حوار الحضارات مع روجيه جارودي. لنتعرَّف ومن خلال مجلة الكلمة إلى رؤية ثالثة، موسومة بـ: «تعارف الحضارات». ويُعدُّ الأستاذ زكي الميلاد، أول من نحت مفهوم (تعارف الحضارات) ودافع عنه، حيث قام بنشر بحث في مجلة «الكلمة» في صيف سنة 1997، العدد السادس عشر، شرح فيه قيمة وتميَّز هذا المفهوم واختلافه عن مفهومي صدام الحضارات وحوار الحضارات، واتِّصاله بالمنبع القرآني وشرح أبعاد ومكونات هذا المفهوم ومقاصده.
ولقد وجدت في كتابات الأستاذ الميلاد دعوةً صادقةً إلى تطوير البحث والنقاش حول العلاقات بين الحضارات، وتأكيد ضرورة أن نتعامل بثقة مع الأفكار التي نُبدعها ونُعطيها من الأهمية ما تستحق، دون انبهار أو سحر يأخذنا إلى الذوبان في الآخر خاصة النموذج الغربي.
حيث يرى المفكر الميلاد أن البحث عن مفهوم بديل عن الصدام والحوار هو من مقتضيات التجدُّد والاجتهاد والفاعلية وعدم الجمود، أو التوقُّف لفتح مجال التفكير نحو مفهوم جديد ليدخل إلى دائرة النظر والتحليل، ومن منطلق تجربة المسلمين في بناء الحضارة يفترض أن يكون التصوُّر الإسلامي ذا رؤية أو مفهوم يُحدِّد شكل العلاقات مع الأمم والمجتمعات والحضارات الأخرى، والقرآن الكريم جاء للناس كافة ورحمة للعالمين، هو الرسالة الخالدة للبشر بكل تنوعاتهم، يقول تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}.
ومعنى ذلك أن هناك تعدُّداً وتنوُّعاً في الاجتماع البشري، كما تُقرُّره الآية الكريمة بمعنى التعارف، ومنشأ هذا المفهوم من القرآن، وآية التعارف تحديداً من الآيات التي تكرّر ذكرها والحديث عنها والالتفات إليها في الكتابات العربية الإسلامية، وجاءت فكرة تعارف الحضارات في إطار تجدُّد واجتهاد الفكر الإسلامي، وتأكيد معنى التواصل والانفتاح الحضاري على الآخر.
وتعارف الحضارات –عند الميلاد- ليس مجرَّد تعبير فحسب، وإنما هو مشروع حضاري تبدو صياغته قريبة المعنى من مفهوم التواصل عند الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، لأن فكرة التواصل عنده تقوم على تجاوز ما يصطلح عليه بفلسفة الذات والعمل على الوصول إلى فلسفة الآخر، من خلال بناء معرفة وتعارف.
والفارق بين المفهومين أن التواصل عند هابرماس يرتبط بحقل المعرفة، أما التعارف فيرتبط بحقل الاجتماع، أي علاقته بالمجتمع والجماعة والناس، ويدعم هذه الرؤية المفكر المعاصر إدريس هاني بقوله: إن خطاب التعارف موجَّه للحامل الاجتماعي، أي للإنسان والشعوب والقبائل.
ومن هنا حاول زكي الميلاد ربط التعارف بمفهوم التواصل الذي يمثل في جوهره وصفاً للعلاقة بين طرفين ما توصف بعدم الانقطاع، وتنطلق من الاعتراف بوجود الآخر، ويهدف التواصل إلى الانتقال من المستوى الفردي إلى الجماعي، وتكون اللغة رمز التواصل بين الذات والآخر، ويكون التعامل بينهما وفق ما يمتلكه الطرفان من مشتركات بلغة التقبل تعارفاً.
ومن خلال التواصل يكتسب الفرد وعيه بذاته، من خلال استبطانه لتجارب الآخرين والاستفادة من سلوكيات ودروس الغير، من خلال الاحتكاك والتفاعل وهذا نفسه هو المقصد من التعارف في تفاعل أمتين أو مجموعة من الشعوب.
إن التواصل يقتضي التعريف بالمجهول، وهذا ما يبتغيه تعارف الحضارات من كسر لحواجز الجهل واللامعرفة بالآخر، وتصفية المعرفة المشوشة عن الآخر في المتخيل الإسلامي والمتخيل الغربي.
كما أن التواصل يتعامل مع أزمة الإنسان في نظرته لذاته وللآخرين، فالتعارف يعتبر منهجاً وأداةً وغايةً لمخاطبة الآخر والتعرُّف إليه، وإذا كان التواصل عند الفيلسوف الألماني هابرماس هو الفاعلية الوحيدة التي بإمكانها إعادة ربط الصلة بين أطراف هذا العالم المتقطع الأوصال، فالتعارف يريد جمع شتات التمزق الحضاري، وتحييد المتنوع الحضاري بعنوان تقبل الآخر، دون إلغاء الذات في الحفاظ على الهوية، وعدم فرضها وهذا هو تعارف الحضارات.
ويرى زكي الميلاد أن مفهوم تعارف الحضارات اليوم، قد تجاوز مرحلة بناء المفهوم واكتسب قوة التماسك والتحديد، ودخل مجال التداول، وأضحى معروفاً في حقل الدراسات الحضارية، وفي مجال العلاقات بين الحضارات بصورة خاصة.
أيَّدت الباحثة المصرية الدكتورة نادية مصطفى استخدام مصطلح التعارف، وعدَّته معترفاً به، ويُمثِّل وجهة النظر الإسلامية تجاه أنماط التعامل مع الآخر الحضاري، وتقول: لماذا لا نقول: إن مفهومنا من الدائرة الإسلامية عن نمط العلاقة بين الحضارات هو تعارف الحضارات؟ (أنا هنا أستخدم ذلك المصطلح الذي قدَّمه الأستاذ زكي الميلاد.. وليس حوارها أو صراعها يُمثِّل استجابة إيجابية، وليس مجرَّد ردّ فعل لما أثارته أطروحات صراع الحضارات، تلك الأطروحات التي جاءت من خارج الدائرة الإسلامية تعبيراً عن الاهتمامات الفكرية والعلمية في الغرب، في حين أن الرؤية الإسلامية على مستوى المعرفة والفكر أسبق إلى أي طرح آخر).
ومن هنا تتَّضح فكرة أن التعارف الحضاري هو حوار الحياة والواقع، بمعنى أن التعارف والتفاعل المباشر والعمل معاً وسويًّا؛ لأن الآخر لحمة في صميم الوجود والعلاقة معه من أهم أسس الوجود.
ويمكن أن نستفيد من فكرة التعارف من جانبين آخرين هما: التعارف أولاً يساعدنا على فهم ذواتنا أكثر فأكثر؛ لأن معرفة الآخر تلفت نظرنا إلى ما عندنا وإلى ما ليس عندنا، ويعرفنا على عناصر قوتنا وعلى عناصر ضعفنا، ومعرفة ما لدى الآخر من قوة وضعف، ودون التعارف يتعذَّر علينا الانتقال إلى المراحل الأخرى في العلاقات بين الحضارات.
وبسبب التعارف لا يبقى الآخر مجهولاً، فنحن نخشى الآخر ما دمنا نجهله، وإذا عرفناه لم يعد كذلك، ونتحرر من عقدة الخوف اتِّجاه الآخر، فأمكننا تقبُّل وجوده بل قبول التعايش معه.
ومن أهم أسس التعايش السلمي الإنساني هو التعارف، لأن التعارف هو السبيل لكسر الجهل المتبادل، وتعميق التآلف الاجتماعي البشري، واختلاف البشر لا يعني الاستعلاء بل من أجل التعارف، وكسر حواجز الجهل، وتجذير أواصر الوئام والشراكة ليحصل المشروع الأساسي وهو التعارف عبر الفهم المتبادل.
كما أن قضية الاختلاف والتنوُّع العقائدي والإنساني عموماً لا تحمل في طياتها بالضرورة فكرة الصراع، وإنما يمكن استثمارها لتحقيق التكامل الذي هو ضرورة وظاهرة طبيعية مشهودة، لذلك لا بد من تشجيع التعارف وتعبيد طرق التواصل.
إن مقولة تعارف الحضارات جديرة باهتمامنا ومناقشتها لإغنائها، فهي مقولة عربية إسلامية مؤسسة على أساس تكوين الهوية والثقافة الأصيلة فيها خطاب موجَّه لمعالجة إشكاليات إنسانية تتَّصل بجوهر الوجود البشري في هذا الكون، ومعالجة مفاهيم تتعلَّق بنظرة المسلمين والعرب إلى أنفسهم ونظرة الآخرين إليهم.
إن مفهوم تعارف الحضارات هو أوسع وأشمل وأعمق من مفهوم حوار الحضارات، لأنه ينطلق من أرضية تكوين المعرفة والتأسيس عليها، فالتعارف هو الذي يُحدِّد شكل العلاقات وحدودها ومستوياتها وآفاق تطوُّرها.
ومن الغايات الأساسية لحوار الحضارات الوصول إلى التعارف، أو إلى قدر معقول منه أو تصحيح الصورة، وإزالة عدم الثقة إلى غير ذلك من معانٍ ودلالات تكشف أن التعارف يُمثِّل قيمة أكبر من الحوار.
ويُركِّز زكي الميلاد على مبررات التنظير الفلسفي لتعارف الحضارات، ويرى أنه مبدأ استراتيجي ومنظوراً للعلاقات في الإسلام، ورد ذكره في القرآن الكريم واضحاً وبدلالة قطعية، والحاجة إلى صياغة بديل إسلامي عن نظرية الصراع والصدام بين الحضارات التي طغت على الخطاب السياسي والفكري والفلسفي والإعلامي، وحتى الشعبي خاصة في ظل الظروف التي يمرَّ بها العالم، وتعارف الحضارات هو الصيغة البديلة التي حاولت تصحيح الرؤية وحل بعض المشاكل في العلاقة مع الغير. (عن: بن حليلم شوقي، الجزائر نيوز).
لقد أسهمت مجلة الكلمة بنشرها لدراسات الأستاذ الميلاد المتعلِّقة بتعارف الحضارات باعتبارها رؤية إسلامية لمجال العلاقات بين الحضارات، في تجديد رؤية الفكر الإسلامي لطبيعة العلاقة بين المسلمين وبين غيرهم ممَّن لا يدينون بدين الإسلام.
إجمالاً تبقى مجلة الكلمة من المجلات الفكرية القليلة في العالم الإسلامي، التي أخذت على عاتقها مسؤولية تجديد الفكر الإسلامي، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد.