شعار الموقع

من التجديد إلى التجديد

فيصل العوامي 2019-05-31
عدد القراءات « 594 »

من التجديد إلى التجديد

 

الشيخ فيصل العوامي*

* كاتب وباحث من السعودية.

 

 

لهذه المجلة الرائدة إضافات لا تُغفَل على مستوى الفكر والثقافة، يمكن لكل متابع أن يقف عليها وعلى مدى انسجامها مع لحظتنا الفكرية، ولعل واحدة من أهمها العناية بمسألة التجديد في حقل الفكر الديني من حيث الفكرة والتطبيق.

يُلمَس ذلك من خلال تناولها لمحاور كثيرة في هذا المجال، أهمها:

1- الملاحظات النقدية للمنهجية المتداولة في البحوث الفقهية، كالدراسات التي أُسس في بعضها لنقلة من مخاطبة الفرد إلى مخاطبة الجماعة في عملية الاستنباط، وقُدِّم في بعضها الآخر مقترحات جديدة لوظائف الفقه.

2- فرضيات التجديد في علم الكلام، سواء ما ارتبط منها بالتأسيس النظري للمفاهيم، أو العملي المتعلق بآثار التجديد في هذا المجال العلمي على العلاقات في الوسط الإسلامي.

3- جدلية العلاقة بين الحداثة بصفتها مشروعاً فكريًّا بديلاً، وبين أنماط صناعة الأفكار في الوسط الديني الكلاسيكي.

4- استعراض الجدل الدائر حول بعض الجزئيات المتعلقة بالبعد التطبيقي للفكر الديني الجديد، كالديمقراطية بصفتها مادة جديدة تتطلَّب دراستها روحاً وأفقاً فكريًّا إسلاميًّا جديداً.

5- تتبع الندوات والمؤتمرات الفكرية المختصة بمناقشة قضايا التجديد في الفكر الديني.

وقد تمخّض هذا الجهد المتواصل عن تغيّرات على مستوى التفكير عند المهتمين بالفكر والثقافة، كما شجّع على الإكثار من تناول هذا البعد الهام. وهكذا دائماً ينبغي أن يكون التنظير الذي يتم إبداعه في العمل الفكري، فدائماً ينبغي أن يكون ناقلاً من مرحلة إلى أخرى أكثر تطوراً.

ولذلك ينبغي مواصلة هذا الجهد وانتقاله إلى مراحل أخرى. أقصد أبعاداً أخرى في مشروع التجديد، ويمكن لي هنا أن أقدم رؤية مختصرة، لتشكيل ما ينبغي أن تكون عليه اهتمامات هذه المجلة الرائدة في اللحظة القادمة.

مقدمتان في البدء

الأولى: ماذا نعني بالتجديد وما هي أهدافه؟

التجديد: استبدال المناهج والأدوات العلمية القديمة المعمول بها في مقام التأصيل والاستنباط -بمعناه الواسع- بمناهج وأدوات علمية جديدة. ولا يعني ذلك بالضرورة تغيُّر الأفكار والاستنتاجات، إذ ربَّما تُثمر المنهجية الجديدة أفكاراً جديدة وربَّما تزيد القديم رسوخاً.

الهدف: كشف الحقائق. فإنما نعمد إلى استبدال الأداة القديمة لقصورها في عملية تحصيل الحقائق. وإنما تقترح أداة جديدة للتعتقاد بجدوائيتها على هذا الصعيد. وهو هدف العلم تماماً.

فافتراض عدم وجود الحقيقة، أو عدم القدرة على تحصيلها، يجعل مشروع التجديد مشروعاً ترفيًّا، (1) لحتمية وجود الحقيقة بحسب بناءات الذهن البشري، (2) وعدم قدرة العلم على التحصيل يعني فشل الجهد العلمي وَلَغْوِيَّته، (3) كما أن عدم قدرة العقل على ذلك يعني أنه كائن ناقص لا فائدة منه.

وبالتالي فإن فرضية دريدا التي يتكئ عليها الدكتور أركون في كثير من بحوثه (لا وجود لما هو خارج النص)، أو ما ينادي به بعض المعاصرين -كالباحثة التونسية ألفة يوسف- من القول بضياع المعنى الإلهي إلى الأبد، توافقاً مع مقولة نيتشه (موت الإله) والمؤلف. لا يمكن أن يصمد أمام تيار من الإشكالات العلمية النقضية والحَلِّية.

الإطار العام لسؤال التجديد: (هل ثمة أدوات ومناهج جديدة لقراءة النص الديني؟).

هذا السؤال بقي راكداً في الوسط الحوزوي الشيعي، وأكثر ركوداً في الوسط العلمي السُّنِّي.

لأن المناهج المتداولة في الفقه السُّنِّي ما زالت حبيسة لما توصَّل إليه الآمدي والعضدي والغزالي، كما هو ملاحظ، بل كما يؤكده بعض العلماء المعاصرين على المستوى السُّنِّي.

والمنهج الأصولي في الحوزة الشيعية مع أنه أكثر تطوُّراً، إلَّا أنه توقف عند المدارس الخمس الحديثة (الأنصاري، الآخوند، النائيني، الأصفهاني، العراقي).

وما يطرح على أنه تجديد مع أنه محاولات رائدة ومقدمة ضرورية للتجديد على مستوى المنهج، إلَّا أنه لم يتجاوز التجديد في:

1- اللفظ وليس المنهج.

2- تغطية موضوعات جديدة بالأداة القديمة نفسها.

نعم، هناك ادِّعاءات كالكلام حول أصول القانون الديني، ولكنها في ظني ليست من التجديد في شيء، إضافة لأنها غير مُقعَّدة. وهناك مشاريع -كأصول علم العقائد وأصول علم التفسير- لكنها لم تُنجز بعدُ بالمستوى الذي يجعل منها نقلة نوعية في البحث المنهجي.

سؤال التجديد الفعلي: بناء على ذلك يصبح سؤال التجديد في صيرورته أحد فرضيتين:

1- (هل في العلم الحديث والمعاصر ثمَّة مناهج مؤهلة لتحل محل المناهج القديمة؟). ما هي، وكيف تطبق؟

2- (هل في حوزة الفقيه افتراضات جديدة على صعيد الأداة المنهجية؟). ما هي، وكيف تطبق؟

وعلى الفرضية الأولى يُمكن استبدال عنوان التجديد بـ(الحداثة) التي تعني في المقام: اعتماد مناهج العلوم الحديثة في قراءة النص الديني. بينما على الفرضية الثانية يبقى عنوان التجديد هو الأصح.

هناك إجابة عند بعض المفكرين المعاصرين بالإيجاب، لكن بالنسبة للفرضية الأولى فقط:

• نموذج أركون، كما هو واضح في كتابيه: (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل)، (والقرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني).

• نموذج شحرور، خصوصاً في كتابه: (نحو أصول جديدة للفقه الاسلامي: فقه المرأة).

وإنما مثّلتُ بهذين النموذجين، لتوافر بعض الشروط فيهما، وذلك لأن المختص في أي حقل علمي إذا طُولب بالتجديد، فإنه لا يكتفي بالشعار، وإنما يُطالَب أولاً بمنهج جديد واضح، وثانياً بتجارب تطبيقية لذلك المنهج تُبيِّن الثغرات العلمية للمنهج القديم، والحلول المقترحة لها.

ولهذا يُؤخذ على الأول: عدم ملاحظته الدقيقة للمادة العلمية التي يقترح لها منهجاً مغايراً.

كما يُؤخذ على الثاني: بالإضافة لما ذكر في الأول، عدم وضوح الضوابط والقيود، وعدم شموليته في التواصل مع الثقافة الاسلامية.

ومع ذلك فإن هذين النموذجين يُقدِّمان بعض التساؤلات التي يتطلع لمثلها الباحث العلمي.

وربما يكون بعض ما جاء في البحث الاستشراقي العلمي وليس المؤامراتي، وكذلك بعض البحوث المصنَّفة على الاتِّجاه الحداثي، ذات فائدة بنسبةٍ هنا، لما تحمله من تساؤلات منهجية جريئة، يمكن أن تُشكّل مادة علمية بحثية هامَّة للفقيه. ولهذا اعتنت الحوزة بها من خلال ترجمتها للغة الفارسية في الدوريات العلمية –كمجلة نقد ونظر-. مع أن أغلب افتراضاتها محل للبحث والمناقشة.

بهذا فإن عدم تشخيص مفهوم التجديد في كتابات الكثير من دعاته كان وراء عدم إثارة أسئلته المهمة.

الثانية: بين تجديد الفكر وتجديد الخطاب

مع تصاعد الحركات والهموم الشبابية في أواسط القرن العشرين وما فوق، واجتياح الأفكار اليسارية والتغريبية لعقول الجيل الشاب، بدأ جيل من العلماء يتحسَّس أهمية مخاطبة الجيل الجديد بلغة تتناسب مع ثقافته وتُجيب عن تساؤلاته، وذلك كان يتطلَّب تغيير الخطاب الحوزوي القديم لأنه غير مفهوم وغير مستساغ لهذا الجيل، فتمَّ العمل في بعدين:

1- صياغة المادة القديمة بألفاظ جديدة وفي قوالب جديدة ليتسنَّى للجيل الجديد التعاطي معها بسهولة (كما هو ملاحظ في كتاب الفكر الاسلامي للسيد المدرسي، وفلسفتنا للسيد الصدر، والعدل الإلهي للمطهري).

2- تغطية الكثير من التساؤلات الطارئة في المجال الاسلامي في حقل الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وذلك من خلال قراءتها على ضوء المباني العلمية المتداولة في الوسط الحوزوي (من قبيل الفقه السياسة والاقتصاد للسيد الشيرازي، واقتصادنا للسيد الصدر).

لكن هذا العمل كان منحصراً في تجديد الخطاب ولم ينتقل إلى تجديد الفكر، أي ما أُنجز في هذا المجال وإن كان يستبطن همًّا لدى الباحث يرمي إلى التجديد في خصوص الفكر إلَّا أنه لم يتجاوز مجال الخطاب، ولعل السبب في ذلك أن تجديد الخطاب بذاته يتطلَّب مشقة خاصَّة كفيلة بإلهاء الباحث واستنزاف طاقته، وأما تجديد الفكر فيتطلَّب تفرُّغاً كاملاً للبحث والتحقيق، وانشغال أكثر الطامحين للتجديد بالهمِّ السياسي والاجتماعي حال دون تفرُّغهم للنشاط الفكري التحقيقي.

بناءً على ذلك فإن الكثير من الانتاجات الفكرية التي تُصنَّف اليوم في مجال التجديد الفكري إنما هي تجديد للخطاب وليس الفكر. ولهذا لا بد في المرحلة القادمة من الانتقال من الخطاب إلى الفكر.

إذن يتَّضح لنا من خلال هاتين المقدمتين الشروط الأولية لتجديد الفكر، أهمها التركيز على الفكر نفسه لا على كيفية عرضه، وتشخيص مفهوم التجديد الذي يعني التجديد في الأدوات المنهجية على وجه الخصوص.

آلية التجديد

حتى يكون العمل التجديدي جادًّا وليس صوريًّا، لا بد من اقتحام دوائر ثلاث، ولو قلنا: إقحام؛ لما كان في ذلك مجازفة، أي ينبغي إشغال العقل الديني –الحوزوي بالذات بصفته المتخصص في إنتاج الفكر الديني- بالتفكير في أبعاد ثلاثة:

البعد الأول: السؤال الفكري الجديد

لقد استطاع علم الأصول –وهو الأداة المنهجية الحوزوية المسؤولة عن إنتاج الفكر- القفز من مرحلة إلى مرحلة أخرى أكثر تقدُّماً ببركة انفتاح الشيخ الأنصار ي على تساؤلات عصره وإقحامها في البحث الأصولي الأكاديمي كمادة نقاشية قابلة للمناقشة العلمية.

لكن المشكلة اليوم تكمن في ترديد تلك التساؤلات القديمة والإغراق في مناقشتها، مع أنها اكتفت بحثاً وتحقيقاً. لهذا تجد الأصولي اليوم ينطلق في بحثه من تساؤلات قديمة ويُكرِّر كيفية مناقشتها من غير أن يقترب من التساؤلات الجديدة الأكثر إلحاحاً.

ويمكن لي أن أُقدِّم بعض الأمثلة الواقعية في المقام:

المثال الأول: من حجية الظواهر إلى النسبية وتعدُّد القراءات

أُثير تساؤل قديم من قبل الإسترآبادي ومَنْ جاء بعده حول إمكانية تناول الظهورات القرآنية والبناء عليها في الاستنباط، وهو ما عُرف بعد ذلك بحجية الظهور، وقد كان هذا التساؤل في زمنه يُعتبر إشكالية هامَّة، لهذا استجاب لها مثل الشيخ الانصاري وأقحمها في البحث الأصولي باعتبارها مادة علمية قابلة للمدارسة، ولهذا أُشبعت بحثاً إلى أن استقرت الرؤية فيها تقريباً. وما عاد في هذا الزمن من يتوقَّف طويلاً عند هذه الإشكالية، بل لا تُشكّل همَّا علميًّا.

أما الذي يُشكّل همًّا علميًّا في هذه اللحظة الفكرية، من الجهة نفسها، فليس حجية الظواهر وإنما حجية تعدُّد القراءات، وبالتالي النسبية المعرفية، وهو سؤال هامٌّ تنشغل به فعلاً الدوائر العلمية في العالم الاسلامي والغربي، ومحوره (هل يمكن اكتشاف الحقيقة من خلال النص أم لا؟)، والذي يُستند فيه إلى مثل فرضيات الهرمنوطيقا وغير ذلك.

بالتالي فسؤالنا اليوم ليس أن الظاهر من النص حجة أم غير حجة، وإنما هل كل الظهورات حجة أو أن كل الظهورات ليست حجة من رأس؛ باعتبار أنها ظلال لأفق القارئ للنص وطبيعة ذهنيته وقبليَّاته، لا أنها كاشفة عن المراد الجِدِّي للمتكلم، ما يعني استحالة معرفة الحقيقة، أي إن كل ما يُحرزه الفقيه أو المفكر إنما هو نسبي غير مطابق للواقع.

المثال الثاني: من العُرْف القديم إلى الزمكان

عند قراءة الفقيه للنص وخصوصاً عند تعدُّد الاحتمالات، كثيراً ما يلجأ للتمسُّك بالمتعارف في عصر الصدور، ومن خلاله يتبنَّى فهماً خاصًّا للنص، وآنئذٍ يأتي الكلام حول مفهوم العرف وشروط التعويل عليه.

كان هذا هو السؤال القديم، وهو يفترض سحب الحالة المتعارفة من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر، لكن السؤال اليوم حول مدخلية الزمان والمكان في التشريع، والعمدة فيه ما جاء به علم تاريخ الأديان الحديث من استحالة وجود فكرة فوق الزمان والمكان، ومعنى ذلك أن كل ما جاء به النص لا يمكن سحبه بنحو مطلق إلى جميع الأزمنة والأمكنة، وإنما لا بد من تأطيره بزمانه ومكانه.

المثال الثالث: مِنْ لا خصوصية الوارد إلى الأنثروبولوجيا.

من القواعد التي تكاد تبلغ مستوى البديهية العلمية ما يقال عند التمسُّك بعموم النص بأن المورد لا يُخصِّص الوارد، أو ما هو متعارف عليه في علم الأصول السُّنِّي من أن العبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب. فعلى هذه القاعدة اتَّكأ الفقيه في استنباطه للكثير من المعاني والأحكام من غير أن يتقيَّد بالمورد الذي صدر فيه النص.

ولا شك في أن لهذه القاعدة استثناءات، كما هو واضح لكل من له أُنس بالبحث الفقهي، بل جرى الاختلاف بين الفقهاء في بعض المسائل الفرعية من حيث إنها خاصة بموردها أم هي عامَّة.

كان هذا هو السؤال القديم الذي أسَّست له أدلة خاصَّة، أما السؤال اليوم فهو حول إمكانية التمسُّك بمثل هذه القاعدة مع ما افترضته بعض العلوم الحديثة، فالأنثروبولوجيا مثلاً افترضت مراعاة المتكلم للنفسية الاجتماعية للمخاطَبين، وبالتالي فكل ما يُنتجه من مقولات لا يتجاوز تلك النفسية، ما يعني أن ما تحمله تلك المقولات من أفكار وقيم إنما هو صالح لتلك النفسية لا غير، ولا يُمكن أن يتواءم مع نفسية اجتماعية أخرى، لأن كل نفسية اجتماعية لها مُتطلَّبات خاصَّة وطبيعة خاصَّة وميول خاصَّة، فالنفسية الاجتماعية للمجتمع المكي مُتطلَّباتها وطبيعتها تفترض تشريعات من نوع خاص وهي ما جاء بها النص فعلاً، ولا يُمكن أن تتطابق هذه النفسية مع النفسية الاجتماعية للإنسان الأمريكي أو المصري مثلاً الذي يعيش في القرن الواحد والعشرين، ولهذا فالأخيرة تتطلَّب تشريعات من نوع خاص، ومن غير المعقول أنثروبولوجيًّا تطبيق التشريعات المعالجة لإشكالية نفسية عند الإنسان المكي على إنسان القرن الواحد والعشرين.

المثال الرابع: بين القضية الحقيقية والمتغيرات

عادة ما يفصل الفقيه بين قضيتين في قراءته للنص وفي الفتوى أيضاً، القضية الحقيقية والقضية الخارجية، ويقال حينها بأن الأصل في الخطاب كونه على نحو القضية الحقيقية، ولهذا فهو قابل للدوام والاستمرار.

وإنما جرى التمسُّك بهذا الأصل لأدلة من نوع خاص كانت تُعالج إشكالية وسؤالاً مرحليًّا، أما سؤال المرحلة الراهنة فيتعلَّق بالثابت والمتغيِّر من ناحية الإمكانية والضوابط، بمعنى هل يمكن أن يكون في التشريع ما هو قابل للثبات كما هو متسالم عليه فقهيًّا، أم كله في حيِّز المتغيرات كما قال به بعض المفكرين المعاصرين، وبناء على القول باستيعاب النص للثابت والمتغيِّر فما هي الضوابط الفاصلة بين الاثنين.

هذه أسئلة أربعة ذكرتها للتمثيل لا أكثر، وإلَّا فالبحث المنهجي تتكاثر فيه الأسئلة الجديدة التي تجعل التكلُّم في السؤال القديم أشبه بالحالة الترفيّة. وبناء عليه فالتجديد على مستوى الفكر لا يكون جادًّا ما لم يُقدِّم مناقشات واضحة تطال الأسئلة الجديدة.

والنقص الموجود هنا خلو البحث الأصولي المعاصر من مواد علمية مُقعَّدة لهذه الأسئلة والموضوعات، بل لا يكاد الأصولي يمرُّ عليها من أساس مع أنها أسئلة العلم الحقيقية اليوم.

البعد الثاني: إنجازات البحث المنهجي الحديث

لو نُمعن النظر في بعض مواد الفرائد للشيخ الأنصاري، نجد فيها مناقشات لبعض الأفكار الجديدة -بالنسبة لعصره- التي أُثيرت في بعض العلوم كالفلسفة، من بينها مثلاً مسلك التأويل عند ظهور التعارض بين النقل والعقل، الذي تعرَّض له الشيخ الأنصاري في مبحث القطع، فهو استجابة لما طرحه بعض الفلاسفة المتأخرين كابن رشد في كتابه فصل المقال. ومثل هذه الاستجابة أكسبت البحث الأصولي روحاً جديدة انتقل بسببها من مرحلة إلى أخرى.

لكن تلك الأفكار أضحت قديمة وليست محلًّا للبحث اليوم إلَّا بشكل نسبي، وفي الغالب على نحو الإخبار بنمط المناقشات العلمية القديمة، أما المناقشات الجديدة فهي فيما أنتجه البحث المنهجي الحديث من مناهج وأدوات في العديد من العلوم، وهي تتطوَّر بشكل مستمر، ومع ذلك فالبحث الأصولي في غفلة عنها، وتجدُّده مرهون بإقحام هذا البحث الحديث، وإدخال استنتاجاته كمواد علمية في صلب علم الأصول، لمناقشتها من جانب واستخلاص بعض موادها المتناسبة مع هذا العلم؛ وذلك لأن ما تُنتجه الثقافة الإنسانية متجاوز لحدود الانتماءات العقدية بالذات بالنسبة للبحث المنهجي، ويمكن أن تُصنَّف ضمن هذا السياق محاولة الشهيد الصدر في بحثه حول حساب الاحتمالات.

فحتى تحصل حركة تجديدية في مناهج البحث العلمي الحوزوي، يتحتَّم الانفتاح على ما أنتجه البحث الحديث والمعاصر من أدوات منهجية لا أقل في الحقول القريبة من مجال الاختصاص الحوزوي، ومن أهمها الألسنيات التي ما زالت منذ منتصف القرن العشرين وإلى الآن تشهد تطوُّراً ملحوظاً، وتمرُّ بمنعطفات نقدية هامَّة، من البنيوية إلى التفكيك والسيميائية، وكذلك علم التاريخ الحديث، والهرمنوطيقا، والإنسية أو الأنسنة، وما إلى ذلك.

وبالانفتاح على هذه المواد البحثية، سينشغل البحث الأصولي بموادَّ ومناهج جديدة، ومن خلال ذلك ستتولد وبشكل تلقائي نظريات أكثر تطوُّراً، وشيئاً فشيئاً يتجدَّد البحث المنهجي في الفكر الديني.

البعد الثالث: النقد العلمي الجاد

إن ما يُنتجه البحث الحوزوي من علوم ومناهج هو في متناول النقاد على المستوى الإنساني، وليس على المستوى المذهبي فقط، ولهذا فقد خضع الكثير من الإنتاج العلمي على المستوى الفقهي والأصولي لنقد قوي من قبل جهات علمية كثيرة.

وحركة التجديد الجادة لا بد أن تمرَّ من هنا، مهما كانت قساوة النقد، ولا أستثني في المقام جهة، بدءاً بالبحث الاستشراقي والحداثي بل والعلماني، والسبب في ذلك أن هذا النقد يحمل إلينا تساؤلات جرئية حول إنتاجنا، لأنه تفكير من خارج القبيلة كما يقولون، فابن القبيلة أقل جرأة على ذاته، بينما غيره لا تحدُّ حركته قيود وقوانين القبيلة، لهذا تجده يُنتج نقده في فضاء مفتوح. ونحن يهمنا نقده إذا كان موضوعه إنتاجنا العلمي.

فنحن علينا أن نأخذ ما يُنتجه هذا النقد من تساؤلات، ونجعلها مواد علمية في بحوثنا الأكاديمية، نُخضعها للبحث والمناقشة، وهذا من جانب يجعل المنهج المعمول به عندنا أكثر رسوخاً وقوة، ويضيف إلينا ربما نكاتاً أو أفكاراً وتصوُّرات وإن كانت من خارج الدائرة المعهودة، كما أنه يُضفي مسحة تجديدية على البحث المنهجي الحوزوي.

فهذه الأبعاد الثلاثة هي جزئية من بين جزئيات كثيرة ينبغي أخذها بعين الاعتبار لإحداث حركة تجديدية في البحث العلمي المتعلق بالفكر الديني. وما لم نتعامل بهذه الكيفية ستبقى أطروحة التجديد مجرَّد شعار لا يُنتج جديداً، وستبقى المناهج راكدة وغير مولِّدة لفكر جديد.

أظن أن هذا ما ينبغي أن تكون عليه هذه المجلة المُوقَّرة في الجهد القادم، من خلال اهتمامها باستدعاء أقلام مُتخصصة حوزوية وحداثية قادرة على تناول مثل هذه الأسئلة الهامة، وعقد مؤتمرات فكرية لزيادة التفاكر في شأنها. هذا وإلى مزيد من النجاج والتفوّق.