شعار الموقع

وقفة عند ( الكلمة )

محمد علي آذرشب 2019-05-31
عدد القراءات « 574 »

وقفة عند «الكلمة»

 

الدكتور محمد علي آذرشب*

* أستاذ الأدب العربي في جامعة طهران، ورئيس تحرير مجلة ثقافتنا. البريد الإلكتروني: dr.azarshab@gmail.com

 

 

 

من الصعب جدًّا كتابة أسطر محدودة للحديث عن هدف كبير، ومشروع ضخم كالذي نراه في «الكلمة». لست مبالغًا حين أتحدَّث عن هذه المجلة بهذه اللغة، فهذا ما أشعره من أعماقي، خاصَّة حين أرى هذه الشمعة تضيء وسط مجلات تدّعي الأكاديمية والتحكيم والعلمية، وما هي غالبًا إلَّا لتسويق بضاعة يستطيع صاحبها أن يحصل على ارتقاء أو ترفيع أو وسام في جامعته أو مركز أبحاثه.

قلتُ غالبًا ولم أعمّم لأنني أعرف أن للكلمة أخوات تسعى على الطريق الذي تسعى عليه الكلمة وتتجَّه نحو الهدف ذاته. أُلخص مشروع الكلمة فيما أراه بمنظومة أهداف تجتمع كلها في تحقيق بلورة خطاب إسلامي، من شأنه أن يُوجّه أفكار الأمة نحو غد أفضل، هذه المنظومة هي:

أولا: التعارف

وهو هدف إسلامي كبير، أكدت عليه الآية الكريمة باعتباره هدف التعددية «الجنسية» و«الإثنية» للبشرية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهو تعبير يستحق الوقوف عنده طويلاً، إذ لا يخاطب المسلمين فحسب، بل «الناس» كلهم.

{إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} وهذه هي التعددية في الجنس البشري ذكر وأنثى.

{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} وهذه هي التعددية الإثنية.

{لِتَعَارَفُوا} وهو تعبير على غاية من الأهمية في الفهم الحضاري، والتعارف من باب التفاعل، ويفيد التبادل، والتبادل هنا ينصبُّ على المعرفة. إذن التعددية الجنسية والإثنية هدفها «التبادل المعرفي»، والتبادل المعرفي وقفت عنده «الكلمة» طويلاً فيما قدَّمته من زاد فكري.

ثانيا: الاستماع

من أهم عناصر البناء الحضاري، والتأكيد عليه في القرآن كثير، والاستماع يعني الانفتاح على الآخر بل الآخرين، مع امتلاك القدرة على التمييز واختيار الأفضل.

قد لا يبدو هذا العنصر مهمًّا باديَ الرأي، لكننا لو ألقينا نظرة على واقع تخلفنا لوجدناه يعود أكثر ما يعود إلى غياب «الاستماع»، نحن نتكلم ونتكلم، ولا نسمع غالبًا.

حتى «الحوار» الذي نشاهده في فضائياتنا ليس فيه استماع، بل هو كلام، أحدهم يتكلم بلسانه، والآخر يتكلم بدماغه كي يردّ ويُفحم. الطرفان غارقان غالبًا في ذاتية لا يخرجان منها، غارقان في «طاغوت» الذاتية، وهي طاغوت لا يبلغه طاغوت آخر. ولا يمكن أن يتحقَّق الاستماع إلَّا أن تحصل نقلة حضارية من التقوقع في الذات إلى الخروج من شرنقة الذات والاتَّجاه نحو الكمال، وأعظمه الكمال المطلق (الله سبحانه).

انظر إلى الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا} هذه الخطوة الحضارية الأولى.

{وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} وهي الخطوة الرحبة نحو الكمال المطلق.

{لَهُمُ الْبُشْرَى} هؤلاء يبشرهم ربّ العالمين بقدرة الاستماع:

{فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...}.

و«الكلمة» حاولت كثيرًا أن تدفع نحو «الاستماع» استماع الآراء المختلفة، ورفع قدرة تمييز القارئ، كي يختار الأفضل والأجمل.

ثالثا: العزّة

أصل أصول الدين، العزّة هي الحياة، والذل هو الموت الأكبر، لفظة الحياة تختزل كل المشروع الإسلامي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}.

بالحياة يتحرَّك الإنسان ويتكامل ويبني حضارة، وإذا ذلّ تعطَّلت قوى التطوير والإبداع والإنتاج كلها، من هنا كان شعار إمام الإحيائيين: «هيهات منا الذلّة».

الحديث عن دور العزّة في الحركة الحضارية قديم في الفكر البشري، أفلاطون تبنّى فكرة «الثيموس» باعتباره وراء حركة التاريخ، وتبنّى ذلك هيغل، ومن المعاصرين من أحيا هذه الفكرة ومنهم فوكوياما في «نهاية التاريخ»، والثيموس هو الرغبة في الاعتراف، وتفاصيل الفكرة تبين أنها «العزّة».

و«الكلمة» تجعل الإنسان المسلم يشعر بالعزّة حين يقرأ خطابًا إسلاميًّا أصيلاً ومعاصرًا، خطابًا يُجابه الهزيمة النفسية لدى المسلم المعاصر، ويُقدِّم الإسلام بأسلوب يُوحي بتعالي المشروع الإسلامي على المشاريع الأرضية، وتعالي الفكر الإسلامي على الفكر الغربي. وهذه العزّة تُحيي النفوس المهزوزة، وتُحرّك الهمم الفاترة، وإذا كان «الفتور» هو سبب تخلُّفنا كما يقول الكواكبي، فالكلمة تقاوم هذا الفتور بحركة نحو العزّة، ونحو العزيز المطلق سبحانه.

وبعدُ: فتعارف الحضارات الذي يتميز به مشروع رئيس تحرير «الكلمة» وزملائه، وأُمنية التقريب والوحدة التي يعيشونها، والمستقبل الحضاري الذي يتطلَّعون إليه، قد انعكست في أهداف المجلة وتطلعاتها.

دامت المجلة وكُتَّابها للعمل على إبقاء جذوة النار في الناي الذي تحدَّث عنه جلال الدين الرومي، وإبقاء العشق الذي تحدّث عنه العرفاء الإحيائيون في مختلف العصور.