شعار الموقع

إبستمولوجيا الواقع الإسلامي وإشكالية الاصلاح ..

محمد بن جدية 2019-06-02
عدد القراءات « 780 »

إبستمولوجيا الواقع الإسلامي وإشكالية الإصلاح..

الاتجاه البنابي نموذجاً

الدكتور محمد بن جدية*

* رئيس المجلس العلمي، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر.

 

 

 

 

 مدخل

هل استطاع الخطاب الإسلامي المعاصر التعاطي مع متغيرات الواقع تعاطياً ينبع من إدراكه لطبيعة الزمان والمكان وأنماط التحديات الثقافية والحضارية المتغيرة؟ وهل استطاع هذا الفكر بناء مرتكزات منهجية لفقه الاختلاف الذي يُقنِّن صيغة التعارف في الاجتماع الإسلامي، ويُشيع مع المختلف ثقافة التعايش، ويُرمِّم أساليب التفاهم والحوار معه؟

لا نبالغ إذا قلنا: إن تاريخ العرب والمسلمين الحديث، هو عبارة عن تيارات ومشاريع وشعارات وسجالات حول سؤال الإصلاح، وقد اتَّخذت هذه السجالات والإجابات المتناقضة عناوين مختلفة في تاريخنا، فالصراع بين القديم والجديد، الإيمان والكفر، الأصالة والمعاصرة، الدين والسياسة؛ لا يخرج عن هذا النطاق بل يؤكده ويضيف إليه أبعاداً ثقافية واجتماعية جديدة، وقد تبلورت في هذا المناخ السجالي كل التيارات السياسية والفكرية العربية.

ولعله ليس من باب التفاصيل العادية، أن نكون قد اختتمنا قرناً واستقبلنا آخر، ونحن نعيش في ظل أحكام آفتين: الجمود العقلي، والفتنة، ذلك أن الذين يوصدون باب الاجتهاد، وينسخون الجهاد من خندق المواجهة مع دار الكفر إلى المواجهة داخل دار الإسلام، هم اليوم الشواهد والشهود على حاجتنا إلى إصلاح ديني يُعيد بناء الصلة بين العقيدة والمجتمع.

هذا، وفي ضوء التحديد السابق للمفاهيم الأصلية يتبيَّن أن ثمة امتداد لمفهوم الإصلاح يبدأ من وَهْم الإصلاح إلى إصلاح الوهم، مما يُفسر تعدُّد مداخل الإصلاح وإن كان يمكن اختزالها في هذا التصنيف الثلاثي:

1- التيار الإسلامي الإصلاحي.

2- تيار الإصلاح المرتبط بالمنهجية الغربية.

3- تيار الإصلاح التوفيقي أو المختلط الذي يجمع بين التيارين السابقين.

 أولاً: إبستمولوجيا الواقع الإسلامي

على الرغم من أنّ بنية المنظومات الفقهية، بل والفكرية، في النسق المعرفي الإسلامي تقوم على قاعدتين أساسيتين هما:

أولاً: فقه الشريعة بما يعنيه من إحاطة معرفية كافية، تمكّن من يقوم بها من تلمُّس قصد ومراد الخالق تعالى، من الأحكام الشرعية.

ثانياً: فقه الواقع الذي يعني في جوهره الفهم والإلمام بل الإحاطة بمختلف جزئيات الظاهرة، والقضية موضع التناول، بحيث يصل الباحث إلى قناعة يقينية أنه قد استطاع أن يعرف كُنه حقيقة تلك الظاهرة أو القضية التي هو منشغل بالبحث فيها. ومن هنا فإن نصف جهد الباحث وانشغاله في القضايا الإسلامية سواءً فقهية تشريعية أو فكرية أو اجتماعية عامة، يجب أن يتوجّه إلى معرفة الواقع، معرفة تجمع بين الوصف والتشخيص والتحليل والتفسير، المؤدي إلى ملامسة جوهر حقيقة ذلك الواقع، بصورة تكون لأن يتصاعد به إلى الشريعة، أو إلى أي منظومة معرفية إسلامية، ليوجد لتلك الواقعة أو الظاهرة الحكم المناسب لها، إذا كانت ظاهرة فقهية وقانونية، أو ليستخلص المنهج المناسب للتعامل معها، تعاملاً يحقق غاية الحق سبحانه فيها، إذا كانت من الظواهر الاجتماعية أو الفكرية.

وتأسيساً على هذا فإن فهم الواقع وتحليله يعدّ أمراً في غاية الأهمية والخطورة في الوقت نفسه، لأن التشخيص الذي يجانبه الصواب لواقعة أو ظاهرة معينة، سواءً أكانت فقهية أو غير فقهية، سيؤدي لا محالة إلى الوصول إلى حكم خاطئ فيها أو منهج غير سليم يتم التعامل معها من خلاله، وفي هذه الحالة لا تتحقق غاية الشارع سبحانه فيها، بل قد تكون نتيجة تلك العملية التي بدأت بمقدمات خاطئة من فهم أو تفسير أو تشخيص ناقص أو خاطئ للواقع، تحقيق فساد في الأرض أو إلحاق ضرر أو تعطيل مصلحة، تماماً كالذي يقدم وصفة بعلاج خاطئ لمريض نتيجة لتوصيف خاطئ لحالته، وأمراض المجتمعات أكثر عمقاً، وعلاجها من المؤكد أنه أكثر خطورة، لذلك ينبغي توجيه الاهتمام إلى دراسة وتحليل الواقع، بالقدر نفسه الذي نهتم به بدراسة وتفسير الشريعة.

وهنا نحاول مقاربة هذه القضية بالتحديد، أي الكيفية التي ينبغي أن يتم بها تحليل الواقع الإسلامي المعاصر، من أجل تقديم توصيف دقيق للواقع، سيكون حينذاك الأساس الذي عليه يتم بناء المنظومات الفقهية المختلفة، وفي الوقت نفسه تكون أيضاً المنطلق الذي منه تبدأ أفكار الإصلاح الاجتماعي الشامل، والتجديد الفكري والمنهجي الفعّال، وللوصول إلى ذلك التوصيف للمحددات العامة للواقع الإسلامي المعاصر سوف يتم معالجة القضايا التالية:

1- كيف ندرس الواقع الإسلامي؟

2- الأبعاد المعرفية للواقع الإسلامي المعاصر.

3- الأبعاد السياسية والاقتصادية للواقع الإسلامي المعاصر.

4- الأبعاد الاجتماعية والثقافية للواقع الإسلامي المعاصر.

5- الاتصال والانفصال بين الواقع المعاصر والتجارب التاريخية للمسلمين.

6- تأثير الواقع الإسلامي المعاصر على منهجية التجديد الفقهي والفكري والإصلاح الاجتماعي والسياسي.

1- كيف ندرس الواقع الإسلامي المعاصر؟

تتعدّد مداخل دراسة الواقع الإسلامي المعاصر وتتنوع، سواءً من حيث زوايا اقترابها من ذلك الواقع، أو من حيث محاور تركيزها ومجالات اهتمامها، ولكنها جميعاً تسودها مجموعة من النقائص التي لا تجعل من أي منها كافياً لدراسة الواقع الإسلامي المعاصر، أو توصيفه وتحليله. وفي السياق التالي سوف نتعرض لأهم مواقع الخلل المنهجي في دراسة وتحليل الواقع الإسلامي المعاصر، وذلك كتوطئة لطرح ملامح عامة لمنهجية هذه الدراسة:

1- غلبة العقلية الشاعرية التي تخلق واقعاً متخيلاً في عقل الباحث أكثر من وجوده في الواقع المبحوث، حيث انعكست العقلية العربية ذات الطبيعة الشاعرية التأملية، التي تلجأ إلى إيجاد واقع من وحي خيالها إذا لم تستطع التكيف أو التعاطي مع الواقع الحقيقي الذي توجد فيه. وقد انعكست هذه العقلية على مجمل الخطابات العربية الإسلامية المعاصرة، سواء فيما يتعلق بالواقع أو التاريخ، وهذا النوع من البحث لا ينتج علماً بل ولا يقدم معلومة حقيقية ومفيدة؛ ذلك أنه يتحاشى دائماً كل ما يعكر صفو الصورة المراد رسمها للواقع، سواءً أكانت صورة إيجابية أو سلبية، إذ لم يقتصر هذا النوع من التناول الرومانطيقي للواقع على تيار فكري معين، فأولئك الذين يرفضون الواقع ويتعلقون بالتاريخ القريب أو البعيد يشتركون مع الذين يرون في الواقع المعاصر تطوراً وتنويراً، يتجاوز ظلام التاريخ وسلبياته؛ إذ إن جميعهم -على اختلاف ولاءاتهم الأيديولوجية وانتماءاتهم السياسية- يحملون عقلية واحدة، ويستخدمون منهجاً واحداً، يؤدي بهم لا محالة إلى الوقوع في ذلك المحظور، الذي ما انفكّ علماؤنا يحذرون من الوقوع فيه، وهو أن انعدام الوجدان لا يعني انعدام الوجود، أي إنّ كراهية واقع معين لا تعني إطلاقاً أنه ينبغي تجاهله والتعامل معه على أنه غير موجود.

2- الاقتراب الجزئي من الواقع الذي يركِّز على أحد أبعاده ويضخمها، ويتعامل معها على أنها هي كل الأبعاد، أو أنها هي الواقع في مجمله، وقد نتج هذا المنحنى في البحث من الطبيعة التخصصية للباحثين المعاصرين، إذ إنّ كلًّا منهم ينظر للواقع من زاوية تخصصه الدقيق أو من الإطار المعرفي الذي يتبنّاه، فالباحث الاقتصادي مثلاً لا يرى في الواقع إلَّا أنه ظاهرة اقتصادية بحتة، وأن أزماته هي أزمات اقتصادية، وأن الحل بالتأكيد لن يكون إلَّا حلًّا اقتصاديًّا، وكذلك يفعل الباحث السياسي أو القانوني أو الاجتماعي أو الثقافي... إلخ، وكلٌّ من هؤلاء يتناول جزءاً من الحقيقة ويضخمه، ويعتبر أنه هو الحقيقة كلها، وكما هو معروف فإن نصف الحق هو نصف الباطل، ونصف العالم هو نصف جاهل في الوقت ذاته، بل قد لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا: إن تلك المقاربات تؤدي إلى تشويه الواقع وتضليل المتعاملين معه، أكثر من نقل صورة ولو جزئية عن ذلك الواقع؛ لأن معظم الباحثين الذين يوظفون هذه المنهجية لا يرون في مقارباتهم تلك مقاربات جزئية أو أنها تعبر عن بعض الواقع وليس الواقع كله.

3- التركيز على الأعراض والمظاهر أكثر من الاهتمام بالجواهر والأصول، فمعظم المقاربات البحثية للواقع تغرق في تحليل الأعراض أو ظواهر الأشياء، وحتى أنها ترى فيها كل المشكلة أو جوهر وحقيقة الواقع، وهذا التناول السطحي للواقع يؤدي إلى إعادة إنتاج الأزمات، بل والإسهام في استمرارها وتضخيمها، فمثلاً ظاهرة التخلف التقني والعلمي ليست هي المشكلة، بل هي عرض لمرض آخر، وكذلك ظواهر مثل: العنف، أو الإرهاب، أو التطرف، أو الانحلال الأخلاقي، أو السلبية، أو التفكك الاجتماعي، أو انتشار الجريمة، جميع هذه المظاهر قد تكون عرضاً لمرض واحد أو لأكثر، ولكنها في حقيقتها ليست هي المشكلة، ومن ثم فإن معالجتها في ذاتها لن تؤدي إلَّا إلى حلول تسكينية، ما تلبث أن تجعل المشكلة تظهر في شكل جديد ومظهر مستحدث.

4- الانشغال بقمة الهرم أكثر من الاهتمام بقاعدته، فقد ركّزت مجمل التناولات البحثية المعاصرة على قمة هرم الظواهر الواقعية، وتجاهلت قواعدها وأصولها، فإذا ما تعلَّق الأمر بالمجتمع نجد التركيز ينصرف بالكلية إلى الدولة أكثر من اهتمامه بالمجتمع، بحيث يتم ربط الإصلاح الاجتماعي بالدولة أو بالحكم، على نحو يجعل عملية الإصلاح متوقفة على اعتلاء سدة الحكم، وبذلك يصبح هناك باب واحد أو مدخل واحد لتحقيق الإصلاح، وهذا المدخل العلوي الذي يأتي من قمة النظام الاجتماعي، مع تجاهل شبه تام لإمكانات الإصلاح من أسفل، وذلك يمثل تناقضاً واضحاً مع منهجية الإصلاح والتجديد في النسق المعرفي الإسلامي، التي تركز على قاعدة المجتمع أكثر من تركيزها على قمته، وتهتم بالمجتمع أكثر من اهتمامها بالدولة، وترى الإصلاح يبدأ من الفرد أولاً ثم بعد ذلك يأتي المجتمع.

5- سيطرة المقاربة التي تمارس الوصاية والتي تجعل من الباحث وصياً على الواقع أو قاضياً عليه ينحصر دوره في إصدار الأحكام الجازمة أو الأوامر الصارمة، وكأنه لا ينتمي إلى ذلك الواقع أو كان الواقع لا عقل له، أو أن الأمة أصبحت تحت وصاية هذا الباحث أو ذاك، وفي الوقت نفسه، فإلى جانب الوصاية فإن مجمل المقاربات البحثية تقف عند حد التوصية بأن هذا الموضوع أو ذاك يستحق معالجة بصورة معينة، أو يجب أن تتم دراسته بطريقة محددة... إلخ، دون أن يشغل الباحث نفسه بالدخول في حل هذه الأزمة أو تلك.

وبعبارة مختصرة: فقد انشغل البحث المعاصر في العالم العربي والإسلامي بالإجابة عن أسئلة: ماذا؟ ولماذا؟ ومن؟ ولكنه لم ينشغل بأسئلة أخرى مثل: كيف؟ ومتى؟ وأين؟ فهذه الأسئلة عادةً ما يطلب من الآخرين الانشغال بها، وهذه العقلية المتعالية المستسهلة التي تهرب دائماً إلى الأمام، وتلقي العبء واللوم على الآخرين، لم تسهم في فهم الواقع أو تحليله أو تفسيره، لذلك نجد عادة ما تكون عناوين الكتب: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا ينتشر الجهل أو الفقر أو الانحراف؟ ولكن نادراً ما نجد كتاباً يتناول: كيف نخرج من حالة التخلف؟ أو كيف نعالج قضية الجهل أو العنف أو الانحراف أو غيرها؟.

6- تأزيم الواقع من خلال إسقاط التاريخ عليه، أو محاولة تصميمه على مقاسات تاريخية، وذلك لأن التاريخ يمثّل ضغطاً عنيفاً على عقل الباحث، سواءً تعلّق ذلك الباحث بالتاريخ تعلقاً رومانطيقيًّا أو انخلع عنه وحاول إحداث قطيعة معرفية معه، ففي كلتا الحالتين يتم تأزيم الواقع المعاصر؛ لأن الباحث إما أن يلجأ إلى مقارنة الواقع بالتاريخ، ويسعى لأن يرى في الواقع صورة تاريخية جميلة، ومن ثمة يصبح بحثه يظهر عادة في صورة مقارنات أو مقاربات مع التاريخ، أو أن يرى في الواقع امتدادات لتاريخ مرفوض لديه، ومن ثمة تمتد كراهيته للتاريخ ورفضه له إلى فهمه للواقع وتعامله معه، فيبالغ في تشخيص أزماته أو تحليلها، وفي كلتا الحالتين يكون التناول البحثي للواقع تناولاً متأزماً ومؤزماً في الوقت نفسه يُسهم في تعقيد الظواهر موضوع البحث أكثر من إسهامه في تحليلها وفهمها وتقديم الحلول المناسبة لها.

7- تعليق الأزمات على الآخر، وتجاهل القابليات التي توجد في واقع الأمة المعاصر، وذلك بالبحث دائماً عن طرف خارجي يتم تحميله المسؤولية عن كل أزماتنا، مع تجاهل شبه تام للقابليات الموجودة في الواقع المعاصر للأمة، والتي أدّت إلى ظهور الأزمات أو المشكلات أو أدّت إلى أن أصبحت الأمة ضعيفة أمام التأثير الخارجي، إذا وجد ذلك التأثير، وهنا ينبغي التذكير بتلك المقولة التي أطلقها «مالك بن نبي» حول الاستعمار و«القابلية للاستعمار» حيث خلص إلى أن الاستعمار ما كان سيكون إلَّا إذا وجدت قابليات لدى الأمة الإسلامية لأن تُستعمر وتُستضعف وتُنهب ثرواتها ويتم التحكم في مصيرها.

تلك هي أهم الملامح العامة للمنهجية السائدة في التعاطي مع الواقع الإسلامي المعاصر، وفي السياق التالي سوف نسعى لتجاوزها بقدر المستطاع، وسنحاول تقديم رؤية مختلفة في تناول هذا الواقع، ستتضح معالمها من خلال متابعة المنهج الذي سوف نتّبعه في دراسة وتحليل هذا الواقع.

2- الأبعاد المعرفية للواقع الإسلامي المعاصر

هناك مجموعة من الأسس والمسلمات المعرفية التي يتأسس عليها الواقع الإسلامي المعاصر، هذه الأسس والمسلمات تتسرَّب في كل أبعاد هذا الواقع، وتنساب في مختلف ظواهره وأفكاره ومؤسساته وحركاته، بل لن يكون من المبالغة القول: إن هذه الأسس هي بمثابة الدم الذي يسري في مختلف شرايين هذا الواقع وأوردته، وبه تتَّحد خصائصه وماهيته، ومن خلاله يستمد وجوده واستمراره، وهذه المسلمات أو المحددات هي:

1- افتقاد الاتِّساق المعرفي أو فقدان الوحدة المعرفية، والدخول في حالة من الاختلاط والتداخل بين منظومات معرفية مختلفة، فمن بداية احتكاك العالم الإسلامي مع الغرب في القرنين الماضيين، بدأت حالة من التداخل والاختلاط المعرفي غير المنسجم وغير المتناغم تسود العالم الإسلامي، بحيث أصبحت المسلمات والقيم والمعايير والمفاهيم والمناهج والأفكار الكبرى، تسودها حالات معَّقدة من التداخل والاختلاط والتشوُّه، فمعظم المسلمات والقيم والمعايير أصبحت في ذاتها تكوينات هجينة، فيها عناصر إسلامية وأخرى غربية وثالثة مولَّدة من الاثنين.

وهذه الحالة لم تتم بصورة واعية أو منهجية أو منظمة، بل إنها سادتها العشوائية والانتقائية والصدفة، بحيث كانت في النهاية عبارة عن تكوينات متناقضة داخليًّا يعدم بعضها بعضاً، ويفقد بعضها فعالية البعض الآخر، أي إنها في ذاتها كانت تحمل عناصر متناقضة، أو تحمل بذور فنائها. والمدقق في المسلّمات والقيم والمعايير التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي المعاصر، يجد فيها هذا الحكم الضخم من التناقض الداخلي، نظراً لفقدان الوحدة المعرفية، أي وحدة النسق المعرفي أو وحدة الناظم المعرفي الذي يعطي البنية الفكرية والثقافية والقيمية لأية جماعة بشرية تناغمها واتِّساقها، فتحليل أية قضية أو مسألة فكرية أو ثقافية أو تنظيمية في الواقع الإسلامي المعاصر، عبارة عن خليط من أجناس معرفية مختلفة، بل أحياناً متناقضة، فالنسق المعرفي الإسلامي بتنويعاته المختلفة، وكذلك الأنساق المعرفية الأوروبية، سواءً الليبرالية أو الاشتراكية والأفكار الآسيوية جميعها ساهمت في تشكيل الأسس المعرفية للواقع الإسلامي المعاصر.

2- فقدان نقطة الثبات المرجعية لصالح مرجعيات متعددة مختلطة ومتناقضة، حيث نستطيع أن نخلص من تحليل الواقع الإسلامي المعاصر إلى أن هذا الواقع لا يرتكز إلى نقطة ارتكاز مرجعية في معظم قضاياه، وإشكاليته، فعلى الرغم من أن نقطة الارتكاز المرجعية لأي مجتمع ينتسب للإسلام يجب أن تكون مرحلة الوحي في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن المجتمعات الإسلامية على اختلافها قد اتخذت مواقع مختلفة كمرجعية وجودية لها، سواءً على المستوى الفكري المعرفي، أو على المستوى السياسي التاريخي، فعلى الجانب المعرفي هناك من يتخذ عالماً معيناً أو حركة إصلاحية معينة أو مدرسة فكرية معينة أو مذهباً اعتقاديًّا معيناً مرجعية له، وفي خضم كل ذلك ضاعت نقطة الارتكاز المرجعية المجمعة للأمة والموحدة لها.

أما على المستوى التاريخي السياسي فنجد أن بعض المجتمعات الإسلامية قد اتخذت حركة سياسية معينة أو مصلحاً معيناً، أو دولة معينة مرجعية تاريخية لها، وأحياناً تجاوز بعضهم الإسلام ورجع إلى ما قبل الإسلام، فظهرت الفرعونية والفينيقية والبربرية والبابلية والتدمرية... إلخ، ومن هنا اختلفت المرجعيات وتعدّدت، وأصبح معها من الصعب الوصول إلى إجماع حول أيٍّ من القضايا الكبرى للأمة كالهوية، والنسق القياسي للحكم، والمرجعية الفقهية أو الاعتقادية... إلخ.

3- افتقاد الوجهة أو التعدُّد في تحديد «القبلة» الحضارية للأمة، فعلى الرغم من أن لفظ الأمة مشتق من «الأم» أي الوجهة والاتجاه، فإن الأمة الإسلامية المعاصرة -نظراً لعدم وضوح نسقها المعرفي وتعدُّد مرجعياتها- فقدت «القبلة» المجمعة لها حضاريًّا، على الرغم من الحفاظ على قبلة واحدة في الصلاة؛ فالمتأمل في وجهات المجتمعات الإسلامية وقبلاتها الحضارية، يلحظ تعدُّداً وتشتُّتاً يصعب الجمع بينه، فهناك من اتَّخذ الحداثة وجهة له، سواءً الاشتراكية أو الليبرالية، وهناك من اتَّخذ التاريخ أو الماضي القريب أو البعيد وجهة له واتجاهاً، وهناك من وقف مذهولاً لا يعرف في أيِّ طريق يسير، وإلى أيِّ اتجاه ينطلق، وبافتقاد الوجهة يتشتَّت الجهد ويتوزَّع ويتصارع، ويُدمِّر بعضه بعضاً في كثير من الأحيان، وافتقاد الوجهة هذه، لا يقتصر على المجتمعات والدول والحركات السياسية، بل إنه ينطبق كذلك على الأفراد ولو داخل الأسرة الواحدة.

4- النسبية المؤدية إلى افتقاد المعيار، حيث تتجلى هذه القيمة في معظم إن لم يكن كل المجتمعات الإسلامية في مختلف القضايا المعاشة، سواءً السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى الأخلاقية، بل إن معظم الأزمات التي مرَّت بها الأمة الإسلامية في عصورها الأخيرة جاءت نتيجةً لانتشار قيمة النسبية وتحكُّمها في العقل الإسلامي المعاصر.

والمتأمل في الصراعات والحروب بين الدول والمجتمعات الإسلامية، أو بين الحركات الإسلامية وبعض الدول، يجد أن كلا الطرفين يُضحي بالآخر، وطبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، كذلك كانت التوجهات السياسية والاقتصادية لبعض الدول العربية، سواءً الاشتراكية أو الليبرالية، تتم على أسس إسلامية، فكانت هناك رأسمالية الإسلام كما كانت هناك اشتراكية الإسلام.

ونظراً لأن الإسلام هو دين الوسطية فإنه يجمع في وسطيته الطرفين أو النقيضين، فوسطية الإسلام ليست وسطاً بين متخالفين، بل هي جمع لهما معاً، وإزالة التهافت بينها، ومن هنا كان من السهل سحب الوسط إلى أيٍّ من الطرفين، وقد تم تطبيق هذا النموذج في معظم إن لم يكن كل القضايا التي واجهت المجتمعات الإسلامية المعاصرة، بل إن الأمر لا يقف عند حدود الدول والمجتمعات، فحتى علاقات الأفراد تحكمها قيمة النسبية التي تجعل المصلحة معياراً حاكماً، يتم الاستظهار بالدين لتأييدها أو تأكيدها على حساب الطرف الآخر.

5- معيارية الزمن ومن ثمة غلبة قيمة التجاوز، فتحت تأثير حضارة العصر، أصبح الزمن ليس عنصراً محايداً بل عنصراً معياراً، ولم يعد العصر يُحدَّد بقيمه وأفكاره ومدى اقترابه أو ابتعاده من النسق الإسلامي، بل أصبح الزمن في حدّ ذاته قيمة، حيث ظهر من يرى أن هناك محددات ومعايير يعرفها الزمن، ومن ثمة ظهر مفهوم المعاصرة أو الحداثة، وأصبحت المجتمعات الإسلامية بل والأفراد يسعون لأن يتكيَّفوا مع قيم ومعايير العصر، بل يتم إعادة تشكيل الإسلام لمواكبة قيم العصر ومعطياته ومعاييره.

وعلى النقيض من ذلك فقد ظهر من بين المسلمين وفي المجتمعات الإسلامية من يعطي قيمة للماضي، فكلما ابتعدنا في الزمن عن عصر معين زادت قيمة ذلك العصر، وأصبح معياراً ونموذجاً مثاليًّا ينبغي الرجوع إليه، وإعادة تحقيقه في الواقع المعاصر، وبين هذين الطرفين تضيع الحقيقة، ويفقد الزمن حياده، وكونه مجالاً يُشكِّله الإنسان ويتفاعل معه، وعلى الرغم من أهمية تغيُّر المجتمعات وتجدُّدها مع مرور الزمن، وعلى الرغم من ضرورة تغيير الأحكام كلها تبعاً لتغيُّرات الأزمان، إلاّ أن الواقع الإسلامي لا يأخذ فكرة الزمن بهذا المعنى، وإنما يأخذها بصورة تُضفي على الزمن قداسة سواءً الزمن الحاضر تحت مسمى المعاصرة أو الزمن الماضي تحت مسمى الأصالة.

وتأسيساً على هذه الأبعاد المعرفية التي تُشكِّل الواقع الإسلامي المعاصر، يمكن مناقشة باقي الأبعاد سواءً السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية

3- الأبعاد السياسية والاقتصادية للواقع الإسلامي المعاصر

إذا نظرنا للواقع الإسلامي المعاصر من زاوية البنية السياسية والاقتصادية لمجتمعاته، نجد أن هذا الواقع قد أُعيد تشكيله مرات عديدة في القرنين الأخيرين، بل إنه يعتبر حالة مثالية لتجريب واختبار مختلف النظم والفلسفات الغربية المعاصرة، فلم تظهر نظرية أو أيديولوجية سياسية أو اقتصادية إلَّا وتم اختبارها في الواقع الإسلامي المعاصر، بل وتحاربت فصائله الفكرية والثقافية حولها من حيث جدواها وفعاليتها ومدى مشروعيتها... إلخ.

لذلك تمّت إعادة صياغة هذا الواقع مرات عديدة، ومن ثمة لن نتناول في هذا السياق المستويات التفصيلية، بل سيقتصر تناولنا على الأطر والأبعاد العامة التي سنوجزها في التالي:

1- تراجع الرابطة الإيمانية لتحل محلها روابط قومية وعرقية ولغوية وإنسانية عامة، بما يؤدي إلى تفكيك مفهوم الهوية وإعادة تركيبه على أسس جديدة، فمنذ بداية الربع الثاني من القرن العشرين بدأت الرابطة الإيمانية، حتى وإن كانت شكلية رمزية، تتراجع لتفسح الطريق لمفهوم القومية والوطنية والعرفية والطائفية والمذهبية، ومن ثم أصبح العالم الإسلامي مجموعة من الدول تبلغ سبعة وخمسون ممثلة في منظمة المؤتمر الإسلامي، كل دولة منها ذات سيادة، لها قوانينها ونظمها ونشيدها وعلمها، مما يعني أن الولاء لا بدّ أن يتوجه إليها حتى وإن كان ولاء يتم تصويره في صورة دوائر متداخلة من الوطنية إلى القومية إلى الإسلامية، إلَّا أن الواقع المعاش أثبت أن معظم حروب النصف الثاني من القرن العشرين دارت بين دول إسلامية أو كانت دولة إسلامية طرفاً فيها، بينما كان هناك دول إسلامية أخرى تتعاون مع الطرف الآخر، مما يعني أن هناك روابط أخرى قد تصاعدت لتحل محل الرابطة الإيمانية التي كان يجب أن تُوحِّد الأمة الإسلامية، وأن تجعل منها أمة واحدة كالجسد الواحد.

2- غلبة المصلحة الفردية على المصالح المجتمعية، حيث عادة ما ينحاز الفرد لذاتيته ومصالحه قصيرة المدى على حساب المصالح المجتمعية، لذلك تبرز حالات الفساد كالسلبية واللامبالاة وتضاؤل المفاهيم التطوعية والعمل العام بصورة كبيرة، كل ذلك ما هو إلَّا دليل على انتصار مفاهيم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، بل إنه حتى في مفاهيم التديُّن يتم تضخيم الفروض العينية على حساب فروض الكفاية التي اعتبرها الفقهاء ذات أولوية حيث يقول السيوطي: «إنّ للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين؛ لأن من يقوم بفرض الكفاية يُسقط الإثم عن الأمة، أما من يقوم بفرض العين فإنه يسقط الإثم عن نفسه فقط».

3- انقلاب العلاقة بين الحق والقوة على مستوى النظام الدولي المعاصر، فبدلاً من أن يكون الحق متحكماً في القوة، أو هو القوة ذاتها، أصبحت القوة هي الحق، يقول ميشال فوكو: «الحقيقة حقيقة الأقوى»، وهذه الحالة تعاكس تماماً الحالة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع الإنساني، حيث يكون الحق هو الضابط الذي يلجم القوة إذا تجاوزت حدودها، وهذه الوضعية التي تحكم النظام الدولي المعاصر، الذي يوجد فيه العالم الإسلامي كطرف ضعيف، جعلت المسلمين موضوعاً لممارسة القوة عليهم، ومن ثم ضاعت حقوقهم أو معظمها، فما دخلوا في صراع مع أي طرف غير مسلم إلَّا وكان ضياع الحقوق من نصيبهم، نظراً لوجود ذلك النظام الدولي الذي ينحاز للقوة ويُعليها على الحق، بل ويجعلها هي المحدد لماهية الحق، بحيث يكون حقًّا إذا وجدت القوة التي تسانده، ولا يكون كذلك إذا فقد القوة، ولكن كون هذه الحالة مفروضة من قبل النظام الدولي على الأمة الإسلامية، فقد تسرَّبت إلى داخل هذه الأمة، وأصبحت معظم دولها ونظمها السياسية وتنظيماتها الحركية تعمل طبقاً لهذا القانون، فأصبحت القوة هي معيار الحق وليس العكس، حتى في العلاقات بين الكثير من الأفراد، فالمدقق في العديد من النظم السياسية الإسلامية يلحظ -بما لا يدع مجالاً للشك- أن الحق تُشكِّله وتُحدِّده القوة وليس العكس، كذلك في علاقة الأغنياء بالفقراء أو الأقوياء بالضعفاء، يجد المعادلة نفسها قائمة ويتم تطبيقها.

4- تحوّل مصادر القوة إلى عوامل ضعف، ودخول الأمة الإسلامية في مرحلة من الاستضعاف لم يسبق لها مثيل في تاريخها، فنظراً لانعدام الفعالية الحضارية، وتأخُّر الأمة الإسلامية عن امتلاك وسائل القوة المعاصرة، بل وعدم قدرتها على إنتاج ما نحتاجه من وسائل وأدوات العيش، واعتمادها الكامل على الخارج في المأكل والملبس ومختلف الوسائل الحياتية، نظراً لكل ذلك، دخلت الأمة الإسلامية في حالة من الضعف.

تضافرت عوامل داخلية وخارجية عديدة للوصول بها إلى هذه الحالة إلَّا أن حالة الضعف هذه مثَّلت بداية لمتوالية من الضعف والاستضعاف من قبل الآخرين الطامعين في إمكانات وموارد الأمة الإسلامية، فكون الواقع الإسلامي واقعاً ضعيفاً معتمداً على الخارج، تابعاً للقوى الكبرى سياسيًّا واقتصاديًّا بل وثقافيًّا أيضاً، وكونه كذلك يتحكَّم في معظم المصالح الاستراتيجية للدول المتقدمة والقوية سواءً الموقع المتميز، أو التحكّم في الممرات الدولية الأساسية، أو التحكّم في إنتاج أهم السلع الاقتصادية قاطبة، والتحكّم في احتياطاتها، كل ذلك أدّى إلى ظهور معادلة معقدة، يكون فيها الضعيف متحكّماً في القوى من حيث مصادر القوة، ولكنه -أي ضعيف- غير قادر على استخدام هذه المصادر وتحويلها إلى عناصر قوة يستطيع بها أن يفرض حقّه في الوجود، ويكون له دوره الذي يجب احترامه، فهذه الحالة تجعل من مصادر قوة الضعيف غير القادر على استخدامها مصادر ضعف بل ودواعي لتكالب القوى الكبرى عليه، ورغبتها الجامحة في التحكّم فيه، وإفقاده هذه المصادر أو إفقاده القدرة على التحكّم فيها.

وقد بدأت هذه الحالة منذ ظهور مفهوم «المسألة الشرقية» في القرن التاسع عشر، ثم مفهوم «رجل أوروبا المريض» الذي أطلق على الدولة العثمانية، ثم مع «قناة السويس»، وأخيراً مع النفط في مختلف بقاع العالم الإسلامي، ولعلّ حالة وسط آسيا خير مثال على ذلك، ومن هنا فقد تحوّلت مصادر قوة العالم الإسلامي إلى عوامل ضعف، لأنه امتلك مصادر القوة ولكنه لم يمتلك إمكانيات استخدامها، أو إدارة القوة القادرة على حسن استخدامها، وتوظيفها في مجالها الصحيح، ولعلّ عمليات تجسيد أرصدة الدول الإسلامية في الغرب خير مثال على تحويل مصادر القوة إلى مصادر ضعف، بحيث يكون الدائن هو الطرف الأضعف الذي يتم التحكّم في ثرواته من قبل المدين، بل ويتم تجريده وحرمانه منها.

5- التحوّل الجوهري في أسس التعاملات الاقتصادية، فبعد أن تم التخلي عن قاعدة الذهب في التعاملات المالية أصبحت الثروات، خصوصاً في العالم الإسلامي، تخضع لإيرادات دولية خارج إطار الأمة الإسلامية، بحيث قد تتراجع قيمة عملة معينة مئات أو عشرات الأضعاف مثل حالة العراق والسودان، أو تتعرّض لذبذبات متتالية تضعف الاقتصاديات الوطنية مثل حالة مصر وماليزيا وإندونيسيا.

كل ذلك جعل اقتصاديات العالم الإسلامي، التي هي في حقيقتها تابعة لاقتصاديات الدول الكبرى، غير قادرة على أن تشق لها طريقاً مستقلاً، يخالف ما هو موجود على مستوى النظام الاقتصادي الدولي أو يختلف عنه، حيث يكون من المستحيل على الاقتصاد التابع أن يتحرّر من الاقتصاد المتبوع، دون التعرّض إلى اختلالات قد تؤدي إلى تدميره.

هذا بالإضافة إلى ظهور أنماط من التعامل الاقتصادي كالائتمان واقتصاديات الإنترنت وغيرها، ليس للعالم الإسلامي فيها سابق تجربة، ولا يوجد في منظوماته الفقهية من الحلول ما ينظم هذه الأنماط الاقتصادية الجديدة، كل ذلك أحدث العديد من الارتباكات في الدول الإسلامية أو في معظمها، ساهمت هذه الارتباكات في إضعاف اقتصاداتها. ومن ناحية أخرى فإن الواقع الاقتصادي في العالم الإسلامي هو في معظمه واقع متخلف، غير قادر على التعاطي مع المعطيات المستجدة في العالم، خصوصاً ما سيترتب على تطبيق اتفاقيات «الجات».

ولعل ذلك يعود في أساسه إلى فقدان الفعالية والابتكار وروح المغامرة، تلك الحالة التي سيطرت على العالم الإسلامي لقرون طويلة، والتي أدّت إلى أن وصل إلى الحالة التي يوجد عليها الآن، مما يعني أن إصلاحه لن يكون يسيراً أو سريعاً، بل يحتاج إلى عملية متواصلة طويلة الأمد عقلانية التخطيط، شديدة الواقعية.

6- هيمنة حضارة السوق على العالم الحديث، حيث أصبح كل شيء قابلاً لأن يُباع ويُشترى، وحيث أصبحت المادة أو الثروة هي غاية الغايات في كل شيء، وهذه الحالة ألقت بظلالها على الواقع الإسلامي بحيث صار جزءاً منها تسري فيه قيمها ومعاييرها نفسها.

7- تحوّل الأمة الإسلامية من قوة دولية عظمى أو كبرى إلى طرف ضعيف، يكون موضوعاً للفعل وليس فاعلاً، فبعد أن كانت الأمة الإسلامية هي الطرف الدولي الأقوى، أو من الأطراف الدولية القوية، التي يحسب لها حساب لما يزيد عن ألف ومائتي سنة، أصبح العالم الإسلامي في القرنين الأخيرين، موضوعاً لممارسة نفوذ القوى الكبرى غير الإسلامية، بل أصبح مفعولاً به بصورة دائمة، والطرف الدولي الأضعف في العالم قاطبة، بحيث تفرض عليه إيرادات جماعات صغيرة مثل الصرب في البوسنة والهرسك، والقبائل البدائية في تيمور الشرقية، أو جنوب السودان أو اليهود في فلسطين ولا يستطيع هو أن يدافع عن نفسه، سواء في قلبه أو أطرافه، تلك الحالة الواقعية التي نعيشها الآن تستلزم رؤية الواقع كما هو دون الغوص في أحلام القوة التاريخية التي لم يعد لها وجود.

4- الأبعاد الاجتماعية والثقافية للواقع الإسلامي المعاصر

قد يكون مجافياً للحقيقة الادِّعاء بأن هذه المفردات ستقدم تحديداً دقيقاً للواقع الإسلامي المعاصر، في أبعاده الاجتماعية والثقافية، وذلك لشدة تعقُّد هذا الواقع من جانب، وتنوُّع الثقافات والمجتمعات الإسلامية من جانب آخر، حيث لم ينشئ الإسلام مجتمعاً نمطيًّا واحداً ولا ثقافة نمطية واحدة، بل تفاعل عبر تجربته التاريخية الطويلة مع مجتمعات متعدّدة، وحضارات مختلفة، وثقافات متنوّعة فأنشأ من كل ذلك العديد من الثقافات الإسلامية، كما أسَّس لظهور مجتمعات إسلامية متنوّعة داخل إطار الأمة الواحدة، ولذلك فإن ما سوف نتناوله في السياق التالي ما هو إلَّا مجموعة من الأبعاد العامة لهذا الواقع الإسلامي:

1- تفكك شبكة العلاقات الاجتماعية التي مثّلت عنصر القوة الأساسي في تاريخ الأمة الإسلامية، وكانت العاصم الذي وقى هذه الأمة من التفكُّك وحفظها من الذوبان أو التحلُّل والضياع، والمقصود بشبكة العلاقات الاجتماعية في هذا السياق تلك الروابط والتفاعلات وعلاقات الاعتماد المتبادل، والتكافل بين مكونات المجتمع الإسلامي سواءً أفراداً أو جماعات في مختلف مناحي الحياة، فهذه الشبكة تشبه إلى حد كبير الأوردة والشرايين التي تجعل من الجسم البشري كياناً واحداً، لا تكون له حياة إذا انقطعت علاقاتها.

والمدقق في الواقع الإسلامي، ومدى الخلافات والتمزقات بين شعوبه وجماعاته وأفراده يدرك بوضوح أن هذه الشبكة آيلة إلى التفكك، فالشعوب الإسلامية تتنافر كلما تقارب أفرادها واكتشف كل واحد منهم الآخر، وتتصارع كلما اشتركت في مصالح واحدة، والأفراد كذلك، حتى داخل الأسرة الواحدة تتقطع علاقاتهم، حتى لأضعف الأسباب، نتيجة لطغيان قيمة المصالح على العلاقات الأسرية، وتقدَّم أهمية المنافع على الروابط الاجتماعية، وعلو شأن ما في الجيب على ما في القلب، وهكذا بدأ الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، يفقد وحدته.

ولعل مطالعة مقدار تعاون المسلمين مع غير المسلمين ضد مسلمين آخرين، وزيادة عدد الحالات التي يحدث فيها هذا التعاون تُقدّم دليلاً واضح البيان على بداية حدوث حالة التفكك في شبكة العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي.

2- انحسار المؤسسات الاجتماعية الطبيعية لحساب المؤسسات الاجتماعية المصطنعة، فالواقع الإسلامي المعاصر يشهد تراجعاً في أهمية المؤسسات الاجتماعية ذات النشأة الطبيعية، مثل الأسرة والعائلة الممتدة، والجوار، وصحبة المسجد، والحرفة والطائفة المهنية، وذلك لحساب مؤسسات اجتماعية مصطنعة مؤقتة، يتحدَّد الانتماء إليها بناء على مصالح وحسابات ظرفية أو تنظمها علاقات نفعية، مثل النادي الاجتماعي والجماعة السياسية، والمساهمين في شركات معينة، والمشجعين لنادي معين... إلخ.

وعلى الرغم من أن هذا النمط من العلاقات لا بدّ أن يوجد في المجتمع وهو ليس سلبيًّا في وجوده، وإنما السلبية في كونه يحلّ محل نمط من العلاقات الطبيعية التي تمتلك درجة أعلى من المناعة أمام عوائد الزمان وتقلُّبات الأحوال، ومن ثمة تكون المؤسسات الاجتماعية الطبيعية هي القاعدة التي تضمن وجود المحضن الاجتماعي للإنسان، في حال تقلُّب وتغيُّر وضعه في المؤسسات الاجتماعية المصطنعة، وحالة الانحسار هذه آخذة في الانتشار في مختلف المجتمعات الإسلامية، بل إن بعض تلك المؤسسات الطبيعية آخذ في الزوال بالكلية أمام زحف المؤسسات المصطنعة، خصوصاً عند الأجيال الأحدث من المسلمين.

3- سيطرة القيم الدنيوية، أو بروز نمط من العلمانية الواقعية في العالم الإسلامي المعاصر، حيث انقلبت المقاصد العليا للشريعة لدى المجتمعات المسلمة المعاصرة، فأصبح حفظ المال يسبق حفظ النسل والعقل والنفس والدين، وأصبح ما يتعلق بذات الإنسان ومصالحه يتقدَّم على ما عداه من قيم ومصالح، وأصبحت هموم الإنسان متمحورة بالكلية حول التمتع إلى أقصى حد ممكن بالحياة الدنيا، سواء بطرق مشروعة أو مشكوك في شرعيتها على الأقل، إن لم تكن محرَّمة، وأصبح التنافس في جمع حطام الدنيا لا يحدّه حد، ولا يوقف منه أي رادع.

وفي مقابل ذلك هناك نمط من التدين الشعائري الذي يبالغ في المحافظة على الشعائر دون أن يتغيَّر أيُّ شيء في ذات الإنسان، أو تصوُّره للواقع ولدوره فيه وعلاقاته بالآخرين، ولما ينبغي أن يحصل عليه من اللذة في هذه الحياة الدنيا، وهذه الحالة من الانفصام بين المحافظة على شعائر الدين من الانغماس في الدنيا والذوبان في ملذاتها، ما هي إلَّا حالة من العلمانية أو الدنيوية التي تفصل ما بين ما هو زمني أو دنيوي.

4- فقدان المناعة الثقافية، حيث أصبح العالم الإسلامي يتميز بحالة من الضعف والرخاوة في مواجهة الوافد إليه من ثقافات وقيم من مجتمعات أخرى، بل إن المسلمين أصبحوا أكثر شعوب الأرض تقليداً واتِّباعا لما تُنتجه الثقافة الغالبة في هذا الزمان، من قيم وسلوكيات وفنون وآداب وأنماط حياة، فإذا ما قارنا المسلمين بالصينيين أو الهنود أو غيرهم نجد أن المسلمين يسارعون إلى تبنّي الثقافات الأخرى بصورة أكثر، دون أدنى شعور بالتناقض بين تلك الثقافات الوافدة وبين الثقافة الإسلامية، وبذلك أصبح جسد الأمة الثقافي فاقداً للمناعة، غير قادر على الفرز والاختيار، ناهيك عن الرفض والطرد إذا لزم الأمر.

5- ظهور نمط ثقافي هجين تختلط فيه مكونات ثقافية إسلامية وأخرى غير إسلامية أو مناقضة للإسلام وقيمه، وهذا النمط الهجين أصبح يميّز الواقع الإسلامي المعاصر، وبصبغه واحدة، فلا تكاد تجد موضوعاً من موضوعات الحياة إلَّا وتتداخل فيه الأنماط الثقافية تداخُلَ الاختلاط والتناقض لا تداخُلَ المزج والتركيب.

6- ظهور أنماط متعدّدة الأشكال من الفعاليات الزائفة، حيث أصبحت المجتمعات الإسلامية تُنفق من طاقاتها وقدراتها، سواءً على مستوى الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات، القدر الأكبر في فعاليات مجتمعية زائفة، أو بعبارة أخرى: في حالة من توهم الفعالية، ذلك من مثل المبالغة في الشكل على حساب الجوهر، والمبالغة في الدعاية حول الشيء أكثر من بنائه وتكوينه، والمبالغة في الاهتمام بالرموز أكثر من الإنجازات، والرغبة الجامحة في إظهار التميُّز والجدارة لانتزاع شكر لم يفعل صاحبه ما يجعله مستحقاً له {يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}[1].

7- تراجع القيم الاجتماعية الإيجابية لحساب القيم الاجتماعية السلبية، حيث إنه إذا قمنا بدراسة لمنظومة القيم السائدة في الواقع الإسلامي المعاصر سنجد أن القيم السلبية أصبحت أكثر انتشاراً من القيم الإيجابية، فالبخل أكثر ظهوراً من الكرم، والكذب يفوق الصدق، والخيانة تجاوزت الأمانة، والغرور فاق التواضع، وانعدام الحياء طغى على الحياء... إلخ، وهذه الحالة أوجدت منظومة أخلاقية جديدة، تؤدي إلى إحداث تغيُّرات هيكلية في الواقع الإسلامي المعاصر، فأقل الكاذبين كذباً أصبح يُسمَّى صادقاً، وأقل الجهلاء جهلاً صار يُطلق عليه عالماً وهكذا.

تلك هي أهم الأبعاد المعرفية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للواقع الإسلامي المعاصر، التي إذا ما تم إدراكها الإدراك الصحيح فإنها من المؤكد ستؤدي إلى إحداث تغيُّرات جوهرية في منهجية التعامل مع هذا الواقع، سواءً أكان تعاملاً فقهيًّا أو تعاملاً إصلاحيًّا تجديديًّا، ولكن قبل الوصول إلى تحديد ذلك التأثير، لا بدّ من مناقشة علاقة هذا الواقع المعاصر مع الواقع التاريخي من خلال الوقوف على تراث الاختلاف، وذلك حتى نستطيع أن نُحدِّد هل يحتاج الواقع المعاصر إلى أفكار وأحكام تختلف بالواقع التاريخي أم لا؟

5- الاتصال والانفصال بين الواقع المعاصر والتجارب التاريخية

ممّا لا شك فيه أن واقعنا المعاصر هو امتداد للواقع الإسلامي التاريخي، ولذلك فإن الاتصال بينهما لا يحتاج إلى دليل أو إثبات فهو بارز وظاهر في كل أبعاد الحياة لا سيما على الصعيد السياسي والاجتماعي.

 ثانياً: فلسفة الإصلاح في الاتجاه البنابي

في اجتهاده الذي كان يتطلَّع لاستعادة مفهوم الأمة الإسلامية والواحدة من دون إغفال حقائق الواقع الذي يعيشه عالمنا الإسلامي الآن، يطرح ابن نبي فكرة كومنولث إسلامي، ففي رأيه أن أية محاولة تروم التخطيط للعالم الإسلامي ينبغي أن تستبطن أمرين اثنين: وحدته الروحية، وتعدُّد تجاربه، فالعالم الإسلامي يعيش وضعية الانسجام في جانبه الروحي والتعدُّد في جانبه الدنيوي، حيث يعرض (رحمه الله) التشخيص التالي لمدى جاهزية العالم الإسلامي لفكرة الكومنولث الإسلامي ويتصوره على النحو التالي:

1- حاجة تحديد هذه الجاهزية إلى تحقيق مُعمَّق على صعيد العالم الإسلامي، تطلَّع به أفواج مشتركة من المتخصصين علماً بمراكز البحوث، لكن المتواجدة حاليًّا تُعاني بعضاً من الشيخوخة، في حين هناك مؤسسات حديثة لم تتكيَّف بعدُ مع استراتيجية العمل العلمي الشمولي، فبعض ما في العالم الإسلامي الآن من أفكار وأشياء فَقَدَ صلاحيته والبعض الضروري الآخر لم يُولد بعدُ.

2- هل بالإمكان التكيُّف مع واقع من صنع الآخر؟ يعيش العالم الإسلامي فترة انكفاء يعالج فيها أمراضه عبثاً بدعاوى ذات تأثير تنويمي مُخدِّر لوعينا، ففي الوقت الذي نرفض فيه الفلسفة المادية على صعيد المفروضات فإننا نتمثَّلها على الصعيد السلوكي، بمعنى أن العالم الإسلامي يُريد التخلُّص من أثر المادة في التوجهين الرأسمالي والاشتراكي لكنه يتهاوى لا شعوريًّا في النزعة الرأسمالية من خلال التسلُّط بالأشياء لا بالأفكار، والنتيجة المأساوية هي أن النزوع الحادث في الغرب أفضى إلى تنمية الأفكار في حين قاد في الشرق إلى مضاعفة الأشياء.

يقف ابن نبي عند ما يدعوه بالمحيط الجديد ومضمونه، إن خروج المسلم عالمه الحقيقي الذي يرسم هويته الحقيقية ويمدُّه بالمعايير الأساسية للحكم على الأفراد والأشياء إلى عالم ينسجم مع وعيه وفكره، ولا يعرف معاييره ومقاييسه فينقلب عنده بالضرورة سُلَّم الأشياء، حيث يبدو عاجزاً عن معرفة عالم الضَّرورات الحقيقية فينخرط في حساب معين للضرورات المزيفة.

ونتيجة هذا التناقض يتمزَّق وعي المسلم الذي لا يعرف كيف يندمج في عالم هو مجبر على العيش فيه، وإذا كان لم يمثل بعد معاييره، حيث يزيد نصيبه من أشيائه على نصيبه من أفكاره، فتنشطر حياة المسلم إلى عالمين منفصلين: عالم غريب له امن أشياء وليس أفكاره، وعالم أخلاقي يحن إليه، واندفاع المجتمع في حركته خلف الأشياء يولد عروضاً لذلك المجتمع من الدرجة الثالثة.

3- ظاهرة النمو المرضي، وتُعتبر من أهم المشكلات التي يواجهها المجتمع الإسلامي، فلقد مرَّ هذا المجتمع بعصر السُّبات ثم بعصر استرداد الوعي مع الاستيقاظ على الاستعمار الغربي، ثم دخل مرحلة عصر الفوضى والتّيه، وهذه المراحل شبيهة بمراحل نمو الطفل، والمجتمع المسلم شبيه بطفل مُتأخِّر في تكوينه اللغوي، أو شخص بالغ مختلّ سلوكيًّا، ففي حين شرع العالم الإسلامي في التوقيت ذاته تقريباً مع المجتمع الياباني في تقليد الغرب، فإن اليابانيين استطاعوا أن يربطوا بين الأشياء والأفكار، بينما وقف المجتمع الإسلامي عند فوضي الأشياء والأفكار مما أدَّى إلى انعدام الشعور بالأذى والفوضى الاجتماعية، حيث أصبحت أشياء الآخر تُقابل في العالم الإسلامي بردود فعل متناقضة، ففي حين يرى البعض في الأزياء النسوية الحديثة علامة تحرير للأمة، يرى فيها آخرون مفسدة لها، مما يؤدي إلى تناقض فكري عاطفي يضاعف من أزمة النّمو المرضي، ويؤشر على استحكام الشّعور بوضعية الإنسان، كأثر المطارد الذي يعاني من استحكام الأزمة الداخلية، والذي يُعاد تصالحه مع عالمه الداخلي شرطاً لسلامة تعامله مع عالمه الخارجي.

4- الحاجة إلى مشترك جماعي مؤسس على نزعة روحية دينية، جوهر فكرة الكومونولث الإسلامي، أن المجتمع المسلم بحاجة إلى إرادة جماعية مؤسسة على نزعة روحية دينية، فالأزمة ليست في طبيعة مشكلات العالم الإسلامي، بقدر كونها في موقف الإنسان المسلم منها.

5- لا مركزية معالجة مشكلات الأمة، ففي سياق تركيز ابن نبي على استعادة الأمة الواحدة لا يفوته أن يُنبِّه إلى الفضاء الجغرافي لمشكلات الأمة، لأن ثمة مشكلات ذات طبيعة قومية، وثمَّة عوامل معجلة للتطوُّر العالمي تؤدي إلى مضاعفة تخلُّف المجتمع الإسلامي يجب التركيز عليها، وثمة مشكلات تتعلَّق بنطاقات إقليمية أو بمستوى الأمة الإسلامية برمتها، فتحديد خريطة المشكلات وتضاريسها يجب أن يستلهم الفرق بين وحدة الأمة، والعبرة التاريخية لها التي لم تعرف المركزية في حل المشكلات، وفي ضبط الممارسة السياسية.

ومن منطلق التحديد الواقعي لمفهوم الأمة وشبكة علاقاتها يرى ابن نبي أن العلاقة بين العوالم الإسلامية (الإفريقي، العربي، الإيراني، الماليزي، الصيني، الأوروبي) يجب أن لا تُخطط بنواة مركزية ضابطة للاتصال مع الخارج، وهذا دفع لإمكانية اعتبار ذلك بمثابة إرادة خاصة تفرض الفكرة على غيرها، والاستعاضة عن ذلك باعتبار كل لتلك العوامل والروافد تصب في تلك النواة[2].

6- معركة الأفكار بين الفعل والانفعال، يُفاقم من أزمة العقل المسلم، المسعى الاستعماري لمراقبة حركة الأفكار في العالم الإسلامي ومع أن الاستعمار لا يهوى الرقائق الفكرية ولا يريد زرع الأفكار في العالم الإسلامي وإنما يحتفظ بها لنفسه ويبيع أشياءه للآخر، فإنه يحرص للحفاظ على احتكاره للأفكار، على مراقبة حركة الفكر ليتخلَّص مما لا يروقه من أفكار، أو لينحرف بها عن المدار الذي يريد أصحابها أن يواجهوها فيه، يملك جهازاً لمراقبة الأفكار واستكشافها، ومنهاجاً لتبديل قيمة الأفكار بالإضافة أو بالحذف، وقد يُنسِّق الفكرة من خلال تشويهها أو ربطها بشخص يُشوّهها، بما لذلك من انعكاسات على الجهاز المناعي المفاهيمي الإسلامي الضعيف أصلاً، ومن جهة أخرى فإن العجز في الأفكار يؤدي إلى عجز في المراقبة الذاتية، وفي مراجعة النتائج على نحو يفسح المجال للتبديد. والمجتمع كجهاز لتحويل الطاقات الاجتماعية يصير عرضة للإفلاس ما لم يتفاوت إنتاجه على استهلاكه. ومجتمعاتنا تعاني من تبذير غير سوّي في الوسائل، وتبديد مفرط للطاقات الاجتماعية، فضلاً عن المعاناة من اللافاعلية نتيجة تصنيع مفاتيح مغاليق حل مشكلاتنا، بنسبتها إلى غير سببها الحقيقي، كنسبتها إلى الجهل مثلاً، مع أن السبب الأساسي هو فقدان التركيز على بناء الإنسان العقائدي الذي يعرف كيف يستخدم عقيدته كأداة اجتماعية، ويوسّع مناطق الحضور الإسلامي.

ويرى ابن نبي أن للمسلم دورين: تمثيل أبطاله، ودور الشاهد الأمين لأعمال الآخرين، فهو الشاهد الحاضر في عالم الآخرين المتصل بشكل عضوي مع أكبر عدد من الذوات البشرية ومشاكلها، وحضوره يجب أن يعانق أقصى حد ممكن من المكان، وأقصى كم ممكن من الوقائع بشهادته، وهو ليس صاحب دور سلبي، فحضوره لا يقف عند حد ملاحظة الواقع، بل يتجاوز ذلك إلى تبديل مجرى الأحداث إلى اتجاه الخير باللسان والقلب، بل إنّ ابن نَبِي يصل إلى حد اعتبار أن الشاهد الذي أشار إليه الرّسُولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع هو كل من يقوم بهذا الدّور بتبليغ رسالة إلى الآخرين في كل زمان ومكان، والغائبون عنها هم كل من لم تَبلغهم بَعدُ رسالة الإسلام وكل من خانوا رسالتهم إلى إخوانهم في الإنسانية، من الأمراء المبددين للمال في غير مواضعه، والعلماء الذين يعزّزون بصمتهم الكثير من الأخطاء والخطايا في البلاد الإسلامية[3].

ومع أن ابن نبيْ تبنَّى لفظ كومنولث، فإنه حرص على استخدامه كوعاء مُفرَّغ من شحنته الحضارية، بسبب أن وجه الشبه بينه وبين الكومنولث البريطاني ونظيره الإسلامي الذي يدعو إليه يقف عند حد مستوى المشكلات ولا يصل إلى طبيعتها، فالأخير لا يتجسَّد في شخص بل يتشكل من مجموعة شعوب، حيث يتم الإصلاح من القاعدة، ويستهدف تجاوز الحالة ما قبل الحضارية، ولا يمس سلطاناً يقوم بالعدل والحق في المسلمين، ويستهدف الموازنة بين القوى الداخلية والخارجية على واقع عالمنا الإسلامي الشبيه في رأيه بالإناء المغلق الذي تتم فيه عملية كيميائية، والذي يصير مهدداً بالانفجار ما لم تتوازن مفاعيل القوى داخله وخارجه، مع التأكيد على أن التوازن بين القوى الداخلية هو الأهم، والإسلام هو القوة التي يمكن أن تحقق ذلك[4].

وبالمقارنة بين تعريف محمد عمارة للأمة يركز هذا الأخير بالأساس على البعد الإسلامي في تعريفها، فجامع الإجابة هو رباط الإجابة، والطور العربي الإسلامي بذلك لم يكن طور انسلاخ عن رباط أشكال، واستقلال عن كيان أكبر، ولا بحث عن العوامل المميّزة والفواصل، وإنّما هو طور جمع وتأليف للفكر الحي الذي جاء به الإسلام مع الموروث الفكري والحضاري في البلاد التي دخلها الإسلام، ليظلَّ الباب مفتوحاً للتأليف والاستيعاب لتمتدّ ساحة تأثير الإسلامية إلى كل الجماعات التي تدخل دائرتها حتى لو لم تعتنق دين الإسلام، مؤكدة بذلك على عالمية الرسالة واتجاهها للاندماج الاجتماعي الحرِّ، لا للاستقلال الانفصالي، وحرصها على الاستيعاب الصّالح عبر الإحياء والتجديد من الحضارات الأخرى والبعد عن النسخ والمسخ، وصارت بذلك أمة دائمة التّحقق.

7- حيوية الدّين كأساس للحضارة، يؤكد مالك بن نبي أن الحضارة الغربية قامت على هيكل أخلاقي مسيحي، أتاح لها التماسك والفترة الضرورية لازدهارها، إلَّا أن تلك الحضارة غيّرت هذا الأساس العَقَدِيّ بالتدريج عبر مسيرتها التاريخية إلى أن صار هيكلاً هجيناً مُلفَّقاً.

 الخاتمة

إذا كان المشروع الحضاري الغربي قد تأسَّس على ترقية قيمة الفرد، فإن النموذج الإسلامي يعتبر الخطوة الأولى على طريق التغيير الاجتماعي هي العمل الذي يغيّر الفرد من كونه فرداً إلى صيرورته شخصاً، بتغيير صفاته البدائية المرتبطة بالنوع إلى نزعات اجتماعية تربطه بالمجتمع، عبر التربية الاجتماعية التي ينبغي أن تكون وسيلة فعّالة في الواقع بما تحمله من معنى لتغيير الإنسان، وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يُكوِّن معهم مجموعة القوى التي تُغيِّر شرائط الوجود نحو الأحسن، وكيف يُكوِّن معهم شبكة العلاقات التي تُتيح للمجتمع القيام بنشاطه المشترك في التاريخ وكافة الحلول التي تُستعار من بلاد أخرى، لعلَّها تكون صحيحة في بلادها، غير أنِّها تحتاج عند النقل إلى عناصر مُكمِّلة لا تأتي معها ولا يُمكن أن تأتي معها، ومع أنه من المفروض الاستشارة بتجارب الآخرين، فإن شرط ذلك هو أن تكون الحلول نابعة من المحيط الذي تُطَبَّق فيه.

 

 

 



[1] سورة آل عمران: 187.

[2] مالك بن نبي، فكرة كومنولث إسلامي، ترجمة: الطيب الشرين، دمشق: دار الفكر 1990 ص 15 – 26 – 28 – 38 – 40.

[3] المرجع السابق، ص 71 – 76.

[4] المرجع السابق، ص 80-84.