الوجه الآخر لابن خلدون..
من التفلسف إلى التصوف
يوسف أشلحي*
* باحث في الفلسفة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس - المغرب.
الكتاب: ابن خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح على التصوف.
المؤلف: محمد آيت حمو.
الناشر: دار الطليعة، بيروت.
سنة النشر: 2010م.
تشي الاستعادة التي حظي بها الفكر الخلدوني في المنظومة الفكرية المعاصرة، على توكيد حيوية المتحصّل الفكري بوصفه شهوداً قائماً في تكثّر نوعي واستيلاد مسترسل للقول. فكل استعادة ضاربة تعكس أصالة المعطى، وكل إقبال نحوه واستقبال له يحفظ دوام أثره من خلال الفعل التحفيزي الرائي بدوره تأسيس ذاته. وإنه من شأن حركة الاستضافة القويمة للمعطى الإبداعي، استدامة وإبداع الحاضر والفائت على السواء، وهو ما يضمن تحقيق المهمة الأصيلة لسبل التفكير في تأمين صيرورة صلبة قائمة بإطلاق في أفق الزمان.
ولنا في الصلة الفكرية القائمة بما استوى مرام نظرها جهة أو كلية، نظراً بصيراً في المتن الخلدوني بوصفه رهاناً يستجدي في بدء ومنتهى مسعاه بيان أنحاء الكثرة الخلاقة للقول الذي منه وفيه في رحاب المعاصرة، وذلك ضمن مجرى إشكالية عامة استهدت نظر المعاصرين (الحداثة والتراث أو ما ماثلها من نسخ ونظائر). بحيث ما فتر حافز المعاصرين في مناظرة المشروع الخلدوني ضمن صيغة تأويلية متباينة، بات بادرها الأساس الأرضية النظرية الهادية بمعية قصدية هادفة جهة تأهيل الحاضر بوصفة شروع صميمي للمشروع في حصوله الكائن وفي نُقله المستحدثة ضمن انسيار خطية الزمن.
حسبنا استقراء صدى مشروعه الفكري في بنى التفكير العربي الإسلامي المعاصر، بدءاً مما تواتر الاعتبار عن حسب لحظة محمد عبده منطلقها، إلى حيث صيرورة النظر والتفكر آخذ مجرى التناسل والتناظر المفتوح.
تحصيداً لذلك استوى ظهور المنظومة الفكرية الخلدونية هيئة متوالية مستحدثة بتلاوين شتى (سواء استقر درب التحليل في صيغة تاريخية، أو سوسيولوجية، أو اقتصادية، أو سياسية، وآخرًا وليس أخيراً وجهة تصوفية)[1]، بشكل كاشف عن طبقة فكرية رفيعة بما تنطوي عليها من لمع مستترة، كفيل للتأويل أن يظهر أو يستظهر قوامها، كما حُق له أن يُقًوم أفق مسارها، وهو تقويم ذاتي في الآن نفسه للذات الفاكرة بفعل طبيعة فعلها الفكري.
توكيداً لوجهات الفكر والذكر الكائن والجاري صعداً على اختلاف القناعات والعلل والغايات، بوصفها التفاتاً كثيفاً للبنى الأصيلة في المتن الخلدوني، جاز استقصاء صروف الإشكالية الفلسفية والتصوفية، تبعاً للتأويل الطريف الذي بسط، الباحث المغربي محمد آيت حمو، الحديث في هيئات ظهوره وضروب استوائه في كتاب «ابن خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح على التصوف»[2]، وذلك ما سنأتي على بيان دقيق لتمفصلاته الأساسية في عناصر ثلاثة:
1- تأويل منزلة الفلسفة في البنية الفكرية الخلدونية
قد يؤشر إقرار ابن خلدون عن طبيعة الحكم وأنحاء التقويم الذي أبداه حيال الفلسفة، وذلك في فصل صريح معنون «إبطال الفلسفة وفساد منتحليها»[3]، قول كاشف وإقرار صريح قد يضعف كل تسويغ ويحد من أفق كل تأويل. بل إن طبيعة التقويم الخلدوني للفلسفة أفضى إلى ميلاد استشكال حيوي في التقويمات الفكرية التي أولت عناية فائقة للمشروع الخلدوني؛ بحيث تراوح هذا الاستشكال الراهن، بين إقرار بالإسهامات الحيوية التي انطوت عنها بطون وظواهر المقدمة في شتى أضرُب التعيُّنات النظرية والعملية، والتي بدت آية في الطرافة التنظيرية وغاية الإبداع في بابها ومجال إسهامها. وبين تقويم خلدوني للفلسفة، كثير ما أُخذ مأخذ الريبة والتحفُّظ، شأن ما قيل عن موقف وصيفه في القناعة العقدية والفكرية أبو حامد الغزالي.
بيد أن كل تقويم للتقويم، يستوجب أناة في الحكم وتدقيقاً في تقويم المعطى، هل نستمسك بالحرفية أو نُسدد الحكم بالفعل التأويلي؟ هل نستكين إلى الحسم أم أن إعادة النظر فيما قيل حافز لتجديد القول من جديد؛ بمعنى إمكان تقويم التقويم؟ وبيّن من سياق تحليل منزلة الفلسفة في النسق الخلدوني، انسياق المؤلف نحو موضعة الموقف الخلدوني ضمن صيغة «البينية»، بوصفه يتنزل في «منزلة بين المنزلتين». فهو بأي حال من الأحوال، ليس من نمط القول المتيسر حتى نستشف منه الوضوح ونأخذه جهة الحسم المبين. بقدر ما يتعيَّن أخذ حال النظر الخلدوني حيال الفلسفة حال تأرجح والتباس سلس، يحُدُّ من كل استكناه قطعي يمسي به جهة الوضوح، ما دام أن ابن خلدون «لا يقدم موقفه من الفلسفة على من طبق من ذهب، ما دام أن صاحب المقدمة لم يشأ التشطيب على الفلسفة بجرة قلم، ورفضها بإطلاق، ومعاداتها جملة وتفصيلاً من جهة. كما أنه لم يشأ احتضانها بحرارة وقبولها بإطلاق، ومن دون مواربة أو غمغمة من جهة أخرى»[4].
لا خلاف على أن الموقف الخلدوني من الفلسفة، هو عين التموقف الذي سبق وأن صاغت بيانه الحاسم المدرسة الأشعرية، وبالخصوص مع وفيقه أبو حامد الغزالي، لذلك ساهمت طبيعة الموقف المرتكز على منطلقات عقدية واعتبارات مذهبية مفهومة، تحكمت في وجهات النظر المبذولة والآليات الاستدلالية المتبعة والمتماهية مع الغايات المقصودة. فلا غرابة إن توسم التصور الخلدوني نحو الفلسفة بميسم باراغماتي؛ وآية ذلك ما تبدى في تراتبية مستحدثة والانتقائية التي طالت مباحث دون غيرها. فما كان الموقف الخلدوني بمستنسخ ولا متقبل لموقف المتفلسفة المشائيين، بما هو موقف حريص على توطين جملة المباحث الفلسفية، من دون تمييز يلحق أطياف قولها، لذا لم يتوانَ ابن خلدون -على خطى الغزالي- في إعمال استئناف القسطاس المُقوم والفاصل بين النافع والضار، بين الجيد والردئ.
تبعاً لذلك، يمكن اعتبار البيان الذي عبّر عنه ابن خلدون في تقويمه للفلسفة، تعبيراً عن هاجس سيكولوجي ثقيل، وعلى قناعة كلامية قبلية قائمة على دفاع إمكاني على كل ما من شأنه إحداث تشويش في طبيعة المنظومة المعرفية الموروثة، وتحصين علوم الملة من كل فكر غريب إليها وافد. فلا عجب أن تكون حربة النقد مسددة في الصميم جهة الميتافيزيقا، «إن الجزء الذي ظفر من نقد ابن خلدون باهتمام فاحص على الجزء المتعلّق بالعلم الإلهي، وهو بيت القصيد في مناقشة ابن خلدون للفلسفة، ومربط الفرس في محاكمته لها بإظهار عيبها وإبراز زيفها»[5].
انسجاماً مع المعطى السابق، فإن ما كان لنا حسب الموقف الخلدوني من قبيل الموقف القطعي والكلي الناتج عن التزام آمين لحرفية الظاهر. فمن رام إعمال فحص موضوعي، يتعيَّن وصل الحدث بسياقاته المتعدّدة وحيثياته المتصلة والمنفصلة. لئن كان التهفيت الخلدوني لنمط الظهور الفلسفي ينسحب بما لا يدع شك على مبحث الإلهيات، فإنه لا يقع دليلاً حاسماً على تشميل الموقف الخلدوني، ليطال بالسلب سائر المباحث الفلسفية. وليس بدليل أمثل على ذلك إقرانه بين ازدهار العمران وانتشار العلوم العقلية، والتي هي في أساسها فلسفية، فضلاً عن اعتباره العلوم العقلية مشتركة بين كل الثقافات بوصفها صنفاً طبيعيًّا، في مقابل الصنف العقلي الذي يسم كل ثقافة بعينها.
فهل كل نظر بُذل وكل قول أُفصح عنه، يستلزم الانضواء ضمن شتات المباحث الفلسفية المعلومة علمها التمامي مع أرسطو؟ رب فسحة اختبار للنظر وحرية تقام للفكر بمعية التجربة المنظورة والمتفكرة في أفقها، إيجاد إمكان خصب لبزوغ نمط مؤصل من التفكير الكفيل بتصيير دروب الفلسفة سبلاً غير مطروقة سلفاً. وإن من شأن تفكُّر في هوية التفكير المعطى، والتفكير بمعزل عن صيغة قارة مهيَّأة سلفاً لهكذا تفكير في وضعياته البعدية، أن يسكن في روح الفكر ملكة تقويمية نافذة و دربة تواقة لحيازة غائية الإبداع في كل معطى متحصَّل «هناك في المتن الخلدوني فلسفة هادئة مبثوثة، تطرح أسئلة فلسفية عن التاريخ والعمران والمجتمع، وتخوض في مسائل وجودية، مع التسليم بالأجوبة الدينية. وتتجلى هذه الفلسفة الهادئة و العميقة أكثر من فلسفة الفلاسفة»[6].
حسبنا أن نستخلص من مدار الكلام الخلدوني وعنه بخصوص المعطى الفلسفي، عبرة تفيد حمل الصيغة التمامية التي أفصح عنها التقويم الخلدوني، جهة النسبية لا جهة الحسم والقطع. فالحكم أفسح أفقاً من أن يأخذ مأخذ الحصر، فهو يحوز من تكثُّر الدلالة ما يُمكّن من اشتراع باب الاحتمال وإمكانية التأويل. فما كان لرهط من التفكير أصالة ممكنة، لولا إضماره لسبل مفتوحة لتوليد المعنى الكائن في صميميته، مما يستلزم ضمناً تحفيز ملكة الاجتهاد وإسالة خصوبة التفكير في هيئة متوالية خلاقة. فليس بحقيق حسب التموقف الخلدوني من الفلسفة تخريج لمبدأ الثالث المرفوع، يحمل جهة الوجود أو العدم. رب خصوبة نظر أمكن تقصّي يناع ثماره النظرية فيما بُذّر في طيات المقدمة، بشكل يتعدى جنس التماثل والاستشفاف، ليمسي في مرمى فوهة من المفاهيم الموحية بحصول الالتباس على مستوى الظاهر.
فانطواء الموقف الخلدوني من الفلسفة على قلق ملحوظ في العبارة، يتيح من الإمكان ما يمكن حمله جهة الإيجاب أو السلب، أو بين الإثبات والرفع، أو هما معاً. كأن الحيرة التي تتبعنا بُدّوها لدى ابن خلدون، شبيهة العمق بتلك التي رمى بها المتصوف ابن عربي معاصره ومحاوره الفيلسوف ابن رشد. ولنا من كلام المؤلف، ما يقف شهوداً على فصامية مستساغة، «بيد أن ما يثير الانتباه في موقف ابن خلدون من الفلسفة، هو كون حكمه عليها بالفساد والبطلان لم يمنعه من الدعوة إلى جني ثمارها والاستفادة من فوائدها، واقتناص منافعها... وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن صاحب المقدمة ينبهنا إلى مناقب الفلسفة بعد أن ينبهنا إلى مثالبها ويكشف لنا عن سيئاتها»[7].
2- تأويل الذات بالاستعادة
أفصح التحليل الخلدوني الآنف، بما لا يدع شك، على تواشج متين وتماثل فريد مع جملة من الأفكار والأحكام، والتي سلف وأن صاغ الغزالي بيانها الأكبر. فليست الحجة الجغرافية مدعاة لإبداء الغرابة في الترادف القويم بين فكر الرجلين؛ قد يختلف الزمان ومعه المكان، بيد أنه قد لا تنأى بهما المنطلقات نأي الانقطاع والانفصال، نظراً لتناغم الأرضية في وحدتها الملية والنحلية والمذهبية.
فكلما تماثلت المحددات وتآلفت المنطلقات، إلَّا وتآنست الأفهام بنحو يضمن تناسب الرؤى والأحكام «فابن خلدون والغزالي كانا يصدران معاً من نفس المنطلقات ونفس الرؤية، وأنهما كانا ينتميان إلى نفس المدرسة الأشعرية المنتقدة للاعتزال والفلسفة والمحتضنة في صورتها المتأخرة للتصوف السني»[8].
ويكفي تدليلاً على الحدث؛ حديث ابن خلدون عن مفهوم «مستقر العادة»، على نحو من الاستعادة للمفهوم نفسه الذي تواتر في مدونة الغزالي، وأيضاً لدى عموم أقطاب المدرسة الأشعرية. وما كانت تلك الاستعادة لتُوكّد بهذا الحرص الشديد، لولا الدور الحيوي الذي اضطلع به المفهوم في خضم الجدل الكلامي-الفلسفي؛ باعتباره آلية حجاجية قويمة لمناظرة مفهوم «النسبية الضرورية» المتداول في المتن الفلسفي.
ما كانت الإشادة بمقام التوافق والإلماح إلى بنى التوافق، مُقام من باب الإقرار بما هو بادٍ من تلقاء نفسه، بقدر ما تستبطن الإشارة من التنوير والإبانة ما تستبطن، من يعاين النمط المخصوص للاستعادة التي انشغل بها التفكير العربي الإسلامي المعاصر، يدرك أن المحاولة ما كانت من جنس الاستحضار الحرفي، ابتغاء ممارسة الفعل التأريخي. بل إن فعل الاستعادة عينه ما كان نمطاً من الفعل العابر، بقدر ما اتَّخذ صيغة جليلة في شاكلة هيئة مستبطنة، قوامها «تأسيس الحاضر»[9]. تبعاً لذلك، لم تكن منزلة ابن خلدون لتتنزل في إيوان المعاصرين في صيغة حيادية، ولا هي منزع خالص في ذاته، بل إن تحصيل النجاعة لا قوام لها إلَّا حينما تُمَوضع ضمن سياق إرادة التفكير المُقوّمة. لهذا تمخضت بنية الحضور عن نمطية تعددية، لكل منها مآرب قصدية ترمي تحقيقها.
لئن شكَّلت التفاتة المفكر محمد عابد الجابري نحو التراث الفلسفي في الغرب الإسلامي، وبالخصوص الإنتاج الرشدي منه، متكئاً للإقرار بأطروحته الشهيرة بـ«القطيعة بين الفكر المغربي والمشرقي». نلفي صاحب كتاب «ابن خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح عن التصوف»، يُدلي بدلوه في مقارعة هذا الطرح، مستمدًّا من العطاء الفكري الخلدوني ما يقف عضداً إزاء تصوُّرات فكرية مربكة، شأن أطروحة «القطيعة الفكرية» للجابري.
بالرغم من اصطفاف ابن خلدون في المناخ الفكري للغرب الإسلامي، فإنه لا نجد كبير اختلاف مع جملة من البنى الفكرية المنبثقة في المشرق الإسلامي. حسبنا أن نماثل بين إسهامات ابن خلدون ونظائر سلفه الغزالي وغيره، لنقف بدقة على ترابط وتواشج العطاء الفكري بشكل يُفصح عن وحدة الإبستيمي. كما أن النسق الثقافي ذاته لم ينطوي على إرهاصات جذرية، قمينة بادِّعاء حصول نمط تفكير حيوي، بوصفه علامة حاسمة على ميلاد باراديغم معرفي جديد.
وإمعاناً في الكشف عن دعاوي الصلاحية التي تدَّعيها الأطروحة الجابرية، يعكس المؤلف الموقف الخلدوني في مرآة النسق الرشدي، فمن ذا يقرر: انفصالاً مع ابن رشد واتصالاً مع الغزالي؟ رغم توحُّد الأرضية، نقف على دلائل الاختلاف ما يقطع بوجود بوادر الائتلاف بين نمط تفكير الرجلين. اعتباراً لهذه الحيثيات، انخرط الباحث في استشكال عميق لدواعي «إحجام ابن خلدون عن ذكر فلاسفة الغرب الإسلامي الذي يقتسم معهم التاريخ والجغرافيا، ويشاركهم المقام دون المقال، وهو ما لفت انتباهنا في مقدمته، وآثار فينا الدهشة والاستغراب»[10].
يتضح عبر الاستقراء السابق للموقف الخلدوني من الفلسفة، أن الباحث انخرط في نمط من القراءة البرغماتية لمكانة الفلسفة في المتن الخلدوني، وذلك على ضوء استحضار نمط مخصوص من الإشكاليات التي انهمك فيها التفكير الإسلامي الراهن، لئن ثُبت من عناصر الحسم؛ ما يدل على تناغم فكري بين ابن طفيل وابن باجة وابن رشد، على اعتبار وحدة المقام الجغرافي والمعرفي؛ فقد نلفي من الهموم الفكرية، كما هو الحال مع ابن خلدون، ما ينأى بها عن المقام الطوبولوجي، لتجد لها من الارتباط الطريف مع أوضاع وأنظار فكرية متناثرة في الزمان والمكان.
أي سعي إلى تقويم موضوعي لطرح فكري محدّد، يجد أصالته في عين المنطلقات التي استلف منها نمطه المخصوص من التفكير، خيطه الهادي. وبحسب تلك الأسس التي استولد منها ثم استوى عليها، يؤول المتعين الفكري إلى ضرب من البُدُوّ الحيوي، المحاذي لكل نظر يتقّوم بمبدأ الهوية وكل قولٍ جارٍ مجرى التطابق في وحدة المقام. وفقاً لذلك، يتم تأويل طرافة التموقف الخلدوني من الفلسفة؛ سواء جهة الموقف المضاد لمواقف، أو جهة الموقف النصير المستنسخ لمواقف متماهية «إن ابن خلدون هو الابن العاق لابن رشد الذي لم يحافظ معه ولو على شعرة معاوية في موقفه من الفلسفة التي هاجمها في مقدمته المشهورة على آراء الفلاسفة بالبطلان والتهافت والهشاشة، لأنها قضايا ضعيفة وغير برهانية. خلافاً لما يدَّعيه الفلاسفة الذين لم يبعدوا شره العقول عن عالم الميتافيزيقا، ولم يلجموها بلجام الشرع حتى لا تجمح»[11].
ما دام إذن، أن المناظرة التي استأنف ابن خلدون حرفيتها في مواجهة سيان التفلسف في المنظومة الثقافية الإسلامية برمتها، استوحت خيطها الفكري الرفيع من صيغة مخصوصة من نسق التفكير.
لهذا نجد أن طبيعة الإشكاليات التي استوطنت نصوصه، تقف على اختلاف مع جنس القضايا التي استلهمت روح التفكير الرشدي وغيره. لم يرَ ابن خلدون، شأن الغزالي وغيره، في استدخال قضايا الفلسفة إلى عمق المسائل الدينية سوى ضرر عليه. بينما تمثل المسعى الجليل لابن رشد، في إقامة ضيافة ممكنة لجملة الفلسفة اليونانية في رحاب بنيان الفكر الإسلامي المعاصر.
هكذا انبرى الطرح الأول لممارسة نمط من الانتقائية في المدونة الفلسفية، بينما انخرط الطرح الثاني في إعمال قراءة متماثلة لجملة المباحث الفلسفية بمعزل عن محدّدات قبلية. تحصّلت لدى ابن رشد قناعة فكرية مفادها؛ أولوية التفلسف على السياق، بينما تمسّك ابن خلدون بحجة قبلية تقضي بإخضاع فعل التفلسف إلى السياق.
تبعاً لذلك، كان تفاعل ابن رشد مع الفلسفة تفاعلاً عفويًّا وكلّيانيًّا، بينما وقف ابن خلدون من جملة الفلسفة موقف المتوجس المُتخّير؛ لهذا نجده يُعلي من شأن العلوم العملية ويُشيد بأجزاء من العلوم النظرية، بينما يقف موقف المتحفظ على مبحث الميتافيزيقا.
نتيجة لذلك، اتَّسم التقويم النظري لمكانة الفلسفة في مشروع الرجلين بحدة الاختلاف، كما يُوجز كلام المؤلف الأتي «قد يكون ابن رشد أعظم فلاسفة الإسلام، ولكن الأكيد هو من أكبر المقلدين للفيلسوف اليوناني الذي لم يُحافظ معه مع المسافة. وهذا التقليد الأعمى أوقعه في العديد من المطبات المنهجية، وفي مقدمتها عدم وضع قدرة العقل على البحث في الميتافيزيقا على محك النقد. فالبرهنة على الميتافيزيقا لا تندرج في «حقل الإمكان» بل في «حقل الاستحالة» لا لشيء إلَّا لكون العقل يبطل مفعوله في عالم الإلهيات الذي يتعدّى طاقة العقل ويندُّ عن مسالك البرهان، وتخريجات المنطق. وهو ما انتبه إليه ابن خلدون وغفل عنه ابن رشد الذي اعتقد بأن الحقيقة هي ما قال به فلاسفة اليونان، ولا سيما كبارهم أفلاطون وأرسطو»[12].
تستمد أطروحة القطيعة الفكرية -كما حللنا حيثياتها المختلفة- مع الجابري، سدادها من التقويم المنصب على كيفيات حضور أو استحضار العطاء الفلسفي اليوناني، في عموم استوائها لدى فلاسفة الإسلام. ذلك قول فلسفي (كما هو الأمر عند الفارابي وابن سينا)، شَابَهُ الخلط وعمَّه المزج، وذاك قول فلسفي (كما هو الأمر عند ابن باجة وبالخصوص عند ابن رشد)، ميزته الصفاء والحرص على الاقتداء. كأن حمل تقليد فلسفي على أبنية فكرية أخرى منقصة! وكأن الحرص على مشايعة حرفية ميزة فارقة! هكذا شكّل الموقف الخلدوني مَعيناً خصباً لمناظرة حية في الفكر الراهن، شأن ما جرى إثمار ذلك في مجادلة دعوى القطيعة.
3- منزلة التصوف في المتن الخلدوني
إن توخَّى المرء فحص الصلة الواصلة بين الفلسفة والتصوف، لما زاغ نظره عن الشواهد الكاشفة عن المسحة التصوفية في متن المتفلسفة (الفارابي، ابن سينا..)، أو الميل الفلسفي في متن المتصوفة (ملا صدر الدين الشيرازي، ابن عربي...). ينقاد صاحب القول بالتعارض إلى الحجة الآتية: المتصوف يستكين إلى الوجدان، بينما يرتكن الفيلسوف إلى العقل. لكن دون تنبيه إلى إن كلا الأمرين حاضران لدى كل منهما، مع الاختلاف في نفاذ الحجة والتراتب. لهذا لم يتوانَ المتصوفة في الزجّ بحزمة من المفاهيم الفلسفية (الوحدة، الجوهر، الحركة، العلة...) في معترك أفكارهم، كما لم يتلكأ الفلاسفة في إسناد أقوال المتصوفة في قضايا محددة (مسألة وجود الله، السعادة، النفس، الروح...)، فكانت نظرية الفيض الشاهد الأمين والرابط الدقيق بين اهتمامات المتصوفة والمتفلسفة.
بيد أن التوافق المستشكل، لا يُغطي البتة عن البنى الصميمية لكلا المبحثين؛ فلكل شأن يغنيه في تصريف المفاهيم وتقويم البناء. قد نتواطأ على المفاهيم ذاتها، ونمسي بالمعنى إلى مقام بديل ومدلول مخالف. ولنا في تقصي مفهوم «الاتحاد»، شاهد بليغ على المقام الأصيل لكل بنية مفهومية وجيهة، «فالاتحاد عند الصوفية بتجلياته المختلفة، هو تجربة روحية وجدانية قائمة على الرؤيا وخرق العادة والانتماء إلى طريقة أو شيء يؤخذ منه العرفان أخذاً، إنها تجربة تطرح على مستوى القلب لا على مستوى العقل، على مستوى الذوق لا على مستوى النظر العلمي، على مستوى العرفان لا على مستوى المعرفة، على مستوى التجربة والحدس لا على مستوى البرهان والدليل.
أما تجربة الاتصال الفلسفية فتشترط الامتلاء المعرفي عن طريق ممارسة علمية في مختلف أجناس العلم، أي تشترط تحقيق العقل النظري تحقيقاً كاملاً، وتعبئة الذات بمعرفة الطبيعة معرفة علمية، إلى الحد الذي تصل فيه هذه المعرفة إلى لحظة تنقلب فيه انقلاباً نوعيًّا لتتحوَّل إلى تجربة ميتافيزيقية، لا تقصد معرفة عوارض الطبيعة وقوانينها وأسبابها، بل تقصد الاتصال بمبدأ الوجود نفسه بإلقاء نظرة ميتافيزيقية عامة على الوجود، لا نظرة قطاعية إلى هذا العالم أو ذاك»[13].
لئن رأى ابن خلدون في مسلك التفلسف ما رأى من تعذر الإيفاء بالمرامي المعقودة، فهل شكَّل مطلب التصوف لديه العتبة الموصلة لكل غاية جليلة؟.
من التحليل الدقيق والوافي لجملة من الثيمات المعرفية في مقدمة ابن خلدون المشهورة، عن درجة الإحاطة وميزة الموسوعية التي كانت لدى القدماء. كم من مساهمة علمية طال السرد معظمها واستقوى فيها النسخ، وكم من صرح فكري رام لأفقه تحصيل كنه المعرفة السديدة، بتوسيل آلية النقد. من خلال الموازنة يظهر الفارق وتثبت الميزة، وبالتحديد في علمي التاريخ والعمران البشري.
نذر رحاب المقدمة، لننعطف خارج أبوابها ولكن ليس بمعزل عن شواغلها، لنقف عند موضوع التصوف. من المعلوم أن ابن خلدون أولى بدوره، شأن غيره، اهتماماً نظريًّا وعمليًّا للتصوف. لم تكن حركة الالتفات عنده حاسمة ومنسجمة، بقدر ما انقلبت تجربة الرجل ضمن طورين أساسين، مما يستتبع اختلاف رهان النظر وطبيعة التحليل بين «شفاء السائل وتهذيب المسائل» ولحظة «المقدمة».
حقيق أن ابن خلدون أبدى من حدة النقد لمسألة التصوف في «شفاء السائل» ما يحمل على جهة السلب. يشي ظاهر التقويم على تحصيل محصّل لمآل التجربة التصوفية في عرف المتأخرين، لكن سرعان ما سيتدارك ابن خلدون -في المقدمة- حكم التعميم، ويتّجه صوب تزكية طريقة المتقدمين «La voie des enciens»، بوصفه طريق العلم الشرعي «بحيث أصبحت الممارسة الصوفية مرهونة براعية ناموس الوحي»[14].
بالنظر إلى محرك المرجعية الفكرية والإبستيمي المعرفي، لم يكن مستساغاً لنمط من التصوف القائل بفكرة الوحدة والحلول، ضرباً من القبول في المحتوى الفكري الخلدوني. في ثنايا المقدمة، نقف على صيغة تبسيطية قائمة على تليين الحكم «تجاوز لغته النارية والحربية التي كتب بها فتواه الشهيرة ضد التصوف الفلسفي التي أمر فيها بإحراق كتبهم بالنار وغسلها بالماء، ومحو أثرها. وازداد ارتماؤه في دفء أحضان التصوف بالمرور من مرحلة شفاء السائل إلى مرحلة المقدمة التي لطّف وهذّب وشذّب فيها موقفه من التصوف غير السني الذي كان قد تحدث عنه بلهجة حادة في مؤلفه الصوفي السابق على كتابة المقدمة»[15].
يبرز الموقف الخلدوني بوصفه تحصيلاً لصيغتين متنافرتين؛ إن جهة استحضار طبيعة التوجّه التصوفي الذي تبلور، نظراً وعملاً، في مختلف التمرحلات التي شهدتها المدرسة الأشعرية. أو جهة اعتبار للصيغة البديلة والمضادة، كما استوى أمرها في تدبير المتأخرين. فصار من الطبيعي أن يبرز الخلل وترتفع الاستساغة لديه، لهذا انبرى ابن خلدون في مواطن عدة من كتاب «شفاء السائل» مجادلاً سبل المتأخرين من المتصوفة، بما تحصّل لديهم من شُبه فكرية شبيهة بتلك الكائنة في مدار التشيع والتصوف؛ من قبيل مفاهيم الوحدة والحلول والفيض...
تحدث ابن خلدون، في شفاء السائل، بإسهاب عن جملة من المجاهدات: مجاهدة التقوى، مجاهدة الاستقامة، وأخيراً مجاهدة الكشف والاطلاع. إن قُضي للصنفين الأولين من المجاهدة أمر التمكين والتجويز، فإن الصنف الثالث سيحظى بوقفة استشكالية عميقة، لغاية مسددة جهة الإعراض عنها وتجنّب الخوض فيها، كما يُوجز كنهها الباحث محمد آيت حمو، في قول له: «يكرر ابن خلدون للمرة الألف التحذير من الخوض في علم المكاشفة، أو صبّه في قوالب اللغة التي تعجز معانيها الحقيقية والمجازية عن وصفه، أو كشف معانيه الجليلة والدقيقة عن الإفهام الكليلة [...]، فالمعرفة الكشفية هي معرفة محظورة بكل المقاييس عند ابن خلدون»[16].
إن كان التقويم الذي أسداه ابن خلدون للتصوف، يعكس بالأساس الخيط التاريخي الذي سلكه شأن التصوف، وحيثيات تبلور أصنافه وأطيافه؛ فإن نمط التدبير النقدي الذي صرفه نحو مسالك التصوف يعكس بالأساس توجّسات ابن خلدون، من المنقلب الذي أمسى نحوه شأن التصوف: من التصوف السني إلى التصوف الفلسفي، ومن التوحيد ووحدة الشهود إلى الحلول ووحدة الوجود.
حقيق أن متن «المقدمة» لهو شاهد أمين على ضروب الأصالة وأبواب الاستعادة لمختلف المباحث النظرية التي جال فيها النظر الخلدوني. بحيث إنّ تقويم القول الخلدوني وفق انعطائه الزمني، يكشف عما تم تأصيله على سبيل التجديد وما تم تجذيره على سبيل الحفظ.
وفق نمط التحليل الذي خصَّ به ابن خلدون مبحثي الفلسفة والتصوف، يبقى الجهد الخلدوني حافظاً أميناً على نمط النظر الذي افترع التيار الأشعري خيطه الناظم، وتأتي المساهمة الغزالية على رأس إتمام البيان الفكري لشأن هكذا تفكير؛ بدليل نفاذه العجيب في الأبنية الفكرية لدى لاحقيه.
بيد أن إرث العقلية الأشعرية لم يكن دافعاً للاكتفاء واقتفاء الأثر، بقدر ما تخبرنا شواهد «المقدمة»، عن جهود خلدونية هائلة في مضمار تأصيل النظر؛ شأن ما تحصّل من قول مستجد في صناعة القول التاريخي، أو في تأصيل قول غير سابق في «علم العمران البشري»، أو شأن تقويماته للدورة الحضارية والسياسية (العصبية) على ضوء التاريخ الطبيعي.
[1] نلفي مع طه حسين منطلق بواكير التفكير في الخطاب السوسيولوجي والتاريخي، وعزم الاجتهاد عينه استمر لدى الجيل اللاحق؛ وبالتمثيل دون الحصر مع جهود كل من ناصيف نصار، عزيز العظمة، علي أمليل ، بنسالم حميش، محمد عابد الجابري، أبو يعرب المرزوقي...
[2] محمد آيت حمو: ابن خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح على التصوف، دار الطليعة، بيروت، 2010.
[3] ابن خلدون: المقدمة.
[4] محمد آيت حمو: م.س، ص 16.
[5] المرجع نفسه،ص 21.
[6] المرجع نفسه، ص 29.
[7] المرجع نفسه،ص 30.
[8] المرجع نفسه،ص 35.
[9] إن الهم الذي توسم بنية التفكير العربي الإسلامي المعاصر في صيغة مضمرة، ترسّم صيغة مفترعة عن تساؤل محرج «صيرورة كينونة النحن»، بعد اليقين من كيفها. لذلك شرعت في استبصار أفق حضورها، من غير حسم في إنيتها «مائية كينونتها».
[10] المرجع نفسه، ص 42.
[11] المرجع نفسه، ص 41.
[12] المرجع نفسه، صص 42-43.
[13] المرجع نفسه، ص 142.
[14] Eric chaument : L’Ego histoire d’ibn Khaldùn, historien et soufi: Comptes-rendus des séances de l›Académie des Inscriptions et Belles-Lettres, 140e année, N. 3, 1996. PP 1041 - 1057.
[15] المرجع السابق، ص 53.
[16] المرجع نفسه، ص 81.