حديث في فلسفة التربية
توفيق بن ولهة*
* باحث من الجزائر، جامعة سطيف 2، الجزائر، البريد الإلكتروني: toufik34200@gmail.com
ﷺ مقدمة
تتنزل التربية ضمن الفعل اليومي، لأنها الفعل الأكثر حضوراً في حياتنا، فهي تأخذ جل وقتنا من أجل تحقيقها، سواء مع أسرنا أو مع مختلف الفئات التي نتعامل معها، بل قد يعتبر البعض نفسه وُجِد من أجل تأدية هذه الرسالة «النبيلة»، والتي يجب أن يقوم بها كل يوم، فينفق كامل وقته وجهده لتحقيق هذا الغرض، ولا يرضى عن نفسه إن رأى بأنه قصر في إحدى جوانبها، فهي هم يحمله الجميع، ويعمل على ممارسته، كل من موقعه وحسب الوسائل المتاحة لديه.
إن التربية تمثل «أهم وأصعب مشكلة تواجه الإنسان، بالفعل، لأن الأنوار تتوقف عليها، كما أن التربية بدورها تتوقف على الأنوار»[1]، لقد مارس أغلب الفلاسفة فعل التربية، وحاولوا من خلالها تبليغ أفكارهم، وتقديم نظريات مختلفة تعلم الناس كيف يربوا أولادهم، بدءًا من فلاسفة اليونان مرورًا بفلاسفة الإسلام، وكذا فلاسفة العصر الحديث والمعاصر، فلم تخبو هذه المسألة في كتاباتهم، لأنها تمثل محور صناعة الإنسان، الذي جاءت الفلسفة لتخاطبه وتصنع منه كائنًا إنسانيًّا، ليس فقط بتفكيره، بل كذلك بالسلوك الذي يقوم به، ولذا ربطت جل الحضارات التربية بالتعليم، ومن هنا يتأتى تساؤلنا الذي انبثقت عنه هذه المقاربة، وهو الدور الذي لعبته الفلسفة في صناعة فعل التربية.
ولتلمس هذه الحقيقة، وإدراكًا منّا بضرورة تحيينها كل مرة، لمعرفة مستوى الحضور والغياب للقول الفلسفي قبل الفعل أحيانًا في تأثيث فعل التربية، ارتأينا التدقيق في فعل «الغياب»، الذي مارسته ولا تزال تمارسه الفلسفة في حقل التربية، لأن فعل «الحضور» سيقودنا حتمًا إلى سرد نظريات فلسفية في مجال التربية، ليس لنا هاهنا مقام للتعرض لها، كما أن الغياب يجلي لنا بوضوح الفعل اليومي عارياً من كل كساء نظري يغير ملامحه، ويبين عيوبه، عندما تُحجم الفلسفة عن توجيهه، وعن سقي نوابته.
وطريقة الرصد هنا قد تكون أقرب إلى الاستقراء منها إلى الاستنتاج، كما حدّدها المنهج البيكوني، لأننا عندما نعرف السبب في تغييب ظاهرة ما، يمكّننا ذلك من الاطلاع على الأثر الذي كانت تتركه على الظاهرة موضوع البحث، وسنستأنس في مقاربتنا هذه بالتساؤل التالي: ما هي أهم النتائج التي يمكن رصدها حينما تغيب الفلسفة عن توجيه الفعل التربوي، والذي يعتبر أهم فعل نمارسه في فعلنا اليومي؟
من أجل تخطي عتبة هذه الإشكالية، كان لزامًا علينا تأطيرها بمرجعية فلسفية تحكم جهدنا، وتوجه مبتغانا نحو الهدف المنشود، وقد أردنا من أجل تحقيق هذا الغرض التعريج إلى فيلسوفين طالت آثار آراءهما الكثير من الأنساق الفلسفية اللاّحقة، وذلك لأن الأول ربط النظرية الفلسفية في مجال التربية بالواقع السياسي الذي تعيشه الدولة، أما الثاني فقد ربط النظرية الفلسفية التي تنير للتربية طريقها بالواقع العلمي، وهذين الفيلسوفين هما «إمانويل كانط» E. Kant، والثاني «غاستون باشلار» G. Bachelard.
ﷺ كانط.. الفلسفة والتربية
يعد كانط حسب كثير من الدّارسين آخر الفلاسفة الكلاسيكيين تقريباً، من الذين أدركوا أهمية التربية، ودورها في تطوير الواقع المعاش، وبيّن الآثار التي يمكن أن يجنيها المجتمع إذا غابت الفلسفة عن تأطير نظرياته التربوية، ولو أن ذلك كان في وقت متأخر من حياته، فقد ضمّن آراءه في التربية في آخر كتاب صدر له، الذي طبع لأول مرة سنة 1803، أي قبل وفاته بعام واحد تقريبًا، ويعد زبدة ما قال كانط في التربية وتنشئة الطفل.
إلَّا أن بعض من النّقاد[2]، يعتبر بأن هذا المؤلف جاء نتيجة ضغوط مهنية، مبررين تلك الدعوى، استنادًا إلى ما جاء في ذلك الكتاب من انقطاعات، وتكرارات، كما أنه جاء هزيل الصياغة ولا يملك نظامًا مرضيًّا، على غير ما عهدناه من كانط في تآليفه السابقة، حيث حوى هذا الكتاب الكثير من التحليلات المكررة، افتقر أغلبها إلى التنسيق والتوازن[3]، كما أنه عبارة عن مجموعة من الخواطر في بيداغوجيا التدريس، كان كانط قد ألقاها على طلبته في الجامعة، وقد حدث ذلك على فترات متباعدة دامت تقريبًا عشر سنوات، ثم قام بجمعها تلميذه «رينك» Rink، بعد أن أوصاه بذلك قائلاً له «إجمع من هذه المحاضرات ما تراه مفيدًا للجمهور»[4].
فهل هذا يعني أن فلسفة كانط لم تتحدث عن التربية وعن علاقتها باليومي المعاش إلا نادرًا؟ وبذلك غابت عن الواقع الذي كان يتصوره في كتابه «مشروع لسلام دائم»؟ أم أن هناك مشروع تربوي أراده كانط أن يكون تتويجًا لجهده الفلسفي في معالجة قضايا اليومي؟ ولاختبار هاتين الفرضيتين، لا مناص لنا من التصفح الدقيق لمؤلفات كانط، وذلك لأنه يعمد في كثير من الأحيان إلى التلميح دون التصريح، تفاديًا للمضايقات التي كانت تميز اليومي الذي كان يعيشه في ألمانيا، ونقصد به الحكم الملكي السائد في بروسيا الشرقية آنذاك[5].
رغم رهافة الوصية، التي وجهها كانط لتلميذه رينك، إلَّا أنه لا يمكن تجريدها من شحنتها العاطفية، التي تستحق الاحترام، ومع هذا فهي لم تجنب صاحبها الانتقاد، واعتبرت بأنها تحمل في طياتها عدم اكتراث، وتكشف بأن صاحبها غير مهتم بالموضوع، لذا أسند المهمة إلى غيره، ليجمع تلك المحاضرات ويسهر على تنقيتها بنفسه، ويرى ما هو الأكثر فائدة من وجهة نظره، مع أن هذا كان أمرًا غير مقبول من صاحب الواجب المطلق، الذي كان يضع صورة كبيرة لفيلسوف التربية جون جاك روسو فوق جدارية لمكتبه، ويتأملها إعجابًا بشخصه وما أنتج.
ولكن هناك من رفض هذا الطرح، باعتبار أن كانط تناول مشكلة التربية في كثير من المؤلفات والتصنيفات، بدءًا ببرامج دروس لفترة الشتاء السداسية 1765-1766، الذي يعتبر نموذج نسقه العام في المعرفة مطبقاً في مجال التربية، حيث أكب كانط من خلاله على مشكلة التعليم، وطرح بقدر من الوضوح مسألة التضارب بين محتوى البرامج من جهة، والإمكانات الذهنية لدى التلميذ من جهة أخرى[6]، عدا الكثير من الآراء، التي وردت هنا وهناك مبثوثة على صفحات مؤلفاته المختلفة، كما هو الشأن في كتاب «المنطق» و«نقد العقل الخالص» و«ميتافيزيقا الأخلاق»... وهذا هو الموقف الأقرب إلى الصواب.
وسنحاول هنا أن نثبت ما زعمنا أنه صواب، متتبعين آثار حديثه عن تربية الإنسان، الذي يبقى خارج طبيعته، حتى يربى «بما أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يجب أن يربى... حتى يكون الإنسان رضيعًا وتلميذًا وطالبًا»[7].
وسيكون تركيزنا منصب على طبيعة التعليم الذي كان يدعوا إليه كانط في المرحلة الثالثة، أي حتى يكون الإنسان طالبًا، فهل حقيقة أن هناك برنامج تربوي خاص يمكن من خلاله صنع الإنسان -الطالب- المنشود؟ وهل للفلسفة دور في رسم خطوطه؟
أكيد أن كانط، لو كان حيًا كان سيبتهج لمثل هذا السؤال المطروح على هذا النحو، وخاصة في شطره الثاني، لأنه سيرى فيه مناسبة لإقامة التّميزات الضرورية لإبراز الكلمة التي كان يريد قولها في حياته، ونقطة بداية للمشروع المثالي الذي أراده أن يكون، ولكن هذا كان بعيد المنال حسبه في الظروف السياسية التي كان يعيشها، واليومي السائد آنذاك.
وقد أقر ذلك كانط في حسرةِ قائلاً: «إنّ مشروع في التربية لهو مثلٌ أعلى سام، لا يملك أن يكون ضارًّا، ولو أننا غير قادرين على تحقيقه، وينبغي ألَّا تعتبر الفكرة المطلقة ضربًا من الخيال فنستبعدها وكأنها حلم جميل، حتى وإن كانت بعض العوائق تعترض تحقيقها»[8].
ومع هذا فإن كانط يترك الباب مواربًا لتسلل بعض الأمل في إصلاح شؤون التعليم، ومن خلالها إصلاح اليومي الذي كان يعيشه الناس في ظل ملكية، نظامها شبه عسكري.
وبما أن كانط فيلسوفًا أولاً ومربيًا ثانيًا، لم يغفل في حديثه عن التربية طريقة تكوين فلاسفة، لقد وجه كانط نقدًا لاذعًا لمؤسسات تدريس الفلسفة التي كانت تقتصر في أداء مهمتها على تلقين الطلبة كتابًا مدرسيًا مقررًا، دون أن تترك لهم الحرية في التفكير.
مع أن كانط يضع حدودًا للحرية في التربية، خاصة عند بداية تنشئة الطفل «لأن للإنسان بطبعه نزوعًا شديدًا إلى الحرية، بحيث يضحي من أجلها بكل شيء إن بدأ يتعود عليها بعض الوقت، لذا كما قيل يجب اللّجوء في وقت مبكر جدًّا إلى الانضباط، لأنه إذا لم يكن الأمر كذلك يصعب جدًّا فيما بعد تغيير الإنسان»[9].
لكن الأمر يختلف في تعلم فعل التفلسف، لأن الأمر يجب أن يقتصر على فعل «الإرشاد»، أي إن المدرس ينبغي أن يقوم من عقل الطالب مقام الحافز -كما يقول البيولوجيون- لا مقام الوصي، فهو ينقل مجال الحرية من المعلم إلى المتعلم، ويضع له حدودًا ضابطة في تعامله مع الطلبة، لأن الأمر في تعليم طريقة التفلسف لا يتعلق بتلقين أفكار، وإنّما بترويض العقل على التفكير، وبهذه الصورة لا يمكن اعتبار الأنساق الفلسفية التاريخية، إلا كظاهرة من ظواهر تاريخ استخدام العقل، وبمثابة موضوعات لترويض الموهبة الفلسفية، وإبرازها في الحياة اليومية للأشخاص البسطاء.
لكن متى يتسنى لنا تحقيق هذه الغاية؟ تأتي إجابة صاحب كتاب «المنطق» في عدة محطات لا يصرح بها في كثير من الأحيان، بل يمكن أن نستشفها إذا بذلنا جهدًا كافيًا لاستخلاصها من بين نسقه المعرفي العام، حيث يشير كانط إلى إعادة ربط الفلسفة بالعلوم الناشئة في ذلك العصر، فالذي يرغب في تعليم الطلبة طريقة التفلسف دون أن تكون له دراية بما يجدّ في مجال العلم، فطريقته فيها الكثير من مجانبة الصواب «لأن من يكره العلوم ويحب الحكمة، يسمى ميزولوجيا misologiste [10]، لأن الميزولوجيا تأتي نتيجة ضعف في معرفة العلوم»[11].
مع أن هذه الدعوة ليست جديدة، فهي تعود في الأصل إلى اليونان، الذين كانوا يعتبرون أن دراية المتفلسف أو محب الحكمة بالعلوم تعد ضرورية، لكن كانط هنا أراد أن يعطيها بعدًا إبستيمولوجيًا داخل بيداغوجيا التعليم، دون أن ينسينا هذا أنه يمثل الحلقة الرابطة بين كل من الاتجاه المثالي والاتجاه التجريبي في طبيعة المعرفة، وهذا ما لا يغفله كانط في نظرته للتعليم وعلاقته بواقع الإنسان اليومي المعاش.
إن الطرح الكانطي هنا لا يتعلق باختيار بيداغوجي لطريقة يفرضها على الفيلسوف، بما أنه المالك الوحيد للمعرفة، والذي عليه أن يكون على دراية بكل شيء، ولا هو نتاج موضة سادت عصر الأنوار فحسب، بما أن غالبية فلاسفة ذلك العصر والذين أبدعوا أنساقًا فلسفية، أبدعوها خارج أسوار الجامعة، وكانوا على اطلاع مقنع بما يجري من تطور في جميع المجالات على مستوى اليومي، الذي جعل كانط يقر بأنه ليس واقعة بسيطة، قائمة بذاتها متمكنة من مجال معطى، وإنما عملية استقراء اليومي وما يقوم به، وما يتغير فيه لا تقوم إلا بممارسة فكرية بناءة، يسميها كانط «فعل التفلسف»، ويكون ذلك باحتكاكها بالمتغير اليومي.
وقد زاد تكريس هذه النّظرة في عصرنا الحالي، فطلبة الفلسفة اليوم بحاجة لبذل جهد أكثر إضناءً، كما أن ثقافتهم ينبغي إعادة بناؤها، لأن الفلسفة لا تكتسب فقط بالمعرفة الدقيقة للنصوص الكبرى الأساسية، ثم استظهارها من جديد، لأن هذا يجعلهم يقتصرون على الاجترار، ذلك لأن الانتماء الحقيقي إلى المجال الفلسفي لا يتحدد بوجود الأنساق الفلسفية أو بظهور الفلسفة، وإنما بتلك الممارسة، بحيث يكون ذلك الانتماء تابعًا لتلك الممارسة لا سابقًا لها[12].
فما طبيعة هذا الاشتراط الذي يربط الفلسفة باليومي؟ وهل هناك لزوم لتواجدها داخله؟
قد تكون تلك الممارسة صعبة التحقق بين عقل كلي، ينحو إلى التجريد، وعقل جزئي لا يحسن التعامل إلا مع الملموس، صعوبة قد ييأس معها من بدأ طريق التفلسف دون نية جادة، ويتراجع عن إكمالها عند أول حاجز يظهر له، فالعمل على تجاوز هذه الصعوبات هي من صلب فعل التفلسف، وقد أدرك كانط هذه الصعوبة، فعمل على تذليلها ومراوغتها بحنكة إبستيمولوجية، وذلك بإحداث قطيعة بين نمطين من استخدام الفكر: نمط يدرك الكلي عيانيًّا، ونمط يدرك الكلي تجريديًّا، فالنمط الأول مترتب عن استخدام العقل استخدامًا عمليًّا، والنمط الثاني يستخدمه استخدامًا نظريًّا[13]، وبذلك يتحقق التكامل.
ﷺ باشلار.. المعرفة والتربية
هذه هي النقطة التي تنفذ من خلالها الإبستيمولوجيا الباشلارية، والتي تطرح من خلالها جدلية العلاقة بين العقل الواقعي والعقل الفلسفي، في إطار الإبستيمولوجيا البنائية، التي تحيي تلك الجدلية البيداغوجية القائمة بين العقلي والتجريبي.
فرغم أن باشلار لم يقبل من الكانطية الكثير من النقاط، إلَّا أن تأكيد كلا النسقين إلى حد الهوس على أهمية الاطلاع الكافي على ما يجد في اليومي من أجل فهم أعمق للتربية وممارستها، وكذا استخلاص نظريات فلسفية جادة في توجيهها، جعلنا نحاول أن نفيد من هذين النمطين في التفكير.
وركزنا هنا على حديث باشلار البيداغوجي وطريقته في التعليم، وذلك من أجل تحديد السبل والأهداف، التي يجب أن يحددها مربي اليوم، فما هي طبيعة العلاقة التي تربط بين التربية اليومية والنّظرية الفلسفية حسب الطرح الباشلاري؟ وكيف يمكن أن نبني في نظره فردًا ناجحًا في الحياة؟
يقول باشلار: «إن جدلية المعلم والتلميذ هذه، قد يشعر بها فاعلة في تاريخ الثقافة بأسره»[14]، إنها تشمل كل زوايا الثقافة، والمربي قبل أن يبدأ في عمله عليه -حسب «باشلار»- أن يقوم بعملية مزدوجة، جانب منها سلبي، وهو هدم المعارف القديمة لدى التلميذ، ليأتي الجانب الإيجابي وهو العمل على تشكيل نموذج جديد من التفكير، ذلك لأنّ المتعلمين لا يأتون إلى القسم بأذهان خالية، وكأنها ورقة بيضاء يخط عليها المربي كما يشاء، بل تأتي مثقلة بتلك المعارف الخاطئة التي اكتسبوها من الإدراك الحسي عن طريق الملاحظة والمشاهدة الأولية والبسيطة.
ومن هنا تبدأ أولى مراحل التربية «فلا بد لكل ثقافة علمية من البدء أولاً بجراحة فكرية وعاطفية، وتأتي بعد ذلك المهمة الأصعب وهي صنع الثقافة العلمية التي تبقى في حالة تعبئة دائمة، وذلك بالعمل على إبدال المعرفة المغلقة والجامدة بمعرفة منفتحة وناشطة، وإضفاء الجدلية على المتغيرات الاختبارية كافة، وأخيراً توفير أسباب التطور للقول»[15].
ويمكن أن نضع تلك المراحل التي تحدث عنها باشلار وفق هذه النقاط:
أولاً: البدء بتهيئة التلميذ نفسيًّا وفكريًّا للعملية التعليمية.
ثانياً: استبدال المعرفة السابقة والساذجة بمعرفة جديدة منفتحة وناشطة.
ثالثاً: إضفاء الصبغة الجدلية على كل المعارف المتعلمة.
رابعاً: توفير الجو الملائم لعملية الإبداع.
إنّ عقل التلميذ يأتي إلى القسم مثقلاً بمعلومات ومعارف لا آخر لها، فليس المطلوب من الأستاذ البدء بتلقين التلميذ نتائج تجريبية، بل يجب العمل أولاً على تقويض العقبات التي كدستها الحياة اليومية من قبل، وبذلك فهو هنا يقوم بالمرحلة السلبية، وهي هدم المعارف السابقة الساذجة لدى التلميذ، فيحدث له بذلك قطيعة معرفية عن الفكر السابق، وهذا يولد لديه حالة من الشك والحيرة والرغبة في معرفة الحقيقة، فتنشأ لدى التلميذ ملكة الجدل وعدم تقبل أي شيء دون إخضاعه للتمحيص والمعاينة.
أما التسرع والقفز من الملاحظة الأولى إلى التعميم، فهو يخرج التلميذ من نطاق الروح العلمية إلى نطاق الروح العامة، وإصدار أحكام تجانب الحقيقة.
إن التلميذ يجب أن يكون مفعماً من الناحية الروحية، يعاني من الإخفاق والإحساس بالفشل، لكنه يعود من جديد إلى إثارة الأسئلة، فإن هذه الخاصية هي في الواقع خاصية الفكر بصفة عامة عند باشلار، وأستاذ الفلسفة بصفة خاصة.
ولهذا فباشلار ينحو باللائمة على المعلمين الذين يقتلون في التلميذ غريزة الإبداع والتجديد، حين يصبونه في قوالب واحدة، جاهزة، ويرفضون رفضاً باتًّا تجديد مناهجهم، مستفيدًا من التجارب المختلفة التي خاضها في مجال التعليم، حيث يعبر عن ذلك فيقول «إنني خلال تجربة طويلة جدًّا ومتنوعة، لم أر أبداً مربيًّا يبدل منهجه التربوي، فالمربي ليـس لديه حاسة الفشل بالضبط لأنه يعتقد أنه معلم، ومن يعلم يأمر»[16].
وقد يكوّن عقل الأستاذ نفسه جانباً من العقبة الإبستمولوجية لتعلم التلميذ، وذلك بما ينطوي عليه من ركود وكسل، وميل إلى اعتبار الفكرة المفيدة والواضحة هي التي يسلكها الأستاذ، ولا يحاول تجديد أفكاره وإخضاعها دائماً إلى التغير وللصيرورة المعرفية، فأية معرفة، وأي لون من ألوان الثقافة، وأي مجموعة من المعلومات والمعارف العلمية، قد تصبح في مرحلة من المراحل عقبة أمام الروح العلمي؛ إذ تتحول إلى عادات راسخة توقف التقدم «لأنه يمكن لمعرفة متحصلة بمجهود علمي أن تنحدر هي أيضاً، والمسألة المجردة والصريحة تبلى، ويبقى الجواب العيني، عندئذٍ تتحول الفاعلية الروحانية وتتجمد، ثم تلتصق عقبة معلومية بالمعرفة غير المتسائلة، وعلى المدى الطويل، يمكن لعادات فكرية مجدية أن تصبح معيقة للبحث»[17].
ومعنى ذلك أن الروح العلمية لدى الأستاذ، لا يمكن أن تتوقف أو أن تتجمد بل لا بد لها أن تتجدد بغير انقطاع، ولا بد لشباب الروح من التجديد على الدوام، ولا بد للمعارف والأفكار أن تنقّى باستمرار، فلا تكتسب فكرة من الأفكار قيمة لقدمها أو لطول عهدنا بها، بل لا بد من إعادة تقييمها باستمرار انطلاقًا بما يجد في اليومي.
لا يعني ذلك أن اليومي لا يحترم أمسه، فنقوم بهدم اليوم ما تم بناؤه بالأمس، بل على العكس، إن مبدأ الثقافة مبدأ أساسي، بل هو الأساس الصلب للعلم الحديث، ففي سير العلم يستطيع المرء أن يحب ما يهدمه، وأن يواصل الماضي وهو ينكره، يستطيع التلميذ أن يعارض أستاذه وهو يبجله، عندئذ تستمر مزايا المدرسة مدى الحياة.
أما الثقافة المغلقة، التي تعمل على حشو الذهن بمعلومات مشروطة، تفقد بريقها كلما انحلت عقدة رباطها مع مشروطها، وهذا ما يجعل منهجية التفكير لدى التلميذ عليلة، يغيب عنها التفاعل والديناميكية، التي تعتبر أهم هدف نريده من وراء تعليم طريقة التفلسف.
إن عملية حشو ذهن التلميذ بمعارف لا حصـر لها، هـذا عينه سلب الثقافة العلمية[18]، فالأستاذ –خاصة أستاذ الفلسفة– الذي يمنع تلاميذه مـن معارضته لا يتحـلى بالـروح العلمية، لأن المعلم دائـماً في حـالة تعـلم «لأنّ الإنسان المتفرغ للثقافة العلمية هو تلميذ أبدي، أما المدرسة فهي النموذج الأعـلى للحياة الاجتماعية، ولا بد من أن يكون البقاء تلميذاً هو النذر الخفي لكل معلم، بفعل التمايز غير العادي للفكر العلمي... ولا تنفك الثقافة العلمية تضع العالم الحقيقي في وضع التلميذ»[19].
ومعنى ذلك أنّ هناك باستمرار معارف تجدّ في التدريس، يجب على الأستاذ الإحاطة بها، لأن المعرفة العلمية تتألف من مجموعة من السلوب، سلب المعرفة السابقة وتجاوزها لمعرفة جديدة، وأن نجعل جميع المتغيرات التجريبية أو حتى التجريدية في حالة جدلية، وأن نعطي لعقل الأستاذ مسوغات التطور والنماء.
وهذا لا يتحقق إلا بربط الفلسفة بالتطورات الحاصلة في مجال العلوم، كما أكد ذلك باشلار، وجسَّده هو في مشواره التعليمي في الجامعة، فلا يمكن أن يكون دارس الفلسفة ميزولوجيًّا، وهذا وإن كنا نقـوله بتحفظ نلحظه لدى «أساتذة الفلسفة» وليس على مستواهم فحسب وإنما أيضاً –وذلك هو الأهم– على مستوى تفلسف الفلاسفة المحدثين أنفسهم، ظاهرة معاصرة مزدوجة لا بد لنا من محاولة تفسيرها، حيث جـهل الفلاسفة العلم جهـلاً كاد يكـون أحياناً كليًّا، وجهل العلماء الفلسفة جهلاً كاد يكون مفزعاً[20].
إنّ ما يؤكد عليه باشلار هنا هو النظرة الديناميكية للعملية التعليمية، والتي تناسب المواقف التربوية المعاصرة، فيجب التعرف دوماً إلى مشاكل جديدة، متولدة من مواقف جديدة يتخذها التلميذ بمساعدة الأستاذ، من ثم يكتشف طرقاً جديدة للحل بالحصول على إجابات جديدة، ففي الوسط التربوي نجد المكان الحقيقي لعملية «الإنماء»[21].
ففي هذا الوسط يكتسب التلميذ مـبادئ، تقنيات، معارف، وطرائق تحليل، وحل المشكلات... تلك هي القدرات العامة التي تحاول المدرسة إكسابها للتلميذ، أي تربية تتكيف يوماً بعد يوم مع المتسارع ومع الزائل[22]، فيجب دائماً البحث عن الجديد لتكوين العقل العلمي بالمفهوم الباشلاري.
لكن ما يلح عليه باشلار خاصة في كتابه «تكــوين العقل العلمي» هو أن الجانب المعرفي يسير جنباً إلى جنب مع الجانــب النفسي أو الوجوداني بالمفهوم البيداغوجي، فلا يمكن فصل أحدهما على الآخر، والترسيمة الآتية توضح ذلك:
ترسيمة بيداغوجية توضح النمو المعرفي والوجداني لدى التلميذ عند باشلار[23]
إنّ هذه الترسية توضح أن المتعلم في الحصة التعليمية، يشعر بحالة من اللاّتوازن المعرفي، لأن نظامه المعرفي السابق عن العملية التعليمية لا يسمح له بالتأقلم إزاء هذا الوضع، إذ يصبح في حالة تساؤل، ومن خلال هذه التساؤلات يخرج من المعلوم لمجابهة المجهول، ففي بداية التعلم، تفتح بؤرة الشك عند التلميذ في قدرته على الوصول إلى مرحلة التعلم[24]، لأن معارفه السابقة لم تعد تحقق له الكفاية التعليمية، حيث يتولد لديه قلق من الصورة التي قد يشكلها الآخرون عنه.
لأن اللحظة الأولى للتعلم هـي الشك في الـقدرة على مواجهة الذات ومواجهة الواقع، فإذا كان التعـلم سابقاً عند التلميذ مقتصراً على الحسي-حركي فقط، فإنه مع أستاذ الفلسفة ينتقل إلى مرحلة أخرى، هي المرحلة المجردة، أي يتولد لدى التلميذ خوف من هذه المواضيع الجديدة التي يتكلم عنها الأستاذ، فالتلميذ لا يثق في قدراته في تعلم هذه المواضيع، الأمر الذي يؤدي به إلى حالة عدم توازن معرفي، تكون مرفوقة بحالة عدم استقرار عاطفي أو وجداني تفكك معارفه، ويبقى على هذه الحال إلى أن يجد معالم أو معارف جديدة، وبتوجيه محكم من الأستاذ يعود إليه توازنه وثقته بنفسه، لتتكون لديه مفاهيم جديدة.
إن هذه الحنكة من أستاذ الفلسفة التي يرافق بها تلميذه تعيد له استقراره الوجداني ببنية معرفية جديدة، وعليه فالمتعلم يعمل على وضع نظام جديد لمحيطيه عند بـروز أشياء لم تكـن له سابق معرفة بها، لأن التعلم ليس عملية تراكمية بل هـو إعادة هيكلة البنية الذهنية «المعرفية» مـرفوقة ببنية وجـدانية.
إن الفرضيات التي يكونها المتعلم تجاه المشكلات المطروحة تسمح له بالذهاب إلى ما وراء المكتسب والبحث عن إمكانية توازن معرفي جديد، وتكوين الفرضيات لدى التلميذ لا يتحقق إلا إذا كان جو القسم مبنيًّا على إعطاء فرضياته بعدًا مرنًا، وتقبل النقد من طرف الآخرين في شكل دعم عاطفي[25]، هذا ما يؤدي به إلى تحقيق توازن وجداني يتخلص بموجبه من عقدة الخوف من المجهول.
ﷺ خاتمة
إن ما أردنا أن نقوله في هذه المقالة: إن كلًّا من كانط وباشلار، ربطا تعلم الفلسفة بتعلم مبادئ العلوم، لأن مستقبل الفلسفة يتعلق بالمعرفة، والطلاق المزعوم بين العلوم والفلسفة يظهر كخدعة اخترعتها النزعة العلموية للقرن التاسع عشر، وتلاعبت بها النّزعة التقنوية للقرن العشرين لصالح حكم التكنوقراط[26].
والتقابل الذي كرّسه تنظيم الكليات في فرنسا، وأخذناه نحن العرب بين الفلسفة والعلوم لا يبدو قائمًا على أسباب يمكن تسويغها نظريًّا، لأن الفصل المستحيل والمؤسف بين الآداب والعلوم لا يعرض مستقبل الفلسفة للخطر وحسب، بل يزيّف أيضًا تاريخها ويجعل ماضيها بلا معنى، حين نعزلها عن التّنظيرات العلمية التي تجذّرت فيها على الدوام[27].
[1] إمانويل كانط، تأملات في التربية، ماهي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟ ترجمة: محمود بن جماعة، دار محمد علي للنشر، ط1، 2005، ص 17.
[2] يمكن أن نذكر من بينهم هنا عبد الرحمن بدوي.
[3] عبدالرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كنت، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 1980م، ص103.
[4] محمود بن جماعة، توطئة لكتاب كانط، تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟ مرجع سابق، ص3.
[5] محمود فهمي زيدان، كانط وفلسفته النقدية، دار الوفاء للنشر، مصر، د.ط، ص 21.
[6] المرجع السابق، ص 4.
[7] إمانويل كانط، تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟ مرجع سابق، ص 11.
[8] المرجع السابق، ص 15.
[9] المرجع نفسه، ص 12.
[10] الميزولوجيا misologiste: مصطلح يوناني معناه «كره العقل» أو «كره العلم».
[11] E. Kant: Logique, tradition par J.Tissot, chez ladrange libraire-éditeur, Paris, 1840, p 30.
[12] إمانويل كانط، المنطق، ص 26، نقلاً عن حمادي بن جاء بالله، العلم في الفلسفة، الدار التونسية للنشر، ص25.
[13] المرجع نفسه، ص26.
[14] غاستون باشلار، العقلانية التطبيقية، ترجمة: بسام الهاشم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، 1999، ص 63.
[15] غاستون باشلار، تكوين العقل العلمي، ترجمة: خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، ط1، 1981، ص 17.
[16] المرجع السابق، الصفحة نفسها.
[17] المرجع نفسه، ص 14.
[18] إمام عبد الفتاح إمام، تطور الجدل بعد هيجل، جدل الفكر، المجلد1، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، ط3، 2007، ص 350.
[19] غاستون باشلار، العقلانية التطبيقية، مرجع سابق، ص 62.
[20] حمادي بن جاء الله، العلم في الفلسفة، مرجع سابق، ص 43.
[21] أنا بنوار، التربية المستقبلية، ت: موريس الشربل، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط 1، سنة 1983، ص، 25.
[22] المرجع نفسه، ص 233.
[23] Michel Develay: De l’apprentissage à l’enseignement pour un épistémologie scolaire, E.S.F éditeur, 7éme édition, Paris, 2006, p130.
[24] Michel Develay: De l’apprentissage à l’enseignement, op-cit, p. 128.
[25] Ibid , p 129.
[26] دومينيك لوكور، فيم تفيد الفلسفة إذن؟ ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، المغرب، 2011، ص10.
[27] أندري لالاند، الموسوعة الفلسفية، ج2، ترجمة: خليل أحمد خليل، منشورات عويدا، لبنان، ط2، 2001، ص ص 1250-1251.