سؤال الحداثة..
مقاربة أنثروبولوجية
الدكتور مرقومة منصور*
* أستاذ محاضر بجامعة عبدالحميد بن باديس، مستغانم - الجزائر.
عن أية حداثة نتحدث بالنسبة للعالم العربي عامة والجزائر خاصة؟
للإجابة عن هذا التساؤل نقول: إن الحداثة إذا كانت مصطلح له حقله الدلالي فهي تُشير -حسب محمد عابد الجابري- إلى «حالة معينة خاصة بأوروبا، ذلك أن الحداثة في مدلولها التاريخي هي التنظيم العقلاني للإدارة والاقتصاد وللعلاقات السياسية»[1].
وحسب الجابري أيضاً، فإن هذه الحداثة جاءت نتيجة القطيعة التي أحدثتها أوروبا مع فكر النهضة، ولأنها استوعبت ماضيها وعملت بتراثها وجعلت منه جزءاً لا يتجزَّأ من الذات ولا ينفصل عنها، فحقَّقت النهضة والحداثة والتحديث[2]. ولكن ليس بشكل متلازم حيث كانت النهضة ثم التحديث كقاعدة للحداثة.
بالنسبة للعالم العربي وللجزائر كجزء منه، لم تحدث النهضة ولا التحديث اللذان يُعتبران من مقومات الحداثة، ولم تنطلق التنمية والتطور من خلال الانتظام في التراث كما فعلت أوروبا، بل انتقلت إلينا بعض من مظاهر الحداثة عن طريق الاحتكاك بالعالم الغربي.
أيضاً لم نتمسّك بتراثنا، فأصبح من الصعوبة علينا أن نصل إلى الحداثة بمفهومها الغربي، ولم نصل حتى إلى حداثة خاصة بنا نحن العرب والمسلمون على غرار ما فعله الغرب، بل لا يمكن، والحال هذه «الخصوصيات الثقافية المختلفة عن الغرب»، أن نقارن بين الشرق والغرب في ظل هذا الاختلاف التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي. وهذا في رأيي يرجع إلى عدة أسباب، في تباين الخصوصيات، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أولاً: تكريس العصبيات
المتتبِّع لأوضاع العالم العربي بصفة عامة، والجزائر بصفة خاصة، يُلاحظ التداخل بين مجموعة من العصبيات المختلفة، الاجتماعية والسياسية والدينية إلخ. «إن العصبية بما هي مفهوم مركزي عند ابن خلدون، والذي يقوم على أساس القرابة والولاء، يمتدّ نفوذه عبر البنى الاجتماعية التي ينظر إليها بما هي بنى تقليدية (القبيلة)، غير أنه يعبر عنها بالعشائرية خاصة إذا تعلَّق الأمر بطريقة في الحكم أو سلوك سياسي أو اجتماعي يعتمد على القرابة بالمعنى العرقي الدموي أو بمعنى الجوار، حتى وإن كانت ذات الشحنة العصبية مثل الانتماء إلى مدينة، أو مقاطعة، أو محافظة، ويضيق نطاق الانتماء إلى الحيّ، المحلة، الجهة، العرش (مفرد العروش)، الريف، القرية...[3].
إن التقاليد والممارسات القبلية لا تزال موجودة لغاية يومنا هذا، خاصة عندما تقتضي الضرورة اتخاذ مواقف، «بطريقة أخرى، فإن قبيلة ما، لا يُمكنها الوصول إلى الحكم، ولا يمكنها التمدن أو الاستيطان (الاستقرار في المدينة)، إلَّا إذا كانت مدعمة بالعصبية»[4].
إن السلطة بأشكالها السياسية والاجتماعية والدينية... غالباً ما تُبنى حول شبكة القرابة، ويُعبَّر عنها في كثير من الأحيان بمصطلحات النسب، والسياسة غالباً ما تتموضع خلالها علاقات النسب والقرابة، فكلما كانت هناك انتخابات، أو خلافات أو مواقف يجب أن تتخذ، توظف قوة القبيلة المتمثلة في العصبية.
إن قرابة الدم الضيقة لا تزال حية ومسيطرة، والإنسان لا يمكنه الخروج عن تعاليم المجتمع الذي ينتمي إليه في كل أشكاله، سواء أكان قبيلة أو عائلة أو غير ذلك من التنظيمات المجتمعية، فهو ليس حرًّا في تصرفاته، وكل خروج عن تقاليد هذه التنظيمات يؤدي به إلى الإقصاء والتهميش، وقد يفقد بذلك مكانته الاجتماعية أو مركزه السياسي.
هذه العصبيات في رأيينا لا تعطي فرصة للتطور الفكري والثقافي بوجه عام، وبالتالي تحول دون حدوث التقدم والنهضة والرقي في جميع المجالات.
ثانياً: تعدد أوجه الخطاب السياسي
يأخذ الخطاب السياسي الحالي في الجزائر بوجه عام، وعلى المستوى المحلي بشكل خاص، أربعة مناحٍ يمكنها أن تكون مستقلة أو متداخلة بعضها مع بعض، وهي:
المنحى الأول: وينطلق من الخطاب الرسمي الذي تسييره الأطراف الرسمية ويتفاعل معه كثير من المواطنين، كخطاب الأحزاب السياسية والجمعيات، والسلطات المحلية والوطنية. فهو يركز على الرموز الوطنية التاريخية منها والحديثة، وعلى المصطلحات السياسية الحديثة كالمواطنة، والشرعية الدستورية، وغيرها من المصطلحات.
المنحى الثاني: ينطلق من الفكر القبلي وتغذيه الروح القبلية والانتماءات العشائرية، فتصبح من خلاله التنظيمات التقليدية أهم المرجعيات في اتخاذ القرارات والمواقف المختلفة.
المنحى الثالث: خطاب محايد كما يبدو في الظاهر، إلَّا أنه يتداخل في كثير من الأحيان مع المنحيين السابقين أو حتى مع المنحى الرابع.
المنحى الرابع: يمكنه التحرُّك في الخفاء ويتقاطع مع المناحي الثلاثة السابقة، وهذا المنحى يعتمد على المصلحة والمحسوبية وتغذيه الزبونية ويعتمد شعار: «بن عمي الذي لديه مصلحتي»[5]. وهذا في رأينا من مثبطات التقدم نحو الحداثة لأنه يعكس حقيقة الصراع السياسي والفكري.
يقول ملحم شاوول عندما تحدث عن سلوك الناخب في العالم بصفة عامة، ما فحواه أن الفرد، أي المواطن «لم يعد ذلك الإنسان العاقل الحر الذي ولد في القرن الثامن عشر، بل هو مواطن نفعي/ أناني يتصرف بدوافع مصلحته الشخصية... نلاحظ هنا أنه عندما تتزعزع أشكال التضامن التقليدية (العائلة، الجماعة الدينية[6]) أو الحديثة (الأحزاب، النقابات، الجمعيات) يتصرف المقترع... كفرد لا يتأثر إلَّا بما تُمليه عليه نظرته لمصالحه... ويضيف أن الأبحاث السوسيولوجية الحالية خاصة سوسيولوجيا الاقتراع، تقف عند هذا التقاطع بين المقترع المبرمج اجتماعيًّا، والمقترع المحدد بذاتيته وأناه»[7].
تصادف هاتان الحالتان المنحيين الأول والرابع المذكورين سابقاً، والمنطبقين على الوضعية في العالم العربي بصفة عامة، والجزائر بصفة خاصة.
كما يضيف الكاتب ملحم شاوول بعداً ثالثاً للبعدين السابقين، وهو ما أسماه بـ: «البعد الوضعي، أي تأثير الأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة لحظة ممارسة الاقتراع، هذه الأوضاع أو الظروف تضيف عوامل تأثيرية جديدة على السلوك الاقتراعي منها مثلاً طبيعة الاستحقاق (اقتراع وطني، عام أو اقتراع محلي مناطقي لإدارة محلية، أو مجلس بلدي)، أو المرجعية القانونية التي يجري ضمنها الاقتراع (وفاق عام على قانون الاقتراع أو غياب هذا الوفاق)، أو المناخ السياسي الإقليمي أو العالمي... إلخ»[8].
ثالثاً: الاستجابة البطيئة لمظاهر التغيُّرات الحضارية
تتميَّز مجتمعات العالم الثالث عامة، والمجتمعات العربية خاصة، بالاستجابة البطيئة والمتناقضة لمظاهر التطور، فالعصرنة حسب رأي مصطفى بوتفنوشت ليست متناولة من طرف هذه الدول بالشكل اللائق، إنها مفروضة عليهم وليست متبناة، فهي معيشة كبنية مضافة إلى ما هو تقليدي[9].
هذا التقليدي الذي يحتفظ بكل قوته ومقوماته، ويرفض كل مظاهر التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي، أو على الأقل لا يتقبلها بسهولة، يعتبر مظاهر العصرنة معطيات وسائلية لا يمكن أن تحوله عن تقليديته بل تسهل له الحياة فحسب[10].
يؤدِّي ذلك في كثير من الأحيان إلى ظهور النزعة العصبية بجميع أشكالها، وفي جميع مستوياتها القبلية والسياسية والدينية... بل يُصبح بها الشخص المتعصب لا ينزع إلى التغيير، أي تغيير الواقع الراهن، وهذا السعي إلى الإبقاء على الواقع يُخفي خوفاً من أن يؤدِّي التغيير إلى إضعاف جماعته وخصوصيتها.
في البنيات القبلية وعلاقتها بالظاهرة العصرية السياسية خاصة (الانتخابية)، نلمس نوعاً من التحفظ والرفض. ففي بداية الاستقلال كان الخطاب يتناول إشكالية الوفاء لمبادئ الثورة التي أوصلت البلاد إلى التحرر وطرد الاستعمار، وبالتالي التمسك بكل رموزها، فيصبح النظر إلى التاريخ التحرري للجزائر من هذه الزاوية، كالنظر إلى الملحمة الأسطورية المقدسة التي يجب الوفاء لعهدها ولمبادئها، وبالتالي تتركز في ذهنيات الكثير من الناس هذه الصورة التي لا يجب أن تنزاح بأية حال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف، فتكون الاستجابة بطيئة جدًّا لكل مظاهر التغيير إن لم نقل استجابة مستحيلة، لأن الماضي مصدر فخر واعتزاز ويجب الحفاظ عليه مهما كانت الظروف[11].
ربما تُحيلنا هذه الفكرة إلى فكرة أخرى، جاء بها الباحث حداد لحسن عندما تحدث عن العهد (la parole donnée) حيث يؤكد أن هذا «العهد» في كل المفاهيم المرتبطة به[12]، لا يمكنها أن تغطي غنى «العهد». إن هذا الأخير يفترض «كلمة معطاه» (une parole donnée)، حيث إن قدسيتها تكمن في الوفاء بها من عدمه. ولكن في الفكر القبلي، أي شكل من أشكال الانخراط (l’engagement) يتضمن كلمة معطاة «الكلمة»، ووعد مقدس، أو قسم مقدم، بما يمس الحالة العقلية الخلقية والسياسية للمجتمع بأكمله وليس فقط الشخص الذي أعطى العهد. إن الوفاء بـ«الكلمة» يعادل المحافظة على شرف القبيلة[13] أو العائلة، لأن القبيلة لا يمكنها أن تحيا إلَّا في ظل إقامة علاقات وتحالفات وعهود مع قبائل أخرى[14].
حسب عدي الهواري فإن فكرة جورج بالوندي (خوف السلطة) تتفق مع فكرة فيريرو (G.Férrero) القائلة بأن الإنسان مرعوب (Peureux) أنه الأكثر رعباً من بين المخلوقات، اخترع الآلهة حتى لا يخاف من القوة فوق الطبيعية، واخترع السلطة حتى لا يخاف من نفسه هو[15].
فالحفاظ على ما هو تقليدي تاريخي يدخل في الخوف من التغيير، وما يحمله هذا التغيير من مفاجآت، فتصبح الشرعية شرعية تقليدية في جميع مناحي الحياة.
رابعاً: غياب المجتمع المدني أو دوره
يقصد بهذا المفهوم حاليًّا «مجموع الجمعيات والتنظيمات العاملة في الميدان الاجتماعي، والتي تهدف في آخر المطاف إلى تحقيق التنمية الاجتماعية»[16].
ويمكن أن نستخلص التعريف العام التالي، بحيث يعبر المجتمع المدني في مفهومه الواسع عن العديد من العلاقات التي يقيمها الإنسان مع أقرانه، وهي في غالبية الأحيان علاقات اجتماعية، فهو ينتمي إلى فئات اجتماعية متعددة، ومؤلفة في الوقت نفس، من الأعضاء أنفسهم، وكذا التضامن الوظيفي الذي يجمع هؤلاء الأعضاء بنوع من الهدف التكاملي في علاقات إيجابية أو سلبية، والتي تؤلف شبكة متمازجة ومعقدة تتطور باستمرار، حيث يصبح المجتمع المدني فيها واقعة اجتماعية تاريخية وليس مفهوماً قانونيًّا، إنه حاصل اجتماع عدد كبير من الجماعات التي تختلط دون أن تذوب.
غير أنه، وعلى المستوى المحلي، يكاد هذا التنظيم أن يكون منعدماً، اللهم إلَّا بعض الجمعيات المحلية، أو التنظيمات النقابية التابعة لمؤسسات وطنية، أو التنظيمات الخيرية ذات الطابع التقليدي، والتي تسعى من أجل تحسين المستوى المعيشي للمواطن، أو المساهمة في حل بعض المشاكل المتعلقة بالتعليم والصحة والبطالة. حيث إن هذه التنظيمات لا تلعب بشكل جلي دور الوسيط بين المجتمع والسلطة الحاكمة أو الدولة، كما هي الحال بالنسبة للمجتمعات المدنية في الدول الغربية.
خامساً: الاختراق الثقافي والاستتباع الحضاري
يطول الحديث في هذا الجانب ويتشعب تشعب الثقافة وخصوصياتها، ولكنني ارتأيت أن أسلط الضوء على جانب واحد منه وهو الإعلام المرئي، وهذا نظراً لحساسية هذا الجانب ولأهميته في حياة الشعوب والأمم.
يعتبر الإعلام المرئي من وسائل الاتصالات الحديثة والمهمة في الوقت نفسه لإيصال الأخبار، ونقل المعلومات، وتبادل الثقافات (يدخل تحت طائلة ذلك ما يسمى بالتثاقف)، والمحافظة على القيم والعادات والتقاليد لمجتمع معين أو لمجموعة اجتماعية. فمجتمعات العالم العربي كغيرها من المجتمعات الأخرى قد أخذت نصيبها في هذا المجال، فأصبحنا نرى القنوات الفضائية المتعددة في جميع أنحاء العالم العربي من أقصاه إلى أدناه، وأصبحت هذه المجتمعات تسعى إلى تفعيل دور هذه الوسائل في تثقيف الأفراد والجماعات، وإيصال الأخبار، وتنوير الرأي العام في ظل النظام العالمي (العولمة) وتبعاً للثقافة العالمية التي أصبح العالم فيها عبارة عن قرية صغيرة كما يقال.
غير أن المتتبع لوسائل الإعلام العربية، المرئية منها خاصة (وما أكثرها)، يلاحظ ما تتعرض له هذه الوسائل من هيمنة أجنبية وغزو واختراق، سواء عن قصد أو عن غير قصد، بعلم العرب القائمين عليها أو دون علمهم، وربما بمشاركاتهم في كثير من الأحيان في ترسيخ وترويج هذه الهيمنة، بالعمل على طمس الهوية والثقافة العربية والإسلامية، وذلك بحجة العولمة والتحرر الثقافي، وحرية التصرف والتعبير وما إلى ذلك من المصطلحات المنمقة والمغلفة بخصوصيات الغرب الثقافية التي سعت في وقت سابق ولا تزال تسعى لمزيد من الهيمنة وبسط النفوذ الثقافي الغربي، وسيادة العادات والتقاليد والقيم الغربية على حساب نظيراتها العربية الإسلامية. فلم يعد هناك مجال على هذا الأساس، للحديث عن ثقافات وطنية أو عن خصوصيات ثقافية إلا نادرا.
إننا نلاحظ التغييب التام، والتهميش شبه المطلق لدول العالم الثالث عامة، والعربية الإسلامية خاصة، كخصوصية ثقافية مرتبطة بقضايا السيادة والهوية والحق في التميز والاختلاف، وأصبحت تُعتبر مجتمعات استهلاكية ليس إلَّا. فتعرضت للتعتيم المقصود، والانتقاص من شأنها، وأصبحت ثقافات دول العالم العربي الإسلامي، ومعها ثقافات بعض الدول الأخرى تنعت بـ«الثقافات المتدنية».
إن اعتبارات القوة، متمثلة في شركات الإعلام والاتصال متعددة الجنسيات، «هي التي بدأت إذاً، وبعمق، في تحديد الإنتاج الثقافي، سواء تعلق الأمر بإبداع وإذاعة الأفلام والبرامج التلفزيونية، أو التقاط وتوزيع الأخبار، وإلى حد ما الإبداع الأدبي ونشره». بدأت بقوة في كسب مزيد من المساحات الثقافية والاقتصادية على المستوى العالمي بشكل عام والعربي بشكل خاص، فكان ذلك على حساب الخصوصية الثقافية العربية الإسلامية.
يقول جاك ديلكور في هذا الصدد: «إن الهيمنة الثقافية وفرضها على دول الجنوب إنما هي أحد شروط غزو الأسواق وتوزيعها». ويقول محمد عابد الجابري حول المسألة الثقافية في الوطن العربي «إننا معرضون لغزو ثقافي مضاعف، الغزو الكاسح الذي يحدث على مستوى عالمي، الغزو الذي تمارسه علينا الدول الاستعمارية التقليدية، أما الوسائل فهي نفسها، الإعلام بالمعنى الواسع والمتشعب، الإعلام الذي يغزو العقل والخيال والعاطفة والسلوك، ناشراً قيماً وأذواقاً وعادات جديدة تهدد الثقافات الوطنية القومية في أهم مقوماتها ومكامن خصوصياتها»[17].
ويردف قائلاً: «إن تعميم الاستهلاك أو بالأحرى فرض نمط معين من الاستهلاك على الشعوب، النمط الذي تسود فيه السلع الكمالية والوسائل الترفيهية... ذلك هو الهدف من الاختراق الثقافي والاستتباع الحضاري»[18].
خلاصة
إن تعريف الحداثة لا يقتصر تاريخيًّا على الحالة التي وصلت إليها أوروبا من نهضة وتقدم ورقي في مختلف المجالات، حيث إن مظاهر الحداثة عرفتها البشرية جمعاء والمجتمعات السابقة والحالية، أو التاريخية والحديثة على حد سواء، حيث مثلت هذه الحداثة حالة من التقدم الفكري والاقتصادي والاجتماعي.
فعندما اكتشف الإنسان الآلات واخترع وسائل الإنتاج، دخل مرحلة الحداثة التي هي عبارة عن تطور وتقدم ورقي. الأمثلة لا تقتصر على ذلك، بل يمكن أن نجدها في مختلف مناحي الحياة، وعبر العصور والأزمنة التي مر بها الإنسان.
وعلى الرغم من ذلك، فإن أوروبا كانت أكبر مستفيد من وسائل التقدم والرفاهية وبالتالي الوصول إلى أعلى المراتب اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا.. واستطاعت أن تصل إلى الحداثة، لأنها استفادت من النهضة والتحديث اللذين صنعتهما بوسائلها المتقدمة. فعلت ذلك، لأنها أخذت بالأسباب، بينما تخلَّف العرب والمسلمون عن اللحاق بالركب، ولم يستطيعوا أن يظفروا إلَّا ببعض من غبار الحداثة الذي وصل إليهم عن طريق الاحتكاك بالغرب، والتواصل معه. بل غفلوا عن الأخذ بأسباب التقدم والتطوُّر للوصول إلى الحداثة، ليس بالضرورة حداثة الغرب، بل إلى الحداثة بما هي مفهوم له دلالاته التاريخية التي تعني الانتظام في التراث والأخذ بالخصوصيات الثقافية، والتخلص من بذور القابلية للتخلف والاستعمار.
[1] محمد عابد الجابري، المسألة الثقافية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط2، 1999، ص 292.
[2] انظر: محمد عابد الجابري، المرجع السابق، ص 292-293.
[3] المنجي حامد، توظيف مفهوم العصبية في دراسة المجتمع العربي المعاصر، نماذج تطبيقية ذات صلة بالتنمية، برفكت برنت، صفاقس، تونس، 2004. ص5.
[4] MEGHERBI Abdelghani, La pensée sociologique d’Ibn Khaldoun, SNED, Alger, 1971, p.157.
[5] أكد على ذلك العديد ممن أجرينا معهم أحاديث ومقابلات.
[6] أيضاً القبيلة أو العرش بالنسبة للبلدان العربية أو البلدان ذات الفكر القبلي، العشائري العصبي.
[7] ملحم شاوول، مقاربة اجتماعية سياسية لمواقف وسلوك اللبنانيين في الانتخابات النيابية، في كتاب: الواقع والممكن في الممارسة الديمقراطية اللبنانية، إعداد وتحرير عاطف عطية، مؤسسة فريدريش إيبرت ومعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية والاتحاد الأوروبي، بيروت، ط1، 2003، ص 40-41.
[8] انظر ملحم شاوول، المرجع نفسه، ص 41.
[9] في كثير من المجتمعات البدوية العربية: اليمن موريتانيا، الأردن، ليبيا، وبدرجات متفاوتة الدول العربية الأخرى، يمكن ملاحظة احتفاظ هذه المجتمعات بخصوصياتها التقليدية رغم استعمالها لوسائل العيش الحديثة أو العصرية من وسائل للمواصلات، ووسائل تكنولوجية أخرى.
[10] لمزيد من المعلومات انظر: Boutefnouchet Mostefa, La société algérienne en transition, OPU, Alger, 2004.
[11] لمزيد من المعلومات انظر:
Haddad Lahcen Le résiduel et l’émergent, le devenir des structures sociales traditionnelles (le cas de la tribu hors et dans la ville), publications de la faculté des lettres et de sciences humaines, série : Essais et études. Rabat. 2001 .p. 69.
[12] يذكر الكاتب منها: Engagement, alliance sacrée, convention, engagement formel…
[13] نسمع في كثير من الأحيان أفراد من قبائل مختلفة حين يتحدثون عن أشخاص ينتمون إلى قبيلتهم أساؤوا التصرف أو ارتكبوا أخطاء في حق أناس آخرين، يقولون عنهم «بهدلونا» ، «بهدلو العرش أو العائلة»، «حشمونا»، أي أنهم أصابوا العرش أو القبيلة بالعار. لمزيد من المعلومات حول العار انظر:
R. Jamous, Honneur et baraka, édit. Maison des sciences de l’homme, Cambredj université. 2002. p. 213.
[14] انظر: Haddad Lahcen op. cit. p. 78.
[15] Addi Lahouari Etat et pouvoir dans les sociétés du Tiers Monde, le cas de l’Algérie. Approche méthodologique et sociologique du pouvoir politique et de l’état TH doc SD de Lucette Valensi EHESS Paris 1987. pp. 34-35.
[16] الزهرة الصروخ ، المجتمع المدني في المغرب، المفهوم و التجليات، في كتاب: الإصلاحات الدستورية والسياسية في المغرب العربي، تنسيق أحمد مالكي، سلسلة ندوات ومناظرات رقم15، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، مراكش 2002، ص 96.
[17] محمد عابد الجابري، المسألة الثقافية في الوطن العربي، مرجع سابق.
[18] المرجع نفسه.