شعار الموقع

العراق في فكر السيد محمد صادق الصدر

محمد محفوظ 2019-06-02
عدد القراءات « 560 »

العراق في فكر السيد محمد صادق الصدر

 

محمد محفوظ

مفتتح

الوقائع والظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية، ليست وليدة الصدفة، وإنما هي نتاج عوامل وأسباب متداخلة ومركبة مع بعضها أنتجت جميع الظواهر التي نشهدها. ويُخطئ من يتصور أن هذه الظواهر، فاقدة الصلة بجذورها الفكرية والمجتمعية، وإنما هي وليد طبيعي لتلك الجذور سواء كانت فكرية أو مجتمعية أو هما معاً. ومن يبحث عن تفسير علمي – موضوعي ودقيق لمجموع الظواهر المجتمعية، هو بحاجة أن يتعرف إلى الجذور الفكرية التي تحرك مجموع الفاعلين في النشاط العام؛ لأن حركتهم السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، هي وليدة خياراتهم الاستراتيجية، وهذه الخيارات نتاج طبيعة الفكر الذي يحملونه ويدعون إليه. لهذا فإن فهم الظواهر العامة مرتبط بطريقة مباشرة، بطبيعة الفكر الذي يقف وراء هذه الظواهر. ونحن نعتقد أن المشهد العربي سواء في الحقل السياسي أو الحقل الثقافي أو الحقل الاجتماعي هو على المستوى الفكري، نتاج ثلاث أفكار رئيسية تتحكم في المسار العربي وتدير مختلف ظواهره العامة، وهذه الأفكار هي على النحو التالي:

1- الأفكار الميتة

ثمة أفكار تعمل على تأبيد السائد، وتتعامل معه، بوصفه حالة طبيعية، ولا ترى عيوبه، بل تبرّرها وتسوّغها، وترى أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان.

ولا شك في أن هذه الأفكار مهما كان عنوانها وسياقها الاجتماعي والمعرفي، هي أفكار ميتة، لا تدفع إلى صياغة الحاضر واستشراف المستقبل، ولا تلتفت أو تحترم إرادة الإنسان وقدرته على اجتراح المعجزات. فكل فكرة تسوغ الواقع، ولا تحمل الإنسان مسؤولية هي فكرة ميتة، سواء انتمت هذه الفكرة إلى أيديولوجيا دينية أو انتمت إلى أيديولوجيات وضعية.

فالفكرة الميتة تنظر إلى الدين من خلال مسالك الرجال وأحوالهم، بحيث يكون هؤلاء هم المقياس والمعيار، ولا ريب في أن الفكرة التي تجعل معيارها الرجال الذي يخضعون بطبيعتهم إلى ظروف زمانهم ومكانهم، فإنها ستتحول إلى فكرة مهمتها الأساسية تسويغ ما يقوم به هؤلاء الرجال، مع غياب أو تغييب معايير عليا متجاوزة لظروف الزمان والمكان.

والفكرة الميتة هي التي تشجع على الأوهام والخرافات، وتلغي نواميس الخالق من الوجود الاجتماعي، وهي (أي الفكرة الميتة) التي تبرر للإنسان سواء كان فرداً أو مجتمعاً تقاعسه وهروبه من مسؤوليات الرسالة والوطن والواقع، وهي أيضاً التي لا تستخدم عقلها (أي عقل صاحبها وحاملها) في شؤونها المختلفة. بينما القرآن الكريم يربط كل الخصال الحميدة بأولي الألباب، إذ قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[1]، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[2].

وحين التأمل في السمات المذكورة أعلاه للأفكار الميتة، نرى أنها مسؤولة بشكل مباشر عن الكثير من الأمراض المزمنة التي يعاني منها الواقع العربي..

2- الأفكار القاتلة

وفي مقابل الأفكار التي تسوّغ السائد وتغطّي فعل العطالة والاستقالة من المسؤولية، ثمة أفكار أخرى يمكن أن نطلق عليها أنها أفكار قاتلة، لأنها تحوّل الإنسان إلى طاقة عنفية – تدميرية – عدمية في آن، وترى أن الوصول إلى أهدافها وغاياتها في الحياة، لا يمكن أن يتم إلَّا باستخدام العنف وكنس كل العقبات والعراقيل بالقوة المادية العارية.

فهي أفكار تمارس الاغتيال المعنوي للناس، كما تمارس القتل المادي، بمعنى أن المختلفين معها، تخرجهم وفق رؤيتهم الأيديولوجية الضيقة من ربقة الدين للتحرر من مقتضيات عصمة الدم والعرض والمال، وبعد ذلك تسقطهم اجتماعيًّا وتغتالهم معنويًّا واجتماعيًّا، ولا تكتفي بذلك بل تمارس عمليات القتل المادي بحقهم. ولو تأملنا في الواقع العربي اليوم لوجدنا الكثير من الجماعات والوجودات التي تحمل أفكاراً قاتلة، لأنها تمارس العنف والقتل والتفجير بسبب الاختلافات الدينية والسياسية، وتبرر لذاتها قتل الأبرياء تحت مبررات واهية، فباسم الإسلام يتم قتل الأبرياء من المسلمين، وباسم الجهاد في سبيل الله، يتغنون في الذبح والتفجير وتخريب البنى التحتية للبلاد الإسلامية، وباسم الذود عن المقدسات والثوابت يتجاوزون كل الحدود الدينية والأخلاقية تجاه المختلف والمغاير. إنها أفكار قاتلة، وهي الوجه الآخر للأفكار الميتة. فالأولى تقتل باسم الإسلام، والثانية ترمي الإنسان في زوايا الدروشة باسم الإسلام. واحدة تدعوه إلى الاقتحام بكل ما يملك من قوة وتحوّله إلى قوة انتحارية، والثانية تسوّغ له هروبه وانكفاءه وتكالب المشكلات عليه. فالأفكار القاتلة هي مع قيم الدين بوصفها منظومة لممارسة العنف وتبريره في آن، وهي التي تستسهل سفك دماء الناس، وهي التي لا ترحب بحق الاختلاف وتعمل بوسائل قسرية لإنهاء حقيقة التنوع في الوجود الإنساني.

وهي التي تتعامل مع قناعاتها بوصفها الحق والحقيقة، وقناعات غيرها هي الباطل والضلال، هي التي تستند في المجال الفقهي عل ثنائية الحق والباطل بدل ثنائية الخطأ والصواب، وهي التي تفتقد فقه الواقع وفقه الأولويات، لذلك تحاول بالعنف العاري أن ترغم الجميع على مسلكها ونهجها.

ولا شك في أن الواقع العربي اليوم يعاني الويلات والمخاطر الكبرى من جراء شيوع الأفكار القاتلة في أرجاء العالم العربي.

3- الأفكار الحية

وهي في تقديرنا القادرة على تحرير الإنسان المسلم من ربقة الأفكار الميتة والأفكار القاتلة، وهي التي تُسائل الواقع، وتعمل على خلق الإرادة الإنسانية لممارسة الإصلاح والتغيير دون التوسل بوسائل القتل والعنف، وهي التي تتعامل مع الإنسان بوصفه هو المسؤول عن واقعه، ومهمته الأساسية ليس تبرير الواقع، وإنما العمل على إصلاحه وتطويره. فالأفكار الحية هي التي حوّلت أهل الإسلام الأوائل من حفاة، رعاة، إلى بناة حضارة، وهي التي صاغت العلاقة بين المؤمنين دون رواسب جاهلية ترفضها قيم الدين الحنيف، وهي التي دفعت المؤمنين للتعاون على البر والتقوى، وحرّرت المدينة المنورة آنذاك من سيطرة اليهود وذلك عبر المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين وبناء المسجد وإنهاء المشاكل والتباينات التي يغذيها اليهود بين الأوس والخزرج.

فالأفكار الحية مهمتها خلق الحقائق الاجتماعية الجديدة المنسجمة ومشروع النهضة للوطن والأمة، ورفض الانخراط في مشاكل جانبية أو معارك عبثية تدمر المكاسب وتفتت النسيج الاجتماعي للعرب والمسلمين.

فالأفكار الحية هي التي تجعل باطن الإنسان خير من ظاهره، لأنها تخلّص الإنسان المسلم من حالة النفاق وكل أمراض القلب والنفس، وهي التي تكافح من أجل النجاح في ميادين الحياة، فالدين ليس شعاراً وشعائر فحسب، بل علم وعمل وإبداع.

لذلك فإن الفكرة الحية هي التي تدفعنا إلى بناء دنيانا على قاعدة الإيمان والعلم والتقدم، وما أحوج الواقع العربي اليوم إلى تلك الأفكار الحية، التي تحرره من أفكار القتل وأفكار التبرير والاستقالة من الحياة.

ولا خروج للعالم العربي من أزمته الحالية إلَّا بإنهاء مفاعيل الأفكار القاتلة والأفكار الميتة من الجسم العربي، ولا سبيل إلى ذلك إلَّا بتبني مشروع الأفكار الحية، التي تدير حقائق التنوُّع الاجتماعي على قاعدة التعاون على البر والتقوى، وتشحذ جميع الهمم والطاقات صوب المشاكل الرئيسية في الأمة.

بعيداً عن مهاوي الانزلاق صوب المعارك العبثية، التي تؤبِّد أزمات الواقع العربي، وتُضعف قدرات العرب الموجهة صوب الانعتاق من أزماتهم المستفحلة، فهذه الأفكار عبارة عن مشروعات ثلاثة تتنافس وتتصارع على إدارة العالم العربي، مشروع تقليدي لا ينتمي إلى قيم الإسلام الأصيلة، ويبرر واقع الوهن والتخلف، ومشروع عنفي – إرهابي، يمارس القتل والتفجير وأُفقه الوحيد أفق القتل والتدمير، ومشروع يستهدف بناء حياة العرب على أساس قيمهم الأصيلة دون مخاصمة مكاسب العصر والحضارة الحديثة. ولا ريب في أن اتساع دائرة المؤمنين بالأفكار الحية، هو سبيل العرب المعاصر للخروج من أتون موجات العنف والقتل التي تطال الجميع، إلى رحاب البناء والتنمية والعمران. وانطلاقاً من أهمية تظهير التجارب التي تجسَّد الأفكار الحية في الأمة، سنقترب في هذه الدراسة من تجربة دينية وسياسية واجتماعية مختلفة في ظروفها وآليات عملها، ألا وهي تجربة الشهيد السيد محمد صادق الصدر رحمه الله تعالى (1943 - 1999م) الذي استطاع -في فترة زمنية وجيزة، وفي ظل نظام الطاغوت في العراق- تطوير وتعزيز الحالة الدينية في المجتمع العراقي وربطها بآفاق الإصلاح والتغيير، بحيث تحوَّل السيد الصدر وتياره ومدرسته إلى قوة فاعلة في المشهد العراقي.

ويتضح من ما ذُكر أعلاه، أن تجربة السيد محمد صادق الصدر، واجهت في العراق في آن واحد مشكلتين أساسيتين، وهما:

1- القوى الاجتماعية والثقافية والدينية التي تنتمي إلى الأفكار الميتة، وتريد تأبيد الجمود والتخلف، وإدامة المشكلات الكبرى التي تواجه الشعب العراقي. فهي قوى لا تكتفي بتثبيط العاملين وتشويه سمعتهم ومسارهم، وإنما تعمل على عرقله جهودهم، ومنع انتشارهم وتوسعهم الاجتماعي.

2- قوى الاستبداد السياسي التي كانت تتمثل وتتجسد آنذاك في النظام السياسي الصدامي وامتداداته الأمنية والثقافية والاجتماعية، وهي نموذج للأفكار القاتلة، التي لا تحتمل الاختلاف. فإما أن تكون معها، وخاضعاً لأجندتها وخططها، أو تتحول إلى موضوع لنبذها وممارسة أقسى أشكال الحيف والظلم من قبلها.

فالنظام السياسي الصدامي الذي يستند في إدارته وحكمه للعراق، إلى بنية أمنية، قمعية لا تعرف إلَّا لغة الاعتقال والاغتيال لذلك عانى السيد الصدر في ظل هذه القوى معاناة شديدة على أكثر من مستوى.

ولعل تميّز وعبقرية الشهيد الصدر تتجلى في قدرته على بناء قوة دينية ومجتمعية في ظل جمود ديني واجتماعي يحارب كل من يتحرك من أجل رفع الظلم والحيف عن مجتمعه، وفي ظل سلطة أمنية قمعية مارست كل أشكال الاستئثار والقمع لإدامة سلطتها.

في ظل هذه الأوضاع ومتوالياتها الأمنية والسياسية والدينية والاجتماعية، اجترح السيد الشهيد لنفسه طريقة جديدة تمكنه من الاستمرار في عمله الديني والاجتماعي، دون القضاء عليه من قبل هاتين القوتين، اللتين يجمعهما تحالف موضوعي غير مباشر، يفضي إلى استمرار الهيمنة الأمنية والسياسية، ومن جهة أخرى استمرار حالة الخضوع الديني والاجتماعي.

ملامح التجربة

ولعل من أبرز ملامح حركة السيد الشهيد الصدر هي النقاط التالية:

1- التواصل والتفاعل المباشر مع المجتمع بكل شرائحه وفئاته، وعدم التعالي على قضاياه وهمومه. وذلك ضمن رؤية عميقة تبنَّاها السيد الشهيد مفادها: أن عالم الدين وبالذات في المجتمعات الإسلامية - الشيعية هو ضمير الناس والناطق بقضاياهم وهمومهم وآمالهم. ولا يمكن أن يتحقق مفهوم (ضمير الناس) دون التواصل مع الناس والإنصات إليهم والتفاعل معهم والدفاع عن قضاياهم. وقد نجح السيد الشهيد على هذا الصعيد، إذ توسَّعت قاعدته الاجتماعية على نحو هندسي، وأضحى السيد الشهيد رمزهم الديني والاجتماعي والناطق باسمهم والمدافع عن حقوقهم. وتحوَّل هذا التواصل والتفاعل إلى حالة مؤسسية ودائمة من خلال شبكة الوكلاء الشرعيون الذي عينهم السيد الشهيد في محافظات العراق المختلفة، وساهموا بشكل مباشر في تطوير نظام العلاقة والتواصل بين شرائح المجتمع المختلفة وزعيمهم الديني - السياسي السيد الشهيد الصدر.

لذلك وخلال فترة زمنية وجيزة نسبيًّا تحول السيد الشهيد إلى قوة دينية واجتماعية رئيسية في المشهد العراقي.

ولا بد في هذا السياق من بيان حقيقة ألا وهي: أنه ثمة مزاج أو توجّه في الحوزة العلمية خلال الحقب الماضية مفاده عدم الاعتناء المباشر بالناس وهمومهم والتعالي عن قضاياهم، والانشغال بالتحصيل العلمي بعيداً عن الالتزامات الاجتماعية والسياسية. لذلك فإننا نرى في مشروع وجهد السيد الشهيد شجاعة في تجاوز الكثير من الأعراف الضمنية التي كانت تحول دون انشغال عالم الدين بالشأن السياسي والعام بشكل مباشر. في الوقت الذي يتطلع أبناء المجتمع إلى دور مركزي يقوم به عالم الدين في شؤونهم العامة، كان المزاج العام (وهو بالمناسبة وليد عوامل ذاتية وموضوعية ) ضد ذلك، إلَّا أن السيد الشهيد تجاوز كل هذه المقولات والاعتبارات وعمل على الاهتمام بقضايا الناس والتفاعل مع كل مسائلهم. ولعل أحد أهم العوامل التي ساهمت في توسع قاعدته الاجتماعية في فترة زمنية وجيزة، هو هذا السلوك الاجتماعي الذي يملأ فراغاً هائلاً في مسيرة الشعب العراقي، وبالذات في الفترة التي انطلق فيها السيد الصدر في مشروعه الديني والسياسي.

2- العمل على بناء نخبة دينية جديدة، تأخذ على عاتقها مهمة التواصل الفعال مع تعبيرات المجتمع المختلفة، وتوسيع دائرة الوعي الديني في المجتمع. لأنه في أي تجربة إصلاحية ثمة حاجة ماسة إلى حامل بشري واجتماعي للأفكار الإصلاحية، لأنه دون الحامل البشري تبقى التطلعات مجردة وبعيدة عن التحقيق والإنجاز.

أما إذا توفر الحامل البشري، فإن هذا الحامل قادر على ترجمة أفكار المشروع وتطلعاته إلى الواقع العملي، كما أنه هو الذي يقود عملية الإصلاح الديني والاجتماعي، ويكون هو جسر الارتباط بين الزعيم الديني وعموم الناس.

ولعل ما يلفت النظر أيضاً في تجربة السيد الشهيد الصدر، هو انخراطه المبكر في إعداد وتهيئة نخبة دينية واجتماعية، تؤمن بمشروع الإصلاح وقادرة نفسيًّا وعمليًّا على تحمّل تبعاته.

ولقد تمكن السيد الصدر خلال مدة وجيزة من بناء نخبة دينية انتشرت في كل محافظات العراق، وأخذت على عاتقها مشروع التبليغ الديني وزيادة وعي الناس ومعارفهم الدينية والحياتية، وربطهم بمشروع الإصلاح والتغيير الذي يقوده السيد الصدر من أجل تحرير العراق من الاستبداد والاستئثار، عبر بناء كتلة وطنية منتشرة في كل العراق، تمتلك الوعي والمعرفة الدينية والسياسية، التي تؤهلها للوقوف ضد مشروع استمرار الاستبداد في العراق.

وقد عمل السيد الصدر في هذا السياق على أحياء دور النجف العلمي والثقافي لأنه لا يمكن بناء نخبة دينية جديدة بدون حاضن علمي، يطور من مستوى اهتمام الناس بالمسألة العلمية والثقافية.

وحتى ينجح السيد الصدر في هذا المشروع، عمل السيد على تحييد السلطة السياسية وأبعادها قدر المستطاع عن التدخل في الشأن الحوزوي، ومنع أية إثارة أو مشكلة تلفت نظر السلطة وتدفعها إلى معاودة إجهاض المشروع الديني والاجتماعي للسيد الصدر.

3- الرهان على الناس لتغيير المعادلات السياسية والاجتماعية القائمة.. ففي ظل السيطرة المطلقة للنظام البعثي في العراق على مجريات الحياة، وفي سياق هيمنة الأجهزة الأمنية وسطوتها، ومنعها بقوة الحديد والنار لأي عمل ونشاط بعيد عن إرادة السلطة ومشروعاتها الأمنية والسياسية، تمكن السيد الشهيد الصدر من تغيير بعض جوانب هذه المعادلة، وذلك عبر الاهتمام بالناس وإحاطتهم الدينية والاجتماعية، والحؤول دون انخراطهم في أنشطة وأجهزة السلطة هذا من جهة، ومن جهة أخرى لإخراجهم من حالة اليأس والإحباط التي كانت تسودهم وبالذات بعض إحباط انتفاضة 1991م ووصولها إلى مآلات لم تكن منسجمة ومجريات ويوميات هذه الانتفاضة المجيدة.

فالسيد الصدر ومن خلال رهانه على الناس، والعمل المستديم لصقل مواهب وقدرات هؤلاء وصبّها في مشروع الإصلاح والتغيير، تمكّن من إخراج شريحة اجتماعية واسعة من الشعب العراقي من تأثيرات السلطة السياسية والأمنية في العراق، كما نقلهم من مربع الفرجة والشعور العميق باليأس والإحباط، إلى رحاب الفعالية والانخراط الفعلي في مشروع التغيير والإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي.

وتُعلمنا تجربة السيد محمد صادق الصدر، أن عنصر القوة الحقيقي لدى أي جماعة، يتجسد في قاعدتها الاجتماعية ومدى التفاف الناس حولها. ولقد أجاد السيد الصدر عبر آليات عمله الاجتماعي والخدمي والميداني، من توسيع قاعدته الاجتماعية والتفاف الناس حوله.

وعبر الناس وبطاقاتهم وجهادهم وجهودهم وتضحياتهم، تمكَّن السيد الصدر من تغيير الكثير من المعادلات السياسية والاجتماعية القائمة آنذاك في العراق.

فقوة المشروعات الدينية والاجتماعية والسياسية، هو في مدى احتضان الناس إليها، والناس بطبعهم يحتضنون المشروعات التي تعبر عن قضاياهم وآمالهم.

فالقوة لا تستعار من أحد وإنما تُبنى بناءً، وهذا ما تمكَّن السيد الصدر من تحقيقه وإنجازه في ظل ظروف أمنية وسياسية صعبة.

وتجربة السيد الصدر على هذا الصعيد، تؤكد حقيقة أن من أبجديات السياسة أن حقائق المجتمع المختلفة، قادرة إذا أحسن الناس إدارتها وتوظيفها أن تتحوَّل إلى حقيقة في الميدان السياسي.

وإن قضاء حوائج الناس سواء الخدمية أو التنموية أو في مجالات الحياة الأخرى، هو أحد سبل التمكن في المجتمع.

وحينما تتغير ثقافة الناس، وتنتقل من ثقافة اللا أبالية إلى ثقافة المسؤولية، فإن هؤلاء الناس سيتحولون إلى قوة دافعة ومؤثرة في مشروع الإصلاح والتغيير.

ولقد كانت لدروس السيد الصدر وخطب الجمعة الذي خاطب فيها الجمهور بلغة بسيطة، مباشرة، الدور الأساسي في تغيير ثقافة الناس، وتحويلها من ثقافة الخوف والإحباط إلى ثقافة تحمل المسؤولية وضرورة مواجهة كل أشكال الظلم والحيف الذي نتعرض إليه.

وأي جماعة أو تيار أو حزب تتسع قاعدته الاجتماعية، ويتمكن من محيطه الاجتماعي, فإن مساحة فعله وتأثيره ستتسع تبعاً لقوته الاجتماعية وبمدى قبول الناس لرؤيته ومواقفه المختلفة.

وإذا «كان هنالك جوانب عديدة لبراعة الصدر الثاني، فإن براعته المركزة تكمن في هذا الجانب، وتنبع من تشخيص خلل علاقة المؤسسة الدينية مع الأمة و آثارها التاريخية القاتلة، وإن التفكير بالسياسة والعمل بها سوف لا يكون مجدياً بما فيه الكفاية إذا لم يستدرك هذا الخطأ التاريخي. فالعمل الاجتماعي يشكل البنى التحتية للعمل السياسي، وعندما تنهار هذه البنى ينهار المشروع السياسي. وعندما يراد لهذا المشروع السياسي أن يتحول إلى مشروع جذري لا مشروع شكلي لا بد من إعادة هذه البنى، وهذا ما قام به الصدر الثاني»[3]، وعليه فإن الجماعات الدينية أو السياسية التي تتعالى على مجتمعها أو لا تؤمن بقدراته الفعلية فإن مآلها الخير هو التشتت والانكفاء والاضمحلال. ويعبر السيد محمد صادق الصدر عن ضرورة تطوير علاقة الفقيه بالناس والمجتمع بقوله: «إن أجيال المرجعية كانت تتناساهم وتتغافل عن أمورهم (أي العشائر)، ويكفينا في ذلك أن المشهور هو الحكم القائل: لا يجب على الفقيه أن يذهب إلى المكلف ويبلغه حكمه بل يجب على المكلف نفسه أن يأتي إلى الفقيه ويسأله. نعم، تصح هذه المقولة إذا توجَّه السؤال للفقيه وجب عليه حينئذٍ الجواب، أما أنه يجب على الفقيه طرق باب المكلف بدون سؤال وأن يعطيه حكماً فهذا لا، وهذا مشهور، إذن فقد كان هنالك نحو من المقاطعة والانفصال النفسي والاجتماعي بين الحوزة والمرجعية من ناحية، وبين العشائر من ناحية أخرى»[4].

لذلك نتمكن من القول: إن تجربة الصدر الثاني من العلامات الفارقة على المستويين الديني والسياسي، فهي التي عمَّقت الحالة الدينية لدى الشعب العراقي في تلك الحقبة، وهي التي أعادت وصل الشعب العراقي بعالم التغيير والوعي السياسي، فهذه التجربة هي التي أعادت للشعب العراقي إرادته، وهي التي أوقدت شعلة الحرية مجددا في العراق.

العراق في فكر السيد الصدر

انطلاقاً من ملامح التجربة المذكورة أعلاه، يمكن تلمُّس واكتشاف رؤية السيد الصدر حول العراق راهناً ومستقبلاً. ولعل جذر الرؤية التي امتلكها السيد الصدر حول العراق، نابعة من حاجة هذا البلد العريق إلى الإصلاح والتغيير. وإن هذا الإصلاح والتغيير، هو الذي سيُعيد للعراق وحدته الصلبة، وتخلُّصه من براثن الاستبداد الشمولي الذي دمَّر عناصر القوة الحقيقية في الواقع العراقي.

فالمطلوب عراقيًّا في رؤية السيد، ليس الانزواء والانكفاء والاشتغال بعيداً عن القضية المركزية، وإنما بناء مشروع ديني - ثقافي - اجتماعي، يأخذ على عاتقه تفكيك حوامل الاستبداد والاستقالة من المسؤولية والعطالة المجتمعية. ولإنجاز هذه المسائل توسَّل السيد الصدر بالوسائل الأساسية التالية:

1- بناء وتطوير علاقة المرجعية الدينية بكل مؤسساتها وهياكلها بالمجتمع، وإنهاء حالة الجفاء أو التعالي التي ساهمت في تضييع الكثير من الفرص السياسية والمجتمعية.

وانطلق السيد الصدر في عملية البناء والتطوير من حقيقة مركزية في تجربة الشعب العراقي في العصر الحديث، وهي أنه حينما تتحرك المرجعية الدينية وتتحمل مسؤوليتها العامة بشكل مباشر، فإن قوى الشعب العراقي المختلفة ستتحرك وتلاقي المرجعية في منتصف الطريق لحمايتها من المخاطر الداخلية والخارجية ودعم وإسناد مشروعها العام.

لذلك فإن لحظات العنفوان في تجربة الشعب العراقي، هي تلك اللحظات التي تلاحم فيها المشروع المرجعي مع مشروعات القوى السياسية والاجتماعية للشعب العراقي.

وإن حجر الأساس في مشروع الإصلاح والتغيير هو المرجعية الدينية وتفاعلها المؤسسي مع قضايا الشعب العراقي؛ لذلك فإن من أولويات الأعمال والأنشطة التي قام بها السيد الصدر الثاني هو العمل المباشر على تطوير نظام العلاقة بين المرجعية الدينية وقوى الشعب المختلفة.

2- العمل عبر وسائط دينية وثقافية عديدة لزيادة وتيرة الوعي الديني والحقوقي والسياسي في المجتمع. وذلك ضمن قناعة أساسية، وهي أنه كلما أزداد وعي الناس توفرت فرص فعلية في مشاركة شرائح اجتماعية عديدة في الشأن العام. وإن قوى الاستبداد السياسي تراهن دائماً لبقاء واستمرار هيمنتها على جهل الناس وهروبهم من تحمل المسؤولية.

لذلك فإن جوهر النشاط الديني والثقافي الذي قام به الصدر الثاني يستهدف تأسيس وتعزيز قيمة الوعي في الفضاء الاجتماعي، وذلك بوصفه هو جسر عبور قوى المجتمع للتعبير عن ذاتها في الشأن العام.

ولقد «شكلت صلاة الجمعة المحور التعبوي الأبرز في حركة الصدر الثاني إزاء المجتمع، ونجاحها حرّض السلطة لوضع حد لها من خلال اغتياله. ورغم أنها مثلت آلية تعبوية بشكل دوري، فإنه -أي الصدر الثاني- لم يكتفِ بها في سياسة التحشيد الاجتماعي التي عمل بها، بل إنه حاول من خلال هذه السياسة أن يجعل من المناسبة الدينية محوراً من محاور اهتمامه لما تحققه هذه المناسبة الدينية من حضور جمعي. ولذلك فهو تعامل مع مسيرة الأربعين إلى كربلاء بشكل يعكس اهتمامه بأي إجراء يحقق حالة تعبئة عامة في وسط الأمة. ومن ثم استثمر هذه المناسبات في مشروعه التغييري الكلي، وحثّ عليها، كما أنه حاول أن يؤسس لمناسبات جديدة، بغية إيجاد أكبر عدد من آليات الاتصال بالناس، ومحاولة تدريبهم على لعب دور ما وفق ضوابط، وإرشادات القيادة الدينية وبالتالي ربطهم بها»[5].

3- بناء كتلة مجتمعية متجانسة ومتعاونة وتعمل على تعميق حالة الوعي الديني والسياسي في المجتمع.

وبفعل ما أبدعه السيد الصدر الثاني من وسائل للتواصل مع الناس، وتوظيف المناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة لزيادة وتيرة التعبئة والتحشيد الاجتماعي، تمكَّن الصدر الثاني من بناء هذه الكتلة التي تضم آلاف المقلدين والملتزمين بمشروع ورؤية الصدر الثاني في العراق.

ومع سقوط الطاغية صدام في عام 2003م، برزت هذه الكتلة الاجتماعية الواسعة التي عمل السيد الصدر في زمن الطاغية على بنائها وتأهيلها دينيًّا ومعرفيًّا.

والعراق بالنسبة إلى السيد الصدر الثاني يعني:

1- البلد العربي - الإسلامي الذي يجب أن يعود إلى عروبته الصافية وإسلامه الأصيل، وأن الأنظمة السياسية التي نزت على العراق وعملت على تفريغ شعبه من جوهره الإيماني هي من ألد أعداء العراق، وهي بحاجة إلى مواجهة ومجابهة. وبالتالي فإن مشروع السيد الصدر الديني والاجتماعي يتجسَّد في إعادة العراق إلى حضنه العربي والإسلامي الأصيل.

2- إن الاستبداد السياسي الشمولي واستئثار فئة قليلة من أهل الحكم بمقدرات البلد وثرواته، هو الذي ساهم في إبعاد العراق عن حضنه الإسلامي الأصيل. ولا عودة للعراق إلى إسلامه وقيمه الأصيلة إلَّا بتحرير العراق من طغمة الاستبداد السياسي.

لذلك فإن الساحة العراقية في منظور السيد الصدر الثاني، هي ساحة للصراع والمجابهة بين خيارين: خيار الاستبداد والاستئثار والتغريب الذي تقوده طغمة البعث الحاكمة في العراق، وخيار الإيمان والحرية والكرامة الذي يقوده الصدر الثاني.

وكل الجهود والتضحيات المبذولة من السيد الصدر الثاني وتياره وجمهوره العام، هو من أجل تثبيت مشروع الحرية والكرامة للعراق والعراقيين.

3- إن القوة الحقيقية لأنظمة الحكم الاستبدادي في العراق نابعة من غياب وتغييب الناس عن الشأن العام. لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع تحرير العراق من نزعات الاستئثار والاستبداد هو في استحضار الجمهور إلى الميدان العام. ولا حضور إلى هذا الجمهور إلى ميدان المواجهة والتصدي إلَّا بتغيير منظومته الثقافية ونظرته إلى ذاته وفضائه العام. وهذا ما عمل من أجله السيد الصدر الثاني. فعمل بإرادة صلبة وعمل مستديم على بناء ثقافة جديدة للشعب العراقي، تكنس ثقافة الفرجة والتخلُّف والخوف من مواجهة المستبد، إلى ثقافة الحرية والمسؤولية والقدرة على التغيير والإصلاح. لأن الاستبداد ليس قدراً مقدّراً علينا، وإنما هو نتاج تخلّفنا وتغيّبنا عن الميادين العامة وصمتنا عن مواجهة الأخطاء والانحرافات.

ففي «ظل تحولات خطيرة وكبيرة عاشها العراق وأدخلته في ظروف الحصار والجوع والقمع الداخلي المتزايد، تصدى الشهيد السيد محمد صادق الصدر للمرجعية، ولم يحسب أحد في حينه أن هذه المرجعية ستخلق ظاهرة تحوُّل كبيرة وستقود جهداً تغييراً للواقع العراقي، وستهز هذا الواقع من جذوره، ومن ثم تُوجِد أنماطاً جديدة من علاقة المرجع بالسياسة، وعلاقته بالسلطة، وعلاقته بالأمة وإصلاحاً حوزويًّا واجتماعيًّا بالشكل الذي حصل، وبالإضافة إلى ذلك تكتشف آليات إصلاح وآليات تواصل ومنظومة مفاهيمية لم تكن سائدة ومتعارفة، وتُشكِّل إبداعاً ذاتيًّا وخصوصيات لتجربة مرجعيته أضافت إلى تجارب الفقيه الشيعي عبر التاريخ الثوري إضافات معرفية وفقهية واضحة، معززة بسلوكية ثورية، وخيار فقهي استشهادي له خصوصيته ووضوحه»[6].

ومن المؤكد أن النهج والطريق الذي سار عليه السيد الصدر الثاني، لم يكن مُعبَّداً أو سهلاً، لأنه عمل في ظل أوضاع العراق الأمنية والقمعية ومن خلال هذه الظروف الصعبة تم اكتشاف ممكنات العمل، وتوسيع دائرة المتاح.

وهذا لا يتأتَّى في بداية العمل إلَّا ببذل الجهود والمواقف التي تستهدف تحييد السلطة والحؤول دون إجهاضها للعمل والتجربة في مهدها.

ولقد تحمَّل الصدر الثاني في هذا الطريق الكثير من الاتهامات والظنون السيئة، التي تشك في مسيرته وتتهمه في خياراته. إلَّا أن صبره وتحمّله الأذى في سبيل الله، هو الذي أوصل المشروع إلى مآلاته، التي جعلت السلطة تستهدفه وتحاربه حتى وصل مشروع السلطة إلى اغتياله مع بعض أولاده بتاريخ [19/2/1999م].

فالأوضاع السياسية الداخلية في العراق، لا تتحمَّل آنذاك مشروعات دينية وسياسية قائمة على المعادلات الصفرية. لذلك نجد أن الساحة الإسلامية العراقية انقسمت آنذاك إلى قسمين: من لديه الاستعداد للعمل والحركة إما أصبح داخل السجون والمعتقلات وبالتالي الإعدام، أو هاجر خارج العراق للانطلاق في العمل السياسي بعيداً عن ضغوطات السلطة المباشرة. ومن بقي في العراق حاول أن يحافظ على نفسه بالابتعاد عن الأنشطة الحركية والسياسية. وهذا أفضى إلى حالة من الجمود والانزواء.

ولعل القيمة الأساسية لتجربة الصدر الثاني هو أنه لم يختر الهجرة مع العلم أنه تعرض للاعتقال والتعذيب ثلاث مرات، كما أنه لم يقبل لنفسه الانزواء والجمود والهروب من ساحة العمل الديني والاجتماعي. فاجترح لنفسه طريقة في العمل شائكة ومليئة بالتحديات سواء من قبل السلطة الغاشمة أو قوى المجتمع التي كانت تعيش الجمود ومتوالياته.

ولو تأمَّلنا في مآلات هذه التجربة وطبيعة التيار الذي أسسه الصدر الثاني في العراق، فإنه يدفعنا إلى الاعتقاد الجازم أن ما قام به الصدر الثاني في العراق، يعدّ ثورة دينية، إصلاحية دون ضوضاء، وإنما بالعمل النوعي الذي أنتج هذا التيار الواسع في كل محافظات العراق.

فالواقع السياسي والاجتماعي العراقي آنذاك هو الذي دفع الصدر الثاني «للتفكير في تنظيمه والاستفادة منه في بداية تأسيس جديد موظِّفاً بذلك مفهوم التقية، كمدخل من أجل تحييد السلطة، فالتقية لا مبرر لها عندما تؤدي إلى التعايش مع الانحراف والسكوت عنه بشكل دائم وهي تأخذ مبرراتها عندما تكون تقية إيجابية بإمكانها أن تخلق فرصاً جديدة للتحرك»[7].

ولقد أثمرت تجربة الصدر الثاني في العراق، نتائج إيجابية عميقة، ساهمت في تغيير المشهد العراقي بأسره. ولعل من أهم ثمار تجربة الصدر الثاني على الواقع العراقي هي النقاط التالية:

1- تعزيز وتطوير الحالة الدينية لدى الشعب العراقي، في ظل ظروف قاسية، حيث كانت السلطة الغاشمة تحارب كل المظاهر الدينية وتمنع كل الشعائر وتحول دون ممارستها في كل مناطق العراق.

فتجربة الصدر الثاني هي النور الذي يشعّ وعياً وهداية وخدمة في ليل العراق الحالك، فهي التي أوقفت حالة الانحدار التي يعيشها الشعب العراقي، وهي التي أعادت للدين دوره في الحياة العامة.

لذلك نجد أنه بعد سقوط الطاغية وتحرر الشعب العراقي، اتَّضحت معالم الحقائق الكبرى التي شيّدها الصدر الثاني بجهاده وتضحياته ودمائه.

2- إعادة الحياة إلى بعض أجزاء ومكونات الحوزة العلمية بالنجف الأشرف، عبر إعادة بعض الاحترام إلى طلبة العلوم الدينية وتفعيل الحلقات الدراسية وفتح وإدارة بعض المؤسسات الدينية التي تُضفي على الجو العام في النجف حيوية علمية ودينية واجتماعية.

3- المساهمة في تنقية الفضاء الاجتماعي من بعض الأمراض والإحن التي تضر باستقرار المجتمع العراقي. فقد اعتنى السيد الصدر بتطوير علاقته مع العشائر العراقية والعمل على تكييف أنظمة العشائر الرقابية والردعية مع قوانين وتشريعات الشريعة الإسلامية، ولقد ألَّف السيد الصدر كتاباً كاملاً أسماه (فقه العشائر)، كما عمل السيد الصدر على تجسير العلاقة وإحيائها بين الحوزة العلمية والعشائر، لأن السيد الصدر يعتبر -على ضوء تجارب ثورات العراق في العصر الحديث- أن إيجابية العلاقة بين الحوزة والعشائر تساوي قدرة نوعية لعموم الشعب العراقي، تمكّنه من مواجهة كل المخاطر والتحديات، وأن وجود حالة جفاء أو خصومة بين الحوزة والعشائر يساوي تضعضعاً في البناء الاجتماعي لا يمكن جبره.

كما «توجّه الصدر الثاني بحركة شمولية باتجاه المجتمع العراقي الجامعة/ المدينة/ الريف/ العشيرة/ والشرائح الاجتماعية المتعاملة مع السلطة ووضع حساباً خاصًّا للوسط العشائري والريفي، ولم يكتفِ بإرسال الوكلاء إلى قراهم أو بناء المساجد فيها، إنما عمل على أسلمة السانية العشائرية»[8].

كما أدام عملية التعبئة والتحشيد الاجتماعي، لتطوير عملية الاستعداد النفسي والروحي لدى الناس، وكان لظاهرة الصلاة المليونية الدور الأساسي على هذا الصعيد.

4ـ تحويل المجتمع العراقي أو بعض أطرافه وشرائحه وفئاته، إلى قوة سياسية لها وزنها في المعادلات السياسية والاجتماعية الداخلية.

لأننا نعتقد أن مشروع وتجربة الصدر الثاني ساهم بشكل مباشر في تحويل بعض شرائح المجتمع العراقي المهمشة التي يقع التمييز الطائفي عليها أكثر من غيرها، إلى قوة سياسية تطالب بحقوقها وتدافع عن قناعاتها ورموزها وترفع الصوت عالياً دون خوف دفاعاً عن مقدساتها.

العراق اليوم

من الناحية الواقعية ومن منظور التحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى التي تجري في أي مجتمع، ثمة علاقة صميمية بين كل الجهود النضالية والتضحيات الجسام التي بذلها الشعب العراقي خلال عقود من الزمن مع انهيار النظام السياسي الفاشستي السريع من جراء ضربات عسكرية متواصلة قامت بها قوى التحالف الدولي.

إننا نعتقد أن قوات التحالف الدولي هي التي أطلقت الرصاصة الأخيرة على نظام الطاغية في العراق، وأن كل النضالات والتضحيات التي بذلها الشعب العراقي ساهمت بشكل مباشر في تضييق القاعدة الاجتماعية للسلطة، وتعميق الفجوة بين السلطة والمجتمع. وأي نظام سياسي مهما امتلك من قدرات عسكرية وقمعية، لا يستطيع الصمود أمام أي تحدٍّ في ظل سخط أبناء المجتمع عليه.

وتعلمنا تجربة العراق وبالذات سقوط نظام الطاغية السريع، أن الأنظمة الظالمة قد يطول حكمها وقمعها للناس إلَّا أنها أنظمة لا يمكنها أن تدوم.

وعلى ضوء هذه الحقيقة فإننا نعتقد وبجزم أن جهود وجهاد وتضحيات الصدر الثاني، ساهمت بشكل مباشر في سقوط النظام بالمعنى التاريخي والحضاري والسياسي.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة، سنقترب من العراق الراهن، بعد استشهاد الصدر الثاني وسقوط نظام الطاغية. وسنقترب من راهن العراق من خلال مجموعة من العناوين.

ونعتقد أن الرؤية التي تُقدِّمها هذه العناوين، متناغمة مع الرؤية والمشروع الذي أسسه الصدر الثاني للعراق حاضراً ومستقبلاً.

العراق والبناء السياسي الجديد

يبدو من العديد من المؤشرات والمعطيات، أن الاستقرار السياسي في العراق، بحاجة إلى الكثير من الوقت والجهود والتوافقات حتى يصل إلى مرفأ الأمن والاستقرار، وذلك لأن العديد من القوى والأطراف ولاعتبارات عديدة، تعمل وتمارس العنف والإرهاب لإعاقة العملية السياسية وتخريب الأمن والاستقرار في العراق. ووفق هذا المنظور نستطيع القول: إن كل المحن والويلات التي يتعرض إليها الشعب العراقي اليوم، هي من أجل تطهيره من الكثير من العيوب والثغرات والثقافات التي تسوغ القتل وتبرر العنف.

فالاستقرار السياسي في العراق سيكون وليد إرادة شعبية ومجتمعية عراقية، تخلَّصت من كل موروثات الماضي وتأثيرات القمع والاستبداد. فالديمقراطية في الأمم والمجتمعات لا تبنى بين عشية وضحاها، وإنما هي بحاجة إلى مدى زمني وجهود متواصلة وتضحيات جسام، وذلك حتى تنغرس بذرة الديمقراطية في الفضاء الاجتماعي، وتنمو وتكبر في سياق اجتماعي يعي أهميتها ويعمل على توفير متطلباتها ويدافع عنها بكل إمكاناته وقدراته.

فالديمقراطية في المجال الحضاري الغربي احتاجت إلى عقود عديدة امتدت من منتصف القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى رست أسسها وأصبحت سمة من سمات أنظمتها الثقافية والسياسية. فالديمقراطية والقيم السياسية الجديدة لا تبنى دفعة واحدة، ولا تُبنى بوسيلة سحرية، بل هي بحاجة في كل الأمم والتجارب إلى جهود متواصلة على أكثر من صعيد، وذلك حتى تصل مجتمعاتنا إلى الخيار الفعلي للديمقراطية. فالديمقراطية في العراق تتطلَّب الكثير من الجهود من مختلف الفرقاء والأطراف، حتى تكون حقيقة قائمة وراسخة في المشهد السياسي العراقي. وهذا لا يعني أن الطريق سالك ومعبد للوصول إلى هذه الحقيقة بسهولة ويسر. فهناك أطراف وقوى تعمل ليل نهار لإفشال هذه العملية، وإعادة أوضاع العراق إلى الاستبداد وهيمنة فئة قليلة على مقدراته وثرواته. فالقوى السياسية الجديدة في العراق، تحارب على جبهتين في آن واحد، جبهة تفكيك البنية الثقافية والسياسية والاجتماعية لظاهرة الاستبداد في الحياة السياسية العراقية، وجبهة مقاومة الجهات والأطراف الإرهابية التي تعمل بوسائل القتل والتدمير لإعادة عقارب الساعة للوراء.

فالديمقراطية هي قيم وثقافة قبل أن تكون هياكل ومؤسسات، وإن غرسها وتدعيمها في أي مجتمع هو عبارة عن معركة في كل لحظة ضد كل الكوابح والعوائق التي تحول دون البناء الديمقراطي. وعليه فإن الاستفتاء الأخير على الدستور ليس نهاية المطاف، بل هو خطوة ضرورية، تساهم في غرس وتأكيد الخيار الديمقراطي في العراق. وحسناً فعل الحزب الإسلامي العراقي حينما انخرط أخيراً في العملية السياسية، ودعا أنصاره للتصويت على الدستور؛ وذلك لأن الديمقراطية لا تتأسس بلغة الرفض المطلق. صحيح أن كل طرف من أطراف المشهد السياسي العراقي لديه ملاحظات جوهرية على بعض الخطوات التأسيسية والسياسية، ولكن هذه الملاحظات لا ترتفع بخطاب الرفض المطلق. فالعمل السياسي وحده هو الذي يطور العملية الديمقراطية في العراق، وهو الذي يُوسِّع المساحات المشتركة، وهو الذي يخلق توافقات سياسية عميقة ومطلوبة وضرورية لكل أبناء الشعب العراقي. فالرغبة بوحدها لا تخلق ديمقراطية، وإنما العمل المتواصل مع شركاء الوطن، هو الذي يفضي إلى إمكانية تحقيق بعض قيم الديمقراطية في الواقعين السياسي والاجتماعي.

إن العراق عاش عقوداً طويلة في ظل قيم وممارسات الاستبداد والديكتاتورية ولا يمكن أن يخرج من تأثيرات هذه العقود والممارسات بسهولة، فهذا يحتاج إلى إصرار ونفس طويل وكفاح متواصل. وما نقوله هذا ليس تبريراً لأوضاع العراق الحالية، وإنما هي رؤية تاريخية تؤكد ضرورة العمل والكفاح والسعي المستميت لتفكيك كل البنية التحتية للاستبداد في العراق، والعمل على بناء نظام سياسي وفق شروط ورؤية جديدة. وهذه العملية لا تتكفل بها قوى خارجية وأجنبية عن العراق، وإنما هي مهمة العراقيين وحدهم. لذلك يُخطئ خطأ قاتلاً ومميتاً من يعتقد أن بناء الديمقراطية في العراق، تتكفَّل بها القوات الأمريكية والبريطانية في العراق.

إن الديمقراطية لا تُبنى إلَّا بإرادة عراقية وسواعد عراقية، وإن النظام السياسي الجديد، بحاجة إلى توافق عراقي داخلي لا يُراهن على الأجنبي، بل يُراهن على ابن بلده حتى ولو اختلف معه في القناعات والمواقف. فالديمقراطية في العراق هي قضية العراقيين وحدهم، وعليهم أن يناضلوا معاً من أجل تحقيقها وإنجاحها في العراق. ولا يمكننا أن نتصور الديمقراطية في العراق دون مشاركة كل أطراف ومكونات الشعب العراقي. وليتذكر الجميع أن الديمقراطية ليست وصفة جاهزة أو حلًّا سحريًّا لكل المشاكل والأزمات، ولكنها النظام السياسي الذي يضمن حقوق الجميع، ويوفر للجميع إمكانية المشاركة الفعلية في البناء والعمران وتسيير الشؤون العامة.

فلتتنافس الإرادات، وتتصارع المشاريع، ولكن بوسائل سلمية – سياسية، لأن هذا الصراع الإيجابي -إذا صحَّ التعبير- هو الذي يظهر مكنون الشعب العراقي، وهو الذي يُطوِّق كل نزعات الشر والتخريب.

فالبناء السياسي الجديد للعراق يتطلَّب الأمور التالية:

1- بلورة وصياغة ميثاق وطني عراقي، يُحرِّم بشكل جازم ممارسة كل أشكال الإرهاب ضد أطراف ومكونات الشعب العراقي. فالتوافق السياسي يقتضي أن يتنازل كل طرف عن بعض قضاياه، وذلك من أجل خلق توافق وطني، وإن الساحة السياسية مفتوحة لكل المبادرات والتحالفات والصراع السلمي.

وهذا بطبيعة الحال، بحاجة إلى حماية حقيقية. وفي تقديرنا، إن بلورة ميثاق وطني تشترك جميع الفعاليات في صياغته وتظهير بنوده ومفرداته، سيساهم بشكل مباشر في ضبط الاختلافات والتناقضات السياسية، ورفع الغطاء السياسي والاجتماعي والقانوني عن كل تلك الأعمال والممارسات الإرهابية التي يعمد أصحابها إلى القتل والتدمير كوسيلة لحسم اختلافاتهم السياسية أو الفكرية مع الآخرين. فالانتخابات هي وسيلة حسم الصراعات السياسية في المجتمع. فلكل طرف الحق الكامل في التعريف بقناعاته وأفكاره والتبشير بها وحثّ الناس على الالتفاف حولها، ولكن لا يجوز بأي شكل من الأشكال ممارسة القهر أو أساليب الإرهاب لحض الناس على القبول بهذه الأفكار أو التصورات.

فالوسيلة الوحيدة التي تحسم الصراعات والتنافسات السياسية هي وسيلة الانتخابات وصناديق الاقتراع. فالبناء السياسي الجديد للعراق يتطلب أن تُغيِّر كل الأطراف السياسية من رؤيتها ومفهومها للصراع السياسي الحالي الذي يدور في العراق. فالصراع القائم اليوم ينبغي ألَّا يُدار بعقلية الاستئصال والاجتثاث، وإنما بعقلية التوافق والبحث عن المساحات المشتركة التي تساهم في تأكيد خيارات سياسية جديدة قائمة على المشاركة والفهم المتبادل ونبذ العنف بكل أشكاله ومستوياته.

فالقوة المادية مهما كانت وحشيتها وشراستها، فإنها لا تُفضي إلى الأمن والاستقرار، ولا تُنهي الصراع السياسي بل تزيده توتُّراً وتأزُّماً.

2- إن السلطة السياسية في العراق لا يمكن أن تُدار من فريق سياسي واحد. وإنما السلطة السياسية ينبغي أن تتشكَّل من جميع الأطياف والمكونات. وذلك لأن السلطة هي في المحصلة النهائية تعبير حقيقي وواقعي عن كل القوى والتعبيرات الموجودة في المجتمع العراقي. فالأكراد بوحدهم لا يمكنهم أن يحكموا العراق، كما أن الشيعة بوحدهم لا يمكنهم حكم العراق، وهذا الكلام ينطبق على السنة والكلدوآشوريين والتركمان وكل أقليات العراق.

والاستبداد السياسي الذي ساد العراق في الحقب الماضية، هو من جراء حكم فئة اجتماعية واحدة. ولا يُمكن أن تكون هناك ديمقراطية في العراق وبناء سياسي جديد، بدون مشاركة جميع المكونات في السلطة والحكم السياسي. فقد ولَّى زمن أن تتفرَّد فئة واحدة بحكم العراق. وذلك لأن حكم فئة واحدة بصرف النظر عن نوعيتها وثقافتها وأيديولوجيتها يعني إنتاج حكم مستبد في العراق؛ لهذا فإن السلطة السياسية الجديدة، لا بد أن تتشكَّل من جميع الفرقاء لبناء دولة مدنية يشعر الجميع بالأمن فيها، وتُصان فيها حقوق جميع الأطراف، ويشترك الجميع وفق رؤية وطنية جامعة في إدارة مؤسساتها وهياكلها الإدارية والسياسية والاقتصادية والثقافية؛ وإن أية محاولة لاختزال السلطة السياسية في العراق أو تضييق قاعدتها الاجتماعية، فإنها ستبوء بالفشل. صحيح أن الوصول إلى هذه التوافقات بحاجة إلى زمن وصبر، ولكنه هو الحل الصحيح لبناء الديمقراطية في العراق. فالسلطة في العراق لا بد أن تكون تمثيلية ويشترك فيها جميع الأطراف، فهي ضمانة للديمقراطية، ووسيلة ناجعة لوحدة العراق. وعليه فإن الكثير من الطموحات والتطلعات التي ينشدها أبناء الشعب العراقي، فإن تحقيقها مرهون إلى حد بعيد على طبيعة السلطة والنظام السياسي الجديد الذي سيتشكل في العراق.

فكلما كان النظام السياسي تمثيليًّا لكل فئات الشعب العراقي ويحتكم إلى صناديق الاقتراع والأولوية في تحمل المسؤولية فيه لأهل الكفاءة بصرف النظر عن الانتماءات التقليدية، فإن هذا النظام سيكون جسر عبور حقيقي لأبناء الشعب العراقي للوصول إلى أهدافهم وتطلعاتهم العامة..

العرب والمسألة العراقية

لا شك في أن العراق هذا البلد العريق بتاريخه وحضارته، والحي بشعبه المتميز، يعيش منذ سنين محنة صعبة، حيث القتل اليومي والتدمير الممنهج لمنجزاته ومكاسبه وبنيته التحتية. فنشرات الأخبار ومنذ الاحتلال الأمريكي للعراق، وهي مليئة بأخبار القتل والتدمير التي تجري على أرض الرافدين. ولا يمر يوم علينا إلَّا ونجد أن الخبر العراقي هو الذي يتصدر نشرات الأخبار، وأن مضمون هذه الأخبار هو المزيد من سفك الدم العراقي. أقول: إن هذه المحنة التي يمر بها العراق اليوم لا تُرضي أحداً، وتستفز الأصم من الناس فما بالك بالمتابع للشأن العراقي والحريص على شعبه وأمته.

ولكن هل فداحة المأساة العراقية تبرر لنا صب الزيت على النار ودعوة العراقيين إلى قتل بعضهم بعضاً. لا شك في أن العراق بحاجة إلى دعم كل العرب والمسلمين، ولكنه الدعم الذي يُساهم في إيقاف المحنة، ويساعد على إنهاء مسلسل سفك الدماء العراقية. ولكن الدعم الذي يتجسد في تشجيع العراقيين على قتل بعضهم بعضاً، وتمزيق لحمتهم الداخلية، وتأليب الطوائف بعضها على بعض، فإنه على العكس من ذلك تماماً. حيث إن هذه النوعية من الدعم تديم المحنة العراقية، وتوفر كل الأغطية اللازمة لاستمرار سفك الدم العراقي.

إننا مع دعم العراق، ويُؤلمنا ما يجري في العراق، ونتطلع إلى ذلك اليوم الذي يعمّ الأمن والاستقرار العراق، ولكن تطييف المحنة العراقية، وإعطاءها بُعداً مذهبيًّا صارخاً، يضر بحاضر العراق ومستقبله، ولا يًفضي إلى معالجة سريعة للمحنة العراقية.

إن سفك الدم العراقي جريمة، سواء صدرت هذه الجريمة من طرف شيعي أو سني أو كردي، وإن إنهاء المحنة العراقية لا يتم بتأليب العراقيين بعضهم على بعض، بل بالبحث معهم عن سبل عملية لوقف نزيف الدم، وخلق التوافق السياسي الضروري بين مختلف مكونات وتعبيرات الشعب العراقي.

ويُخطئ من يتصوَّر أن الصورة المثلى لدعم العراق هي في تأليب بعضه على البعض الآخر؛ لأن هذا التأليب يُحوِّل العراق بأسره إلى كرة نار، لا تحرق العراق فحسب بل قد تتعداه -لا سمح الله- إلى كل المنطقة.

صحيح أن الاقتتال الطائفي الحاصل اليوم في العراق يزعجنا ويستفزنا على كل المستويات، ولكن من قال: إن لغة التأليب والتحريض هي التي ستنهي هذا الاقتتال؟!. إننا نعتقد أن هذه اللغة وهذا الخطاب التحريضي والتمزيقي للعراق، يهدد وحدة العراق، ويُشعل أزمة العراق ويُدخلها في أتون أزمة مذهبية خطيرة لا يعلم أحد مداها.

لهذا كله ومن أجل العراق أرضاً وشعباً، ومن أجل مساعدته للخروج من محنة الاحتلال التي يتعرَّض لها، بحاجة أن نفكر مليًّا في كيفية دعم شعب العراق في محنته الحالية. فليس مطلوباً من الشيعي في خارج العراق أن يصطف مع شيعة العراق، بمقدار ما هو مطلوب منه أن يصطف مع العراق كله بكل فئاته وشرائحه. وليس مطلوباً من السني في خارج العراق أن يصطف مع سنة العراق، بمقدار ما هو مطلوب منه أن يصطف مع العراق كله.

فالاصطفافات الطائفية خارج العراق تضر بالعراق، ونحن أحوج ما نكون اليوم إلى خلق كتلة دينية وسياسية عربية وإسلامية مشتركة للقيام بمبادرات تساهم في حقن الدماء العراقية ووقف الاقتتال الطائفي. فما يجري في العراق يُؤلمنا جميعاً، وليس من صالح العراق والمنطقة بأسرها أن نزيد حالات الاحتقان الطائفي. بل المطلوب خلق مبادرة سنية – شيعية من مختلف المناطق والبلدان، تأخذ على عاتقها مساعدة الشعب العراقي على الخروج من محنته، والوقوف بحزم ضد كل أشكال الاقتتال والاحتراب الطائفي. فالعراق لا يُدعم بالمزيد من التشنُّج الطائفي والتحريض المذهبي، بل يُدعم بذلك الخطاب الجامع الذي يتعامل مع العراق بكل فئاته وتعبيراته، ويسعى لضبط نزعات الاقتتال والفتنة لدى جميع الأطراف.

فنحن بحاجة اليوم إلى مبادرات وبيانات تحقن الدم العراقي ولا تُحرِّض العراق بعضه على بعض. وإلى مساعدة العراقيين للتعجيل بتوافقهم السياسي لجدولة انسحاب قوات الاحتلال الأجنبي من العراق. فدعم العراق مطلوب، ومساعدة الشعب العراقي في محنته ضرورة دينية وأخلاقية وإنسانية، ولكن العراق بحاجة اليوم إلى الدعم الذي يُوقف اقتتاله الداخلي وحربه الطائفية العبثية. ونحن مع كل مبادرة في هذا الاتجاه. أما المبادرات التي تُساهم في زيادة وتيرة الاحتقان الطائفي، فإننا نُحذِّر من خطرها ليس على العراق وحده بل على المنطقة كلها.

لهذا فإننا ينبغي اليوم لنا أن نُذكِّر بعضنا بعضاً بأهمية الابتعاد قدر المستطاع عن نهج التحريض المذهبي الذي لا نجني منه جميعاً إلَّا المزيد من الاحتقان والتدهور.

وحتى تكتمل رؤيتنا في هذا السياق، من الضروري القول: إن العراق لا يُحكم بغلبة طائفة على أخرى أو قومية على أخرى. بل يحكم بمشاركة كل الفئات والمكونات. ويُخطئ من يتصوَّر أن بإمكانه أن يحكم العراق بوحده. فشيعة العراق بحاجة إلى سنته لحكم العراق، وعرب العراق بحاجة إلى كرده وتركمانه لحكم العراق، ولا مجال في عراق اليوم لانتصار كاسح لأحد الأطراف، فكل الأطراف بحاجة بعضها إلى بعض لخلق نظام سياسي توافقي، يضمن مشاركة الجميع، ويصون حقوق ومكاسب الجميع.

فالعراق لا يُحكم اليوم بالأكثرية والأقلية، وإنما بالتوافق بين جميع مكوناته وفئاته.

ولا تستطيع أي طائفة في العراق اليوم أن تتفرَّد بحكم العراق حتى ولو كانت هي الأكثرية العددية في العراق. وبلغة أكثر صراحة، العراق لا يحكم بالشيعة وحدهم حتى ولو كانوا هم أكثرية العراقيين، ولا يُحكم بالسنة وحدهم حتى ولو كانوا هم عمق العراق العربي والاستراتيجي، ولا يُحكم بالأكراد بوحدهم حتى ولو كانوا هم تحت الحماية الأمريكية اليوم.

فالعراق من أقصاه إلى أقصاه يُحكم بالتوافق والمشاركة العادلة والمتوازنة. ومهمة العرب والمسلمين الأساسية اليوم، ليس تحريض العراقيين بعضهم على بعض، بل تشجيعهم وحثهم على التوافق والاتفاق. وإننا ندعو جميع العراقيين إلى الإسراع في بناء توافقهم السياسي بعيداً عن لغة الغلبة والمغالبة. فالعراق يحتاج إلى جميع أبنائه وطوائفه، ولا يمكن لقافلة العراق أن تسير بعجلة واحدة.

من هنا فإننا مع دعم العراق، ولكنه الدعم الذي يُفضي إلى التوافق والوحدة ويشجعهم عليهما، وليس المزيد من التحريض والاقتتال. والتوافق والوحدة هنا لا يمكن أن تتم بغلبة طائفة على أخرى، وإنما بخلق توازن طائفي قادر على إدارة العراق وإخراجه من محنته الراهنة.

فالاقتتال المذهبي يستفزنا، وعمليات التطهير الطائفي تُقلقنا. ولكن هذا القلق والاستفزاز ينبغي ألَّا يقودنا إلى التحريض المذهبي والاصطفاف الطائفي، وإنما على العكس من ذلك تماماً. حيث إن المطلوب مساعدة العراق من هذه المحنة الطائفية بأقل الخسائر الممكنة. فليخرج الجميع من السجن الطائفي إلى رحاب الوحدة والتوافق والوطن الجامع لكل الأطياف والتعبيرات الدينية والمذهبية والقومية.

إن كل الدم العراقي حرام سفكه، ولا يجوز لنا من أي موقع كنا، أن نمارس التحريض أو تبرير عمليات القتل في العراق. ووجود دماء مسفوكة في العراق ظلماً وعدواناً، لا يبرر لنا من أي موقع كنا فيه، أن نشجع على القتل والتدمير.

فلندعم العراق للخروج من محنته، وذلك عبر تشجيعهم على الوحدة والتوافق وبناء نظام سياسي عادل تشارك فيه كل قوى وتعبيرات العراق على حد سواء.

فالقتل لا يبرر القتل، والتحريض لا يُقاوم بالتحريض المقابل، والتعدّد الديني والمذهبي والقومي لا يُدار بعقلية الاصطفاء والاستفراد والاستئثار، وإنما بنهج المشاركة والمسؤولية المفتوحة على كل المبادرات التي تنشد الخير والأمن والاستقرار للجميع.

وإن مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة لا يتم عبر تأجيج المشاعر الطائفية والمذهبية، وإنما عبر التعامل الحكيم والواعي مع الوجودات المذهبية في المنطقة. ويرتكب جريمة كبرى بحق الوطن والمنطقة كل من يعتقد ويعمل على تأجيج الفتن الطائفية بدعوى مواجهة النفوذ الإيراني. وذلك لأن النفوذ السياسي لأي دولة لا يمكن مواجهته بالصراخ والعويل وتأجيج الفتن والتوترات المذهبية، وإنما تتم المواجهة بالبناء الوطني السليم، الذي يفسح المجال القانوني والسياسي والثقافي لكل التعبيرات والأطياف للمساهمة في البناء وتعزيز اللحمة الداخلية.

وجماع القول: إننا مع دعم العراق، ذلك الدعم الذي يساهم في إخماد الفتن ومعالجة كل التوترات المذهبية والسياسية وصياغة الوفاق السياسي الوطني، الذي يخرج هذا البلد الشقيق والعريق من أتون القتل اليومي لأبنائه والتدمير الممنهج لبنيته التحتية.

إننا مع العراق الذي ينعم فيه جميع أبنائه بكل الحقوق والمكاسب، وعلينا أن نعمل على دعم الوفاق العراقي بكل مستوياته ودوائره.

وفي هذه اللحظة حيث خفت وتضاءلت العمليات الإرهابية في العراق، وتقدَّمت العملية السياسية بمعالجة بعض مشكلاتها الداخلية، التي كانت تحول دون انطلاق العملية السياسية. من المهم في ظل هذا التحسن الأمني أن تسعى الدول العربية إلى تطوير علاقتها الشاملة مع العراق، فالعراق اليوم بحاجة إلى شراكة متكاملة مع كل الدول العربية. والنخبة السياسية الجديدة الحاكمة اليوم في العراق، كما يبدو من تصريحاتها وممارساتها السياسية أنها لا تضمر شرًّا أو سوءا للدول العربية. ووجود موضوعات محل خلاف وتباين بين الطرفين ينبغي ألَّا يقود إلى القطيعة والجفاء، بل إلى الحوار والتواصل وبناء علاقات مستديمة بين الطرف العراقي والدول العربية. والخوف من النفوذ الإيراني في العراق لا يُعالج بمقاطعة الحكومة العراقية، أو عدم التواصل مع النخبة الجديدة في العراق، بل على العكس من ذلك، إننا نعتقد أن انفتاح العرب على العراق، وتفعيل الدور العربي القائم على الشراكة السياسية والأمنية والاقتصادية مع العراق، سيساهم بشكل كبير بإعادة التوازن السياسي والأمني للعراق. فنحن ضد اختراق العراق أمنيًّا وسياسيًّا من كل دول الجوار سواء كانت إيران أو تركيا أو الدول العربية المجاورة للعراق. نحن مع خلق منظومة شراكة متكاملة سياسية واقتصادية وأمنية بين العراق ودول الجوار العربية وتركيا وإيران. وهذا بطبيعة الحال يتطلَّب الإسراع في فتح سفارات للدول العربية في العراق، وتنشيط حركة التبادل التجاري والاقتصادي، وبناء اتفاقيات أمنية تضمن أمن كل الأطراف. فالخطر الحقيقي الذي يهدد الدول العربية يتجسد في تجاهل العراق والتغافل عن محنه وحاجاته. ولعلنا لا نبالغ حين نقول: إن الكثير من الدول العربية ارتكبت خطأ استراتيجيًّا بحق العراق والمنطقة، حينما تجاهلت العراق، ولم تنفتح -لاعتبارات عديدة ذاتية وموضوعية- مع الحالة العراقية الجديدة. وآن الأوان لتصحيح هذا الخطأ وإعادة العراق إلى محيطه العربي، عبر مبادرات متكاملة تستهدف احتضان العراق ومعالجة كل الهواجس والمخاوف عبر الانفتاح والتواصل مع العراق. فالعراق الجديد ليس أمريكيًّا أو إيرانيًّا، وإنما هو عربي، وسيبقى كذلك، وانفتاح العرب على كل مكونات وتعبيرات العراق هو الحل الطبيعي لهذه المسألة. وهنا نُحمِّل النخبة السياسية الجديدة في العراق مسؤولية تطمين دول الجوار العربي، والانفتاح على الدول العربية وتجاوز كل عناصر التوتر. فالعراق لا يُحكم بمكوِّن واحد فقط، وإنما يُحكم بكل المكوِّنات والتعبيرات. ولا غلبة لأحد في العراق، وكل من يبحث عن غلبة مطلقة لأي طرف في العراق، هو في حقيقة الأمر يُهدِّد العراق وحدةً واستقراراً. ولا أمن لأي مكون في العراق إلَّا بوطنية عراقية متكاملة ومتكافئة، تضمن حقوق الجميع وتحافظ على أمن ومكاسب الجميع. فالشيعي العراقي لا يُحقق أمنه واستقراره بالتفرُّد بالقرار السياسي في العراق، بل بمشاركة جميع المكونات في القرار السياسي العراقي، وكذلك السني والكردي العراقيين. فالوطنية العراقية هي التي تحتضن الجميع، وتوفر لهم فرص التعبير عن ذواتهم. ومن يبحث عن الاستقرار السياسي والأمني للعراق، في ظل المشروعات الطائفية أو القومية المغلقة، فإنه لن يجني إلَّا المزيد من التوتر والتدهور. فالعراق الجميع أبناؤه، وآن الأوان بالنسبة إلى النخبة السياسية الجديدة في العراق، لإعادة بناء النظام السياسي العراقي على قاعدة المواطنة والكفاءة الوطنية وليس على أساس المحاصصة الطائفية أو القومية. فوحدة العراق لا تتعزز سياسيًّا وأمنيًّا وشعبيًّا إلَّا بمواطنة متساوية في الحقوق والواجبات. وعليه فإن المطلوب على صعيد العلاقات العربية - العراقية هو:

1- أن تبادر الدول العربية وبالذات الرئيسية منها إلى الانفتاح والتواصل مع العراق الجديد، والعمل على بناء شراكة أمنية وسياسية واقتصادية بين الدول العربية والعراق. فالعودة العربية إلى العراق ضرورة عربية وعراقية في آن واحد.

2-أن تعمل النخبة السياسية العراقية الجديدة، لتجديد الأوضاع السياسية العراقية، بالمزيد من خلق فرص الشراكة الوطنية العراقية المتساوية والمتكافئة وإنهاء حالة المحاصصة الطائفية والقومية في تشكيل السلطة السياسية للعراق. فالمواطنة العراقية هي حجر الأساس في مشروع تطوير الحياة السياسية العراقية. فلا مصلحة لأحد في العراق تهمه مصلحة هذا البلد العريق واستقراره النوعي، في استمرار حالة المحاصصة الطائفية. ونحن كعرب نتطلع إلى ذلك اليوم الذي يعود فيه العراق لعافيته السياسية والأمنية، وينبذ كل العناوين التقسيمية للشعب العراقي. فالعراق لا يحكم بفئة واحدة، وإنما يحكم من الجميع. وأية ممارسة تعمّق خيار المحاصصة هي في محصلتها النهائية مضرة لأمن العراق ومستقبله.

قراءة في المشهد العراقي

يصعب على المتابع للشؤون السياسية في المنطقة، والتطورات المتلاحقة على أكثر من صعيد ومستوى، أن يتجاهل ما يجري من أحداث وتطورات في المشهد العراقي. حيث ازدياد عمليات القتل والتفجير والاحتقانات الطائفية ودخول العملية السياسية في نفق الأزمات السياسية المتلاحقة، والتي تعكس بشكل أو بآخر، طبيعة المآزق التي تواجه التجربة السياسية الجديدة في العراق. ونود في هذا المقال أن نُطل على المشهد العراقي وتطوراته الأخيرة، لأننا نعتقد أن ما يجري في العراق ليس بعيداً عمَّا يجري في كل المنطقة.

1- إن طبيعة المتغيرات السياسية التي تجري في المنطقة اليوم، تُلقي بظلها الثقيل على الوضع الداخلي في العراق. بمعنى أن تصاعد عمليات القتل والتفجير ووجود اختراقات أمنية كبرى في الوضع العراقي له سببان رئيسيان: السبب الداخلي المتعلق بإخفاقات الوضع السياسي العراقي، وتباين الخيارات السياسية لدى القوى السياسية المشتركة في العملية السياسية، ووجود رهانات سياسية كبرى على طبيعة الأحداث السياسية التي تجري في المنطقة ومآلاتها السياسية والاستراتيجية. والسبب الإقليمي المتعلق بانعكاسات ما يجري في المنطقة وبالذات في الملف السوري، حيث الاصطفافات الطائفية الحادة، وغياب قدرة على نسج رؤية وموقف عراقي موحد تجاه ما يجري في سوريا.

وعليه فإن الانهيار الأمني الذي تشهده بعض المحافظات العراقية، وجمود العملية السياسية ووجود إشكاليات مزمنة في مسيرتها، يعود إلى تداخل عميق بين الأزمة العراقية الداخلية والأزمة الإقليمية وانعكاساتها على الحالة العراقية. لذلك فإن المشهد العراقي بكل أطرافه سيبقى خاضعاً لتأثيرات أزمات المنطقة؛ لأن العراق اليوم أشبه ما يكون بساحة أمنية وسياسية مكشوفة، يتم الصراع عليها من قبل اللاعبين الأساسيين في المنطقة.

ولا قدرة لدى العراقيين جميعاً، لإنهاء هذه المآزق، إلَّا بوحدتهم وبناء واقعهم السياسي على توافقات سياسة عميقة بين جميع الأطراف.

والطرف العراقي مهما كانت قوَّته وعلاقاته وتحالفاته الإقليمية والدولية، الذي يبحث عن انتصارات كاسحة على بقية المكونات والأفرقاء، فإنه لن يحصد إلَّا المزيد من الأزمات والمآزق.

فالعراق وبعد هذه التجربة المريرة من الصراعات الداخلية والحروب المتنقلة، والقتل والقتل المضاد، والتفجير والتفجير المضاد، لا يحكم على نحو عميق بحيث يسود الاستقرار السياسي العميق، إلَّا بنظام الشراكة السياسية المتكافئة. وأي طرف يسعى ويعمل من أجل الاستئثار وتركيز مصادر السلطة والثروة في يديه، فإنه يدشن لمرحلة جديدة من التوترات الأمنية والسياسية والطائفية.

لذلك فإن من ينشد الأمن والاستقرار في العراق، فعليه أن يساهم مساهمة إيجابية في تطوير نظام الشراكة السياسية بين جميع الأطراف والمكونات. فالعراق بصرف النظر عن مفهوم الأكثرية والأقلية العددية لا يحكم من قبل طائفة واحدة. فالعراق لا يحكم من السنة بوحدهم، وأي رهان من قبل بعض أطرافهم لتوظيف العمليات الإرهابية التي يقوم بها المتطرفون ضد الشعب العراقي في العملية السياسية، فإنه يقود العراق إلى المحرقة.

كما لا يحكم العراق من قبل الشيعة بوحدهم استناداً إلى أكثريتهم العددية، وأي طرف منهم يسعى في هذا السياق فإنه يؤسس لمرحلة جديدة من الانقلاب الأمني والسياسي في العراق. فالعراق الجديد لا يحكم إلَّا بنظام الشراكة، بحيث لا يشعر أي طرف بالافتئات والمظلومية.

وحتى يترسَّخ نظام الشراكة السياسية في التجربة العراقية، من الضروري الانتهاء من نظام المحاصصة الطائفية، الذي جمَّد العراق، وأدخله ويدخله باستمرار في أتون المكابدات والمناكفات، لصالح نظام الأكثرية السياسية.

وهذا بطبيعة الحالة يتطلَّب العمل على بناء كيانات سياسية وطنية، عابرة للمذاهب والقوميات والمحافظات في العراق.

وحدها الكتل السياسية الوطنية التي تضم مختلف الأطياف العراقية، هي القادرة على تفكيك نظام المحاصصة الطائفية، وإدخال العراق في مرحلة جديدة من العمل السياسي الوطني البعيد عن الاصطفافات الطائفية الحادة والبغيضة.

2- ستبقى أوضاع العراق الأمنية والسياسية هشَّة ومخترقة من قبل العديد من القوى والأطراف الإقليمية والدولية التي تعبث باستمرار في أمن العراق واستقراره، إذا لم تتم المصالحة السياسية الكبرى بين جميع أطياف المشهد العراقي. فلا سبيل لأمن العراق واستقراره إلَّا ببناء مشروع وطني عراقي متكامل وتوافقي للمصالحة الوطنية، بحيث تشعر جميع الأطراف أنها ليست مضطهدة أو مستهدفة؛ لأن هذه المصالحة العميقة هي القادرة على تفكيك كل الحواضن الاجتماعية والسياسية التي ترعى الإرهاب والإرهابيين. كما أن هذه المصالحة هي التي توفر المناخ الاجتماعي والسياسي لنظام المشاركة السياسية، بعيداً عن نزعات الاستئصال والإقصاء أو نزعات الانتصارات الكاسحة. والمصالحة الوطنية الشاملة هي التي ترفع الغطاء الأمني والسياسي والديني والاجتماعي، عن كل الوجودات التي تستهدف العراق في أمنه واستقراره. ونحن حين ندعو إلى المصالحة الشاملة ندرك حجم الصعوبات النفسية والاجتماعية والسياسية لهذا المشروع الوطني الهام والحيوي، إلَّا أن من يبحث عن حكم العراق واستقراره العميق، لا خيار أمامه إلَّا خيار المصالحة، مهما كانت الصعوبات، ومهما كان حجم الدم المسفوك.

وإن تسوية أعقد المشاكل التي يعاني منها المشهد العراقي اليوم، لا يمكن أن تتم دون مصالحة وطنية حقيقية وشاملة، تطوي صفحة الماضي بكل ويلاته ومآسيه، وتوجيه البوصلة الوطنية صوب بناء المستقبل السياسي للعراق بعيداً عن أحن الماضي واستقطابات اللحظة الراهنة.

3- في كل المراحل والحقب السياسية كان الشعب العراقي بكل أطرافه وشرائحه، هو من يدفع الثمن من رزقه وأمنه واستقراره وحاجاته وضروراته الحيوية.

وحينما تلاقت إرادته الوطنية في إسقاط نظام الطاغية صدام حسين مع الإرادة الإقليمية والدولية، ثمة أصوات عديدة ارتفعت في العالم العربي، تشنع بالشعب العراقي، وتصفه بأقذع الصفات، وتتهمه بأسوأ الاتهامات، ولكن وخلال ما ينوف على العقد من الزمان، ما كان يعاب عليه الشعب العراقي، أصبح حقيقة شاخصة في الواقع العربي، فارتفعت الأصوات الدينية والقومية المطالبة بالتدخل الأجنبي في بعض البلدان العربية، وتم التعامل مع هذه الأصوات بوصفها ضرورة دينية وقومية، ولم يُشنِّع أحد على هذه الشخصيات أو الشعوب التي طالبت الأجنبي بالتدخل في شؤونها ومعادلاتها الداخلية، أما الشعب العراقي فإنه خضع لظلامة تاريخية جديدة، لا زال يدفع ثمنها من كرامته وأمنه واستقراره. فإذا كان استدعاء الأجنبي جريمة دينية وقومية، فثمة أطراف عربية عديدة ارتكبت هذه الجريمة، أما الكيل بمكيالين فإنه يساهم في تزييف الوعي وقلب الحقائق.

وعلى كل حالة ما نود أن نقوله: إن الشعب العراقي بكل أطرافه يستحق منا نحن العرب مقاربة جديدة لأوضاعه وأحواله. فالتواصل معه والانفتاح عليه، وشد أزره في محنه، كلها عناوين أضحت ضرورة قومية، لتعزيز النسيج القومي العربي، وإنهاء حقب سوء الظن وإطلاق التُّهم جزافاً على شعوب بأسرها.

لهذا تعالوا جميعاً نعود إلى العراق، وننفتح على شعبه ونتواصل معه، ونُنهي سنوات الجفاء. ومن الضروري في هذا السياق ألَّا يكون الدم العراقي رخيصاً، لذلك ثمة ضرورة قومية أيضاً لرفع الصوت ضد عمليات القتل والتفجير التي تجري بشكل يومي في العراق، فلا يصح الصمت والتفرُّج على ما يجري للشعب العراقي.

ومقتضى الشراكة الدينية والقومية والإنسانية، التنديد بعمليات القتل ورفض استخدام السلاح ضد أبناء الشعب العراقي بكل فئاته وأطرافه.

فالشعب العراقي يستحق منا نحن العرب الكثير من الاهتمام والعناية؛ لأن مستقبل المنطقة في الكثير من أبعادها يتوقف على مستقبل الواقع العراقي. لذلك من يبحث عن تعزيز أمنه واستقراره فعليه المبادرة الجادة لتعزيز أمن العراق واستقراره، فهو بوابة المنطقة، وعنوان مستقبله القريب والبعيد.

في المسألة العراقية

ثمة نمطان من التفكير السياسي في المشهد العراقي، وهذان النمطان يتوزَّعان على كل القوى السياسية والاجتماعية الموجودة في العراق.

النمط الأول لا يتصور أن يحكم العراق إلَّا هو، وبالتالي أي طرف سياسي واجتماعي يحكم العراق يتعامل معه بوصفه مغتصب لموقع الحكم. وهكذا تصور موجود لدى بعض أطراف السنة في العراق، كما هو موجود لدى بعض أطراف الشيعة، كما أن الأكراد يتعاملون مع فكرة العراق الموحد بما ينسجم والمصالح الكردية. فجميع هذه الأطراف لا يتصور العراق إلَّا على شاكلته ومنواله، وسيبذل كل الجهود حتى لو أدَّت هذه الجهود إلى تخريب العملية السياسية أو دقّ أسفين بين مكونات الشعب العراقي، من أجل الدفاع عن العراق الذي يريده هو دون النظر للاعتبارات والأطراف الأخرى. فعراق هذه الأطراف لا يتحمل الشراكة و التعدد، ويستخدم في رفضه الجوهري لخيار الشراكة و التعدد تعبيرات ويافطات تتعلق بحقوق الطوائف والمذاهب.

وهو حين يحكم أول من ينتهك حقوق هذه الجماعات المادية والمعنوية. ولعلنا لا نضيف شيئاً إلى المشهد العراقي، إن هذا النمط الآحادي من التفكير السياسي في المسألة العراقية هو الذي ينتج الديكتاتوريات، وهو الذي يؤبِّد الاستبداد، ويقمع أي مبادرة لتطوير نظام الشراكة بين تعبيرات الشعب العراقي. وبالتالي فإن تحرر العراق بكل نخبه وأطرافه من هذا المنطق والنمط من التفكير هو أحد الشروط الأساسية لانعتاق العراق من كل محنه المزمنة.

فالعراق يسع كل العراقيين، ولا يمكن أن يُحكم العراق بلون واحد وتوجّه سياسي واحد، بعيداً عن لعبة الأكثرية والأقلية في العراق.. أمن العراق واستقراره مرهون على قدرة نخبه على بناء نظام تشاركي، تعددي. ودون ذلك يعني استمرار العراق في أزماته ومآزقه.

وفي مقابل هذا النمط هناك نمط منطقه يؤمن بالتعددية والمشاركة، إلَّا أن طبيعة الظروف السياسية والأمنية، لا تسمح له لتظهير هذا الإيمان على نحو عملي. تراثه الأيديولوجي والسياسي، ينم عن هذا الإيمان، ولكن سلوكه السياسي وتحالفاته السياسية والاجتماعية لا تعكس هذا الإيمان. فهو لا يبحث عن شريك قوي من الأطراف والتعبيرات الأخرى، هو يبحث عن شريك على مقاسه ومنواله، لذلك يتكدس لديه مثل هؤلاء، ولكن القواعد الاجتماعية والشعبية لا تشعر بأنها ممثلة في المشهد السياسي العراقي. وتبدأ من جراء هذا لعبة المونولوغ، فالجميع يعلن وينادي بإيمانه بالتعددية والشراكة والمواطنة المتساوية، وفي الوقت ذاته الجميع يشتكي من شريكه في الوطن والسياسة، مع إغفال تام لبيان حقائق الموضوع من جميع جوانبه وأبعاده. هل وجدتم شخصية أو جهة عراقية اليوم تقف ضد قولاً وتصريحاً ضد التعددية والشراكة، ولكن على الصعيد العملي الغالبية تقف ضد تأسيس نظام قوي قائم على التعددية والشراكة.

فمشكلة بعض أطراف الشيعة اليوم، هو أنهم نفسيًّا وسياسيًّا لم يخرجوا من موقع المعارضة، لذلك هو يُدير وزاراته وموقعه السياسي وهو أول الباكين على عدم قدرته على إحداث الفارق النوعي في مسيرة هذه الوزارة أو تلك.

وكلنا يعلم أن اللياقة السياسية المطلوبة لإدارة دولة بحجم ومكانة العراق، تختلف عن لياقات ومتطلبات المعارضة السياسية.

وإدارة الدولة بعقلية المعارضة يعني المزيد من الانشغال بالتصريحات الإعلامية والسياسية على حساب المنجزات الملموسة.

لذلك فإن غالبية الشعب العراقي اليوم لا تشعر بأن الحكومات التي حكمت العراق بعد 2003 م تركت بصمات نوعية في واقع وحياة أبناء الشعب العراقي بكل فئاتهم وشرائحهم.

أما مشكلة بعض الأطراف السنية فهي غير مقتنعة أيديولوجيًّا وسياسيًّا من حكم الشيعة للعراق؛ لذلك مهما عمل الشيعة في إدارة الحكم والسياسة ومشروعات الأمن والتنمية، تبقى المشكلة الجوهرية كيف يحكم بغداد من نشك في أصوله الثقافية والاجتماعية, وكان خارج معادلة تأسيس الدولة في العراق الحديث.

ومشكلة بعض الأطراف الكردية أن عواطفهم مع بناء دولة كردستان المستقلة، ولكن عقولهم ومصالحهم السياسية مع عراق موحد، تعددي، اتحادي.

ودائماً بين العاطفة والمصلحة ثمة خيارات سياسية واجتماعية متعددة ومتنوعة إلَّا أنها تتمحور في كل الحالات حول نهج تعظيم المكاسب الكردية حتى لو كان ذلك على حساب وحدة العراق وتطوير تجربته التعددية. وأمام هذه العيوب الجوهرية تتشكَّل ما نسميه بالمسألة العراقية، التي لا زالت تنزف ألماً ودماً من جميع الأطراف والأطياف.

ويبدو أنه لا خلاص من هذه المعضلة المزمنة، التي يعاني منها المشهد العراقي إلَّا بالأفكار التالية:

1- ضرورة إحياء الوطنية العراقية، بعيداً عن النزعات الشوفينية والنرجسية. فثمة وطنية عراقية عميقة موجودة لدى جميع تعبيرات الشعب العراقي، وإن إنهاء الأزمة المزمنة في العراق يتطلب العمل وبشكل حثيث على أحياء الوطنية العراقية، التي لا تفرق بين عراقي و آخر، وتعمل على تطوير نظام الاندماج بين مكونات الشعب العراقي.

فالعراق الموحد لا يحكم بذهنية الطوائف والمذاهب، وإنما بذهنية الوطنية العراقية الجامعة والحاضنة لجميع الحساسيات والخصوصيات.

2- في العراق الراهن انتهى زمن قدرة أي طرف على تحقيق انتصار كاسح على بقية الأطراف في الواقع العراقي. ومن يبحث عن انتصارات كاسحة في المعادلة العراقية هو يؤسس بشكل دائم للحروب الأهلية والداخلية التي تدمّر ما تبقّى من العراق.

فجميع الأطراف والأطياف في العراق محكومة بالشراكة، ومن يبحث عن نظام سياسي بعيداً عن قيمة الشراكة المتساوية بين جميع الأطراف فهو يساهم بطريقة أو أخرى في تمزيق العراق شعباً وجغرافيا.

3- إن تأسيس نظام سياسي تعددي تشاركي في العراق، يتطلَّب من جميع الأطراف تدوير الزوايا والبحث عن حلول سريعة وجادة لأهم المشكلات التي تعترض الحياة السياسية في العراق.

فلا يكفي أن يُعلن جميع الساسة في العراق عن ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية أو إنقاذ وطني، وإنما المطلوب ومن جميع الأطياف إسناد هذه الأقوال بأعمال ومبادرات تحمي العراق من المخاطر المحدقة براهنه ومستقبله.

فالعراق التاريخ والحضارة يستحق من الجميع تقديم التنازلات النوعية، ودون ذلك سيضيع العراق في متاهة الفوضى التي تجتاح المنطقة.

وخلاصة القول: حينما رفع أزلام النظام الصدامي في انتفاضة 1991، شعار لا شيعة بعد اليوم، كان من أبرز وأرقى الإجابات النوعية على هذا الشعار الشوفيني، الاستفزازي، الاستئصالي، مشروع السيد الصدر الثاني، الذي ثبَّت وعزَّز الحضور الشيعي في الفضاء العام. لذلك نرى أن قيمة هذه التجربة نابعة من أنها تشكَّلت في ظروف استثنائية على كل الصعد، وآتت ثمارها العامة في برهة زمنية وجيزة.

 



[1] البقرة، 197.

[2] المائدة، 100.

[3] عادل رؤوف، العمل الإسلامي في العراق بين المرجعية والحزبية.. قراءة نقدية لمسيرة نصف قرن 1950-2000م، المركز العراقي للإعلام والدراسات، الطبعة الأولى، دمشق 2000م، ص480.

[4] الشهيد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة، رقم 21.

[5] عادل رؤوف، العمل الإسلامي، مصدر سابق، ص505.

[6] عادل رؤوفـ محمد صادق الصدر مرجعية الميدان.. مشروعه التغييري ووقائع الاغتيال، المركز العراقي للإعلام والدراسات، دمشق، الطبعة الأولى، 1999م، ص6.

[7] عادل رؤوف، محمد صادق الصدر مرجعية الميدان، مصدر سابق، ص95-96.

[8] المصدر السابق، ص118.