الكتابة الهامشية في مواجهة سلطة المركز
بحث في بلاغة بعض الأشكال المقموعة في الثقافة العربية الإسلامية
الدكتور عبد الفضيل إدراوي*
* باحث في البلاغة وتحليل الخطاب، كلية الآداب، تطوان - المغرب. البريد الإلكتروني:
d_abdelfdil2006@hotmail.com
مقدمة
نروم من خلال هذه الدراسة الدفاع عن فرضية تزعم أن الفئة أو الشخصية المهمشة من لدن سلطة المركز لا تستسلم لقدرها المحتوم، بقدر ما تتخذ من الكتابة مساحة واسعة للتعبير عن موقفها، والإبلاغ عن تجربتها ورؤيتها للعالم.
فقد شكلت الكتابة الهامشية أو المقموعة عبر التاريخ، وسيلة فعالة وسبيلاً ناجعاً لإثبات الذات وترسيخ وجودها، وضمان بقائها في وجه تيارات المحاربة والإقصاء، التي كانت تفرضها السلطة الرسمية. فإذا كانت الكتابة الرسمية المحسوبة على السلطة، تنتج غالباً لتلميع صورة الحاكم، ولخدمة مصالحة المباشرة أو الضمنية، فإن الكتابة الهامشية تقدم نفسها في الثقافة العربية الإسلامية كتابة لها منطقها الخاص، بموجبه تتيح لنفسها التّقنع وفق تشكلات خطابية متعددة، تمثل أحد أوجه المواجهة التي تعتمدها الطبقات المهمشة، لتمرر منظوراتها للعالم، ومن خلالها تمارس الذات المقصية والمهمّشة دورها الإنساني، وتحقق كينونتها بين الآخرين.
الكتابة بين المركز والهامش
تتخذ الكتابة إذن في التراث العربي الإسلامي صورتين مختلفتين، الصورة الأولى تشكلها الكتابة المركزية أو الكتابة الرسمية، وهي الكتابة التي تنتج في حضن السياسة الرسمية، وتكون على وفاق مع الجهاز الحاكم، ومع مؤسساته الإعلامية والتنظيمية والإدارية، وترتبط بالقوى السياسية والاجتماعية المتمكنة من وسائل السلطة والمقربة من الحاكم، تنطق بلسانه وتعبر عن تطلعاته وتخدم مصالحه، وتحاول تلميع صورته، فهي تعبر بصدق عن إرادة الحاكم الرسمي، سعياً نحو الحفاظ على قداسته، وبحثاً له عن مشروعيته في الاستمرار، بغض النظر عن شرعيته أو لا شرعيته.
ومن بدهي القول أن السلطة القائمة «تخلق مجموعة من الناس يتحدثون باسمها، ويعبرون عن أقوالها»[1]، ويكون هؤلاء هم الكتّاب والبلغاء والمنظرون والشعراء والسياسيون ورجال القانون وغيرهم، ممن هم «على وفاق مع الدولة، أو في موقع الخدمة لها، أو العمل أداة من أدواتها»[2].
وعبر هذه الكتابة يمكن النفاذ إلى خفايا وأسرار الخطاب السياسي، الذي يكون أساساً هدفه الإخضاع والتوجيه، ويسعى إلى بسط السيطرة وتحقيق الهيمنة أو الإبقاء عليها وإطالة أمدها أو التغفيل عنها وعدم الانتباه إليها، من خلال نشدان إقامة علاقات تواصلية خفية مع الجمهور، ابتغاء النفاذ إلى المشاعر والقلوب، وإقامة أجواء من الحميمية والإيجابية الموهومة تجاه الآخرين، وربما النيل من بعض الخصوم وتحطيم شخصيتهم[3].
وما تنتجه هذه الجهة يشكل المركز، ويتخذ شكل النموذج الذي له دوره المؤثر والمستوعب لكل فعاليات الكتابة. فيفرض قواعد تتعالى في شكل مقاييس وأخلاقيات، استناداً إليها تعطى الشرعية والاعتراف أو تنتزعان عن أية كتابة أخرى في المجتمع.
وهذا ما يضعنا في صلب الصورة الثانية من الكتابة، وهي كل كتابة تخالف السلطة أو تهددها أو تزعجها، أو «تنزاح بأية صورة عن (النصية المركزية). إنها تظل خارجة عن التقليد النصي المتعارف، وحاملة لقيم نصية مختلفة لا يمكن أن تحظى إلَّا بالرفض والنقض»[4].
فهي في الغالب غريبة ومتوجس منها، تغدو غير مقبولة مركزيًّا، وتصبح متهمة ومهددة وتفقد صفة النصية، وتحسب في عداد كتابة (اللاّنص)، نصيبها التجاهل والإقصاء والتهميش. ومن ثمة فهي موسومة بالكتابة الهامشية أو المهمّشة. وهي في حقيقتها تلك الكتابة المقموعة «التي أنتجتها المجموعات الهامشية التي لعبت دور المعارضة، والتي كانت على خلاف مع سلطة الدولة القائمة. هذه الكتابة تعتمدها الفئات المهمشة، وتشكل الواجهة الإبداعية التي اختارتها هذه الفئات لتطويع اللغة، وجعلها «في الأساس أداة التعرف الوحيدة على العالم والذات، وهي من ثم أهم أدوات الإنسان في امتلاك هذا العالم والتعامل معه»[5].
وتشكل الكتابة الهامشية مساحة العمل الممكنة للمُهمَّشين والمقموعين، ضد إرغامات سلطة المركز وإكراهاتها، التي قد تتنوع بين الترغيب والترهيب والإغراء، ثم الإسكات والقهر والتصفيات الجسدية بالسجن والمصادرة والرقابة والاغتيال... إلخ. فهي بمثابة فضاء هروب، يوفِّر للمقموع المحاصر حقَّ اللجوء السياسي. فإلى فضاء الكتابة، يهرب من الامتلاك والاستهلاك، ويتاح للفرد أن يتمتع بحقه في التعبير بصدق وأمانة عن طموحاته وأفكاره، وفيها يخلق المقموع سلطته، ويتيح لنفسه أن يظهر رؤيته للعالم.
حينئذٍ يغدو خطاب الهامش مزدوج المعنى بحسب توصيف لالاند، «فهو عمل ذهني ونشاط فكري وفعالية عقلية، تخضع لعمليات متواصلة محكومة بالترابط والبناء. وهو تعبير عن فكر معين، وترجمة له عن طريق متوالية من الكلمات»[6]، ويتخذ الخطاب معنى العرض القائم على التلقين والإقناع...، يهدف إلى الإقناع العقلي عبر لغة منطقية تبسط الفكر»[7]، وعبر «معالجة طويلة وجادة لموضوع ما، كلاما أو كتابة»[8].
وغير خافٍ أن هاتين الصورتين من صور الكتابة، تصطفان على طرفي نقيض، وبينهما علاقة تنافر وصراع، ومواجهة حادة. تتمتع الكتابة الرسمية بكل عناصر القوة، فبالإضافة إلى كون المؤسسة السلطوية «تخلق أدوات رمزية عديدة تختفي وراءها»[9] وفي مقدمتها اللغة الرسمية، فهي تعبر عن نفسها بالكيفية التي تريد وتستغل كل الطاقات البشرية والمؤسساتية الممكنة، وتقول ما تريد قوله، وفي الزمان والمكان الذي تراه مناسباً. وتتجاوز ذلك إلى انتهاج سبيل العنف والإرغام عبر مقولاتها الكبرى (الماكروفيزيائية)، والصغرى أو المجزأة (الميكروفيزيائية).
أما الكتابة المهَمَّشة فمضطرة إلى القبول بالحيز الضيق المتاح لها، أو الذي تتمكن من تحصيله لنفسها بطرقها الخاصة، وملزمة باختلاق أساليبها الخاصة، وبناء خطابها وفق ما يتيح لها الاستمرار والبقاء، رغم وجود العوائق والحواجز التي تقيمها أنظمة السلطة، ورغم كل مظاهر الشلل والمنع لتي تحاصرها.
فالكتابة الهامشية محكوم عليها بأن تنتعش في سياقات «الخوف من كل المنطوقات» الذي تفرضه سلطة المركز، التي تجعل كل شيء يجري «كما لو أن أشكالاً من المنع ومن السدود والعقبات والحدود، كانت قد هُيئت بشكل يمكن معه السيطرة، بشكل جزئي على الأقل، على التكاثر المفرط للخطابات، وعلى نحو يتم تنظيم فوضاها»[10].
هذه الكتابة تناضل بحسب إمكاناتها لضمان بقائها وفرض وجودها، وترفض أن تقبل بما تمليه سلطة المركز من «فرض صيغة معينة للتعامل والنظر إلى الأمور، وبالتالي افتراض صيغ ومقاييس هي وحدها التي تمثل الحقيقة. أي إن الحقيقة تكون في مكان واحد ولها شكل واحد، ولذلك ليس أمام الآخر سوى الامتثال والانسجام والموافقة»[11].
إنها تنشد أن تؤسس لنفسها سلطة مضادة، تمكنها من صَدّ تيارات التهميش والقمع التي تفرض عليها. وبعبارة أخرى فهي تنزع نحو محاصرة المركز واكتساح مساحات نفوذ سلطة هذا المركز، ومن تم التأسيس لمركزيتها الجديدة وربما تهميش سابقتها.
إن الكتابة المهمشة تسعى باستمرار لتجاوز سمة (اللانصية)، التي تنعت بها في أفق اكتساب شرعية (النصية)، عبر التأصيل لقيم ومفاهيم وتصورات معرفية تكون مقبولة ومتعارفة، تمثل في الغالب القيم السامية وتسير في اتجاه أن يتحقق الاقتناع بها لتحظى بالقبول والحظوة لدى الرأي العام.
الكتابة الشيعية وقدرية التهميش
يمكننا في هذا السياق أن نستحضر كتابة الشيعة الإمامية المنسوبة إلى الأئمة الشيعة الاثني عشر، بوصفها تمثل أحد أبرز أوجه الكتابة المقموعة في التاريخ الإسلامي. فقد شكلت منذ المراحل الأولى لنشوء الدولة الإسلامية، خاصة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، نموذجاً للرفض المعلن لما يحصل من انحرافات سياسات السلطة المركزية القائمة. فقد ظهر بعد أحداث السقيفة فئة من الناس رفضوا الاعتراف بخلافة أو ولاية أي شخص غير شرعي منصوص عليه بالوحي، و«هم الذين شايعوا عليا (رضي الله عنه) على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصًّا ووصيةً، إما جليًّا وإما خَفيًّا»[12].
فتكون حركة التشيع إذن ممتدة إلى الأيام الأولى للخلافة الإسلامية، وتكون الحركة المعارضة التي امتنعت عن بيعة السقيفة، وتمسكت بعلي بن أبي طالب إماما شرعيًّا، ترجمةً واقعيةً وفعليةً للنظرية الشيعية في السياسة والحكم، وهي النظرية التي جرّت على أتباعها مواقف من المحاربة، وصوراً قاسية من العنف والإقصاء.
وإذا كانت بوادر النظرية الشيعية في السياسة ترجع عند البعض إلى المراحل الأولى لنشوء الدولة الإسلامية، مترافقة مع حركية السياسة منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومتمثلة في أحد أبرز الاتجاهين اللذين رافقا نشوء الأمة وتجربتها؛ اتجاه يميل إلى الاجتهاد واستعمال الرأي الشخصي، واتجاه يؤسس لسياسة الالتزام بالنص التزاماً حرفيًّا، ويبيح الاجتهاد ضمن المساحات غير المشمولة بالتنصيص. فإن هذا الأمر قد برز جليًّا بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقد قدر للاتجاه الأول أن يحكم «فاستطاع أن يمتد ويستوعب أكثرية المسلمين، بينما أقصي الشطر الآخر عن الحكم، وقدر له أن يمارس وجوده كأقلية معارضة، ضمن الإطار الإسلامي العام، وكانت هذه الأقلية هي الشيعة»[13].
ولقد كانت الكتابة المحسوبة على هذا الاتجاه المعارض، منظوراً إليها دائماً بوصفها إنتاجاً غير شرعي، يُتعامل معها بأشد أنواع القسوة والعنف، وتنسب إليها كل التهم، وتتخذ كل الذرائع لمواجهتها وتشريع سلطة القمع في مواجهتها.
وغير عازب عن الأذهان أن السلطة القمعية تجسدت خصوصاً على عهد الأمويين، فقد «كانت ظروف القهر الدموي، الذي مارسته الدولة الأموية بغير انقطاع، في مواجهة الفلول المتبقية من جيش عليّ، وكذلك في مواجهة أهل البيت ابتداء من الحسين، هي الحاسم في توليد الشيعة كتيار سياسي سرعان ما تحول إلى عقيدة كلامية وأصولية»[14]، وكان الاختلاف معهم في الفكر والرؤية والموقف يتم حسمه «عادة بطريقة دموية تكون الدولة في معظم الأحيان طرفاً فيه»[15].
هكذا لا يمكن الحديث عن الكتابة لدى الطائفة الشيعية، إلَّا باستحضار أقسى صور الإقصاء والتهميش التي فرضت عليها عبر التاريخ. فقد نظر إليها دائماً بوصفها كتابة طائفة غير مسموح لها بأن تنشط على الساحة، لأنها تمثل توجهاً ثقافيًّا مضاداً، ورؤية فكرية تهدد الأيديولوجيا الرسمية، التي تبيح لنفسها نهج كل السبل الممكنة لتطويق الكتابة الأخرى ومحاصرتها. فتنسب إليها كل التهم والموبقات التي يمكن أن تحد من غلوائها وتكبت أنشطتها المحتملة، وتوقف حركيتها منعاً لأي اكتساح أو تنامٍ غير مأمون.
من صور قسوة المركز على الكتابة الهامشية
أولاً: تعد عملية الإتلاف أخطر عملية لحقت بالتراث الإمامي في تاريخ الثقافة الإنسانية، فقد أورد الحموي في مادة (بين السورين) من كتابه؛ (معجم البلدان): «أن بين السورين في كرخ بغداد من أحسن محالها،... وبها خزانة الكتب.. لم يكن في الدنيا أحسن كتب منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتَبَرة وأصولهم المحَرَّزَة، واحترقت فيما أحرق من محال الكرخ... وكان من هذه الكتب.. كتب الأدعية المأثورة عن أهل البيت»[16].
ويستفاد من هذا القول أحد أوجه المواجهة والعنف التي كانت تفرضه السلطة الرسمية على الكتابة المضادة، وتحكم عليها بالتهميش والإزاحة بجميع صورها الممكنة.
ويشير المحقق الطهراني إلى أن «جملة من كتب هذه المكتبة الموقوفة للشيعة والمؤسسة لهم في محلتهم كرخ بغداد، هي الأصول الدعائية التي رواها القدماء من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) عنهم»[17]. ومنها كتاب «مهج الدعوات» لابن طاووس، الذي يشير إلى أنه لما ألف كتابه «كان لديه نيفاً وسبعين مجلدا من كتب الدعاء»[18]، ومستدرك على كتاب «المصباح الكبير» في خمسة عشر مجلدا[19].
فقد لحقه الإحراق والإتلاف، الأمر الذي يجعل الباحث أمام تساؤلات جدية عن أهمية هذا التراث وقيمته وخطورته التي استدعت الحرق والإتلاف، حيث يتجاوز الدعاء مجرد كونه خطاباً للتعبد والتهجد الشخصي، أو مجرد كتابة «يكون فيها فعل الاعتراف واجباً وضروريًّا كلحظة تنوير فيها يتمكن الإنسان من التغلب على قصوره»[20]، وإلَّا لما كانت منه هذه الهيبة، ولما أثار هذه المخاوف التي أودت به ومسته في وجوده وكينونته.
ثانياً: تشكل الكتابة التاريخية مظهراً آخر من مظاهر العنف الذي اعتمدته السلطة المركزية في مواجهة الهامش، فقد تحولت من ممارسة موضوعية، إلى وظيفة لتركيز الأيديولوجيا السائدة وإثبات شرعية السياسة القائمة. فالتأمل في الكتب التي أرخت للملوك والأمم يبين أن المؤرخ الرسمي «رجل منخرط رغماً عنه في الصراع السياسي، لأن قطاع المعرفة كله بيد البلاط، ولا حديث حينئذٍ عن استقلال المؤرخ»[21].
ومن نماذج ذلك ابن خلدون (ت 808 هـ)، وخصوصاً في كتاب المقدمة[22]، فقد اكتفى الرجل في حديثه عن الشيعة بذكر اختلافاتهم ومواقفهم السياسية بشأن الإمامة والخلافة. واجتهد في إيراد بعض النوادر والمواقف الشاذة المنسوبة إليهم، فهو يجعل الإمامية الاثني عشرية في عداد الغلاة[23]. ويبدي ميلاً واضحاً لنقض ودحض وتكذيب أغلب أفكار الشيعة الإمامية، لأنهم أصحاب تأويلات فاسدة[24]، ويفند دعوى أهمية الإمامة عند الشيعة، مبيناً أنها ليست من كمال الدين ولا من أصوله، وإنما هي من «المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق، ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة»[25].
لكن عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن السلطة القائمة، والبحث عن شرعية استمراريتها وبقائها تصبح الإمامة عنده هي الأصل، والصلاة متفرعة عنها وراجع أمرها إليها: «فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة، كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها وداخلة فيها، لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام المشرع فيها على العموم»[26].
وهو يتبنى مواقف من أحداث تاريخية محرجة، فينتقد خروج الحسين بن علي في واقعة كربلاء التي انتهت بمقتله على يد السلطة الأموية اليزيدية، فيرى أنها غلط[27]. وعندما يتعلق الأمر بخطأ الحاكم معاوية في تنصيب ابنه يزيد الذي تبين فسقه كما يصرح هو نفسه[28]، رغم ذلك فإننا نجده يبحث له عن الأعذار والتبريرات: «وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه؛ مع أن ظنهم كان به صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يُظَنَّ بمعاوية»[29].
فيبدو كيف أن المؤرخ يؤسس لشرعية السلطة المركزية، ويضفي عليها الشرعية التاريخية ولو على حساب العقل والمنطلق المتعارف، تمهيداً لسلب الشرعية عن كل كتابة أو فكر لا يماشي هذه السلطة المركزية.
وعلى الدرب الإقصائي المتغالب نفسه تسير منهجية الكتابة لدى المؤرخ ابن كثير، فهو لا يتوانى في إلصاق كل توصيف شنيع بالطائفة الشيعية، تماشياً مع منطق السلطة الإقصائي، فالشيعة عنده هم «الروافض» وأصحاب الادعاء و«البدعة الشنعاء» و«قلة العقل أو عدمه»[30].
ثالثاً: وقد سُلِّط سيف الفتوى بشكل قاسٍ على هذا الإنتاج، ووظفت توظيفاً تحامليًّا كانت له الآثار السلبية الخطيرة على مصير المنظومة الفكرية الشيعية برمتها، ساهمت في تشكيل المخيال العام الذي قام على التموقف السلبي من منها. ويكفي أن نقف مع نموذج ابن تيمية (المتوفى 728هـ)، في كتابه؛ «منهاج السنة النبوية»[31] وهو أهم كتاب تضمن مواقفه الصريحة في الشيعة الإمامية، ويعنينا بشكل خاص من هذا الكتاب مواقفه من الشيعة، ورأيه في معتقداتهم وأفكارهم.
إن الرجل يلجأ إلى إطلاق أحكام وتوصيفات اتهامية قاسية ضد الشيعة عموماً، ففي معرض مناقشته مسألة تقديمهم آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتشبثهم باتِّباع أئمة أهل البيت، يرى أن «فكرة تقديم آل الرسول هي من أثر الجاهلية في تقديم أهل بيت الرؤساء»[32]، ويصف الأحاديث التي يتشبث بها الشيعة عن الولاية بـ«الكذب الموضوع»[33].
وفي تعريف الشيعة يركز على انحرافات الغلاة منهم ويعمم أحكامه، فيستعرض جملة من أخطاء الغلاة، ثم يقول: «وهذا دأب الشيعة دائماً، يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال»[34]. وعنده إن «أول بدعة حصلت في الإسلام، بدعة الخوارج والشيعة»[35]. ويسميهم رافضة[36]، وتبعاً لذلك هم منافقون زنادقة؛ «وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة»[37].
رابعاً: وقد اتخذت المحاربة صورة العقلانية والجدل والبرهان، طريقة أخرى لتطويق الفكر الشيعي. ويمكننا أن نمثل لهذا المسلك بمشروع الفيلسوف محمد عابد الجابري، فقد تميزت مقاربته للفكر الشيعي، ولتاريخه السياسي، بنزوع جدلي محكوم بهاجس سياسي أيديولوجي يتوسل بالانتقائية والابتسار، ويعمد إلى افتعال صراع مع العقل الشرقي عموماً. فهو يرجع المعارضة الشيعية إلى أصول سبئية «نسبة إلى عبدالله بن سبأ... أما غلاة الشيعة الذين ظهروا بأعداد لافتة للنظر، مباشرة بعد مقتل الحسين، فإن معظمهم كانوا من أصل يمني، ويروجون لعقائد ترجع بها مصادرنا التاريخية إلى ابن سبأ»[38].
فالجابري رغم إدراكه الاختلافات الكبيرة بين المؤرخين حول هذه الشخصية، ما كان يقتضي منه مزيداً من الدقة والتمحيص، والانفتاح على كل الكتابات التي تحدثت عنه. إلَّا أنه اختار أن يُغَيِّب ما قالته مصادر وتحقيقات الطرف الشيعي، ليفترض أنه شخصية حقيقية ومؤسسة للتشيع. فتصبح عناوين كبرى وبارزة في المعتقد الشيعي الإمامي من إملاء هذا اليهودي، «.. وستقوم على أفكاره هذه جملة آراء وعقائد في الإمام والإمامة اكتست طابعا ميثولوجيا»[39]. فيصبح التراث الشيعي برمته من إيحاءات هذا اليهودي المتأسلم، وتصبح معتقدات راسخة في الفكر الشيعي، لا أساس لها في الذاكرة العربية الإسلامية، ودخيلة ومستوحاة من العقيدة اليهودية.
وعلى هذا الأساس يبني الجابري مشروعه، فالسبئية عنده «هم أول من أطلق على عليّ بن أبي طالب لقب (الوصي)، والمقصود هو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى له بالإمامة من بعده»[40]. وهو حكم مطلق ونهائي يتجاهل من خلاله الجابري كل المصادر التاريخية والحديثية، السنية منها والشيعية، التي تثبت وجود هذا اللقب ورسوخه وأصالته في الثقافة الإسلامية.
بل إن الباحث يجعل من شخصية المختار بن أبي عبيد الثقفي، الذي عرف بتحركه السياسي المعارض بعد موت علي بن أبي طالب، هو المؤسس للنظرية الشيعية برمتها. فيرى أنه هو الذي طرح فكرة الطلب بدماء أهل البيت، والدفاع عن الضعفاء، إضافة إلى سجع الكهان، وهي كلها «جملة أفكار ستصبح الأساس الذي ستقوم عليه النظرية الشيعية في الإمامة... وتشكل البنية التي تقوم عليها ميثولوجيا الإمامة عند غلاة الشيعة، ونظرية الإمامة عند المعتدلين منهم»[41].
فيبدو كيف أن كل فرق الشيعة عند الجابري هم في خندق واحد، يجمعهم الولاء لأفكار المختار ولمعتقداته التي تختلط بسجع الكهان، وترجع في أصلها إلى عقائد يهودية نشرها بحنكة ومكر بالغين عبدالله بن سبأ.
فوجب تبعاً لهذا التأسيس إعلان القطيعة مع الشرق، لأنه فضاء جغرافي يستنبت بنية غير عقلانية، تمثلت في الموروث الشيعي الباطني الهرمسي الغنوصي، عنوانها العام العقل العرفاني المشرقي (اللامعقول)، الذي لم يكن، بهذه المواصفات، ليخدم (المعقول) أو الفلسفة، بقدر ما كان يجرها إلى الخلف ويصبغها بطابعه الباطني الظلامي، فقد «كانت الفلسفة في المشرق متجهة إلى الوراء». و«استعملت العقل لإضفاء نوع من المعقولية على ما هو لا عقل»[42]، فهي «ذات الملامح الهرمسية المخاصمة للعقل»[43]، مرفوضة وغير مرحب بها.
كل هذا كان له بلا شك الدور الحاسم في صياغة الموقف السلبي لدى العامة من الفكر الشيعي، ومن أتباع أهل البيت. حيث يغدو هذا الفكر، بتوجيه من الكتابة الرسمية وتحت سلطة الفتوى الشرعية، ضحية تعميمات هذه الفتاوى، وضحية إطلاقاتها وتعميماتها. فغدا كل ما يمت إلى الشيعة بصلة، حتماً مقرون بالبدعة والزندقة والنفاق والكذب والوضع والجهل والغلو والغنوصية الظلامية.
ما يجعل من هذا الفكر محط الاتهام والريب والتوجس والحيطة، في أحسن الأحوال. وإلَّا فهو محكوم عليه بالحرب العلنية وبالمواجهة المباشرة والحتمية، بجميع الأساليب الممكنة والمتاحة، من أجل إقصائه من الساحة، وتخليص الناس من فتنته، وإراحة البال من خطره.
سلطة المركز وسياسة الانحراف لترسيخ التهميش
تتبدى خطورة هذه الكتابة حينما نضعها في سياقها المرجعي، ونربطها بالظروف السياسية والاجتماعية التي صاحبتها، وهي ظروف تميزت بالانحراف عن الخط الأصيل لرسالة المجتمع الإسلامي. فقد كانت تولية الأمويين زمام الحكم بداية تصدع في جسد الأمة السياسي، حيث فرض نظام الحكم الجبري وتم الارتداد عن مبدأ الشورى والخلافة، أعقبه حالة من الفساد العام، حيث عمّ الانحراف وانتشر الترف ونزعت الأنفس نحو اللهو والغناء والمجون، وانتشرت الخمور، حتى أضحت مكوناً أساساً داخل قصور الخلفاء، مثلما جلبت القيان والإماء، وأصبح لها أمكنتها المشهورة.
يقول المسعودي: «وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه وعلى يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:
اسْقِني شرْبَةً تَرْوِي عِظامِي
ثُم مِلْ فاسقِ مِثلَها ابْنَ زِيادِ
صَاحبَ السّرّ والأَمَانةِ عنْدي
وَلتَسْديدِ مَغْنَمِي وَجِهادي
ثم أمر المغنين فغنوا به. وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وشاع في أيامه الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي وأظهر الناس شر الشراب. وكان له قرد يكنى بأبي قيس يُحضره مجلسَ منادمته ويطرح له متكأً، وكان قرداً خبيثاً، وكان يحمله على أتان وحشية، قد ريضت وذلّلت لذلك بسرج ولجام، ويسابق بها الخيل... وعلى أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مشمر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع من الألوان»[44].
هذه الأجواء المنحرفة الموغلة في الملذات والانسياق مع حياة الترف، كانت بمثابة سياسة عامة مخططاً لها من لدن السلطة القائمة، جعلت المناخ العام مناخ فراغ روحي ولهو وعبث وتشبيب بالنساء، وتفاخر في شرب الخمر، والتغزل بالنساء والتشبيب بالقيان والجواري وحتى بالذكور. فانساق الشعراء والمثقفون مع الملذات والمغريات، وجرف التيار السياسي الاجتماعي في هبوطه الجميع، وانشغل الكل بالمنحط والتافه من الأمور، وأقاموا على الذميم من الفعال وانشغلوا بالمعازف والملاهي.
فأصبح كيان الدولة العام مهدداً في وجوده، خاصة وقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وانفتح المجتمع الإسلامي على ثقافات متنوعة، وأعراف تشريعية جديدة. وصاحب ذلك الامتداد موجات من الرخاء أضحت تهدد كيان المجتمع المسلم «لأن موجات الرخاء تعرض أي مجتمع إلى خطر الانسياق مع ملذات الدنيا والإسراف في زينة هذه الحياة المحدودة»[45].
هذا السياق المنحرف يؤشر إلى بروز ملامح انهيار الدولة الإسلامية، التي أخذت «تتخلى عن قيادة المجتمع، والمجتمع الإسلامي يتفكك، والإسلام يقصى عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للأمة»[46].
الكتابة الهامشية وسلاح الأنسنة
في سياق الانحراف الذي كانت تنهجه سلطة المركز، ومع سيادة منطق القمع والتخويف وسياسة التصفية الجسدية التي كانت تفرضها الجهات الحاكمة على أتباع أهل البيت عموماً، وعلى زعمائهم تخصيصاً، لم يكن الأئمة من آل البيت ليستسلموا للأمر، أو ليرضوا بواقع الحال ويتركوا الانحراف، ويتخلوا عن أدوارهم الإصلاحية، خاصة وهم -بحسب منظومة التفكير الشيعية- هم الأئمة المحددون والمعيَّنون بالوحي (قرآن وسنة)[47].
وبعبارة أَلْفْرِدْ بِلْ: «المقررون بقرار إلهي... ولهم مكانتهم الدينية.. من عترة النبي»[48]، و«الوارثون لمكانته السامية، وعلومه ومناقبه الروحية الخاصة، وهم جميعاً من ذريته المباشرة من زوجته فاطمة، وهم إذاً، بعد علي بن أبي طالب، حفيد الرسول الحسن، وبعده الحسين، وبعده سلسلة الأئمة العلويين التسعة»[49].
وهم من يعرف بالأئمة الاثني عشر، لهم ارتباط نسَبِي بالبيت النبوي، وكان لهم تبعاً لذلك مسؤوليات ترشيدية وتخليقية شبيهة إلى حد كبير بمسؤوليات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهم من يضمن «سلامة الهداية الدينية للأمة الإسلامية من الناحية الروحية»[50].
لقد أدرك الأئمة الشيعة أن المجتمع البشري لا يمكنه أن يكون مجتمعاً فاعلاً وإيجابيًّا، ولا يمكن أن يوسم بالمجتمع الراشد، حقيقة ولا اعتباراً، ما لم يكن الأفراد الذين يُؤَلِّفونه متصفين بالقدر الكافي من الفاعلية التي تؤهلهم للمبادرة والمشاركة المثمرة في بناء الحضارة الإنسانية، وتشييد المجتمع القائم على أركان وأسس العيش الإنساني الكريم، الذي لا يتنكر فيه الإنسان لإنسانيته.
لقد امتثل الأئمة للرؤية التخليقية الترشيدية التي تحكمت في منظورات الأنبياء والرسل إلى الإنسان، إذ «الشيء الذي يريده الأنبياء (عليهم السلام) هو الإنسان ولا يوجد شيء آخر، فكل شيء ينبغي أن يتحول إلى صورة إنسان، فإذا تمت صناعة الإنسان يصلح كل شيء»[51].
ويعد العنصر الأخلاقي أساس إنسانية هذا الإنسان، فإذا لم تكن الغايات التخليقية من أولويات الحركة التغييرية في أي مجتمع مستنهَض، فإن الفشل يكون حتماً حليف هذه الحركة.
وغير خافٍ أن رواد الحركة الإصلاحية وزعماء التغيير في الزمن المعاصر، يشيرون إلى أن الخطر الأكبر المهدد للشعوب المستضعفة من قوى الاستكبار العالمي، هو «سلب الاعتقاد بالدين وبالأصول الثورية وبالفكر الفعال.. بهدف القضاء على جذور الثقافة والتراث الفكري والقومي للشعوب»[52].
فالخوف الحقيقي لقوى الاستكبار هو «من الإيمان العميق عند الشعوب الغيورة والمعتقدة بالأصول والقيم»[53]. وأهم ما تعمل من أجل تحقيقه هذه القوى هو «القضاء على المفاهيم الإسلامية في الأذهان»[54]. لذا فإن جوهر العمل التثويري في خطابات الأئمة الشيعة تركز مبكّراً في محاولة صناعة الإنسان، عبر صياغة المنظومة القيمية التخليقية الكفيلة بتكوين الإنسان القادر والفاعل في محيطيه الخاص والعام.
الدعاء من محراب التهجد إلى معركة الكدح
إن المقام لا يتسع لتتبع تجليات وصور المواجهة لسلطة المركز في مختلف أشكال الخطاب في الكتابة الشيعية، نكتفي بالخطاب الدُّعائي في المنظومة الشيعية الإمامية، بما هو خطاب روحاني[55] موسوم بالفردانية التعبدية، لكنه زيادة على ذلك خطاب فكري محكوم بإكراهات أي خطاب آخر في الجماعة اللغوية، مؤطر ضمن العلاقة التواصلية العامة: «كل تلفظ (énonciation) يفترض متحدثاً وسامعاً (أي باثًّا ومتلقياً)، ويفترض عند الأول نية التأثير على الثاني بشكل من الأشكال»[56].
إن خطاب الدعاء في منظومة التفكير المهمَّشة هذه، يفترض النظر إليه واقعاً «في صميم إشكالية التلفظ»[57]. وهو أبعد من ذلك يجسد «رغبة الجماعات المحكومة بإيجاد أساليب للتعبير عن آراء مخالفة عبر حياتها الثقافية.. ورد سريع لاذع على ثقافة رسمية هي في الغالب تحط من القدر»[58]. فيغدو الدعاء بمثابة سياسة تحتية واقعية تمارسها الذات الخاضعة لسلطة قهرية، لتحقيق ما يسميه بارنغتون مور «النصر على الحتمية»[59]، حتمية سلطة المركز.
فلا يمكننا البتة أن نستثني الدعاء عن هذا التموضع الخطابي العام؛ بثرائه بحمولة ما، وبتضمنه موقفاً ما، تتوفر النية لدى صاحبه لتسريبه إلى الغير، أي إنه ذو غاية تعبيرية مقصودة من فعل الخطاب، صراحةً أو ضمناً. خاصة والدعاء في أصله اعتراف وبوح، وهو كشف عمَّا في دواخل النفس، واستدعاء لحاجات مختلفة ترى فيها الذات خلاصها الوجودي. وهو بذلك خطاب مرتبط بتصوير إنساني لعوالم الذات، وهواجسها وتطلعاتها وكوامنها الداخلية الفكرية والنفسية معا.
لقد اتخذ أئمة الشيعة المقموعون الدعاء بوابةً مهمة لبث روح التوعية والتغيير في المجتمع، فقد كانوا «حتى في الدعاء يضعون الواجبات الاجتماعية التي عليهم نصب أعينهم»[60]. وقد ظلت الغاية التخليقية الاجتماعية تتصدر مجمل اهتماماتهم ومدار رسالتهم في المجتمع؛ أن يقودوا الأمة نحو الصلاح والرشاد، واضعين أنفسهم في موقع القدوة لغيرهم، وتقديم الصورة المثلى للحالة الفكرية الإسلامية، عبر تصديهم لتمثيل «المرجعية الفكرية والمرجعية في العمل القيادي الاجتماعي.. لملء الفراغات التي قد تواجهها ذهنية المسلمين، وتقديم المفهوم المناسب ووجهة النظر الإسلامية فيما يستجد من قضايا الفكر والحياة»[61].
إن رسالة الدعاء الصادر عن الإمام، تنشد بناء مجتمع إنساني نموذجي، تؤسسه العلاقات الاجتماعية المتميزة، وتربط بين أفراده علاقات من الحب والود والوئام. كل ذلك سعياً للتمكن من مشاعر الناس وامتلاك قلوبهم، من أجل تتبع الإمام الحق بديلاً عن القيادة المنحرفة. لذلك وجدنا الجاحظ يشير إلى المكانة الإجلالية التي ظفر بها الأئمة في وعي الناس، على الرغم من التهميش الذي فرض عليهم. يقول في إحدى رسائله في علي بن أبي طالب والأئمة من ولده[62]: «فلو أفردنا لأيامه الشريفة، ومقاماته الكريمة، ومناقبه السنية، كلاماً، لأفنينا في ذلك الطوامير الطوال، العرق صحيح، والمنشأ كريم، والشأن عظيم، والعمل جسيم، والعلم كثير، والبيان عجيب، واللسان خطيب، والصدر رحيب، فأخلاقه وفق أعراقه، وحديثه يشهد لتقديمه، وليس التدبير في وصف مثله إلَّا بذكر جمل قدره، واستقصاء جميع حقه»[63].
وهو يشبه ابنيه الحسن والحسين، بالشمس والقمر في نفعهما الناس وسيادتهما على الخلق، وتميزهما في الصدق والحِلم والعلم والطهارة والزهد والعبادة والأعمال الكثيرة[64]. ويجعل عليًّا بن الحسين زين العابدين، صاحب (الصحيفة السجادية) الجامعة للأدعية والمناجاة، في المرتبة نفسها، فالناس عنده، «على اختلاف مذاهبهم مجمعون عليه.. لا يشك أحد في تقديمه»[65].
لذا وجد النظر إلى الخطاب الدعائي للأئمة بوصفه واجهة إضافية من الواجهات التربوية التي تصدوا لها في المجتمع، وبوصفه إستراتيجية خطابية تتيح للشخصية المهمشة ممارسة دورها التوعوي بهدوء أكثر، وخوض صراعها بصورة أكثر نعومة.
في نماذج دعائية للإمام زين العابدين: «..ولاَ تفْتِنِّي بِالاسْتِعَانة بِغَيرِك إِذاَ اضْطُرِرْت، ولاَ باِلخُشُوع لِسُؤَال غَيرِك إِذاَ افْتقَرت، وَلاَ بِالتَّضَرُّعِ إِلى مَنْ دُونَك إِذاَ رَهبْتُ، فَأسْتَحِقَّ خذْلاَنَك ومنْعَك وَإِعرَاضَك.. اللّهم مَن تَهَيَّأَ وتعَبّأَ وَأَعَدَّ واسْتَعَدَّ لِوفَادةٍ إِلى مخْلوقٍ رجَاءَ رفْدِه وطَلَب نَائِلِه وجَائِزَته، فَإِلَيْك يَا رَبِّ تعْبِيَتِي وَاسْتِعدَادي رَجَاءَ عَفْوِك وطَلَبَ نَائِلِك وَجَائِزَتك»[66].
وفي آخر: «اللّهم إِنِّي أَخلَصْت بِانْقطَاعِي إِليْك، وصرَفتُ وَجْهِي عَمّن يَحْتَاج إِلى رفدك، وقلَبْتُ مَسأَلتِي عَمّن لَم يَسْتغنِ عَن فَضلِك، وَرَأيْتُ أَن طَلَب المحتَاج إِلى المحتَاج سفهٌ مِن رَأْيه، وَضلَّةٌ مِن عَقْله»[67].
تبدو الدعوة صريحة إلى ضرورة التماس الحاجات جميعها من الله، وتبدو فلسفة الإمام الرامية إلى تعليم الناس تجنب مذلة المخلوقين، لأنهم جميعهم عيال الله ومحتاجون إليه. والداعي بهذا يرسم طريق العزة والكرامة للإنسان، فينبغي أن تلتمس من الله، لا من الحكام والأقوياء بالمال أو السلطان أو غير ذلك.
وكثيرة هي النصوص التي تبدو منها نفحة الارتباط بالآخر والاهتمام بشؤونه وتقديمه على الذات الداعية نفسها: «اللّهم أَدْخِل عَلى أَهْلِ القُبُورِ السُرُورَ، اللّهم أَغْنِ كُل فَقِيرٍ، اللّهم أَشْبِع كُل جَائِع، اللّهم اكْسُ كُل عُرْياَن، اللّهم اقْضِ دَيْنَ كُل مَدِين، اللّهم فَرّج عَن كُل مَكْرُوب، اللّهم رُدّ كُل غَرِيب، اللّهم فُكَّ كُل أَسِير، اللّهم أَصْلِح كُل فَاسِد مِن أُمُور المُسْلمِين اللّهم، اشْفِ كُلَّ مَرِيض، اللّهم سُدَّ فَقْرَنا بِغِنَاك، اللّهم غَيّرْ سُوءَ حَالِنا بِحُسنِ حَالِك، اللّهم اقْضِ عَنَا الدّينَ، وأَغْنِنا مِن الفَقْر، إِنّك عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِير»[68].
فثمة تركيز على حاجات الآخرين قبل الحاجات الخاصة بالداعي، وتوسيع الأفق ليشمل الأموات والأحياء على حد سواء، فتصبح الأنا جزءاً من النسيج الاجتماعي العام ومحوراً له، بغض النظر عن الانتماء أو الموقف. فالجميع مشمولون بحق الاهتمام والرعاية، تحقيقاً لمبدأ الأخوة الاجتماعية، وتجسيداً لأواصر الترابط المنشودة في المجتمع الإنساني.
بل إن في تراث الأئمة أدعية بكاملها مخصّصَة للآخرين؛ من الجيران والأولياء والأصحاب وغيرهم ممن يأتي على ذكرهم الداعي. ومتى استرسل الداعي في دعائه لنفسه وتوجه إلى الله في عرض مطالبه تجده لا ينسى الآخرين: «اللّهم صَلِّ عَلى مُحَمّد وآلِ محَمد وَتوَلَّنِي فيِ جِيرَانِي وموَالِي وَالعَارفِين بِحَقِّنَا والمُنَابذِين لأَعدَائِنَا بِأَفْضل وِلاَيتِك.. في إِرْفَاقِ ضَعِيفِهِم، وسَدّ خلَّتِهم، وعِيَادَةِ مَرِيضِهم، وهِدَايةِ مُسْترشِدهم، ومناصَحَة مُستَشِيرهم، وتَعهُّدِ قَادِمِهم، وكِتمَانِ أَسْرَارهم، وَسَتر عَورَاتِهم، وَنُصْرَة مظْلومِهم، وحُسْن مُوَاسَاتِهم بِالمَاعُون والْعَوْد عَليهم بِالِجدةِ والإِفضَال، وإِعطَاءِ مَا يجِب لَهم قَبْل السّؤَال، واجْعَلنِي اللّهُمَّ أَجزِي بِالإِحسَان مُسِيئَهُم، وأُعْرِضُ بِالتجَاوُز عن ظَالمهم، وأَستعملُ حُسْنَ الظّنِّ في كَافَّتِهم، وَأَتَوَلَّى بِالبِرِّ عَامَّتَهم، وأَغُضُّ بصَرِي عَنْهم عفَّةً، وأُلينُ جَانبِي لَهم توَاضُعًا، وأَرِقُّ عَلى أَهْل البَلاَء منهم رَحْمةً، وأُسِرُّ لَهم بِالغَيب مودّةً، وأُحبُّ بقَاءَ النِّعْمَة عندهم نُصْحًا، وأُوجِب لهم مَا أُوجِبُ لحَامَّتِي وَأَرْعى لخَاصَّتِي»[69].
فنرى كيف أن الدعاء «يشق طريقه إلى الأفراد ليجمع صفوفها، ويوحد خطوها، ويحدد هدفها،.. ينمي روح التضحية، ويغرس شجرة الصفاء والإخاء والتعاون بين الجميع»[70].
بل إن الذات الداعية تقدم نفسها قائداً حضاريًّا ونموذجاً بشريًّا ينشد الكمال في المجتمع الإنساني، ويعمل من أجل صياغة تلك الفئة البشرية الصالحة المتوافقة مع منظوره الإصلاحي ورؤيته التي تؤسس للمجتمع الصالح. وتلك هي الوظيفة الترشيدية المنوطة بالقيادة الصالحة في المجتمع، بغض النظر عن موقعها في المجتمع أو الإكراهات التي تفرض عليها.
وليس أدل على هذا الأمر من هذا النص، الذي يبدو نصًّا اجتماعيًّا بامتياز، فالداعي لا يعنى بمطالبه الخاصة، ولا يركز على شؤونه الذاتية وهواجسه وطموحاته الفردية، بقدر ما يجعل من نفسه جزءاً من النسيج الاجتماعي، متعالقاً مع الآخرين، ومعانقاً المشترك الإنساني. فغايته أن يبني مجتمعاً إنسانيًّا مثاليًّا، تكون فيه الذات أساساً ومنطلقاً لكل الفضائل والقيم الإيجابية المثالية المفتقدة في ظل سياسة الانحراف المخطط لها من لدن السلطة المركزية؛ (الرفق بالضعيف، سد الخلة، عيادة المريض، الهداية والنصح، التعهد، كتمان السر وستر العورات، نصرة المظلوم، المبادرة نحو مساعدة المحتاج ماديًّا ومعنويًّا، جزاء المحسن والغض عن المخطئ، حسن الظن، العفة، اللين والرقة والرحمة، إضمار المودة والحب للجميع، تنزيل الجميع منزلة الأهل والخاصة).
والملاحظ أن ثمة تقابلاً بين ضمير المتكلم المفرد العائد على الداعي، وضمير الغائب الجمع، العائد على أفراد المجتمع بكل أطيافهم وفئاتهم. ويتحقق التواصل بين الطرفين عبر جملة من الإجراءات الفردية، المساهمة في عمليات بناء وتشييد مستمرة للعلاقة الاجتماعية المنشودة.
وهذه -بحق- ترجمة أسلوبية للدور البارز الذي يتوجب على الداعي -وهو الذي يقدم نفسه قائداً مصلحاً بدل الحاكم الفعلي الذي استسلم للانحراف- أن ينهض به من جانبه في بناء المجتمع. فلا يمكن تصور مجتمع قوي ومثالي ومتماسك، إلَّا إذا كانت قيادته خيرة، تبادر إلى الفعل الحسن وتسير في اتجاه الإصلاح والبناء.
هذا السير يترجمه الداعي عبر سلسلة من الإجراءات الأسلوبية التي تتخذ صورتين؛ صورة المصادر؛ (ولاية، إرفاق، سد، عيادة، هداية، مناصحة، تعهد، كتمان، ستر، نصرة، مواساة، الجدة، الإفضال، إعطاء)، وصورة الأفعال المضارعة؛ (أجزي، أعرض، أستعمل، أتولى، أغض، ألين، أرق، أسرّ، أحب، أوجب). ولعل في اختيار الداعي بنية المصدر ما يشير إلى رغبته في تجريد الفعل من الزمن، وجعله حدثاً مطلقاً غير مرتبط بزمن أو مكان.
وكأنه يبغي القول: إن القيادة مطالبة بأن تتجرد للفعل الحسن، وتبادر إليه في علاقتها بالغير، من دون ارتباط بزمانه أو مكانه. كما أن في المصدر ما يشعر بتأكيد الحدث وإنجازه على وجه الإطلاق، وهذا بعد تأثيري غايته تعليم الناس قيم التجرد المطلق لخدمة الإنسانية.
وفي انتقال الداعي إلى بنية الفعل المضارع في الجزء الثاني من النص، بعد حجاجي إقناعي مؤداه الإشارة إلى كون خدمة الآخر والتفاني في تعهده -تعد في عرف الإمام- رسالة أبدية ومجردة، ترتبط بوجود الإنسان في المجتمع. فما دام الإنسان موجوداً بين الناس، فوظيفته أن يخدم الآخرين ويقودهم لبناء المجتمع المتكامل.
واللافت أن الذات، وهي تنشد بناء العلاقة التواصلية مع الآخر، لا تشرط ذلك بحالات أو مواقف معينة، ففي حديث الداعي عن الآخرين، يكشف عن حالات مختلفة كالمرض والفقر والجهل والحاجة.. إلخ.
لكن عندما يتعلق الأمر بالحديث عن دوره حيال هذه الحالات، فإنه لا يكشف عن أية حالة معينة تهم ذاته الخاصة. وهي نكتة دالة وطريفة، مفادها أن مسؤولية الذات في خدمة الآخرين وفي بناء المجتمع مسؤولية مطلقة وغير مشروطة، وهي بمثابة تكليف حتمي، لا يرتبط بظرف أو موقف معين. فحتى في حال افتقدت الذات القدرة المادية على الفعل لعارض ما، كالفقر أو المرض مثلاً، فإن مبادرات باطنية تبقى متاحة كالدعاء والحب وغيرهما.
ومن ثمة فعبر الدعاء يجسد الإمام «أفضل صور التضامن الاجتماعي والتكافل الإنساني، بما يحمل في طياته من معاني الحب وتنمية أواصر الإخاء بين مختلف بني البشر»[71].
هذه المعاني الاجتماعية هي التي عبر عنها أحد الأئمة بقوله: «هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَني هَوَايَ، وَيَقَودَني جَشَعي إِلى تَخَيُّر الأَطْعِمَةِ، وَلَعَلَّ بِالحِجازِ مَنْ لا طَمَعَ لهُ فِي القُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوَ أَبيتُ مِبْطَاناً وَحَوْلي بُطونٌ غَرْثَى، وَأَكْبَادٌ حَرَّى؟!.. أَأَقْنَعُ مِن نَفْسي بِأنْ يُقَالَ: هَذا أميرُ المؤمنين، ولاَ أُشَاركُهُم فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونُ لَهُم أُسْوَةً في خُشُونَةِ العَيْشِ؟ فمَا خُلِقْتُ لِيشْغلَنيِ أَكْلُ الطَّيبَاتِ كَالبَهِيمَةِ، المْربُوطةِ هَمُّهَا عَلفُها، أَو المرْسَلَةِ شُغْلُهَا تَقَمُّمُهَا..»[72].
فالذات ترى قيمتها الحقيقية في الانشغال بالواقع وبحاجيات الناس وبهمومهم، وفي مشاركتهم نوائب الدهر ومكاره العيش. كما أن الغاية الإنسانية الكبرى ليست في تمتيع الفرد نفسه بما تطلب وترغب فيه، وإنما في السعي لتجسيد قيم الخير والصلاح في المجتمع، وفي القدرة على الخروج من سجن الذات الضيق والانفتاح على الآخرين.
إن الدعاء وسيلة إبداعية لتعريف الإنسان بواجباته الإنسانية تجاه الآخرين: «اللّهم إِني أَعتَذرُ إِليْك مِن مَظلُومٍ ظُلم بِحضْرتِي فلم أَنصُرْه، ومِن معْرُوفٍ أُسدِيَ إليَّ فَلمْ أَشكُرْه، ومِن مُسِيءٍ اعتَذرَ إِليَّ فلم أَعذُرْه، ومن ذِي فَاقةٍ سألَنِي فلَم أُوثِره، ومن حقِّ ذِي حقٍّ لزمنِي لمؤمن فلم أُوَفِّرْه، ومن عَيبٍ ظهَر لِي فلمْ أَسْتُرْه»[73].
فنحن أمام صور رائعة من صور النموذجية، ونكران الذات مطلوباً أن تتحقق في القائد تجاه الغير؛ نصرته إن ظلم، وشكره على المعروف، والتماس العذر إليه في الخطأ، وقضاء حاجاته وتأدية الحقوق إليه.
وهذه في الحقيقة أخلاق تستمد من الأخلاق الرفيعة، التي أقرها الإسلام وحاول الأئمة الهاشميون ترسيخها قولاً وسلوكاً، فالإنسان في حقيقته مطالب بأن يكون تجلياً من تجليات الرحمة الإلهية في الأرض، حيث يرتقي الفردي إلى مستوى الإنسان النموذج، أو «الإنسان الرباني» أو «الإنسان الكامل»[74].
فيكون الدعاء بهذه الوظائف التعليمية وسيلة للحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الإسلامية، وطريقاً لتحصينها ضد التردي إلى الهاوية. بل إنه كان في مقدمة التدابير التي اتخذت للحفاظ على المقياس العقائدي والرسالي في المجتمع الإسلامي[75].
فالإمام الحق هو من يوجه الإنسان من أجل أن يكون فرداً صالحاً في المجتمع، ويسوقه نحو بناء المجتمع الصالح، استناداً إلى «تعميق الرسالة فكريًّا وعقديًّا وسياسيًّا في الأمة نفسها، بغية إيجاد تحصين كاف في صفوفها، لكي يؤثر هذا التحصين في مناعتها، وفي عدم انهيارها»[76].
ومن ثمة يتخذ الدعاء أبعاداً اجتماعية عميقة، تنأى به عن أن يكون مجرد طقس من طقوس التعبد الفردي، أو مجرد اختيار من اختيارات القناعة العرفانية، المنحصرة في هجر الحياة المادية ومغرياتها الفانية، والانكفاء إلى زوايا الخلوة الخاصة، من أجل المناجاة والتهجد اللازم للذات في بعدها الفردي.
يقول محمد باقر الأبطحي في تقديمه للأدعية الإمام زين العابدين في (الصحيفة السجادية): «وحري بنا القول: إن أدعيته كانت ذات وجهين غاية في الارتباط والتكامل: وجهاً عباديًّا، وآخر اجتماعيًّا، يتسق مع مسار الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام في ذلك الظرف الصعب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسددة أن يمنح أدعيته -إلى جانب روحها التعبدية المعطاء- محتوى اجتماعيًّا متعدد الجوانب بما حملته من مفاهيم خصبة وأفكار نابضة بالحياة»[77].
إن حركة الدعاء الرئيسة ليست محدودة إذن في نطاق ما هو فردي وخاص، بل هي ممتدة إلى تحقيق هدف اجتماعي أوسع، هو تعليم المرء كيف يكون إنساناً. هذه المرتبة تسعى كل الحركات الإصلاحية التي تقوم في المجتمعات من أجل الوصول بالإنسان إليها.
يقول أحد المنظرين لفكر النهضة في العالم الإسلامي الحديث: «أولئك الذين -وبدافع من توهماتهم- يحذرون الناس من الدعاء والذكر وما ماثل، لكي يلتصقوا بالدنيا، هؤلاء لا يدرون ما الأمر، لا يعرفون أن نفس هذا الدعاء والأذكار هي التي تجعل الإنسان يتعامل مع الدنيا بالصورة المطلوبة، الذين أقاموا العدل في الدنيا هم هؤلاء الأنبياء الذين كانوا أهل الذكر والفكر وكل شيء، وهم الذين ثاروا ضد الظلمة، وهذا نهج الأولياء أيضاً، الإمام الحسين بن علي (عليه السلام)، قام بتلك الثورة، وهو نفسه الذي ترون دعاءه في يوم عرفة كيف هو»[78].
ويرى هذا المصلح أن الدعاء عنصر نهضوي بامتياز، لأنه يدفع بالإنسان إلى مزيد من المعرفة بواجباته ومسؤولياته، ويجعله أكثر اندفاعاً لتحقيق نشاطاته، من خلال توجيه الإنسان نحو المبدأ الغيبي. وهذا التوجه نفسه يؤدي إلى تقليل تعلق وحب الإنسان لنفسه، وهذا لا يمنع الإنسان الحركة والنشاط، كلا، بل على العكس، فهو يولد حركة ونشاطاً أيضاً لدى الإنسان، ولكن ليس من أجل نفسه، بل إنه يدرك أنه يجب أن يتحرك وينشط من أجل خدمة عباد الله، فهي ذمة الله[79].
بل إن ثمة من علماء الاجتماع من رأى في الدعاء العنصر «المائز بين المجتمعات العبثية والمجتمعات الهادفة، فالأولى يقتصر تفكيرها على نيل اللذة ضمن سياق فلسفي يرى الحياة عبثية وتافهة، والوجود بلا تدبير، والكون يدار بلا عقل، بينما الثانية تتطلع نحو السمو والتكامل الإنساني، وفق فلسفة تنظر إلى الحياة بجدية، ويسعى الفرد فيها إلى ربط نفسه بروح كبيرة شاملة، فالدعاء هنا يُمثل تجلي الروح إلى أبعد من اللذات المادية، وسعياً نحو إحراز الأرفع والأشمل والأكمل»[80].
وهو يشخص حيوية الدعاء وفاعليته الاجتماعية، بالنظر إلى كونه طريقاً موصلاً ألمَ الفرد بآلام الآخرين، وإشراكه في معاناتهم، وكل منغصات عيشهم. فالدعاء عند شريعتي «وسيلة لتلقين النفس، كيف تظل على تطلع دائم إلى الأهداف والطموحات الإنسانية السامية»[81].
ومن هنا يتبين لنا مغزى الأهمية القصوى التي يحتلها الدعاء في المنظومة الفكرية والعقدية لمدرسة الأئمة الهاشميين. إذ يبدو الدعاء في أدبهم، ضرورة من ضروريات حياة الفرد في المجتمع، وعنصراً مركزيًّا في البناء السليم للمجتمع، فبه قوام الفرد والمجتمع الخاليين من العاهات النفسية والروحية.
وهذا يتناسب مع ما ذهب إليه الدكتور أ. كاريل قائلاً: «إن الدعاء أشبه ما يكون بعملية التنفس عند الإنسان، كذلك فإن الدعاء يعتبر عاملاً ضروريًّا لا غنى عنه لتوثيق الوشائج والصلات الطبيعية بين الوعي وبين بيئته الخاصة، ويعتبر الدعاء أيضاً حيوية بيولوجية مرتبطة ببيئتها. وبتعبير آخر فإن الدعاء يعتبر وظيفة طبيعية للروح والجسد في آن واحد، بحيث لا يمكن الاستغناء عنها أبداً»[82].
ويبين مشيراً إلى ما علمته سنون من التجارب الطبية ومعاشرة المرضى والحالات الصعبة أن «فقدان الاتجاه الخلقي وضمور التوجه الروحاني عند غالبية أبناء الوطن الفاعلين تدفع بهذا الوطن نحو الانحطاط والسقوط أو نحو الاستعباد للغريب»[83].
ومن الطريف الإشارة إلى كون المنظور الوظيفي للدعاء من لدن هذا الطبيب الغربي، الذي تركزت أعماله الطبية وتجاربه الميدانية، واستنتاجاته عن التأثير العجيب للدعاء في الإنسان غير المسلم، وتحديداً في الإنسان المسيحي، يلتقي في جوهره مع منظورات وظيفية مشابهة، طرحها عديد من المهتمين بالدعاء في المنظومة العقدية الإسلامية، حينما رأوا أن الدعاء عنصر فعال في تغيير الإنسان وفي بناء المجتمع الإنساني الفاضل.
فبحسب رأي قائد الثورة الإسلامية المعاصرة في إيران، يرجع الفضل في نجاح الثورة إلى الدعاء الذي عمل على صياغة الإنسان الحقيقي، وجعله عنصراً فاعلاً وإيجابيًّا في المجتمع، يقول: «الذين يبعدون الناس عن الأدعية لا يعرفون ما الدعاء وما طبيعة تأثيره في النفوس، لا يفقهون أن جميع هذه الخيرات والبركات هي من قراء نفس هذه الأدعية الواردة عن أئمة أهل البيت، حتى الذين يقرؤونها بكيفية ضعيفة، ويرددون ذكر الله، ولو بصورة ببغاوية، فإنهم يتأثرون بها وهم خير من تاركيها»[84].
لذلك فهو يجعله مركز اهتمامه في دعوته الإصلاحية الاستنهاضية، ويدعو إلى ضرورة إعطائه الأولوية في العناية والاهتمام، لدوره الفعال في تحسيس الفرد بحقيقة إنسانيته ودور ذلك في إدراك نظام العالم، ومن ثمة «لا ينبغي أن يختفي الدعاء من أوساط المجتمع، ولا ينبغي لشبابنا أن يعزفوا عن الدعاء، وليس من الصحيح الدعوة للعزوف عن الدعاء تحت شعار الدعوة لعودة القرآن، فهذا يعني تضييع الطريق إلى القرآن»[85].
فتضحى بوابة الدعاء إذن بوابة اجتماعية ووظيفية، ولنقل: إنها الوسيلة الحربية التي أتيحت لفئة الأئمة المقموعين، وعبرها يتم تلقين الفرد النشيد الروحي الموحي بالعمل الايجابي وبالحركة نحو الآخرين»[86]. فليس الدعاء بهذا منحصراً في الجانب اللساني البياني، وإنما ينهض برسالة خارجية متعددة الأوجه والتجليات. تستوعب السياسي والاجتماعي وكل ما يساهم في إقامة المجتمع الذي تصان فيه إنسانية الإنسان.
خاتمة
لم تكن فئة المهمشين لتستسلم أمام سلطة المركز، وتقبل بالانصياع لسياسة الإسكات التي فرضت عليها، بشتى وسائل القمع والتنكيل المعتمدة. بل إنها اعتمدت الكتابة الروحانية المؤسسة على استراتيجيات تخليقية بعيدة المدى، سبيلاً لتكوين مجتمع بشري محصن ضد سياسة الانحراف المخطط لها.
ولقد كان الدعاء الذي قد يبدو في ظاهره اختياراً لازماً، وكتابة مقصورة على صاحبها، أحد أبرز عناوين سياسة المواجهة الواعية التي انتهجها الأئمة في مواجهة سياسة القمع والتهميش.
إن الدعاء في الكتابة الإمامية إذن يحوز قيمته من حيث تماهيه مع منظورات الإبداع الوظيفي، يقول برِخْت مثلاً: «فعلى الأثر الفنّي أن يتملك الجمهور، لا عن طريق التماثل السلبي بين الاثنين، بل عن طريق مخاطبة العقل الذي يخاطب العمل والعزم»[87].
وبذلك تغدو الكتابة الدعائية مستوعبة ضمن ما سماه أ. كانتب (الفنون الجميلة)، التي تتسم بطابع الغائية، فتسهم في تثقيف الذهن وتنمية الروح الجماعية، وتقوية حساسيتنا الاجتماعية[88]. فهي تنشد تحقيق التغيير في المجتمع، عبر جعل الآخرين يشتركون ويتأثرون، ويحسون، ولو مؤقتاً، بانحلال قيود الحياة أمامهم، وارتفاعهم إلى ما فوق صروف القدر العمياء[89].
[1] أوكان عمر، مدخل لدراسة النص والسلطة، إفريقيا الشرق، ط 2، 1991، ص 124.
[2] جابر عصفور، بلاغة المقموعين، ضمن كتاب جماعي (المجاز والتمثيل في العصور الوسطى)، منشورات مجلة ألف بتانسيفت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، ص 6.
[3] عماد عبد اللطيف، إستراتيجيات الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي، (خطب الرئيس السادات نموذجاً)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص 119-120.
[4] سعيد يقطين، الكلام والخبر، مقدمة للسرد العربي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1997، ص 52.
[5] نصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة، إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، الدار البيضاء: المركز الثقافي العرفي، ط 4، 2000، ص 189.
[6] Lalande. A, Vocabulaire technique et critique, 13 éd, Paris, 1980, p. 237.
[7] Larousse , Dictionnaire de la langue française, Paris, Cedex 06, éd: 1986, p. 556.
[8] Oxford Advanced learner’s diction ,Oxford University Press, Fifth edition, 1995, p. 330.
[9] بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، البيضاء: دار توبقال، 1986، ص 47.
[10] مشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، بيروت: دار التنوير، 1984، ص 33.
[11] عبد الرحمن منيف، بين الثقافة والسياسة، بيروت - البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1998، ص 164.
[12] الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، بيروت: دار الفكر، (د.ت)، ص 146.
[13] محمد باقر الصدر، نشأة الشيعة والتشيع، بيروت: منشورات الغدير، ط 4، 1419هـ -1999م، ص 73.
[14] عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998، ص 92.
[15] لمرجع نفسه، ص 92.
[16] ياقوت الحموي، معجم البلدان، بيروت: دار صادر، 1399هـ - 1979م ج 2، ص 342.
[17] الطهراني آقا بزرك، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 8 ص 174 (موقع).
[18] المصدر نفسه، ج 2 ص 265.
[19] محمد مهدي الآصفي، الدعاء عند أهل البيت، قم: منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية، ط 2، 1422هـ، ص 275.
[20] محمد عطية محمود، الآفاق الإنسانية في الأدب والفكر، مجلة عمان، العدد 165، آذار 2009م، ص 54.
[21] إدريس هاني، محنة التراث الآخر.. النزعات العقلانية في الموروث الإمامي، بيروت: الغدير، ط1، 1998م، ص 24.
[22] عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1993، ص 489.
[23] المقدمة، ص 157.
[24] نفسه، ص 155.
[25] نفسه، ص 167.
[26] نفسه، ص 172.
[27] نفسه ص 170.
[28] نفسه، ص ص 170-171.
[29] نفسه، ص 162.
[30] ابن كثير، البداية والنهاية، بيروت: مكتبة المعارف، 1966م، ج 11، ص 325-326.
[31] تقي الدين ابن تيمية، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، بيروت: المكتبة العلمية، (د.ت). والكتاب في أصله رد على كتاب (منهاج الكرامة في إثبات الإمامة) للحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، وهو من علماء الشيعة الإمامية، ذاع صيت كتابه، وخصوصاً أتباع أهل البيت، ولذلك انتدب ابن تيمية نفسه للرد عليه ونقض ما يطرحه من معتقدات وأفكار.
[32] ابن تيمية، منهاج السنة، ج3، ص 296.
[33] ابن تيمية، منهاج السنة، ج 2، ص 90.
[34] ابن تيمية، منهاج السنة، ج2، ص83. وينظر ج 4، ص 111.
[35] مجموع فتاوى ابن تيمية، فصل العقيدة، ما قاله شيخ الإسلام عن أهل السنة والمبتدعة، ينظر الموقع الإليكتروني: www.IslamSpirit.com
[36] الموقع نفسه.
[37] الموقع نفسه.
[38] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، المركز الثقافي العربي، ط2، 1991، ص 207.
[39] نفسه، ص 221.
[40] نفسه، ص 280.
[41] الجابري، العقل السياسي العربي، ص 279 -280.
[42] محمد عابد الجابري، نحن والتراث، بيروت: دار الطليعة، ط3، 1983، ص 358-359.
[43] عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام؛ (العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ)، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1989، ص 94.
ويصدر هذا الباحث في مقاربة الموروث الشيعي عن رؤية منحازة هي الأخرى، ومتسمة بنزعة إقصائية شبيهة بنزعة الجابري، إلَّا أنه يميز بين الفرق الشيعية ولا يجعلها جميعاً في خندق واحد. فهو يرى أن عملية الانسلاخ الشيعي عن جسد التيار العام للمجتمع الإسلامي قد استغرق «مدة غير قصيرة من الزمن، تعرضت خلالها جماعات الشيعة، عبر سلسلة من المعارك، لنوع من الانتخاب الطبيعي.. في عملية جدل تاريخية بطيئة»، ومن ثمة فالعقل الشيعي عنده خاضع لعملية تكوُّن مستمرة، والمبادئ النظرية لهذا العقل «لم تطرح في نسقها النهائي المعروف قبل التداعيات اللاحقة على الانفجار السياسي الأول»، (ص 88).
كما يختلف عن الجابري في كونه يجعل العقل الشيعي في بنينته الإبيستيمولوجية مكوناً من ملمحين متزامنين؛ ملمح الغنوصية في مسألة الإمامة وكل ما يتعلق بها من معتقدات وأفكار، وملمح العقلانية والاجتهاد في كل ما هو خارج الإمامة. ومن ثمة فهو لا ينفي وجود فلسفة شيعية تقوم على نصرة العقل والإيمان بحرية النظر الفكري، ولذلك فهو يرى أن هناك «في المنظومة الشيعية –خارج نظرية الإمامة- ميلاً لا شك فيه إلى الحرية العقلية» (ص 95) .
[44] المسعودي علي بن الحسين (ت 346هـ)، مروج الذهب، تح. محيي الدين، بيروت: دار المعرفة، ج 3، ص 67-68.
[45] محمد باقر الصدر، مقدمة الصحيفة السجادية الكاملة للإمام زين العابدين، بيروت: دار المرتضى، ط1، 1999م، ص 10-11.
[46] محمد باقر الصدر، أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، بيروت: دار التعارف والمطبوعات، ص95.
[47] تتفق كثير من أدبيات أتباع مدرسة الهاشميين على أن ثمة نصوصاً دينية، لفظاً أو تأويلاً، تحدد من هم أئمة أهل البيت، وتبين مكانتهم الدينية ووظيفتهم التبليغية، وتلزم الأمة باتّباعهم وموالاتهم بوصفهم امتداداً للنبوية، وتشريعاً ربانيًّا لاستمرارية وتحقيق الهدفية الدينية.
ينظر: السيد مرتضى الحسيني اليزدي الفيروزآبادي، فضائل الخمسة من الصحاح الستة، قم: مكتبة الفيروزآبادي، ط7، 1413هـ. (ثلاثة أجزاء).
[48] ألفرد بل، الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي.. من الفتح العربي حتى اليوم، ترجمه عن الفرنسية عبدالرحمن بدوي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط3، 1987م، ص 152-153.
[49] المصدر نفسه، ص 153.
[50] ألفرد بل، الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي، ص 153-154.
[51] السيد عباس نور الدين، بحثاً عن نهج الإمام، بيروت: مركز بقية الله الأعظم، ط1، 1997م، ص 77.
[52] السيد عباس نور الدين، بحثاً عن نهج الإمام، 1997م، ص 50.
[53] نفسه، ص 50.
[54] نفسه، ص 49.
[55] في مقال؛ الخطاب الدعائي والشرعية التجنيسية، دافعت عن تجليات الأدبية في الدعاء، وعن شرعية انتساب الدعاء إلى الأدب من حيث قيمته التعبيرية والتأثيرية، في سياق البلاغة الرحبة وفي ارتباطها بنظرية الأجناس الأدبية.. انظر مجلة الرافد، العدد 159، ذو الحجة 1431هـ - نوفمبر 2010، ص138-144.
[56] محمد خرماش، المرجعية الاجتماعية في تكوين الخطاب الأدبي، حوليات الجامعة التونسية، العدد 38، 1995م، ص 87.
[57] محمد خرماش، المرجعية الاجتماعية في تكوين الخطاب الأدبي، مرجع سابق، ص 89.
[58] جيمس سكوت، المقاومة بالحيلة، كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم، ترجمة إبراهيم العريس ومخايل خوري، دار الساقي، ط1، 1995، ص 257.
[59] المرجع نفسه، ص 213.
[60] علي شريعتي، الدعاء، ص 51.
[61] محمد باقر الصدر، نشأة الشيعة والتشيع، مرجع سابق، ص 83.
[62] أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، مجموع رسائل الجاحظ، حقق نصوصه وقدم لها وعلق عليها محمد طه الحاجري، بيروت: دار النهضة العربية، 1983م، (الصفحات من 48 إلى 59). ومن خلال هذه الرسالة يمكننا أن نستشف أن سبب زهد الجاحظ في الانفتاح على تراث الأئمة من أهل البيت مرده إلى إكراهات الحالة الثقافية التي كانت سائدة في عصره، والتي لم تكن تسمح بالمجاهرة بتبني فكر الهاشميين الذي كان محسوباً على المعارضة، فهو فكر كان يعرض صاحبه لكل أشكال التهوين والتجريح. فالجاحظ عندما يبين لخصمه في مستهل الرسالة معلماً إياه «أن أصول الخصومات معروفة بينة، وأبوابها مشهورة... وأولى الأشياء بك القصد وترك الهوى... والرأي كل الرأي ألَّا يدعوك حب الصحابة إلى بخس عترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)». ص 51. يكشف بوضوح أن نفحة الخصومة المذهبية وأجواء الصراع كانت واضحة بينة.
[63] المصدر نفسه، ص 53.
[64] نفسه، ص ص 53 – 54.
[65] نفسه، ص 54.
[66] عباس القمي، مفاتيح الجنان، ويليه الباقيات الصالحات، تعريب السيد محمد رضا النوري النجفي، منشورات دار الثقلين، بيروت،ط2، 1418ه-1998م. ص 64.
[67] الصحيفة السجادية، تحقيق محمد باقر الموحد الأبطحي، دار الصفوة، بيروت، ط2، 1413هـ، 1992م ص 134.
[68] عباس القمي، مفاتيح الجنان، مذكور، ص 235.
[69] الصحيفة السجادية، مذكور، ص 125-126.
[70] محمد محمود أحمد وموسى الخطيب، الإنسان والدعاء، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط1، 1417هـ - 1997م، ص99.
[71] نفسه، ص 99.
[72] علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، (د.ت)، ص 506-507.
[73] الصيحفةالسجادية، مذكور، ص 166.
[74] السيد بحر العلوم مهدي بن السيد مرتضى الطباطبائي، رسالة السير والسلوك، تعريب عبد الرحيم مبارك، بيروت - لبنان: دار المحجة البيضاء، ص 37.
السيد محمد حسين الطباطبائي، عرفان النفس، جمع وتحقيق الشيخ قاسم الهاشمي، بيروت - لبنان: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، 1423هـ - 2002م، ص ص 112و 153.
[75] محمد باقر الصدر، أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف، مذكور، ص 144.
[76] المرجع نفسه، ص 131.
[77] محمد باقر الصدر، مقدمة الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين، ص 12.
[78] روح الله الموسوي الخميني، تفسير آية البسملة (محاضرات معرفية)، بيروت - لبنان: دار الهادي، ط2، 2000م. ص 74.
[79] روح الله الخميني، تفسير آية البسملة، ص 75.
[80] أحمد شهاب، فضيلة الدعاء عند شريعتي، الموقع الإلكتروني: www.manaar.com
[81] المقال نفسه، على الموقع نفسه.
[82] نفسه، ص 81.
[83] نفسه، ص 22.
[84] روح الله الموسوي الخميني، تفسير آية البسملة، ص 77.
[85] نفسه، ص 77.
[86] محمد فتحي عثمان، الفكر الإسلامي والتطور، تونس: دار البراق للنشر، ط1، 1990م، ص 186.
[87] إرنست فيشر، ضرورة الفن، ترجمة ميشال سليمان، بيروت، لبنان: دار الحقيقة، (د.ط) و(د.ت)، ص 12.
[88] عدنان ذريل، جماليات كانت وهيجل، مجلة المعرفة، العدد 193-194، مارس-أبريل، 1978م، ص170 (بتصرف).
[89] المرجع نفسه، ص 11.