شعار الموقع

الاستشراق وحفريات المعرفة في الفكر المعاصر

عبدالحكيم صايم 2019-06-02
عدد القراءات « 542 »

الاستشراق وحفريات المعرفة

في الفكر  المعاصر

الدكتور عبدالحكيم صايم*

* مدير مخبر التراث والفكر المعاصر، جامعة وهران (2) - الجزائر. البريد الإلكتروني:

saimabdelhakim@yahoo.fr

 

 

 

 

«همّ المفكر العربي الأول هو تحديد هويته.. كلما قال العربي: أنا؛ فإنه يشير ضمنيًّا إلى الغير، ومن هو الغير بالنسبة للعرب سوى الغرب؟»

عبدالله العروي

مدخل

جاء ميلاد الاستشراق حوالي عام 1312م «بصدور قرار فيينا الكنسي بتأسيس عدد من كراسي الأستاذية في العربية واليونانية والعبرية»[1]، ولكن الكلمة ستظهر أول مرة في القاموس الإنجليزي عام 1779م، وفي الأكاديمية الفرنسية عام 1837م.

وفي اللغة العربية فإن الألف والسين والتاء هي «حروف تدل في مجموعها على الطلب، ومن ثمّ فالاستشراق هو طلب الشرق، وتحت هذا المعنى تدخل معاني عديدة، فزيارة الشرق أو الاهتمام به أو الكتابة عنه أو القراءة حوله أو التخصص فيه أو استعماره كلها تسمى استشراقاً»[2].

ومن خلال هذه المعاني بدا الاهتمام بالاستشراق في دائرة الفعل ورد الفعل، ولتجاوز ثقافة المواجهة اختار البعض الدعوة لإعادة الاعتبار لدراسة الآخر حول الذات؛ لأن «قابلية الاستعمار» أو «الاستحمار» حسب تعبير الدكتور علي شريعتي، والحمار كاسم ارتبط برواية «الحمار الذهبي» لأبوليوس واقترن بالأديب توفيق الحكيم، وهو شعار جمعية الحمرنة التي كانت تناهض المثقف الانتهازي وغير ذلك من الاستعمالات الأدبية.

والاستعمار كمفهوم انتقل من الدلالة الإيجابية إلى المعنى السلبي، ولذا فإن البعض يفضل مفهوم الاستدمار، فكيف نتجاوز «معركة المفاهيم» إلى التأسيس المعرفي، وعندما نفكر في الاستشراق يلزمنا اختيار الجوانب المعرفية من خلال البحث في هجرة الأفكار، لأن طبيعتها مثل هجرة البشر كما تحدث المفكر المغربي علي أومليل، ولكن كلتا الهجرتين مختلفة، لأن هجرة الأفكار مطلوبة، فهي «إما محفوفة بحالة من إعجاب، وإما تقابل بمقاومة، وهي فارضة نفسها في الحالتين. تتلقاها نخبة تراها سبيلاً إلى اللحاق بالعالم المتقدم، ويقاومها الذين يرونها سلاحاً من أسلحة الغزو مثل المدفع والبارجة، وأنها جاءت لتزعزع عقيدة وتهدم مجتمعاً وتمسح هوية»[3].

وفي سياق هذا الترحال الفكري أو «نوماديا» الوجود وهي تتحرك من الغرب إلى الشرق، يكون من الأهمية بمكان مراجعة «الاستشراق والاستشراق معكوساً» أو «إدوارد سعيد في مواجهة جورج صدقني» أو الغرب الأكاديمي في مقابل الأصالة العربية أو الإسلامية، لعلنا نتجاوز المركزيتين الغربية والشرقية على السواء، لأن الأولى -أي المركزية الغربية- تقول بالمعجزة اليونانية وتتجاهل قيمة الحضارات الشرقية ودورها في تطوير الوجود الإنساني، والثانية أي المركزية الشرقية التي تقول بالتراث المسروق أي ما وجد في الغرب وبالتحديد عند فلاسفة اليونان يعود إلى الحضارات الشرقية، وبعبارة أخرى حتى لا نتساءل عن ماهية الاستشراق ونفكر بالاستشراق بطريقة أو بأخرى.

يبدو أن عملية «تحطيم الأحكام المسبقة أعسر من تحطيم الذرة» كما تحدث العالم آينشتين، وهذا ما شرحه محمد عزيز الحبابي في مقاله «كلنا بدائيون» لأن «البدائيين موجودون في جميع الأجيال، وفي جميع الأقطار، في أوروبا، في أمريكا، في روسيا، وفي كل مكان»، ولأن صفة «البدائية بنية أساسية للعقل البشري في جميع تطوراته التاريخية كما بيّن ذلك ليفي برول في مذكراته»[4].

ولكن في تاريخ الأفكار لم يكتفِ البعض بالقول بأن «الغرب غرب والشرق شرق لا يلتقيان» بل جعل «الحضارة الأوروبية هي قمة الحضارات وخاتمة التاريخ، وأن أصولها الحقيقية دشنها اليونان»، وهو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني كانط حين قال: «لننطلق من تاريخ الإغريق الذي أحل إلينا كل التواريخ.. وسنرى كيف أن هناك تقدماً منتظماً يتطور فيه اكتمال السياسي في قارتنا».

والأمر نفسه صرح به الفيلسوف الألماني هيجل في دروسه حول فلسفة التاريخ، عندما قال: «مع اليونان نشعر بأننا في بيتنا، ذلك بأننا نجد أنفسنا في ربوع الروح»[5].

وفي ضوء هذا التخطيط الغربي للتاريخ، يكون من الحكمة مراجعة «دراسة الآخر الغربي للأنا الشرقية» من منظور «تكوين الروح العلمية» التي جعلت أولئك على هذا النحو:

1- يأخذون بأمهات اللغات سواء أكانت سامية أو آرية، فمثلاً المستشرق دوزي كتب باللاتينية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية والألمانية والسويدية، وله معجم الألفاظ الأسبانية والبرتغالية من أصل عربي، والمستشرق جويدي كان يلقي محاضراته في الجامعة المصرية بالعربية.

2- يتميزون بأخلاقيات العمل، كأن يقضي أحدهم عمره في تحقيق مخطوط أو تصنيف كتاب، فالمستشرق أدموند كاستال قضى في وضع معجم اللغات السامية ثمانية عشر سنة.. وبارانوف خص القاموس العربي الروسي بعشرين سنة من عمره، وفلوجيل جمع مخطوطات الفهرست لابن النديم من مكتبات فيينا وباريس ولندن طوال خمس وعشرين سنة»[6].

3- في مقدمة كتابه «الإسلام والرأسمالية» حرص مكسيم رودنسون (1915-2004) بكل تواضع على مساعدة المثقف المسلم على فهم قدره، و «دون أن يدعي فضيلة انتمائه الأوروبي باعتبارها أسمى منه بالعلم والذكاء»[7]، ويبرر قيمة مساهمته بظروفه التي ساعدته في تجاوز بعض العوائق الاجتماعية، والتي قد تحجب عن المثقف المسلم، فهم مشكلاته.

4- يعترف مالك بن نبي (1905-1973) بأنه من الجيل الذي اكتشف شخصيته الإسلامية بفضل إنتاج المستشرقين الذين اهتموا بالحضارة الإسلامية، إذ يقول: «اكتشفت وأنا بين الخامسة عشر والعشرين من العمر، أمجاد الحضارة الإسلامية في ترجمة دوسلان لمقدمة ابن خلدون، وفيما كتب دوزي عنها وأحمد رضا بعد الحرب العالمية الأولى»، ولكن هذا التقدير لا يمنعه من نقده لأن «الأدب الذي ينشد عصور الأنوار للحضارة الإسلامية يؤدي أولاً هذين الدورين، إنه أتاح في مرحلة معينة من الجواب اللائق للتحدي الثقافي الغربي، وحفظ هكذا مع عوامل أخرى على الشخصية الإسلامية، ولكن من ناحية أخرى، صب في هذه الشخصية الإعجاب بالشيء الغريب ولم يطبعها بما يطابق عصر الفعالية والميكانيك»[8]، وماذا عن العلم في الألفية الثالثة؟ وأين موقعنا فيما يسمى بالثورة الصناعية الثالثة في مجالي المعلومات والاتصالات؟

5- إن ما يجري بيننا منذ عقود من نقاش حول تحديث العقل العربي، أهمل جذع تخلفنا كما ذكر عبدالله العروي، لأن «من يتشدق بتأسيس علم الاستغراب ليواجه به استشراق الغرب، إنما يستجهل القراء، فما عليه إلَّا أن يقوم بتجربة في غاية البساطة، ليختر اثنا عشر مؤلفاً يعتبرها من أهم ما أنتجه الفكر العربي عبر القرون، ثم ينظر ما ترجم منها إلى اللغات الغربية الحديثة، على أي مستوى من الدقة، وكم من مرّة، ثم ليفعل الشيء نفسه بالنسبة للثقافة الغربية، وأخيراً ليقارن بين الحالتين»[9].

وهذا السياق الإيجابي للمعرفة الاستشراقية دفع المفكر المغربي علي أومليل إلى حوار مختلف عندما تساءل: «كيف كانت مواقف مفكرينا القدامى من الآخر المختلف أو المناقض؟ وكيف تعاملوا فكريًّا معه، وكيف جادلوه؟ وهل تحصل من هذا كله رصيد يمكن أن يسند دعوانا الآن إلى مشروعية الاختلاف في الرأي، وإلى ترسيخ قواعد الحوار وتقاليده؟»[10].

ومثل هذا الوعي بتراثنا الثقافي، وما يحتويه من دروس وعبر في مواجهة الآخر المختلف بفكره وثقافته، يؤهلنا إلى اجتناب «حرب النصوص، وهو صراع من أجل ملكية الماضي المقدس، وانتزاعه من يد الخصم»[11]، إلى الرهان على الحق في الاختلاف لتأسيس تقاليد الحوار والتعايش بين الأطراف المتعددة.

أولاً: علي أومليل والفكر الاستشراقي

في «التراث والتجاور» يدعونا علي أومليل إلى إعادة الاعتبار للأبحاث الاستشراقية التي أنجزت خلال الفترة الاستعمارية عن المجتمع المغاربي»[12]، ولكن دراستها ينبغي أن تكون وفق الشروط الاجتماعية والتاريخية التي ساهمت في تكوينها، ويفسر لنا هذا الاختيار المنهجي بانحيازه للفهم الإبستيمولوجي لتلك النصوص قبل الارتباط الأيديولوجي، لأن هذا الأخير يتغير بتغير الظروف والأحوال.

ومثل هذه الرؤية دفعته إلى اقترح قراءة مغايرة لفكر المستشرق الفرنسي هنري كوربان، الذي افترض انتقال مباشر من النصوص الإيرانية إلى فلسفة الإشراق والمذاهب الباطنية في الإسلام، ومن سار على دربه بالقول بأن العقائد الإيرانية القديمة كالمزدكية والباطنية والاشراقية هي جوهر الفلسفة الإسلامية. وبالتالي كان لزاماً على المفكر المعاصر تصحيح الأطروحة الكوربانية عندما تنتهي إلى أحكام قطعية، فقال بأنه ليس صحيحاً بأن:

أ- نقد الغزالي قضى على الفلسفة، ونقد ابن رشد قضى على فلسفة ابن سينا المستأنفة للإرث الإيراني، لأن ابن سينا ساهم في ظهور حكمة الإشراق، ومن أبرز ممثليها السهروردي.

ب- لم يكن ازدهار التصوف بسبب الغزالي لأن الفضل يعود إلى ابن عربي.

وفي ضوء مراجعة تاريخ الأفكار يشرح لنا المفكر أومليل الخلفية النظرية للمستشرق كوربان باعتباره «كان صاحب قضية، أو هي عنده قضيتان: مواجهة المادية والعقلانية التجريبية في الغرب، بمحاولة إحياء وترويج للباطنيات الغربية والشرقية». وفي المقابل يوجهنا إلى فهم مغاير لشخصية علمية من تراثنا من خلال عنوان: «البيروني المستشرق»، خاصة في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة»، خاصة عندما قام هذا العالم بتصحيح ما كتبه المسعودي واليعقوبي «من تمجيد لأهل الهند» عبر سماع بعيد وروايات عمل فيها الإطناب والولع بالغرابة، أما هو فقد عاين وتحقق، وليس الخبر كالعيان كما يقول»[13].

فهذا المستشرق المسلم اشتغل من أجل «معرفة ذهنية وعوائد وعلوم شرق بعيد، وتعريف قومه به كان يقوم بعملية مقارنة مستمرة بين ما لدى الهند وما لدى اليونان بصفة أساسية، ولكن كتابه بدا على صورة الحكاية كما ذكر لأن عالم الهند آنذاك كان بعيداً، وعقائدهم وآرائهم لا تنافس وجوده، فهو لم يضطر إلى أساليب الحجاج والجدل للرد على الخصوم.

ويضيف علي أومليل في كتابه «شرعة الاختلاف» قراءة للوجود المورسكي - مسلمو الأندلس، في صورة الاستشراق، إذ يقترح تفسيراً لظهور إنجيل «برنابا» غير المعترف به في المسيحية الرسمية، واعتمده البعض في الفكر الإسلامي لإثبات نبوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووضعه حجة على المسيحيين للإقرار بالرسالة الإسلامية باعتبارها ناسخة للرسالات السابقة.

ولكن علي أومليل يفترض بأن هذا الإنجيل اخترعه المورسكيين عندما صاروا «تحت سلطان الآخر» أي أقلية أو جماعة مغلوبة على أمرها، إذ أصبحوا «مسلمين ذميين» على حد وصف الونشريسي في كتابه (المعيار) وهو الذي اهتم «بإيجاد الحلول الفقهية للمشكلات الجديدة التي واجهها الأندلسيون، وقد أصبحوا تحت حكم أجنبي -حين يتحدث عن هؤلاء يستعمل عبارة المسلمين الذميين أو المساكين الذميين-»[14].

وأمام هذه الوضعية بدا المورسكي بين موقفين: إما المواجهة العنيفة أو الهجرة إلى دار الإسلام، ولكن الفقيه الوهراني المتوفى سنة 1504هـ «جوّز للمورسكيين البقاء مع حفاظهم ما أمكن على إسلامهم باللجوء إلى التقية -أي إظهار الدين المسيحي وإخفاء الإسلام- وإلى مختلف الذرائع، وفي هذا السياق ابتكروا وسائل دفاعية مثل اللغة الأعجمية أي إسبانية قشتالية مكتوبة بحروف عربية، واخترعوا إنجيلاً «قالوا: هو الصحيح.. وإنهم هم الورثة الشرعيون للماضي المقدس، وليس خصومهم».

وفي ضوء هذه الرؤية التاريخية والعقائدية رأى البعض أن إنجيل برنابا يعود إلى «رجل كنيسة أسلم، وبعضهم يرى أنه كتب في وسط مسيحي فرنسيكاني في العصر الوسيط، وآخرون يذهبون إلى أنه قد وضع في بيئة يهودية - مسيحية، إلَّا أن من الباحثين من يرى أن هذا الإنجيل قد صنع في وسط موريسكي في القرن السادس عشر، في إسبانيا، وانتقل إلى البلدان التي هاجر إليها الموريسكيون، خاصة تونس وتركيا، بل إلى بلدان أوروبية كإيطاليا وهولندا وإنجلترا»[15].

ومثل هذه التفسيرات والافتراضات المختلفة، جعلت المفكر علي أومليل ينتقل من المدح والتقريظ للفكر الاستشراقي إلى النقد والتفكير في مضامين جديدة لنصوصه، بعدما كنّا نعتقد بأنها تّمت وانتهت.

ثانياً: عبدالله العروي وصداقة الاستشراق

في أكتوبر 1967 راسل المفكر المغربي عبدالله العروي المستشرق الأمريكي فون غرونباوم (1909-1972) باعتباره المسؤول الأول على حضوره إلى جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس ليقدم دروساً في التاريخ، وبالتحديد في علاقات المغرب بأوروبا في القرن 15م، قائلاً: «السياسة قدرنا تتحكم فينا ولا نؤثر فيها»[16].

ولكنه لاحقاً يصبح مستشاراً في القصر الملكي، فكتب في «ديوان السياسة»: «إذا كان روسو يناقض هوبس، فإن الفارابي يناقض ابن خلدون، ليس التعارض بين جهتين (الشرق والغرب) ولا بين نظامين (الاستبداد والحرية)، وإن كثر الاستبداد فعلاً في الشرق وتواجدت الحرية في الغرب، بل التعارض بين مستويين في الطبيعة (الحيوان والإنسان)، وفي السلوك (الشهوة والعفة)، وبالتالي في التصرف، التعارض قائم باستمرار، شرقاً وغرباً، ماضياً وحاضراً، عمليًّا ونظريًّا»[17].

وكأن ثنائية المادة والروح، أو الوجود والوعي، كفيلة لتفسير معاني هذا أو ذاك، ويذكر لنا مقابلته للمستشرق شارل بيلا في باريس في إحدى ندوات اليونسكو التي تناولت الثقافة العربية المعاصرة، وكيف استهزأ منه قائلاً: «وأنت أيضاً تأتي كخبير، خبير في أي شيء؟ الخبير في نظره هو المتخصص كأفرام البستاني وسهير القلماوي، وقد يكون وراء السخرية كثير من المرارة: كيف حصل أن يسأل اليوم العرب عن مستقبل ثقافتهم؟ هذا هو موقف المستشرق التقليدي الذي يدافع عن مركزه في المجتمع، سيما إذا ولد وترعرع في الجزائر المستعمرة»[18].

ولكن عبدالله العروي هو الآخر يظل في الفكر الاستعماري لوطنه عندما يحلم بانهيار الدولة الوطنية قائلاً: «لا أحد كان يتصور جديًّا أن الدولة الفرعونية التي تركها عبدالناصر في مصر والهواري بومدين في الجزائر، قد تتفكك يوماً وتقف عاجزة حائرة أمام حركة سياسية وعسكرية تستمد قوتها وشعبيتها من الدعوة إلى تطبيق حرفي للشريعة»[19].

وخاصة عندما يتجاهل جرائم الاحتلال الفرنسي وأساليب الإبادة للشعب الجزائري، فيعترض على النقاد الفرنسيين الذين اعتقدوا خطأ، وحسب رأيه «أن كتاب فرانز فانون، المعذبون في الأرض هو إنجيل الإنسانية المقهورة»[20].

وبالتالي ينحسر حلمه بسقوط تلك الدول بالرهان على فلسفة الماضي، وهذا ما يتناقض مع صيرورة التاريخ أو على الأقل مع الفكر التقدمي الذي انخرط فيه.

ومثل هذه الإشارات في «خواطر» المفكر لا تنكر قيمة الاستشراق التقليدي في القرن التاسع عشر في تحقيق النصوص، وتفوقه في عمله على التحقيق القديم وعلى من يمارسه بين المحدثين. لكن هذا تفوق نسبي ومؤقت، إذ قد يوجد بين القدامى والمحدثين من يكون في المستوى نفسه»[21].

وفي ضوء هذا الاعتراف بخصائص الروح العلمية للفكر الاستشراقي يقترح لنا المفكر المغربي في «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» في بداية السبعينات تحليلاً لسؤال الهوية قائلاً: «منذ ما يقرب من ثمانية عقود والعرب لا يكفون يتساءلون: من نحن ومن الآخر؟.. ماذا يعني العرب بداهة عندما يقولون الآخر؟ كانوا لمدة قرون عديدة يعنون النصارى، ثم عنوا الإفرنج سكان أوروبا، واليوم يعنون الغرب الذي هو مفهوم غامض وبيّن في نفس الوقت»[22].

ولكنه يضيف على طريقة الكاتب الفرنسي بول نيزان: «كان استنتاجنا فارغاً لأننا تعودنا على أن نفكر في الشرق كنقيض للغرب»[23]، لأن دراسة ووصف الأمم والأقوام وجد في الشرق والغرب على السواء، ويكفي أن نذكر مؤلفات المسعودي والبيروني عند العرب أو ما تخيله مونتسكيو في كتابه «الرسائل الفارسية» أو الكاتب الإنجليزي جوزف كونراد في روايته «تحت أنظار الغرب».

ولكن كيف نفهم في الفكر المعاصر علاقة الشرق بالغرب؟

يجيبنا صاحب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» من خلال ثلاثة تيارات أساسية: التيار الأول يمثله «الشيخ» وهو لا ينفك في نظره «يرى التناقض بين الشرق والغرب في إطاره التقليدي، أي كنزاع بين النصرانية والإسلام» كما يبدو من رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده و«بحثه عن أدلة وبراهين يحاكم بها الكنيسة المسيحية كثيرا ما يجدها عند كتاب عهد التنوير»[24].

والتيار الثاني يمثله «رجل السياسة» الذي شخص في نظره «داء المجتمعات العربية، القديمة والحديثة، فاستبان الدواء، كان الحكم العثماني استبداديًّا، وجب إذن انتخاب حكم نيابي. كان النظام العثماني يقنن كل الحرف، وجب إذن فتح المجال لكل فرد نشيط. كان النظام العثماني لا يتضايق من تفشي الجهل وجب إذن نشر التعليم بكل الطرق والوسائل»[25].

أما التيار الثالث يمثله «داعية التقنية» لأن الغرب حسب نظره «بكل بساطة قوة مادية أصلها العمل الموجه المفيد والعلم التطبيقي»، ويظهر الأمر عند سلامة موسي عندما تساءل في محاضرته بجامعة القاهرة عام 1930 قائلاً: «الشرق شرق والغرب غرب، هل تعنيان حقيقة جغرافية؟ فالجواب كلَّا، وهل هما تعنيان حقيقة أثنولوجية؟ الجواب كلَّا، ولا أظن أحداً منكم يقول: إن الفاصل بين الشرق والغرب هو الدين»، ثم يجيب: «هبطت عليَّ منذ أكثر من ربع قرن حقيقة مفردة، هي أن الفرق بيننا وبين الأوروبيين المتمدينين هو الصناعة، وليس شيئاً غير الصناعة»[26].

ولكن هذا التحليل يظل في دائرة الاتهام، فهو ليس بالضرورة إدانة، والمقارنة بين الشرق والغرب ليست دائماً حجة وبرهانا، ولأن الماركسية التاريخانية التي دافع عنها المفكر العروي ليست المفتاح الوحيد الذي يؤهلنا لفتح كل الأقفال المعرفية.

ثالثاً: الاستشراق والفكر المعاصر

استبدل مفهوم الاستشراق في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين، الذي عقد في باريس صيف 1973 بتسمية جديدة له، واستبدل أيضاً في المؤتمر الدولي للعلوم الإنسانية في آسيا وإفريقيا الشمالية، لأن الكلمة (استشراق) تحتوي على شيء مهين بالنسبة للشرقيين، لأنها تظهرهم بمثابة مواد للدراسة، أكثر مما هم فاعلون أو مساهمون فيها»[27].

فهل معنى ذلك أن الاستشراق لم يصبح سلطة رمزية، يمكن لمجالها المعرفي أن يكون رأسمالاً رمزيًّا أي سلعاً رمزية يتم إنتاجها وتداولها واستهلاكها، بل التنافس عليها، تماماً كما هو الشأن بالنسبة للسلع المادية كما ذكر عالم الاجتماع بيار بورديو (1930-2002)؟

قد نجد الجواب في دراسات الفيلسوف الفرنسي ألان دي ليبيرا عندما يحدثنا عن المؤرخ الذي يرغب حقًّا استيعاب الواقع التاريخي، من المفروض عليه أن يبدأ بالتسليم بالتعددية في الثقافات والأديان واللغات ومراكز الدراسات وإنتاج المعارف.

وهذا ما نستشفه أيضاً من الكم الهائل من كتب الاستشراق، إذ أحصى نديم البيطار (1924-2004) أكثر من ستين ألف كتاب في الاستشراق، «وبعد كل تلك الكتب لم ينقطع سيلها حتى الآن، ولا يلوح ما يوحي بأنه سوف يتوقف، يبقى سؤال الاستشراق سؤالاً مزمناً، والإجابات المتعاقبة سواء في تداخلها أو خارجها تعيد شحذ السؤال وشحنه بمزيد من الفضول.

فالاستشراق في بعده الكولونيالي لم يمت لمجرد أن أبرز أحد المستشرقين المعاصرين جاك بيرك نعيه، مبشراً إلى تحوله إلى حقل معرفي محض، محرر من النوازع الاستعمارية والارتهان للرؤى التقليدية المتعالية»[28]، لأن مسألة الشرق هي قبل كل شيء مسألة الغرب كما ذكر المؤرخ الإنجليزي توينبي (1889-1975)، وهذا ما قد يفهم من معاني حوار الحضارات وخطاب الصدام وثقافة التعارف.

 

 

 

 

 



[1] خيري منصور، الاستشراق والوعي السالب، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001 ص: 20.

[2] محمد فتح الله الزيادي، الاستشراق أهدافه ووسائله (دراسة تطبيقية حول منهج الغربيين في دراسة ابن خلدون)، دار قتيبة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1998 ص: 17.

[3] علي أومليل، أفكار مهاجرة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2013، ص: 7.

[4] محمد عزيز الحبابي، من المنغلق إلى المنفتح.. عشرون حديثاً عن الثقافات القومية والحضارة الإنسانية، ترجمة: محمد برادة، القاهرة: مكتبة الأنجلو - المصرية، طبعة ثانية 1973 ص: 143.

[5] علي أومليل، المرجع نفسه، ص: 69.

[6] نجيب العقيقي، المستشرقون، القاهرة: دار المعارف، طبعة رابعة موسعة، الجزء الثالث، ص:600 - 601.

[7] Maxime Rodinson, Islam et capitalisme.Ed: Seuil.Paris 1966 p:7.

[8] مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين، بيروت: دار الإرشاد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1969، ص: 12 و14.

[9] عبدالله العروي، الايديولوجيا العربية المعاصرة، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995، ص: 12.

[10] علي أومليل، شرعية الاختلاف، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2005 ص: 5.

[11] المرجع نفسه، ص: 13.

[12] علي أومليل، في التراث والتجاور، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1990 ص: 14.

[13] المرجع نفسه، ص: 49.

[14] المرجع نفسه، ص: 91.

[15] المرجع نفسه، ص: 111.

[16] عبدالله العروي، خواطر الصباح (يوميات: 1967-1973) الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2007، ص: 17.

[17] عبد الله العروي، ديوان السياسة، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2009، ص:12.

[18] عبد الله العروي، خواطر الصباح (يوميات: 1967-1973) المرجع نفسه ص: 70.

[19] عبد الله العروي، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995، ص: 15.

[20] المرجع نفسه، ص: 25.

[21] عبد الله العروي، مفهوم التاريخ.. الألفاظ والمذاهب، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة 2005، ص: 217.

[22] عبد الله العروي، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، المرجع نفسه ص: 35.

[23] المرجع نفسه، ص: 36.

[24] المرجع نفسه، ص: 42.

[25] المرجع نفسه، ص: 44.

[26] المرجع نفسه، ص: 47.

[27] نديم نجدي، أثر الاستشراق في الفكر العربي المعاصر عند إدوارد سعيد، حسن حنفي، عبد الله العروي، دار الفارابي، الطبعة الأولى 2005 ص: 77.

[28] خيري منصور، المرجع نفسه، ص:8 - 9.