شعار الموقع

التحليل الثقافي لظاهرة العنف الديني

محمد محفوظ 2019-06-03
عدد القراءات « 647 »

التحليل الثقافي لظاهرة العنف الديني

 

محمد محفوظ

ﷺ مفتتح

حين التأمل في الظواهر الإنسانية نجدها دائمًا وليدة عوامل وأسباب مركبة ومتداخلة بعضها مع بعض، وتتطلب أكثر من منهجية معرفية لدراسة وتفسير هذه الظاهرة.

ولعل من أبرز الظواهر التي برزت في الآونة الأخيرة في واقعنا العربي والإسلامي، هي ظاهرة استخدام العنف لأغراض دينية أو لبواعث دينية.

فأضحت لدينا ظاهرة ما يمكن تسميتها بالعنف الديني. والمقصود بها هي مجموع الممارسات العنفية المعنوية والمادية والتي يمارسها الآحاد أو المجموع لبواعث دينية ومن أجل غايات وأهداف دينية.

ولا ريب أن أسباب وعوامل نشوء هذه الظاهرة، هي أسباب وعوامل متداخلة بعضها مع بعض. فثمة أسباب ثقافية وعوامل سياسية وبواعث أيديولوجية كلها مع غيرها، ساهمت في إنتاج وتوليد ظاهرة العنف الديني في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة. ولكونها ظاهرة تحتاج إلى منهجية متكاملة وواسعة لقراءة هذه الظاهرة وتفسيرها التفسير الصحيح. لأننا نعتقد أن التفسير الصحيح للظواهر الإنسانية، هو الذي يقودنا إلى معالجات صحيحة وسليمة.

وإن الارتباك والتخبط على مستوى الحلول والمعالجة.

لذلك ثمة ضرورات معرفية واجتماعية وثقافية، للاعتناء ببناء تفسيرات دقيقة لكل الظواهر الإنسانية أو السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية، التي تبرز في واقعنا ومجتمعاتنا.

وتأسيسًا على هذه القناعة العميقة، نحن نعمل في هذه الدراسة على تحليل وتفسير ظاهرة العنف الديني من زاوية ثقافية. بمعنى كيف نقرأ ظاهرة العنف الديني ثقافيًّا؟ وكيف تفسر المنظومات الثقافية ظاهرة استخدام العنف بكل مستوياته ببواعث وغايات دينية؟

واستخدام مصطلح (ديني)، لا يعني هنا البته، أن قيم الدين الأساسية والجوهرية، هي التي تحرص على ممارسة العنف، وإنما المقصود أنه ثمة قراءات وتفسيرات لقيم الدين تشرع ممارسة العنف ضد المختلف والمغاير. فربط العنف بالديني هنا المقصود به هو أن بعض أشكال التدين المعيش هو الذي يحرص على العنف ويسوّغ استخدامه.

ﷺ محاولة للفهم

وقبل الدخول في صلب الموضوع من الضروري القول: إننا ضد كل أنواع العنف والإرهاب، لأنها من الوسائل التي لا تنسجم وقيمنا الإسلامية وأعرافنا الإنسانية وتقاليدنا العربية. لهذا فإننا ننظر إلى ظاهرة العنف والإرهاب بوصفها ظاهرة مرضية خطيرة، ينبغي أن تدان من جميع الأطراف، ولا بد أن يعمل الجميع من أجل تفكيك موجباتها وإنهاء أسبابها المباشرة وغير المباشرة، مع يقظة أمنية وحزم أمني تجاه كل من يعبث بأمن الناس ومصالحهم المختلفة.

ولكن رفضنا لهذه الظاهرة الخطيرة، لا يعني التغافل عن أهمية العمل لبناء تصور وتفسير علمي لهذه الظاهرة؛ لأن التفسير الصحيح لهذه الظاهرة بكل ملابساتها هو الخطوة الأولى في مشروع مواجهتها والقدرة على إنهائها والتغلب عليها.

فنحن في الوقت الذي نرفض هذه الظاهرة، ونحارب كل أشكالها ومستوياتها، في الوقت ذاته نشعر بأهمية العمل على خلق تصور صحيح عن أسباب هذه الظاهرة وعواملها المباشرة، التي تفضي إلى خلق المزيد من الإرهابيين أو تمدد ظاهرة العنف الديني، حيث تستخدم وسائل القتل والتدمير والتفجير تحت عناوين ويافطات دينية.

والذي يؤكد أهمية العمل على بناء تصور صحيح لهذه الظاهرة، لكيلا نبتعد عن أسبابها وموجباتها الحقيقية. فحينما يحدث حدث إرهابي أو عنفي في أي دولة عربية وإسلامية، تبدأ الأصوات المتهمة للخارج بالبروز، مع تغافل تامٍّ عن احتمال أن هناك عوامل أو أسباباً مستوطنة في البيئة الداخلية، هي التي تنتج هذه الظاهرة، وتمدها بكل أسباب الاستمرار والحياة.

فالخطاب الدوغمائي والتبريري الذي يتهم الخارج دون التفكير في البيئة الداخلية، هو خطاب يساهم في تزييف وعينا تجاه هذه الظاهرة الخطيرة.

ونحن هنا لا ننفي دور الخارج التخريبي والإرهابي، ولكن ينبغي أَلَّا يكون هو الشماعة التي نعلّق عليها كل خيباتنا وإخفاقنا وعيوبنا.

القرآن الكريم يعلمنا أنه إزاء كل ظاهرة سلبية ومرضية تصيب واقعنا وبيئتنا الاجتماعية، وقبل أن نفكر في العوامل والأسباب الخارجية التي أوجدت هذا المرض أو تلك المشكلة، ينبغي أن نوجّه نظرنا وتفكيرنا إلى الأسباب والعوامل الداخلية التي ساهمت في صنع هذه المشكلة أو ذلك المرض؛ إذ يقول تبارك وتعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[1]، فما يعيشه العالم العربي من انفجار لهوياته الفرعية وتشظيه بعناوين طائفية ومذهبية وقبلية وجهوية، هو نتاج طبيعي لبعض الخيارات السياسية والاجتماعية التي سادت في العالم العربي، وعملت عبر وسائل قهرية لتغييب حقيقة التعددية الموجودة في المنطقة العربية.

إن تغييب حقائق المجتمعات العربية بطريقة عنفية – قسرية،هو المسؤول الأول عمَّا يشهده العالم العربي من نزاعات واحتقانات وتوترات ذات طابع فئوي أو طائفي أو جهوي.

والخارج هنا ليس محايدًا أو بعيدًا عن استثمار هذا الواقع لصالح أهدافه ومخططاته في المنطقة، ولكن هذه الخيارات السياسية الخاطئة الشوفينية هي التي هيَّأت الأرضية الاجتماعية لبروز توترات وأزمات أفقية وعمودية في الواقع العربي، عمل الخارج بدهائه ومؤامراته وأجهزته الأمنية المختلفة لاستثمار هذا الوضع،والعمل على إذكائه بما يناسب مصالحه وخططه الاستراتيجية في المنطقة العربية.

فعمليات العنف الديني التي تجري في أكثر من قطر وبلد عربي، هي من صنع بيئتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، وإن الصراخ الدائم باتجاه الخارج، وكأن بيئتنا العربية خالية من هذه النزعة، وبعيدة عن أمراضها وحواملها، لا يُساهم في توفير القدرة العربية على المواجهة الحقيقية لهذه الآفة الخطيرة التي تهدد العديد من بلداننا العربية في أمنها الوطني ونسيجها الاجتماعي واستقرارها السياسي.

فالذي يفجر الكنائس في العراق أو مصر أو أي بلد عربي آخر، ليس هو الأجنبي، وإنما هو التيار العنفي – التكفيري الذي بدأ بالبروز في العالم العربي.

والذي يقتل الناس في العراق على الهوية، ويدمر دور العبادة، ويستهدف الأبرياء في الأسواق والمتنزهات، ليس هو الأجنبي، وإنما هي الفئة الإرهابية المغالية في الدين، والتي تمارس كل فنون القتل باسم الدين والدفاع عن مقدساته.

ﷺ العنف والتطرف أية علاقة؟

فالعنف الديني في المنطقة العربية، هو نتيجة طبيعية لظاهرة الغلو والتطرُّف الديني، وإن من يحارب العنف والإرهاب، دون محاربة الغلو والتطرف، فإنه لن يصل إلى نتائج حاسمة على هذا الصعيد؛ لأن خيار الغلو والتطرف سيخلق المزيد من الإرهابيين. ومن يسعى إلى محاربة الإرهابيين فعليه مواجهة أسبابه وحوامله وموجباته الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية. لهذا فإننا نعتقد وبعمق أن فهم ظاهرة العنف والإرهاب بشكل صحيح وسليم، هو الخطوة الأولى في مشروع مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة على حاضرنا ومستقبلنا.

فنحن ندين تفجير الكنائس والمساجد ودور العبادة، كما ندين قتل الأبرياء أنى كانوا. ولكن الإدانة والاستنكار بوحدهما لا ينهيان هذه الظاهرة، بل سيستمر أهل العنف بعنفهم وأهل الإرهاب بإرهابهم، لأن الإدانة بوحدها لن تغير من المناهج الثقافية والدينية التي تخلق الإرهابي، ولأن الاستنكار بوحده لن يحول دون استمرار قافلة الإرهابيين من القتل والتفجير.

فالاستنكار بوحده لا يكفي، واتهام الخارج بهذه الأعمال، يزيف الوعي ويساهم في غبش الرؤية واختلال نظام الأولويات ويحول دون العمل الصحيح لمعالجة هذه الظاهرة. وأكرر هنا، إنني لا أبرِّئ الخارج من هذه الأعمال، فهو يوظفها لصالح مخططاته ومصالحه.

التحالف الموضوعي

أي هناك مصلحة موضوعية وتحالف موضوعي بين القائمين بأعمال العنف والإرهاب في العالم العربي، وبين الدوائر السياسية والأمنية للدول الكبرى. حيث إن عمليات العنف والإرهاب تساهم في تفكيك النسيج الاجتماعي في العالم العربي، وتزيد من محنه الداخلية وتوتراته بين مختلف مكوناته وتعبيراته، ومن مصلحة الخارج أن يوسع من هذه التوترات، ويضغط على العالم العربي في ملفات استراتيجية وحسّاسة وهو يعاني الأزمات الداخلية المستعصية. لهذا فهناك ما يشبه تبادل الخدمات بين الأطراف الدولية التي لها أجندة ومخططات سياسية واستراتيجية في المنطقة والجماعات الإرهابية التي تمارس العنف والإرهاب باتجاهات مختلفة، مما يزيد من التوترات والأزمات، ويوسع من ثغرات الداخل العربي.

فالتخادم الموضوعي المتبادل بين القوى الأجنبية وقوى الإرهاب والتطرف والعنف في المنطقة، ينبغي أن يقودنا جميعًا للعمل على تطوير الأوضاع السياسية والقانونية والاقتصادية في مجتمعاتنا العربية، حتى نتمكن من تحصين الأوضاع الداخلية العربية وفق أسس صلبة، تحول دون تحقيق اختراقات أمنية سواء أجنبية أو إرهابية.

فإصلاح الأوضاع وتطوير الحياة السياسية في كل بلد عربي هو الطريق الأسلم لإنهاء مخاطر العنف الديني في العالم العربي.

أيديولوجيا العنف

لعلنا لا نجانب الصواب، حين نقول: إن كل نزعة أيديولوجية منغلقة، هي بالضرورة صانعة أو حاضنة للتعصب، وطرد المختلف، ونبذ المغاير؛ لأن النزعات الأيديولوجية المنغلقة بطبيعتها ووفق بنيتها الداخلية، لا ترى الحق والحقيقة إلا لديها، ولا يتسع عقلها وقلبها وحسها، إلى مشروعات أو نظريات مغايرة أو مختلفة معها؛ لذلك ثمة صلة عميقة تربط النزعات الأيديولوجية المغلقة -بصرف النظر عن مضمونها- وآفة التعصب الأعمى وكل مخزونها العدائي والإقصائي للآخرين.

فالنزعات الأيديولوجية المغلقة الدينية أو الوضعية، تكون ممهدة وراعية لكل النزعات التعصبية التي تنشأ إما من قلب هذه النزعات الأيديولوجية أو على ضفافها وهامشها. وعليه فإن هذه النزعات الأيديولوجية حينما حكمت وسادت في الفضاء الاجتماعي والسياسي، فإنها استخدمت أدوات الدولة ومقدرات السلطة لتعميم قناعاتها ونظامها الفكري، ومارست كل أشكال الحيف والقهر والظلم بحق كل الوجودات الاجتماعية المغايرة لها أو غير المنسجمة معها سواء على مستوى الأصول أو مستوى الفروع. والسلوك ذاته مارسته النزعات الأيديولوجية الدينية المغلقة والدوغمائية، وحولت الدين ومنظومته المعيارية إلى غطاء ومسوغ لطرد المختلفين معها ونبذ المتمايزين مع تفسيرها وقناعاتها المركزية والفرعية. وما تمارسه الجماعات الأيديولوجية الدينية المغلقة والتعصبية من تكفير الناس وقتلهم والتفنن في إيذائهم المادي والمعنوي، ما هو إلَّا تجسيد عملي للقناعة الفكرية الآنفة الذكر. إن كل منظومة أيديولوجية مغلقة بصرف النظر عن جوهرها الفكري هي بالضرورة صانعة للتعصب، ومشجعة للمفاصلة الشعورية والعملية مع المختلفين مهما كانت درجة الاختلاف والتباين؛ لأن المنظومات الفكرية المغلقة لا ترحب بالتعدد، وتنبذ الاختلاف، وتحارب ثقافة السؤال، وترفض النقد والمراجعة، وتغطي كل هذه الممارسات الشائنة بعقلية تعصبية، تظهرهم وكأنهم الأحرص على قيم المجتمع والأمة، وهم على المستوى العملي أول من ينتهك قولًا وفعلًا قيم الأمة والمجتمع؛ لذلك فإننا نعتقد أن مواجهة ظاهرة التعصب الأعمى للذات وقناعاتها وتاريخها وأفكارها، يتطلب رفض كل النزعات الأيديولوجية المغلقة سواء كانت حاكمة أو محكومة، لأنها نزعات تستدعي كل أشكال التعصب، وتمدها باستمرار بكل أسباب الحيوية والفعالية والاشتغال.

لذلك لا يمكن محاربة ظاهرة التعصب، إلَّا بالوقوف بوعي ضد كل النزعات الأيديولوجية المغلقة، التي لا ترى إلَّا ذاتها وجماعتها ولا يتسع منطقها لمنطق التعدد والتنوع والانفتاح، لذلك هي تحارب كل هذه القيم، لأنها قيم مضادة لنهجها ومسيرتها الأيديولوجية والاجتماعية.

المفارقة المعرفية

وحينما نرفض النزعات الأيديولوجية المنغلقة، فإننا لا نرفض فكرة الالتزام الأيديولوجي، لأنها بشكل عام من الحاجات الضرورية للإنسان، بحيث من الصعوبة أن نجد إنسانًا بدون منظومة أيديولوجية تشكل بالنسبة إليه هي معيار الخير والشر، ومرجعيته الأخلاقية والسلوكية في الحياة. ولكن ما نرفضه هي النزعات الأيديولوجية التي تتعامل مع قناعاتها وأفكارها بوصفها، هي طوق النجاة والنجاح الوحيد، وتمارس القهر والعسف لتعميم هذه القناعات والأفكار، وتتعامل معها -أي الأفكار والقناعات- بوصفها متعالية على الزمان والمكان وغير خاضعة لشروطهما ومقتضياتهما، فيتم التعامل مع قناعات الذات وكأنها حقائق علمية نهائية، ليست قابلة للفحص والمراجعة والنقد.

والذي يتجاوز أو يرفض هذه القناعات فكأنه تجاوز الحق إلى الباطل، لذلك فهو سواء كان فردًا أو جماعة، يحارب في وجوده وحقوقه المعنوية والمادية.

لذلك على المستوى المعرفي والاجتماعي، العلاقة جدّ عميقة ووطيدة بين الأفكار والقناعات الدوغمائية المغلقة سواء كانت هذه الأفكار دينية أو دنيوية، سماوية أو وضعية وبين ظاهرة التعصب.

فالإنسان الذي يرى أن أفكاره تساوي الحق والحقيقة، فإنه سيتعصب لها ويحارب من أجلها، ويحدد موقفه من الآخرين انطلاقًا من موقف هؤلاء من أفكاره وقناعاته. ولا ريب في أن هذه الممارسة التعصبية، تتجاوز قيمة الالتزام، فالإنسان من حقه أن يلتزم بأي فكرة أو نظرية أو أيديولوجيا، ولكن ليس من حقه أن يتعامل مع أفكاره بوصفها هي الحقيقة الوجودية النهائية، والتي يخالفها، يخالف الحق، وينصر الباطل.

وإن الخيط الدقيق الذي يفصل بين الالتزام الأيديولوجي والتعصب الأيديولوجي المقيت، هو حينما يمارس الفرض والقهر والحرب لتعميم أفكاره وقناعاته. فحينما يمارس العنف بكل أشكاله، لتعميم قناعاته فهو يتجاوز حدود الالتزام الطبيعي، أما إذا اعتز الإنسان بأفكاره، وعمل على تعميمها بوسائل سلمية – طبيعية، وتعامل مع قناعاته بوصفها حقائق نسبية قابلة للصح وقابلة للخطأ في آن، فإنه يمارس التزامه الطبيعي، وهذا بطبيعة الحال من الحقوق الطبيعية لأي إنسان.

من هنا فإننا أحوج ما نكون اليوم، إلى خطاب ديني واجتماعي منفتح وإنساني، وينبذ العنف، ويحارب التعصب بكل أشكاله؛ لأن هذا الخطاب هو القادر على تدوير الزوايا، وتنمية المساحات المشتركة بين جميع الأطراف والأطياف، ويحول دون عسكرة المجتمعات واندفاعها صوب العنف وممارسته..

لذلك فإننا نعتقد أن الخطاب الديني – الإنساني والمنفتح والمتسامح هو أحد ضرورات ومتطلبات إنجاز وتعزيز الأمن الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الإسلامية المعاصرة.

الواقع وثقافة الاستئصال

كما ذكرنا أعلاه يعيش الواقع العربي اليوم، محنة جديدة وخطيرة، وتهدد الأمن والاستقرار في جميع دول المنطقة؛ إذ انتقلت الأحداث والتطورات من مرحلة انفجار الهويات الفرعية بكل تضاريسها وزخمها إلى مرحلة انفجار المجتمعات العربية ودخولها في مرحلة جديدة على مختلف الصعد والمستويات. فالجغرافيا السياسية لدول العالم العربي مهددة بالتغيير ليس لصالح مشروع وحدوي أكبر، وإنما للمزيد من التفتت والتشظي. والخطير في الأمر أن الذي يقود ويصنع هذه التطورات مجموعات إرهابية، عنفية، استئصاليه، توظف قيم الدين وشعاراته المتعددة لخدمة مشروعهم التكفيري، النبذي لكل ما عداهم.

وأمام هذه المرحلة الخطيرة التي تعيشها بعض دول العالم العربي، وتهدد بشررها وتأثيراتها استقرار وأمن كل الدول والمنطقة نود التأكيد على النقاط التالية:

1- إن الإرهاب وجماعاته والعنف وأحزابه، ليس هو الطريق السليم لتحسين الأوضاع السياسية أو تغيير المعادلات القائمة. لأن جماعات الإرهاب تقتل وتمارس العنف والإرهاب بدون أفق سياسي، ومن يقبل أن تقوده هذه الجماعات العمياء، فإن مآله المزيد من المآزق والأزمات والتوترات.

و المجتمعات التي تبتلي بوجود جماعات العنف والإرهاب بينها، فإنها ستعاني الكثير من الويلات والاستحقاقات التي لا تنسجم وطبيعة حياتها وأولوياتها.

2- إن جماعات الفصل والاستئصال بتكوينها الأيدولوجي وأفقها الثقافي، ليست قادرة على إنجاز الاستقرار السياسي والاجتماعي لمجتمعاتها، لأنها جماعات لا تبحث عن مشتركات ومساحات مشتركة للتفاهم والتلاقي مع المختلف والمغاير، وإنما تجعل الجميع محل الدعوة والفرض والقسر للإيمان بخطابها وأيديولوجيتها. فهي جماعات لا ترى إلا ذاتها، ولا تتصور الآخرين إلا في موضع القبول بدعوتها وخطابها أو في موقع الخصم الذي ينبغي محاربته.

وهكذا جماعات لا تبني استقرارًا، ولا تصون مجتمعات ومصالح.

فجماعات العنف والإرهاب لا صديق لها، ومن يعتقد أن المصلحة الموضوعية له التقت مع الجماعات الإرهابية ويراهن على هذا الالتقاء، فإنه لن يحصد من هذا الالتقاء إلا المزيد من الأزمات والمشاكل. فجماعات الإرهاب مثل النار، إذا لم تجد ما تأكله سوف تأكل محيطها القريب وحاضنها الاجتماعي أو السياسي. فلا أمان وأمن مع جماعات العنف والإرهاب، لأنها بطبعها تغدر وتفجر ولا تبحث إلا عن مصالحها الضيقة.

وهي دائمًا مصالح لا تتعدى حدود هذه الجماعات وفي بعض الأحيان لا تتعدى حدود رأي الزعيم الديني لهذه الجماعات.

3- تمر علينا هذه الأيام ذكرى مرور مائة عام على الحرب العالمية الأولى، التي دفعت فيه البشرية ملايين القتلى والجرحى. وتجربة هذه الحرب - الكارثة ومتوالياتها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، تؤكد -وبشكل لا لبس فيه- أن سفك الدم وإشاعة القتل والتدمير، لا ينفع أحدًا، وأن الناس إذا لم يبادروا لمقاومة نزعات القتل والتدمير، فإن هذه النزعات ستصل إليهم وتهدّد مصالحهم ومكاسبهم. والمعادلات السياسية والاجتماعية، التي تبنى على قاعدة القتل والتدمير، لن تستقر على حال؛ لأن الدم يستدعي الدم، والقتل يقود إلى القتل، وهكذا يخضع الجميع في دوامة العنف العبثي الذي يدمر الأوطان، ولا يبقى مجالًا للفهم والتفاهم وتطوير نظام الشراكة بين الناس. فمن يسعى إلى تحسين ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فعليه ألَّا يتوسل بوسيلة العنف والإرهاب، لأن هذه الوسيلة تؤسس للمزيد من الدمار الذي يدخل الجميع في أتون الحروب العبثية التي تدمر الجميع بدون أفق حقيقي لأي طرف من الأطراف.

هذا ما تؤكده تجربة الحرب العالمية الأولى وكل الحروب وعمليات القتل التي تمارس لأغراض أيديولوجية وسياسية.

4- ثمة ضرورات وطنية وقومية ودينية في كل البلدان العربية والإسلامية، للقيام بمبادرات للوقوف ضد جماعات العنف والإرهاب التي بدأت بالبروز في المشهد العربي والإسلامي؛ لأن الصمت أمام هذه الظاهرة الخطيرة، سيكلف المنطقة بأسرها على كل الصعد والمستويات، لذلك ثمة حاجة ماسة لرفع الصوت ضد ظاهرة الإرهاب والعنف وتفكيك موجباتهما، وتعرية خطابهما، ومواجهة الحامل البشري لهما.

ونحن هنا لسنا من دعاة تهويل خطر الإرهاب على أمن المنطقة واستقرارها، ولكننا نعتقد وبعمق أن جماعات العنف والإرهاب من أخطر التحديات التي تواجه المنطقة في اللحظة الراهنة. وإن مواجهة هذه الآفة الخطيرة، يتطلب تضافر جميع الجهود والطاقات للوقوف بحزم ضد هذه الآفة على المستويات الأمنية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ لأن تمكن هذه الآفة سيهدد الجميع، وسيغير من قواعد اللعبة السياسية القائمة في المنطقة، وستدمر ما تبقى من وحدة النسيج الاجتماعي في أغلب البلدان العربية والإسلامية.

فمن يربي وحشًا في بيته، فإن هذا الوحش لن يتحول إلى حيوان وديع وأليف، سيبقى وحشًا كاسرًا، وحينما يجوع سيفترس من جلبه إلى بيته.

جماعات الإرهاب كالوحوش المفترسة، ولايمكن أن تتحول إلى حمل وديع، ولا يمكن سياسيًّا أن يراهن عليها أحد؛ لأنها ذات بنية انشقاقية، تمردية، حينما تتمكن من أية رقعة جغرافية أو اجتماعية، ستعمل على تنفيذ أجندتها ومشروعها العنفي وستقف ضد من يقف ضد مشروعها ونهجها الأيديولوجي والسلوكي.

وجماع القول: إن جماعات العنف وعلى رأسها داعش، أضحت اليوم، تهديدًا مباشرًا لكل دول المنطقة، وهذا يتطلب من كل دول المنطقة، العمل على مواجهة هذا التهديد ورفع الغطاء الديني عن ممارساتها وخياراتها، وبناء حقائق الوعي والتسامح والحوار والاعتراف بالمختلف في فضاء مجتمعاتنا ومنابرنا الإعلامية والثقافية.

التطرف والنسيج الإسلامي

طبيعة النمط الثقافي والسلوكي الذي يسير على هداه ومنواله الإنسان المتطرف، هو أنه لا يبحث عن النقاط المضيئة في موضوع تشدده وتطرفه، وإنما يغض النظر عن هذه النقاط ويتغافل عنها، ويوجه اهتمامه صوب النقاط السوداء التي تبرر رأيه وموقفه وتزيده تشبثًا بمقولاته المتطرفة وقناعاته الجامدة.

ويتجلى هذا النمط والسلوك في طبيعة الرأي والموقف الذي يتخذه المتطرف من وقائع وحقائق العلاقات الإسلامية - الإسلامية. حيث أنها علاقات إنسانية وسياسية وثقافية واجتماعية، تتراوح بين علاقات ودية وهادئة أو علاقات متوترة ومليئة بنقاط التباين والتوتر أو هي علاقات جامدة حيث تحتضن عناصر السلب كما تحتضن عناصر الإيجاب.

الإنسان المتطرف سواء من هذه المدرسة الفقهية أو المذهبية أو تلك، هو بطبيعته المتطرفة والمتشددة، يتجاهل عناصر الإيجاب في هذه العلاقات، ويتغافل عن تلك اللحظات التاريخية التي تطورت فيها العلاقات الإسلامية على نحو إيجابي.

وينشغل نفسيًّا وعقليًّا بكل اللحظات التي ساءت فيها تلك العلاقات ووصلت إلى مديات سلبية، كما يحتفل بكل المقولات المذهبية المتطرفة والمتشنجة ويعزز بها قناعاته، ويزداد تشبثًا بمواقفه، يُضخّم عناصر التوتر ويستدعي بعض لحظات التاريخ الذي سادت فيها التوترات، ويتغافل ويتجاهل الحقائق المضادة لتطرفه وتشدده المذهبي.

يتعامل مع الخلافات والاختلافات الإسلامية ـ الإسلامية، بوصفها قدرا مقدرا، لا يمكن تجاوزها أو معالجتها.

ويحتضن بوعي وبدون وعي من جراء هذا، كل المقولات النبذية الاستئصالية، ويرى أن الطرف الإسلامي الآخر، لا ينفع معهم إلا لغة النبذ والاستئصال والقوة. ويتغافل عن حقائق ومقولات أن الأفكار والقناعات الدينية والمذهبية، لا يمكن استئصالها، ولا يمكن دحرها من الوجود، لأنها حقائق عنيدة وتزداد رسوخًا في تربتها الاجتماعية، حينما تتجه إليها رياح الاستئصال والقتل والتدمير.

وعليه فإننا نعتقد أن طبيعة نفسية وثقافة المتطرف والمتشدد الديني والمذهبي، تمارس عملية التغذية التي تُديم حالات التطرف وتمدها بأمصال الوجود والحياة.

وإن قبض المتطرفين من كل الأطراف على ملف العلاقات الإسلامية - الإسلامية، سيزيد الأمور تعقيدًا وتشنجًا؛ لأن التطرف بطبعه ضد التآلف والتآخي والوحدة والتفاهم، كما أن التشدد المذهبي يساهم في تصحير مسافات اللقاء والاشتراك.

وإن السماح لكل النزعات المتطرفة في التحكم بطبيعة العلاقة بين المسلمين، لن ينتج إلا المزيد من التوتر وسوء العلاقة وتراكم عناصر السلب فيها.

لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع تحسين العلاقات الإسلامية بين المسلمين، هو منع جماعات التشدد والتطرف من الإمساك بهذا الملف الهام والحيوي، وتضافر كل الجهود من أجل القيام بمبادرات من قبل أهل الاعتدال والوسطية لإدارة ملف العلاقات الإسلامية - الإسلامية. فحينما تتحرر علاقات المسلمين بعضهم مع بعض من هيمنة أهل التطرف والتشدد، فإن قدرة أهل الاعتدال على بناء أسس العلاقة الإيجابية والتفاهم بين المسلمين ستكون فعلية وحقيقية. بمعنى حينما نتمكن من فك الارتباط بين جماعات التطرف ومسيرة العلاقة بين المسلمين، حينذاك ستتحرر هذه العلاقة من الكثير من القيود والأعباء التي تساهم في تعطيل هذه العلاقة أو تفجيرها من الداخل.

وفي سياق العمل على إخراج ملف العلاقات بين المسلمين من قبضه أهل التطرف والتشدد نود بيان الأفكار التالية:

1- إن السنة والشيعة من حقائق التاريخ والاجتماع الإسلامي، ولا يمكن لأي طرف مهما أوتي من قوة، أن يلغي هذه الحقائق من الخريطة والوجود الإسلامي.

وإن المطلوب دائمًا مهما كانت الحقائق المضادة ونزعات التشدد والتطرف هو توسيع دائرة التلاقي والتفاهم.

لأن البديل عن هذه الدائرة، يساوي أن يدمر المسلمون واقعهم، ومجتمعاتهم بأيديهم.

فالحروب المذهبية لا رابح منها، وإن إخضاع الواقع الإسلامي إلى متواليات هذه الحروب ستضر بجميع المجتمعات الإسلامية. لذلك فإن مصلحة الجميع تقتضي الجلوس على طاولة التفاهم والبحث بشكل موضوعي عن آليات تصليب العلاقات بين المسلمين، وإخراجها من دائرة التحريض والنبذ والاستئصال. فالصراخ الطائفي لن يغير من حقائق الوجود الإسلامي، ونار الطائفية حينما تحترق فإنها ستصيب الجميع ولعل أول من تصيبه هو شاعلها.

2- كل الأمم والشعوب عانت بطريقة أو أخرى من انقساماتها الدينية أو المذهبية أو القومية أو العرقية. وإن المجتمعات الحية والواعية هي وحدها التي تمكنت من إدارة انقساماتها الدينية وغيرها بما لا يضر راهنها وواقعها.

وإن المجتمعات الإسلامية معنية قبل غيرها، للتفكير بجد في الطريقة المثلى التي تجنب الجميع ويلات التحريض والحروب عبر إدارة حضارية لخلافاتها وانقساماتها المذهبية.

ومن يبحث عن حلول استئصالية، وإلغائية، فإنه لن يجني إلا المزيد من المآزق والحروب. وقد جرب الجميع هذه الحقيقة بطريقة أو أخرى؛ لذلك لا مناص إلا التفاهم وتدوير الزوايا والبحث عن سبل تحييد الانقسام المذهبي عن راهن وواقع المسلمين اليوم. وهذا لن يتأتَّى إلا بـ:

• الاحترام المتبادل ورفض كل نزعات تسخيف قناعات الآخر. فمن حق الجميع أن يختلف في قناعاته وأفكاره، ولكن ليس من حق أي أحد أن يتعدى ماديًّا أو معنويًّا على قناعات ومقدسات الآخرين.

• إن ضبط العلاقة بين المختلفين مذهبيًّا في الدائرة الإسلامية، لا يمكن أن تعتمد على المواعظ الأخلاقية فحسب، وإنما هي بحاجة إلى منظومة قانونية متكاملة، تجرم أي تعد على مقدسات أي طرف من الأطراف.

• من الضروري لكل الدول التي تدير مجتمعات متعددة ومتنوعة، أن تتعالى على انقسامات مجتمعها، وألَّا تكون طرفًا في عمليات الانقسام الديني أو المذهبي. من حق أي فرد في الدولة أن يلتزم بقناعات مدرسة أو مذهب، ولكن من الضروري ألَّا يستخدم موقعه في الدولة لفرض قناعاته على الآخرين. فالدولة للجميع، ومن حق الجميع أن يحظى بمعاملة متساوية في الحقوق والواجبات.

3- إننا ندعو كل العلماء والدعاة والخطباء من كل الطوائف الإسلامية، إلى التعامل مع ملف وحدة المسلمين ومنع فرقتهم وتشتتهم، بوصفها من المبادئ الإسلامية الأصيلة، والتي تتطلب جهودًا متواصلة لتعزيزها وتعميقها في الواقع الإسلامي المعاصر.

ولا يصح بأي شكل من الأشكال، أن يتم التعامل مع هذه القيمة الإسلامية الكبرى، بمقاييس الربح أو الخسارة أو المصلحة السياسية الآنية.

آن الأوان للجميع أن يصدع بضرورة تفاهم ووحدة المسلمين وأهل القبلة الواحدة، وأنه المشاكل أو المؤاخذات المتبادلة ينبغي أن تحترم متطلبات ومقتضيات وحدة وتفاهم المسلمين. وإن الطريق إلى ذلك، ليس أن يغادر أحدنا قناعاته، وإنما صيانة حرمة وحقوق الجميع المادية والمعنوية، وتنمية المساحات المشتركة، وبناء حقائق التلاقي والتفاهم بين أهل الوطن الواحد، ومنع التعدي على مقدسات بعضنا البعض، وإطلاق مبادرات وطنية تستهدف تطوير نظام التعارف المتبادل بين جميع المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية وانتماءاتهم المذهبية.

دوائر العنف

ثمة وقائع وحقائق سياسية واجتماعية عديدة، تثبت بشكل لا لبس فيه، أن العنف بكل مستوياته، الذي يبدأ بالكلمة العنيفة والنابية، وينتهي بممارسة القوة العارية والشدة تجاه الطرف الآخر، لا يُنهي أزمة، ولا يعالج مشكلة، بل التجارب السياسية والاجتماعية تثبت عكس ذلك تمامًا؛ حيث إن استخدام العنف يفاقم من المشكلات والأزمات، ويوسع من دائرة الضرر والاحتقان، ويثير كل الدفائن العصبوية والشيطانية لدى الإنسان. والتوغل في ممارسة العنف سواء على المستوى الاجتماعي أو المستوى السياسي، لا يأبد حالة الهلع والخوف لدى الإنسان، وإنما يكسرها ويتجاوزها كمقدمة ضرورية لتحدي آلة العنف ومواجهة مستخدمه سواء كان فردًا أو سلطة.

فعليه فإن الاعتقاد أن ممارسة القهر والعنف، تنهي أزمات والمشاكل بصرف النظر عن طبيعتها، فإن التجارب والممارسات، تثبت عكس ذلك.. من هنا فإننا نعتقد أننا بحاجة في كل مواقعنا أن نقطع نفسيًّا وثقافيًّا مع نزعة العنف واستسهال استخدام أدواته، ضد أبناء الأسرة أو الجيران، أو يستخدمه رب العمل ضد مخدوميه، أو يمارسه السلطان السياسي ضد مناوئيه ومعارضيه.

فممارسة العنف لا تفضي إلى استقرار الأسر والفضاء الاجتماعي، وإنما توفر كل أسباب التفكك والانتقام والخروج عن مقتضيات الالتزام الأخلاقي والاجتماعي، كما أن السلطة السياسية التي تمارس العنف ضد شعبها فإنها لن تحصد إلا المزيد من الاحتقان والابتعاد النفسي والعملي بين السلطة وشعبها.

لهذا فإن المطلوب أن نقطع نفسيًّا وعمليًّا مع أسلوب العنف، حتى نربي ذواتنا ونعمم ثقافة العفو والرفق في فضائنا الاجتماعي، ونزيد من فرص التربية المدنية التي تعلي من شأن الحوار والتفاهم وتدوير الزوايا، والبحث عن حلول سلمية تجاه كل مشكلة أو أزمة. وفي سياق العمل على ممارسة القطيعة النفسية والمعرفية مع العنف بكل حمولته النفسية والاجتماعية والسياسية، نود التأكيد على النقاط التالية:

1- لا يكفي لنا كأفراد وكمجتمع أن ندين ممارسة العنف بكل مستوياته النفسية والأخلاقية، وإنما من المهم العمل على بناء حقائق الرفق والحوار والتفاهم في المجتمع، حتى تتحول حالة اللاعنف في مجتمعنا، إلى حالة طبيعية مغروسة في نفوسنا وثقافتنا.

أما إذا اكتفينا بالنقد الوعظي لظاهرة العنف، دون بناء الحقائق المضادة لها، فإننا كأفراد ومؤسسات سنلجأ مع أي أزمة إلى استخدام العنف.

فالرهان على مكافحة ظاهرة العنف ينبغي ألَّا يكون فقط على الضوابط والالتزام الأخلاقي لدى الإنسان، وإنما على وجود بناء مؤسسي وتعبيرات رقابية تحول دون ممارسة العنف أو اللجوء إليه.

فالإنسان (أي إنسان) قد تغريه عناصر القوة والقدرة المادية التي يمتلكها لممارسة العنف، ولا سبيل لمنعه إلَّا ببناء حقائق ومعطيات مؤسسية، تحول دون ممارسة العنف حتى لو سولت له نفسه باستخدام العنف.

فالمجتمعات المتقدمة اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، لم تتمكن من مواجهة مخزون العنف في واقعها، إلا ببناء مؤسسات ومعطيات وحقائق تمنع قانونيًّا ورقابيًّا ممارسة العنف بكل مستوياته، وتعمل في الوقت ذاته على غرس ثقافة العفو والتسامح والرفق واللاعنف في واقعها الاجتماعي، عن طريق التعليم ووسائل التنشئة والتربية ومؤسسات الإعلام والتوجيه الموجودة في المجتمع.

بهذه الطريقة تمكنت هذه المجتمعات من ضبط نزعات العنف لدى الأفراد والمؤسسات العامة، وبدون هذه الطريقة المتكاملة لن نتمكن من ضبط نزعات العنف التي قد تتسرب إلى نفوس الجميع، وتستخدم بمبررات عديدة.

2- إننا في الوقت الذي ندين ظاهرة العنف بكل مستوياته، ونطالب بمحاربتها والوقوف بحزم تجاه كل أشكالها وتعبيراتها، ندعو إلى بناء تفسير علمي وموضوعي تجاه هذه الظاهرة، فرفض هذه الممارسة، لا يمنع من بناء تفسير علمي لها على مختلف المستويات.

وفي تقديرنا، إن بناء تفسير علمي وموضوعي لهذه المسألة يساهم في بناء استراتيجية صحيحة لمواجهتها.

وإننا من الضروري إذا أردنا مواجهة هذه الآفة، أن نقاومها في أسابها الحقيقية وعواملها الجوهرية، وبناء تعبيرات مؤسسية وطنية تعنى بشؤون بناء الحقائق المضادة لكل موجبات ومستويات العنف المختلفة.

3- إن التطورات والتحولات المتسارعة التي تجري في المنطقة العربية اليوم، تثبت بشكل عملي على أن خيار العنف سواء استخدم من قبل السلطة أو استخدم من قبل الشعب، فإنه لن يفضي إلى نتائج إيجابية، وإنما سيوفر كل مبررات استمرار سفك الدماء وممارسة القتل دون أفق إنساني وحضاري. فالعنف لا ينهي أزمة سياسية أو مشكلة اجتماعية، وإنما يزيدهما تعقيدًا وصعوبة، وإن الحكومات والشعوب بإمكانهما أن يصلا إلى ما يريدونه عن طريق الرفق والعفو والنضال السلمي واللاعنفي، وقد أثبتت تحولات العالم العربي الراهنة صحة وسلامة هذا الخيار، أما المجتمعات التي لجأت إلى العنف فإن أزماتها ستطول، وتضحياتها ستتضاعف.

4- وحتى يكتمل عقد العفو والرفق والرحمة والصلح والوئام وكل القيم المضادة للعنف والشدة والغلظة، من الضروري إعادة قراءة قيم الإسلام ومفاهيمه على أساس أصل أن الدين الإسلامي هو دين الرحمة والرفق والسلام،وليس دين القتل والشدة والحرب. وذلك حتى نتمكن من بناء منظومة قيمية متكاملة، تنبذ العنف بكل مستوياته قولًا وعملًا، وتمارس الرفق والرحمة مع الأعداء قبل الأصدقاء، ومع المختلفين قبل المنسجمين. وبهذه الكيفية نتمكن -نحن كأفراد ومجتمعات- من بناء حقائق اللاعنف في واقعنا الخاص والعام، بعيدًا عن نزعات الاستئصال والعنف.

فالعنف بكل مستوياته لا يخلف إلى الدمار الاجتماعي والسياسي، ومن يبحث عن حريته وإنصافه ويتوسل في سبيل ذلك نهج العنف، فإنه لن يحصد إلَّا المزيد من الظلم والافتئات على الحقوق والكرامات. فالعنف هو بوابة الشر الكبرى على الشعوب والحكومات، والمطلوب من الجميع هو نبذ هذا الخيار والإعلاء من قيم الحوار والتسامح والعفو. وهذا يتطلب بناء رؤية ومشروع فكري وسياسي وإعلامي وتربوي متكامل، يستهدف محاصرة نوازع العنف في النفس والواقع، وبناء حقائق مؤسسية تطور من حقائق اللاعنف في المجتمع.

ضبط العنف

على المستوى الفلسفي ربط الفيلسوف (باسكال)[2] بين الحقيقة والعنف. إذ اعتبر ثمة صراعًا خالدًا ومفتوحًا بينهما. إذ لا تستطيع الحقيقة القضاء على ظاهرة العنف في الوجود الإنساني، ولا يستطيع في المقابل أيضًا العنف من حجب أنوار الحقيقة. فمهما تجلت الحقائق الذي يبحث عنها الإنسان، ستبقى ظاهرة العنف، وسيمارس من أجل الدفاع عن مبدأ وأفكار وعقائد. ومهما اكتشف الإنسان خطر ممارسة العنف ومتوالياته على الإنسان والوجود، فإنه سيمارس العنف بذهنية الدفاع وتعميم القناعات والأفكار والعقائد. وبالتالي -على حد تعبير الفلاسفة- ثمة ملازمة بين ظاهرة العنف بكل مستوياتها ودرجاتها وبين الوجود الإنساني. فلم تخلُ أي جماعة بشرية من استخدام العنف سواء في إطار الدفاع أو التوسع والتعميم.

وما يستطيع أن يقوم به الإنسان أزاء ظاهرة العنف الملازمة لوجوده، هو ضبطها والتقليل من مساحة استخدامها وتربية الناس بطريقة مضادة للعنف، بحيث يصل الإنسان إلى مستوى ينبذ فيه العنف واستخدامه على المستوى النفسي والعملي. والملفت للنظر على هذا الصعيد أنه مع التقدم العلمي والتقني الهائل الذي حصل عليه الإنسان اليوم، إلا أن التقدم العلمي الهائل لم يمنع الإنسان من استخدام العنف ضمن استهدافاته البدائية والأولية، بل على العكس من ذلك. أي إن التطور العلمي والتقني اليوم استخدم لتطوير آليات ممارسة العنف في الوجود الإنساني. فالإنسان اليوم ازداد علمًا وتقنية واستخدامًا لمنجزات العصر المختلفة، وفي الوقت ذاته ازداد استخدامًا للعنف واقترب أكثر من استخدام وسائل عنفية لم تكن معهودة من قبل، لدرجة أن وسائل العلم والاتصال الحديثة ساهمت في تعميم صور العنف وآليات استخدامه. بل لو تصفح الانسان وسائل الاتصال الحديث، سيجد صفحات ومواقع تغذي الناس لدواعٍ واعتبارات متعددة على الدعوة إلى العنف واستخدامه للدفاع عن الذات وأفكارها، ومواقع أخرى هي لتعليم المتصفح طريقة تفخيخ السيارات وصنع القنابل واستخدام مختلف الأسلحة الثقيلة والخفيفة. والعجب في الأمر أن فاعل العنف وممارسه، يستسهل ممارسته بل يعتبره من الأفعال التي يُثاب عليها الإنسان. وبفعل استسهال ممارسة العنف والتغطية الدينية للفعل العنفي أضحى الواقع الإسلامي المعاصر يعيش مفارقة صارخة وخطيرة في آن. حيث عشرات التوجيهات الإسلامية التي تحث على الرفق والاعتدال والتسامح ونبذ الشدة والغلظة وضرورة الرحمة مع الجميع. وفي مقابل هذه التوجيهات ثمة ممارسات عنفية يندى لها جبين الإنسانية تمارس باسم الإسلام ودفاعًا عن مقدساته. وكأن الإسلام دين القتل والعنف لأتفه الأسباب. وكأن تمكين الإسلام في الواقع الخارجي، لا يحتاج إلَّا إلى بندقية وسيارة مفخخة لإشاعة الفوضى وتعميم القتل. ولكن ما نود أن نقوله في هذا السياق: إن الله سبحانه وتعالى لا يطاع من حيث يعصى، مهما كانت التبريرات ومهما كانت اليافطات المرفوعة في هذا السبيل.

فالباري عز وجل يطاع من خلال الالتزام التام بتشريعاته وتوجيهاته، ولا يمكن أن يطاع بسفك الدم وقتل الأبرياء وتدمير أسواق المسلمين ومصادر رزقهم. فالله سبحانه وتعالى لا يطاع بقتل الأطفال والنساء، ولا يطاع بالإعدامات العشوائية التي نشاهد بعضها على اليوتيوب وشبكات التواصل الاجتماعي.

إن ما يجري اليوم من عمليات قتل وتفجير باسم الجهاد والدفاع عن المقدسات، هو ذاته مناقض بشكل تام لتوجيهات الإسلام وثوابته.

ونظرة بسيطة لآداب وأخلاقيات الحروب في الإسلام، سنكتشف أن ما يجري هو مناقض لآداب وتوجيهات وأخلاقيات الإسلام.

ويبدو أن الإنسان هو الكائن الوحيد على وجه هذه البسيطة الذي يقتل من أجل أفكاره ومنظومته العقدية والاجتماعية.

وهذا يعكس عجز هذا الإنسان عن إقناع الآخرين بأفكاره وقناعاته، فيلجأ إلى القتل والتدمير، وكأن هذا القتل والتدمير سيمكنه من الوصول إلى أهدافه.

وتعلمنا تجارب الأمم والشعوب المختلفة أن الوصول إلى الغاية بالظلم والتعدي على الحقوق والكرامات لن يدوم مهما طال الزمن. فالتمكن من الآخرين بالقتل والتفجير والإرهاب قد يطول إلا أنه لا يدوم مهما كانت الظروف والأحوال.

وتؤكد لنا جميع التجارب العنفية أنها إما مرتبطة بشكل مباشر بجهات إقليمية ودولية لها مصلحة مباشرة وأكيدة في تمزيق دول وشعوب المنطقة، أو تخدم مصالح أعداء الأمة بطريقة غير مباشرة. لأن جماعات العنف تساهم بشكل أساسي في تمزيق نسيج الأمة ومجتمعات المنطقة، وتظهر للجميع صراع المسلمين بعضهم مع بعض، وهذا ما يريده أعداء الأمة لتمرير مشروعاتهم وأجندتهم الاستراتيجية والسياسية التي تستهدف إضعاف الأمة لأدنى الحدود ومن ثم إخضاعها لشروطها المجحفة التي تستهدف ثرواتها وقدراتها راهنًا ومستقبلًا.

فما يجري في المنطقة اليوم من انقسامات طائفية حادة واقتتال مذهبي وأهلي في أكثر من بلد وتقسيم ممنهج لبعض الدول والشعوب، ليس بعيدًا عن إرادة الأجنبي ومصالحة العليا. فلحظة الانهيار التي تعيشها المنطقة وبفعل خيارات سياسية وفكرية صنعها أبناء المنطقة ويتم تغذيتها والاستفادة منها من قبل أعداء الأمة، عمل من أجلها الأجنبي منذ سنوات طويلة، ولكن كان وعي الأمة ووحدتها الداخلية هو الذي يفشل هذه المخططات. ولكن للأسف الشديد ومع تضخيم المشكلة الطائفية وتغذيتها من قبل جميع الأطراف بعضهم بوعي وإدراك والبعض الآخر بدون وعي وإدراك، أضحى الاهتراء الداخلي في جسم الأمة حقيقيًّا، وأضحت يد الأجنبي هي الأعلى في التحكم في مسار الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة.

وبفعل هذا التداخل والتشابك بين جماعات العنف وبعض الأطراف الإقليمية والدولية، أضحت هذه الجماعات هي عنوان حروب العرب الداخلية، التي تستهدف نسيج العرب الداخلي وتدمير إمكانية تجاوز عثرات الطريق في مشروع البناء والتنمية العربية.

جماعات العنف والبيئة الانشقاقية

حين التفكير العميق في تحليل ظاهرة جماعات العنف والإرهاب في المنطقة العربية، نكتشف أن هذه الجماعات، هي بذاتها، ووفق تكوينها الثقافي والمعرفي والاجتماعي، هي جماعات انشقاقية، تتكور حول ذاتها، وتزرق في عقول أفرادها نزعات الكره والبغض لمحيطها الاجتماعي والسياسي، وتجعل من الانتماء إليها والالتزام بمقولاتها وبرامجها المختلفة، هو معيار الحق والصواب.

وما عداها هو خروج عن الصواب وانحراف عن الطريق المستقيم؛ لذلك فإن جماعات العنف والإرهاب في كل البيئات الاجتماعية التي تتواجد فيها، تزرع الانشقاق، وتحفر أخاديد من التباينات والخلافات التي تتولد باستمرار، مما يدمر النسيج الاجتماعي والسياسي.

لذلك نجد أن هذه الجماعات باستمرار تبحث عن الجغرافيا البشرية، التي اهترأت فيها الدولة وأضحت غير متماسكة، وسادت الفوضى، لأن هذه البيئة التي لا راعي لها ولا ناظم فيها، هو الذي يناسب فكرها الانشقاقي والعنفي، لتحويل هذه الجغرافيا إلى ساحة مفتوحة للتدريب الأيديولوجي والعسكري، لكي تستمر في مشروع القتل والتدمير وإنهاك المجتمعات العربية سواء على مستوى علاقاتها البينية بين مكوناتها المتنوعة، أو على صعيد أوضاعها الأمنية والسياسية.

لذلك من الطبيعي اعتبار هذه الجماعات بصرف النظر عن أيديولوجياتها، هي خطر محدق للمجتمعات العربية وأمنها واستقرارها وتلاحمها الداخلي. وماتقوم به هذه الجماعات الإرهابية في أكثر من بلد عربي هو مؤشر عملي على طبيعتها ومنظومة أفكارها التي تبرر لذاتها القيام بأبشع الإعمال وأشنعها.

وما تقوم به في بعض المدن السورية الواقعة تحت سيطرتها، يؤكد هذه الحقيقة، ويعبر بشكل ملموس أنها جماعات تعيش على القتل والتدمير، وأنها لا تكتفي بمحاربة النظام السياسي الذي تشكلت من أجل مواجهته ومحاربته، وإنما طبيعتها العنفية والانشقاقية يدفعها إلى مقاتلة كل من يخالفها أو يقف موقف الرفض لمشروعاتها وخياراتها الأيديولوجية والاجتماعية. لذلك تتكرر الأخبار الغريبة والمذهلة التي تقوم بها (داعش) في مدينة الرقة السورية. فهي جماعات تدمر ولا تبني، تفكر بمشروعها دون الاهتمام بمعطيات الواقع، تستسهل عملية القتل والإعدام حتى لو حكمت مدينة أو قرية بدون أهلها، لا تعرف إلَّا لغة العنف وكأنها كتلة بشرية لتنمية الأحقاد والأغلال بين الناس.

والشيء المهم الذي ينبغي لكل الدول العربية أن تلتفت إليه، وتراكم من فعلها الأمني والسياسي والثقافي في مواجهة جماعات العنف والإرهاب، هو أن هذه الجماعات وبفعل ذهنيتها الانشقاقية ومنهجها الإرهابي الأسود، هي من أهم التحديات والتهديدات التي تواجه وحدة العرب كجغرافيا وكشعوب. لذلك نتمكن من القول وعلى ضوء تجارب هذه الجماعات في مصر وسوريا واليمن والعراق: إنها تهديد مباشر لوحدة الدول العربية والمجتمعات العربية؛ لأنها تفكر بذهنية اقتطاع رقعة جغرافية ذات خصائص معينة، وتعمل لتحويلها إلى قاعدة متكاملة للانطلاق والانقضاض ضد المناطق والمدن الأخرى. هذا ما فعلته هذه الجماعات الإرهابية في اليمن والعراق وسوريا، وهذا ما تحاول أن تقوم به في أي دولة تقوى فيها، وتتوفر لها حاضنة اجتماعية.

فهذه الجماعات تشكل قوة أيديولوجية وعسكرية مضادة لواقع الوحدة بين العرب والمسلمين، ومدمرة للنسيج الاجتماعي في كل البيئات، وتسعى باستمرار لتأسيس جيوب لها تضمن فيها حرية الحركة والقدرة على الانقضاض المسلح ضد بقية الشعب والمناطق غير الخاضعة لها.

وما جرى قبل مدة من أحداث في العراق، أدت إلى سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش يؤكد هذه الحقيقة ويعكس طبيعة التهديد الذي تشكله هذه الجماعات والتنظيمات الإرهابية على وحدة الدول والشعوب العربية.

وعلى ضوء ذلك ثمة ضرورة قومية ووحدوية في كل الأقطار العربية، للوقوف بحزم ضد هذه الجماعات، لأنها أضحت تهديد حقيقي على المستويات كافة. والوقوف موقف المتفرج من هذه الأحداث والتطورات، يعني المزيد من الانهيارات العربية والمزيد من التآكل الدامي في الجسم العربي.

وفي سياق العمل للوقوف ضد هذه المخاطر والتحديات التي تطلقها جماعات العنف والإرهاب ضد استقرار الدول العربية ووحدتها الجغرافية والبشرية، نود تأكيد النقاط التالية:

1- إن المجتمعات المتنوعة والمتعددة أفقيًّا وعموديًّا، لا يمكن أن تدار بعقلية الغلبة واستبعاد أحد المكونات والتعبيرات، وإنما تدار بتطوير نظام الشراكة الذي يضمن لجميع الأطياف حقوقها السياسية والمدنية بدون افتئات على أحد، أو إقصاء لأي طرف.

وتعلمنا التجربة السياسية في العراق، إن التراخي أو التلكؤ في بناء نظام سياسي، تشاركي، تعددي، لا يُقصي أحدًا، فإن نتيجته المباشرة هو بروز حواضن اجتماعية عديدة لخيارات العنف والإرهاب، تكون محصلة هذه الحواضن الدائمة المزيد من الانهيار الأمني ووقوع التفجيرات والقتلى من الأبرياء.

فالأمن الحقيقي لا يُبنى إلَّا ببناء نظام الشراكة، والرهان على قدرة أحد المكونات على حسم معاركه السياسية بوحده، أضحى من الرهانات الخاسرة التي لم تنتج إلَّا القتل والدمار.

إننا في هذا السياق ندعو شيعة العراق قبل سنته، وعرب العراق قبل كرده، إلى الالتفات إلى هذه الحقيقة السياسية، إلا وهي أن نظام الشراكة المتساوية في الحقوق والواجبات لكل الأطراف والمكونات، هو الذي يجلب الأمن والاستقرار، وهو -أي نظام الشراكة- وحده قادر على تفكيك كل شبكات العنف والإرهاب التي بدأت بالانتشار في محافظات العراق.

أما إذا استمرت الأوضاع على حالها، فإن الأحداث ستتسارع باتجاه المزيد من الانهيار الأمني والسياسي، مما يهدد وحدة العراق شعبًا وأرضًا.

وعلى النخب السياسية من كل الأطراف والأطياف، أن تدرك أن الضامن الوحيد لوحدة العراق اليوم هو طبيعة النظام السياسي المراد تشكيله في العراق. فإذا كان أحاديًّا ولا يعبر عن جميع حساسيات الشعب العراقي، فإن المآل الأخير لذلك هو تقسيم العراق، وهو من الخيارات الخطيرة على العراق والمنطقة العربية بأسرها.

2- توضح الأحداث والتطورات في أغلب البلدان العربية المذكورة أعلاه، أن استدعاء جماعات العنف والإرهاب، أو غض النظر عنها، لا يهدد فقط خصم اليوم، وإنما يهدد الجميع. لأن هذه الجماعات بطبعها جماعات غير تسووية وتبحث عن حلول نهائية وفق منظورها في كل المناطق التي تتواجد فيها. لذلك من الضروري القول: إن من مصلحة جميع الأطراف في المنطقة العربية الوقوف معًا ضد جماعات العنف والإرهاب، وإن لعبة الاستقواء والتخويف بهذه الجماعات سترتد سلبًا على جميع الأطراف. لذلك ثمة حاجة في كل هذه الدول العربية للوقوف العملي والفعلي ضد كل التشكيلات الإرهابية والعنفية، لأنها تشكيلات تهدد المنطقة العربية في استقرارها الداخلي ووحدتها السياسية والبشرية. وتجربة (داعش) في تهديد وحدة العراق ووحدة سوريا شاخصة للجميع.

3- حينما تتفشى الغرائز المذهبية والطائفية في المجتمعات، تتجه بعض العواطف إلى أقصى أنواع وأشكال التحريض والكراهية. والعلاقة بين تفشي غرائز الكراهية والتحريض وممارسة العنف والإرهاب، هي ذات العلاقة التي تربط عالم الأسباب بعالم النتائج. لذلك ثمة ضرورة عربية لرفع الصوت ضد عمليات التحريض المذهبي والطائفي، لأن هذه العمليات تؤسس بطريقة أو أخرى للمناخات الاجتماعية والثقافية المحضرة لاستخدام العنف ضد المختلف المذهبي أو المغاير الديني، وهذا بدوره يفضي إلى اتساع دائرة العنف والإرهاب.

وخلاصة القول: إن جماعات العنف والإرهاب، تعيش على مناخات التحريض المذهبي والطائفي، ومن يريد محاربة جماعات العنف والإرهاب، فعليه أيضًا الوقوف ضد كل أشكال بث الكراهية بين المواطنين لاعتبارات لا كسب للإنسان فيها.

العنف اليوم

في المشهد المريع الذي تعيشه بعض البلدان العربية، التي سقطت في أتون الفوضى والاقتتال الداخلي، والذي يجتهد الجميع في تدمير بلدهم والقضاء على نسيجهم الاجتماعي والمدني، ثمة مفارقة جديرة بالتأمل والفحص.

وهذه المفارقة هي: أن الأمور وتطورات الأحداث في هذه الدول والمجتمعات المنقسمة أفقيًّا وعموديًّا، تتجه صوب أن تتوحد عناوينها الطائفية والمذهبية والعرقية وتتفتت دولتهم. فالدولة التي كانت رمز وحدتهم والفضاء الذي يجمعهم بكل تنوعهم وتعدديتهم، تتجه نحو التقسيم والتشظي. وفي مقابل هذا التفتت الدولتي إذا صح التعبير، تتجه الجماعات البشرية التي تستند على انتماءاتها التاريخية نحو التوحد والتكتل للدفاع عن المصالح وتعظيم المكاسب.وبإمكاننا في هذا السياق أن نتحدث عن العراق كنموذج لذلك. فمنذ سقوط محافظة نينوى بيد التنظيم الإرهابي (داعش) تتجه الأمور نحو المفارقة المذكورة أعلاه. الكيانات المذهبية السنية والشيعية والقومية الكردية والتركمانية، تتجه صوب التكتل والتوحد وتجاوز الإحن الداخلية؛ لأن الجميع يشعر بأنه يواجه خطرًا حقيقيًّا وماحقًا، ولا سبيل لمواجهة هذه الخطر إلا بالتوحد والتكتل السياسي والاجتماعي.

ولكن للأسف الشديد فإن توحد هذه الكيانات، ووفق السياق الذي تجري فيه، هو على حساب وحدة العراق ووجود دولة واحدة للعراقيين.

فكل الأطراف بدأت تتلمس حدودها البشرية والجغرافية، ونخبها الدينية والمدنية بدأت تفكر بمصير جماعتها الخاصة. وأضحى العنوان الوحدوي والجامع الكبير لكل هذا التنوع يتيمًا بدون أب يدافع عنه ويحمي مصالحه.

وفي تقديرنا، إن هذه المفارقة تتطلب الالتفات إليها، ومعرفة أسبابها الجوهرية، ولماذا بعد كل هذه السنين من بناء الدول والحدود الجغرافية تتلاشى بإرادة داخلية وبتصميم غير مباشر في أحسن الاحتمالات من أغلب القوى السياسية والاجتماعية.

وأمام هذه المفارقة الخطيرة، التي تهدد المنطقة العربية بالمزيد من التقسيم والتشظي، نود التذكير بالحقائق التالية:

1- إن الطوائف والمذاهب والقوميات ليست حزبًا واحدًا ورأيًا واحدًا. واندفاع غالبية أهل هذه العناوين نحو التكتل والتمحور حول الذات والتفكير بمنطق المصلحة الخاصة، في تقديرنا أن هذا الاندفاع متعلق بطبيعة الصراع السياسي والاجتماعي الموجود في أغلب هذه المناطق.

بمعنى أن تطييف الصراعات السياسية والاجتماعية القائمة في المنطقة، يقود في محصلته النهائية إلى أن تكون الطوائف والمذاهب، هي العنوان الأبرز للصراع، وهي وسيلة التعبئة والتحشيد المجتمعي، بحيث حتى القيادات المدنية التي لا صلة فعلية لديها بالالتزامات الدينية للطوائف والمذاهب، تتحول لأغراض برجماتية وسياسية إلى زعامات طائفية ومذهبية.

من هنا فإننا نعتقد أن استسهال التقسيم الطائفي في المنطقة وتطييف الصراعات فيها هو الذي أوصلنا إلى هذه المفارقة الخطيرة، حيث تفتت الدول وبناء كيانات سياسية هشة على مقاس جغرافيا الطوائف والمذاهب. وهذا في متوالياته العملية والفعلية يساوي الاحتراب الداخلي بين جميع المكونات لتأبيد التفتت والتشظي، بحيث تصبح الدولة الواحدة والحاضنة للجميع بكل الامتداد البشري والجغرافي من الأحلام واليوتوبيا الذي لن يتحقق.

وهذا لا يعني إننا نقف ضد وحدة المجتمعات بكل دوائر انتماءاها، وإنما ما نود قوله: لماذا حينما تتجه الجماعات الأهلية إلى التوحد والتكتل، تضعف الدولة وتتلاشى قيمتها ودورها في إدارة الصراعات الأهلية وحلها؟

2- من المؤكد أن الإرث السياسي الذي تركته الكثير من الدول ومؤسسات السلطة في العالم العربي، لا تشجع المجتمعات بكل فئاتها للدفاع عنها أو حمايتها من المخاطر. لذلك فإن الناس في غالبهم لا يمتلكون حساسية تجاه ضعف الدولة أو اهترائها. بل يعتقد البعض أن هذه هي الفرصة المؤاتية للنيل منها من جراء الظلم المتراكم الذي مارسته مؤسساتها وهياكلها المختلفة ضد الناس وآمالهم وقضاياهم المختلفة، ولكن ومع احترامنا لكل المشاعر التي تولدت لدى الكثير من الشعوب العربية تجاه دولهم ومؤسساتهم السلطوية؛ إلا إنه من الضروري القول: إن انهيار الدولة في بعض مناطق العالم العربي، وفي ظل احتدام الصدام أو التنافس بين مكونات المجتمع والوطن الواحد، يعني استمرار نزف الدم والاقتتال الأهلي، وما يجري في ليبيا هو أحد النماذج البارزة على أن انهيار الدولة في ظل الصدام الأهلي يعني مشروعات دائمة للاقتتال بين مختلف التعبيرات والمكونات.

لذلك من الضروري اليوم الحديث عن ضرورة وجود الدول في مجتمعاتنا، مهما كانت عيوبها وآثامها، إلا أنها الشر الذي لا بد منه، لإدارة مصالح الناس والحفاظ على نظامهم العام.

فحرية الناس ونيل حقوقهم ومعاقبة المجرمين بحقهم لا يساوي أن يعمل الجميع معاول الهدم في مؤسسات دولتهم.

من حق الناس الثائرة على أنظمتهم الفاسدة أن ترفض سياسات وخيارات هذه الأنظمة، وتعمل على تغييرها، إلا أنه ليس من حق الناس تدمير مؤسسات الدولة ونهبها وحرقها، لأن هذه المؤسسات ملك الجميع، ولا يجوز بأي حال من الأحوال التعدي على الممتلكات العامة بدعوى معارضة النظام السياسي أو ما أشبه. في ظل هذه الظروف الخطيرة التي تعيشها المنطقة من المهم بيان حقيقة أن الدول من ضرورات الانتظام الجماعي، وبدونها تضيع الحقوق وتزداد التعديات على الحقوق الخاصة والعامة.

ومن واجب الجميع في ظل الانهيارات السياسية والأمنية والاجتماعية، حماية الدولة ومؤسساتها المختلفة.

3- آن الأوان في فضاء العالم العربي، لإحداث مصالحات حقيقية وعميقة بين الدولة والمجتمع، بما ينسجم وخصوصيات كل بلد ووطن؛ لأن استمرار الفجوة بين الدولة والمجتمع يعني اليوم بداية مشاكل حقيقية قد تتجاوز قدرة الجميع على إدارتها والتحكم في مساراتها.

من هنا ومن أجل وحدة المجتمعات العربية وعدم انقسامها الأفقي والعمودي، ومن أجل درء المخاطر الحقيقية عن العالم العربي، ومن أجل عدم استنزاف ثروات وقدرات العالم العربي في حروب وصدا مات عبثية لا رابح منها إلا العدو، من أجل كل هذا من الضروري تنفيذ مشروع المصالحة السياسية العميقة بين دول العالم العربي وشعوبه، لأن هذا هو أسلم الخيارات وأقلها كلفة وأكفأ الخيارات لتجنيب المنطقة ويلات الحروب والفوضى التي تطال الجميع في مصالحهم ومكاسبهم، وفي راهنهم ومستقبلهم.

 الخاتمة

إن العنف الديني بكل مستوياته من أبرز المخاطر التي تواجه العالم الإسلامي اليوم؛ لأن هذه الآفة الخطيرة شوهت صورة الإسلام، وأدخلت شعوب العالم الإسلامي في معارك عبثية، لا رابح منها، حيث الجميع خاسر.

وإن هذه الآفة تتطلب تضافر كل الجهود والإمكانات لمواجهتها على مختلف الصعد والمستويات. وإن التغافل عن هذه الآفة، سيكلف العالم الإسلامي الكثير على مستوى الأمن والاستقرار والوحدات الاجتماعية والوطنية لكل بلاد المسلمين. وندعو في هذا السياق كل الفعاليات والمؤسسات الدينية، إلى رفع الغطاء الديني والاجتماعي عن كل الممارسات العنفية التي تجرب باسم الدين.

كما ندعو هذه الفعاليات إلى العمل المستديم في بناء كل الحقائق المضادة لقيمة العنف في الفضاء الاجتماعي.

 

 

 



[1] سورة آل عمران، آية 165.

[2] إعداد وترجمة محمد الهلالي وعزيز لزرق، العنف، دفاتر فلسفية، المغرب: دار تو بقال للنشر، الطبعة الأولى، 2009م، ص5.