شعار الموقع

اللغة والهوية والعولمة .. معركة المفاهيم

بوبكر جيلالي 2019-06-03
عدد القراءات « 1427 »

اللغة والهوية والعولمة..

معركة المفاهيم

الدكتور جيلالي بوبكر*

* كاتب من الجزائر.

 

 

 

تقديم

ارتبط العالم العربي مشرقه ومغربه في العصر الحديث سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا بالاستعمار الأوروبي بمختلف أشكاله، فكان الكعكة التي تقاسمتها الدول الغربية، وحاول الغرب الأوروبي بأساليب شتى ووسائل مختلفة تغريب الشعوب المستعمرة فكريًّا وثقافيًّا ودينيًّا ولغويًّا، مستغلًا في ذلك التخلّف الذي تعانيه الشعوب آنذاك في البلاد العربية، في مقابل حداثة غربية ذات قيّم راقية ومبهرة، ومنتجات فكرية وعلمية وتكنولوجية صناعية برّاقة. فاستسلم العرب والمسلمون في بلادهم بسبب ضعفهم وتخلّفهم للمحتل ولقوّته العلمية والتكنولوجية والعسكرية بمقاومة حينًا ومن غير مقاومة في أحيان أخرى.

لقد باءت بالفشل كل محاولات الاستعمار في مختلف بقاع البلاد العربية طمس هويتنا العربية الإسلامية، من خلال ضرب مقوميها الأساسيين اللّغة العربية والإسلام، ومنذ أوائل القرن التاسع عشر حتى الآن والجدل قائم بين الهوية العربية الإسلامية وأحد مكونيها اللّغة العربية والعولمة اللّغوية والثقافية، خاصة بعد صدمة التخلّف وفشل كافة مشاريع ومحاولات النهضة، جدل بين عولمة مهيمنة متسلطة تقودها أمركة متصهينة، لا تعترف بالحوار الندّي والتنوع الثقافي واللّغوي وغيره، همّها الانتشار على حساب ثقافات وحضارات ولغات أخرى تدفعها للانصهار في فضائها متجاهلة سنّة الاختلاف بين بني البشر وفي الجغرافيا والتاريخ عمومًا، وبين هوية عربية إسلامية وما تملكه من خصوصية ومقومها الأساسي اللّغة العربية، عولمة شرسة لا تعترف إلَّا بالأقوياء ولا مكان فيها للضعفاء، عولمة تخيّر بين خصوصية وانعزال وقبوع وتقوقع أو كونية وانفتاح واندماج وذوبان وأحلى الخيارين مرّ.

إنّ جدل العولمة واللّغة في عالمنا العربي والإسلامي الراهن يعبّر عنه وقوف اللّغة العربية باعتبارها مقومًا أساسيًّا في الهوية العربية الإسلامية، وبما تملكه من خصوصية ثقافية ودينية وتاريخية، في وجه مطالب العولمة وأهدافها وتحدّي ما حققته العولمة وتحققه في الواقع والحياة، فهي لم تقف عند الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية بل تعدّت ذلك إلى ممارسة الهيمنة الثقافية واللّغوية، فهي تفرض لغة كونية في التعليم والإعلام والإدارة والاقتصاد وسائر قطاعات الحياة من دون اعتبار للتعدد والتنوع في الألسن.

إنّ جدل العولمة والهوية اللّغوية والثقافية في فكرنا وفي عالمنا العربي والإسلامي المعاصر بين طرفين، طرف العولمة ومسعاها الهيمنة والتسلّط والانتشار والاحتكار مستغلّة قوّة العلم والتكنولوجيا وقوّة المال والعسكر، وتحكمها فلسفة طابعها شمولي وتديرها أيديولوجيا طابعها كوني تعبّر عن هوية لغوية وثقافية غربية وتفرض لغة كونية وثقافة كونية في مقابل هوية عربية إسلامية ذات مقومات ثقافية وتاريخية لها خصوصية ذاتية نفسيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ودينيًّا، تسعى في سياق الجدل القائم بينها وبين العولمة إلى تحقيق مشاركة إيجابية في الحراك الحضاري والثقافي الكوني الراهن على سبيل الندّية، وتستهدف التوازن والانسجام الفعّال والإيجابي مع التحولات الراهنة والتحديات التي تفرضها العولمة وما أكثرها.

إنّ حاجة الفكر العربي المعاصر إلى تأصيل نظري علمي دقيق وفلسفي عميق حول اللّغة العربية والهوية العربية الإسلامية في ظل تحدّيات العولمة يمثّل بحقّ منطلقًا مهمًّا ومدخلًا أساسيًّا لدراسة وفهم وتفسير ظاهرة الجدل بين اللغة العربية مع الهوية العربية الإسلامية وتحديات العولمة، لأنّ غياب تصور دقيق وعميق للعلاقة بين لغتنا وواقع العولمة، وانعدام نظرة فاحصة تنمّ عن بحث دقيق عميق وجريء حول جدل اللّغة العربية ومعها هويتنا العربية الإسلامية والعولمة بهيمنتها على الحياة عامة وبشقيها اللّغوي والثقافي عمومًا، يزيل كل استراتيجية بنّاءة لتجاوز الجدل نحو انسجام بنّاء ومفيد، ويلغي كل أمل في الانخراط الإيجابي في الحاضر، ويقضي على أيّة مشاركة فعّالة وإيجابية في التاريخ الكوني، ولا يسمح بإنجاز نهضة جادّة وحقيقية.

نتعرض بالتحديد والضبط والتعريف لثلاثة مفاهيم رئيسية وجوهرية في الدراسة، هي اللّغة والهوية والعولمة، ولثلاثة مفاهيم أخرى مهمّة منبثقة عن المفاهيم الثلاثة الرئيسية، وهي الهوية اللّغوية والهوية الثقافية والعولمة اللّغوية والعولمة الثقافية.

1- اللّغة

أ- المعنى اللّغوي

جاء في لسان العرب لابن منظور في تحديد الاشتقاق اللّغوي لكلمة «اللّغة» ما يلي:

«اللّغة من لغا في القول يلغى، وبعضهم يقول: يلغو، ولغي يلغى لغة ولغا يلغو لغوا: تكلّم. وفي الحديث: من قال يوم الجمعة والإمام يخطب لصاحبه: صه؛ فقد لغا، أي تكلّم...واللغة: اللَّسْنُ، وحدّها أنّها أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم، وهي فُعلة من لغوت أي تكلمت، أصلها لُغوَة والجمع لغات ولغون»[1].

لفظ اللّغة يرادفه لفظ الحديث أو التحدث، ويرادفه الكلام أو التكلم.

ب- المعنى الاصطلاحي

لا يوجد تعريف واحد لدى علماء اللّغة للّغة متفق عليه، بل تعددت التعاريف وتباينت، نذكر بعضها:

- تعريف ابن جني للّغة: «أصوات يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم»[2].

- عرّفها آخر: «وسيلة صوتية يستخدمها الإنسان للتعبير عمّا لديه من أحاسيس أو أفكار، وهذه الوسيلة تمكنّه من التفاهم مع الآخرين»[3].

- عرّف القدماء اللّغة بأنّها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، ولم يتجاوز المحدثون هذا التعريف، لكن عند ربط اللّغة ليس بوظيفتها بل بالإنسان ككل، «فاللّغة هي الإنسان، وهي الوطن والأهل، واللّغة هي نتيجة التفكير.. هي ما يميّز الإنسان عن الحيوان، وهي ثمرة العقل، والعقل كالكهرباء يُعرف تأثيره ولا تُرى حقيقته»[4].

- وتُعرّف اللّغة عند علماء النفس اللّغوي بأنّها «مجموعة إشارات تصلح للتعبير عن حالات الشعور، أي عن حالات الإنسان الفكرية والعاطفية والإرادية»[5].

اللغة في ربطها بوظائفها أو في ربطها بالإنسان فهي أداة تفكير وتعبير وتواصل وتفاهم على المستوى الفردي أو المستوى الاجتماعي الأممي والإنساني عامة، وعلى الصعيد الثقافي والحضاري اللغة هي الإنسان والحياة الإنسانية وخارج اللغة لا تتجسد ولا تتحقق الإنسانية بأبعادها المختلفة.

2- الهوية

أ- المعنى اللغوي

لفظ «هوية» مشتق من الضمير الغائب «هو» الذي تحوّل إلى اسم «هوية»، وترادف كلمة هوية في اللغة العربية عدة ألفاظ نذكر منها:

- الذاتية ليس بمعنى تدخل الذات في الموضوع في مقابل الموضوعية، بل تعني العناصر والمكونات الثابتة التي تحدد وجود الشيء، بهذه العناصر يوجد الشيء ومن غيرها ينعدم ويزول.

- حقيقة الشيء وجوهره.

- ماهية الشيء.

- الذات الفردي والذات الجماعية.

- تعريف الشيء وحدّه.

ويُعرّف «حس حنفي»[6] الهوية انطلاقًا من اللفظة واشتقاقها اللغوي وما يعادها في الحرف اللاتيني ويربطها بالأنا وبمعناها لدى الفلاسفة قائلًا:

«الهوية من الضمير «هو» يتحول إلى اسم. ومعناه أن يكون الشخص هو هو. هو اسم إشارة يحيل إلى الآخر، وليس إلى الأنا. وهو ما يعادل الحرف اللاتيني Id. ومنها اشتق أيضاً لفظ Identity. أما لفظ الإنية فهو يعادل الحرف اللاتيني Ipse ومنها اشتق Ipseity. وبالتالي تمنع كل أنانية وخصوصية لأن الهوية تثبت الآخر قبل أن تثبت الأنا. لا تشتق الهوية من ضمير المتكلم المفرد «الأنا» إلَّا بمعنى الأنانية في مقابل الغيرية. أما لفظ «الإنية» فإنه مشتق من «إن» حرف توكيد ونصب. ومعناه أن يتأكد وجود الشيء وماهيته من خلال التعريف.

ويماثل لفظ «الهوية» لفظ «الماهية» عند الفلاسفة أي جوهر الشيء وحقيقته. الهوية تماثل بين الأنا والهو في حين أن الماهية تماثل بين الشيء ونفسه. وهو أيضاً لفظ مشتق من أداة الاستفهام «ما»، وضمير الغائب المؤنث «هي». يستعمل في التعريف في حين أن لفظ «الهوية» يُستعمل في الوجود. أما لفظ «جوهر» فهو صورة فنية من المعادن الثمينة ويعني اللب والحقيقة أغلى ما في الشيء»[7].

ب- المعنى الاصطلاحي

لا يوجد تعريف متفق عليه لدى الفلاسفة والمفكرين وعلماء السياسة والاجتماع وغيرهم للهوية، بل توجد تعاريف مختلفة باختلاف مجالات المعرفية الإنسانية والاجتماعية، معناها يتغير من مجال معرفي إلى مجال معرفي آخر، من علم النفس إلى المنطق إلى علم الاجتماع إلى علم السياسة إلى غير ذلك من التخصصات الواسعة أو الضيقة التي تتناول موضوع الهوية بالبحث والدراسة.

- في المنطق الأرسطي الهوية أو الذاتية قانون يحكم الفكر والتفكير ويجنّبه الوقوع في الخطأ والتناقض خلال عملياته الاستدلالية، مؤداه ومفاده أنّ الشيء هو هو ثابت لا يتبدل ولا يتحول من هو إلى ليس هو، فلا يكون الشيء هو وليس هو في الوقت نفسه، إمّا الشيء هو أو لا هو.

- في علم النفس ترتبط الهوية بالشخصية التي تتحدد بجانبين أساسيين، جانب يتميز بالكثرة والتغير ويخص مكونات الشخصية البيولوجية والنفسية والاجتماعية وكل ما هو قابل للزيادة والنقصان وقابل للتغير والاندثار، وجانب يتميّز بالوحدة والثبات ويخص الأنا أو الذات الواحدة الثابتة التي تبقى هي هي لا تتغير ولا تزول، فالذات أو الأنا تمثل هوية الشخص وذاتيته. ففي الشخصية تجتمع الوحدة مع الكثرة والتغير مع الثبات من غير تناقض، بمعنى أنا أو ذات واحدة ثابتة تعيش التغير والكثرة في الأحوال والصفات.

- في الفلسفة تعني الهوية الماهية أي جوهر الشيء وحقيقته، ومنه جاء التعريف المنطقي في الفلسفة القديمة للحدود بالماهية لا بالعرض وبالحد التام لا بالحد الناقص وبالجنس القريب والفاصلة النوعية.

ويختلف معنى الهوية من فلسفة إلى أخرى ومن فيلسوف إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، يختلف باختلاف الأنساق الفلسفية والفكرية والأيديولوجية ويكون تابعًا للسياقات التاريخية التي عرفها الفكر عند الإنسان وعرفتها حياته.

- في علم الاجتماع ترتبط الهوية بالمجتمع وتتحدد به وهي ظاهرة اجتماعية تحدد ماهية المجتمع من حيث هو تركيبة بشرية مكوناتها كثيرة متداخلة ومتشابكة، تركيبة متطورة باستمرار، فيها الثابت وفيها المتحول، وهوية المجتمع وهوية الفرد جزء منه تتحدد بالعناصر الاجتماعية الثابتة في المجتمع والتي لا يوجد المجتمع من دونها، وهي عناصر اجتماعية بحتة وسياسية واقتصادية وثقافية ودينية وتربوية وغيرها، فالجانب الثابت الدائم الواحد الذي لا يتغير بتغير الأوضاع والظروف في الفرد وفي المجتمع وفي الطبيعة ومن دونه لا يقوم مجتمع ما وينهار بانهيار هذا الجانب هو هوية هذا المجتمع، مثل الإسلام في المجتمع الإسلامي، واللغة العربية في المجتمع العربي، واليهودية في المجتمع اليهودي واللغة الهندية في المجتمع الهندي، ويختلف المقوم الذي يحدد هوية المجتمع من مجتمع إلى آخر دينيًّا كان أو عرقيًّا أو طائفيًّا أو غيره.

- في السياسة والأيديولوجيا يختلف مفهوم الهوية من اتجاه إلى آخر وما أكثر الاتجاهات السياسية والأيديولوجية، وبالتالي تتعدد وتتنوع الهويات بحسب مقوماتها التي هي مقومات الأمة، فتتعدد الهويات وتتباين بتعدد وتباين اللغات والثقافات والجغرافيا والتاريخ والأديان والأعراق والأوطان ووحدة الماضي والمصير المشترك وغيره، قد تتحدد الهوية بمقوّم واحد وقد تتحدد بأكثر من مقوّم، فالأمة الإسلامية هويتها تقوم على الدين الإسلامي وداخل الأمة الإسلامية توجد هويات كثيرة مثل الهوية السنية والهوية الشيعية والهوية الكردية والهوية التركمانية والهوية الأمازيغية وغيرها، ففي الغرب تتحدد الهوية بالوطن واللغة فعرفت أوروبا الهوية الفرنسية والهوية الإنجليزية والهوية الإسبانية والهوية الألمانية وغيرها.

يتضح مما سبق بالنسبة لمفهوم الهوية اصطلاحًا لا يمكن حصره في جانب ما كما لاحظنا تناولها من طرف الفلاسفة وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية، لكن المتفق عليه أنّ الهوية تعبر عن حقيقة الشيء وماهيته سواء على المستوى فكري والمنطقي قانون الذاتية أو على المستوى الفلسفي ماهية الشيء وحقيقته أو على المستوى الفردي والشخصي وحدة الأنا والشعور وثباته أو على مستوى المجتمع الأنا الجمعي أو على مستوى الأيديولوجيات المقوّم الذي تثق فيه الأيديولوجيا وتؤسس عليه هويتها مثل اللغة والعرق والدين والأرض وغيرها.

3- العولمة

أ- الاشتقاق اللغوي

- لا نجد تعريفًا دقيقًا ونهائيًّا في قواميس ومعاجم اللغة العربية لكلمة عولمة، بل ارتبط اللفظ بالفعل وليس بمصدر اسمي، «العولمة لغة لفظ مشتق من الفعل عولم على وزن فوعل، أو أنّه مشتق من الصيغة الصرفية فوعلة، التي تدل على تحول الشيء إلى صورة أخرى، كما أنّه مصطلح يصعب فيه الارتكان إلى المدلولات اللغوية، فهو مفهوم شمولي يذهب عميقًا في الاتجاهات المختلفة لتوصيف حركة التغير المتواصلة»[8].

- في الكثير من الكتابات نجد لفظ عولمة يشير إلى لفظ Globalization المشتق من لفظ «كوكب» في اللغة الإنجليزية لذلك تُترجم كلمة عولمة إلى كوكبة أو كوكبية أو كونية. ويشير لفظ عولمة إلى Mondialisation من لفظ Monde بالفرنسية أي العالم. وتمثل العولمة أو الكوكبة أو الكونية أبرز تحول تأثر به عصرنا وتميّز.

- يتضح مما سبق أنّ لفظ عولمة في اللغة العربية جاء من فعل عولم على وزن فوعل بمعنى حوّل الشيء إلى صورة غير الصورة التي كان عليها، وقد يكون لفظ عولمة مشتقًا من الصيغة الصرفية فوعلة، كما يشير اللفظ إلى اللفظ اللاتيني في الإنجليزية بمعنى الكوكبة وفي الفرنسية بمعنى العالمية من العالم.

ب- المعنى الاصطلاحي

- لا يوجد تعريف واحد متفق عليه من قبل المفكرين والباحثين والأكاديميين للعولمة كحركة إنسانية وكظاهرة تمثل أبرز وأهم تحول تميّز به عصرنا وأكبر تحدّ يواجه الأمم والشعوب والدول في العالم الضعيف والمتخلف. وارتبط مفهوم العولمة في الفكر عامة وفي الحياة المعاصرة برمتها بالتطور العلمي والتكنولوجي الهائل الذي ميّز العصرين الحديث والراهن.

- تعددت واختلفت تعاريف العولمة بتعدد واختلاف الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية والسياسية والفلسفية، وتباينت بحسب مواقف هذه الاتجاهات وبحسب مواقف المثقفين منها، بين مواقف مؤيدة بإطلاق أو جزئيًّا وأخرى مناهضة بإطلاق أو جزئيًّا، لكن المتفق عليه هو أنّ العولمة حركة ومسعى إنساني عام يستهدف «تعميم نمط حضاري وأيديولوجي وثقافي واقتصادي وسياسي واحد على كافة شعوب العالم»[9].

- ويُعرّفها آخر «العولمة جعل الشيء أيًّا كان هذا الشيء عالميًّا، أو إكسابه صفة العالمية، وهو المعنى الذي أجازه مجمع اللغة العربية بالقاهرة»[10].

- ويُعرّفها المفكر الفرنسي المسلم «روجيه غارودي» بما يلي: «هي نظام يُمكّن الأقوياء من فرض الديكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق»[11].

- لقد كرّست العولمة التصنيف الثنائي للبلدان والشعوب في العالم المعروف بالمركز والأطراف، المركز هو قائد العولمة ومديرها والفعّال في تحريكها وتوجيهها، والأطراف وهي الشعوب والبلدان المنفعلة والمتأثرة بالعولمة سلبًا أو إيجابًا، وسيطرت العولمة بزيادة درجة التواصل والارتباط المتبادل بين الأفراد والشعوب والأمم نتيجة تطور وسائل التواصل الاجتماعية والشبكة العنكبوتية والمعلوماتية، ومن خلال تطور نشاطات انتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج وانتقال السلع والأشخاص والمعلومات.

- ويُعرّف العولمة «ريمون طحان» في كتابه «اللغة العربية وتحديات العصر» بما يلي: «اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع أقوامها وكل من يعيش فيها وتوحيد أنشطتها الاقتصادية والاجتماعية الفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان و الثقافات والجنسيات والأعراف»[12].

- بما أنّ العولمة اتجاه شامل يعمل على فرض نمط حياة واحد وأوحد على كافة شعوب العالم من غير استثناء وفي هذا نفي لسنتي الخصوصية والاختلاف في الكون؛ لذا يُعرّفها أحد الباحثين: «نظام عالمي جديد يقوم على العقل الإلكتروني والثورة المعلوماتية، على المعلومات والإبداع التقني غير المحدود، دون اعتبار للأنظمة والحضارات والثقافات والقيّم والحدود الجغرافية والسياسية القائمة في العالم»[13].

- في سياق التعدد والتباين في تحديد مفهوم العولمة وبيان قيمتها نظرًا لطبيعتها المركبة، وبعدما وقفنا على بعض المفاهيم والمواقف تصفها وتحدد طبيعتها، يمكننا استنتاج ما يلي: «بأنّها توجه ثقافي وسياسي واقتصادي واجتماعي وإعلامي وعسكري، يستمد مفاهيمه ومبادئه ومقولاته من الفكر الليبرالي الغربي ومن الثقافة الحديثة والمعاصرة السائدة في الغرب الأوروبي وفي الولايات المتحدة الأمريكية، التوجه القائم على الديمقراطية واقتصاد السوق، والمتضمن جملة الآليات والإجراءات والتدابير والنظم العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية والإعلامية وغيرها، وسائر أشكال المعاملات والعلاقات وأنماط السلوك والعيش والحياة عامة، كل هذا يشكل منظومة واحدة تتجاوز حدود الجهوية الضيقة، وحدود الدولة الوطنية والقومية، والحدود الإقليمية وسائر الحدود الجغرافية والسياسية المتعارف عليها... فهي تبحث عن الاتحاد وتتبنى التشابه والتماثل بين البشر لتعميم النموذج أو النمط الأمريكي الواحد في الحياة وتمثله المنظومة الواحدة، من منطلق سياسة عالمية تربط كل بلدان العالم في كوكبة واحدة خاضعة لنظام واحد يسيطر عليه المركز وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية»[14].

4- الهوية اللغوية

يتركب مصطلح «الهوية اللغوية» من لفظتين مرتبطتين على سبيل الإضافة والاقتران لضرورة وعلاقة وظيفية بين طرفي المركب، وظيفة لا تتحقق في غياب أحد الطرفين، طرف اللغة وطرف الهوية.

ولما كانت اللغة هي كل نظام من الإشارات والرموز يمكن أن تكون وسيلة للتعبير والتواصل، واللغة خاصية إنسانية لما فيها من جوانب عاقلة ونفسية واجتماعية وحضارية، فاللغة لها هويتها تتحدد بخصوصيتها الرمزية والدلالية والنسقية، وتتعدد اللغات وتتباين على أساس هوية اللغة ذاتها وذاتيتها التي تتميز بها وتتحدد مكانتها بين أقرانها من اللغات، واللغة كهوية رمزية نسقية خاصة ترتبط بالهوية في معناها العام على سبيل التأثير والتشكيل والتمثيل.

ولما كانت اللغة أداة تفكير وتعبير وتخاطب وتواصل وتفاهم بين أفراد بني البشر باعتبارها خاصية إنسانية، تعبر عن أي حراك تاريخي ثقافي أو حضاري وتخزن منتجاته في الذاكرة الفردية الجماعية، وهي وسيلة نقل التراث والثقافة والحضارة من جيل إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى وبين الأمم والشعوب، فهي تشكل أحيانًا المقوّم الوحيد الجوهري والأساسي وفي أحيان أخرى تمثل أحد المقومات الجوهرية والأساسية التي قامت عليها العديد من القوميات والأمم مثل اللغات الأرووبية واللغة العربية واللغة الهندية وغيرها.

اللغة الواحدة بنسقها الرمزي والعلمي والمنطقي والدلالي، وبأبعادها العقلية والنفسية والاجتماعية والثقافية والحضارية والدينية وغيرها، وفي سياقها التاريخي توحّد الشعور بالانتماء المزدوج إلى اللغة وإلى كل من يحملها ويتكلّم بها بعد تشكّل هذا الشعور وتقويته، الشعور بالانتماء إلى اللغة وإلى الجماعة البشرية التي تتحدث بها، هذه الوحدة وما تنطوي عليه من ترابط وتماسك تقوم في الذهن أولًا كفكر ونظر ثم تتحول إلى ممارسة وواقع وعمل، هكذا تشكلت الهويات اللغوية البشرية في عالمنا الحديث في أوروبا الغربية وفي غيرها، مثل الهوية الألمانية والهوية الإنجليزية والهوية الإسبانية والهوية الهندية والهوية العربية... إلخ. وكل هوية من هذه الهويات قامت على لغة ما.

ولما كانت الهوية هي كل ما يتميز بالوحدة والثبات والدوام لا يتعدد ولا يتغير ولا يزول في الكائن البشري على المستوى الفردي والاجتماعي وفي غيره من الكائنات على اختلاف أنواعها مادية كانت أو فكرية أو روحية، فالهوية تعبّر عن حقيقة الكائن وماهيته، وفي غياب الهوية غياب للحقيقة غموض الماهية على مستوى الأفكار والأشياء والأشخاص، ومن هنا تقوم أهمية الهوية لدينا وحاجتنا الملحة إلى اكتشافها في الموضوع أي موضوع، مثلما هو الحال في تحديد هويات الأفراد وهويات الشعوب وهويات الطوائف وهويات الأعراق وغيرها.

عندما تتقابل اللغة مع الهوية بوصف كل منهما مفهومًا وظاهرة إنسانية، تأخذ اللغة على صعيد المفهوم مستويين، مستوى الهوية اللغوية ومستوى الهوية الثقافية، أي اعتبار اللغة كنسق رمزي لفظي ودلالي وكمنظومة لسانية قائمة بذاتها لها هويتها وذاتيتها تمثل انتماءً قائمًا بذاته مستقلًا عن غيره له خصوصيته يرتبط ويتمسك به أهله ويعتزون ويفخرون. ومستوى اللغة كنسق في سياق ثقافي وحضاري وتاريخي ما يمثل هوية ذاتية مندمجة في هوية ثقافية وتاريخية أكبر وأعم سواء كانت هذه الأخيرة من إنتاج الهوية اللغوية كمقوم أساسي أو من غيرها، وفي الحالين معًا تعبّر اللغة عن هوية، أي هويتها الذاتية وعن غيرها ثقافيًّا وحضاريًّا وتاريخيًّا.

وترتبط الهوية باللغة ارتباطًا وثيقًا، ارتباط العلة بالمعلول، وعلى سبيل التأثير والتشكيل والتمثيل، فالواحدة منهما تؤثر في الأخرى وتُشكّلها وتمثلها، فالهوية حالّة في اللغة لأن كل لغة لها هويتها الخاصة بها، وتعبّر اللغة عن الهوية كما تعبّر الهوية عن اللغة، وقد تكون اللغة إحدى المقومات أساسية أو غير أساسية في بناء الهوية، وتنتج اللغة الهوية وتحافظ عليها وتنقلها من جيل إلى آخر ومن وقت إلى آخر، وتقوم الهوية بتنشيط اللغة وتحريكها وتحافظ عليها وتؤمن وجودها من الاندثار، وتتأثر اللغة بالهوية إذ تقوى بقوتها وتضعف بضعفها وتنصهر بانصهارها وتندثر باندثارها، وانطلاقًا من العلاقة الوثيقة بين الظاهرتين الإنسانيتين الهوية واللغة يتحدد مدلول الهوية اللغوية باعتبارها أحد المفاهيم الرئيسية في الفكر المعاصر. ويقول حسن حنفي محددًا العلاقة بين الهوية واللغة في الوطن: «الهوية واللغة موضوعان مرتبطان يتفاعلان في السلوك الفردي والاجتماعي داخل الأوطان، يؤثر كل منهما على الآخر، قوةً وضعفًا، إذا قويت الهوية قويت اللغة. وإذا ضعفت الهوية ضعفت اللغة. اللغة تعبير عن الهوية طبقًا للقول المشهور (تحدث حتى أراك). وقد تحدث الله في الوحي حتى تُعرف ذاته العلية. وكلمة (لوغوس) في المسيحية كما هو الحال في إنجيل يوحنا تعني الكلمة والهوية والوجود في آن واحد»[15].

استنادًا إلى مدلول الهوية وإلى مدلول اللغة وبالإضافة والاقتران والتركيب بين المدلولين قام مصطلح «الهوية اللغوية» المركب من لفظتين لفظ الهوية ولفظ اللغة، ويعني المصطلح كل ما تتميّز به لغة ما من خصائص ورموز وإشارات ودلالات وعلاقات فكرية ومنطقية ونفسية واجتماعية خاصة بها تميزها عن غيرها من اللغات الأخرى، وتمثل لسان جماعة بشرية ما قد تتميز بها الجماعة عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى. والهوية اللغوية بهذا المعنى تظهر بمظهرين مظهر ذاتي تعبر به عن كيانها اللغوي ووجودها وحقيقة هذا الوجود بين اللغات ومظهر آخر موضوعي تعبر به عن القوم الذي ينطق بها ويعبر بها عن أغراضه وعن هويته الثقافية والتاريخية والدينية وغيرها. فاللغة العربية علوم ونسق من الألفاظ والاشتقاقات والأساليب والعلاقات والروابط المنطقية والسيكولوجية والقواعد لها أصلها وتاريخها ودورها ومكانتها، علوم اللغة ونسقها يُعبّران عن هوية اللغة العربية، ويحملان ثراث وثقافة وتاريخ وتطلعات الجماعة البشرية في الحاضر والماضي، فهي ذات هوية مزدوجة هوية لغوية ذاتية وهوية اجتماعية وإنسانية.

5- الهوية الثقافية

يتركب مصطلح «الهوية الثقافية» من لفظتين مرتبطتين على سبيل الإضافة والاقتران لضرورة وعلاقة وظيفية بين طرفي المركب، وظيفة لا تتحقق في غياب أحد الطرفين، طرف الهوية وطرف الثقافة مثلما هو حال مصطلح «الهوية اللغوية».

لضبط مفهوم «الهوية الثقافية» نحتاج إلى تعريف الثقافة وإلى مراجعة تعريف «الهوية».

بالنسبة للثقافة لغويًّا فهي لفظة جذرها في اللغة العربية ثلاثي الأحرف «ث، ق، ف»، ويرد الجذر بصورتين ومعنيين، الصورة الأولى «ثقَف» الشيء بمعنى صادفه وأدركه وظفر به وأخذه. والصورة الثانية «ثقف» بمعنى صار حاذقًا فطنًا كيّسًا.

نقول ثَقِفَ الكلام يعني حذقه وفهمه بسرعة وثَقَّفَ الرمحَ يعني قوّمه وسوّاه، وثقَّف الولد يعني هذّبه وعلّمه، وثاقفه مثاقفةً: غالبه فغلبه في الحذق.

«ويبين ابن منظور في «لسان العرب» أن معنى ثَقَفَ: جدّد وسوّى، ويربط بين التثقيف والحذق وسرعة التعليم. ويعرف المعجم الوسيط الثقافة بأنّها «العلوم والمعارف والفنون التي يطلب فيها الحذق»[16].

ترادف كلمة ثقافة في اللغة العربية في المعنى عدة مفردات منها الظفر بالشيء وإدراكه وأخذه، والفطنة وشدّة الذكاء والحذق والحذاقة والكيّاسة، والتسوية والتقويم، التأديب والتهذيب والتربية وغيرها.

وكلمة ثقافة تشير إلى لفظة culture في اللغتين الإنجليزية والفرنسية وإلى كلمة cultural في اللاتينية التي تترجم إلى العربية على أنّها الثقافة والتهذيب والحراثة وقد تأخذ معنى الحضارة، «هذه الكلمة جذرها cult ومعناها: العبادة والتدين، ومن مشتقاتها cultivation ومعناها: حراثة، تعهد، تهذيب، رعاية، و cultural ومعناها ثقافي مستولد، ونلاحظ أن معناها في الإنكليزية لا يخرج عن معناها في العربية غير أنه يضيف مصداقاً آخر من مصاديقها وهو حراثة الأرض، ورعاية الزرع، والاستنبات والتوليد، لكنه بشكل ما يربط مفهوم الثقافة بالدين والعبادة، فهما من جذر واحد، فالدين كان المنبع الأول إن لم نقل الوحيد للثقافة قديماً. وأظن أنه حتى الآن لا يزال المنبع الأساسي والمرتكز الأهم للثقافة»[17].

تناول مفهوم الثقافة العديد من المفكرين والعلماء، فتعددت تعاريف الثقافة بتعدد اتجاهاتهم وأرائهم، منهم «تايلور» الذي يعتبرها الكل المركب من المعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والآداب والأعراف والعادات وغيرها، يكتسبها الفرد باعتباره أحد أفراد المجتمع. و«مالك بن نبي» الذي يحددها بالصفات الخلقية وسائر القيّم الاجتماعية التي يتأثر بها الفرد طيلة حياته منذ ولاته حتى وفاته وتربط سلوكه وحياته عامة بأسلوب الوسط الذي ولد فيه.

وتُعرّف الثقافة في المعجم الفلسفي «لجميل صليبا بما يلي: «والثقافة بالمعنى الخاص هي تنمية بعض الملكات العقلية أو تسوية بعض الوظائف البدنية، ومنها تثقيف العقل وتثقيف البدن، ومنها الثقافة الرياضية والثقافة الأدبية أو الفلسفية. والثقافة بالمعنى العام هي ما يتصف به الرجل الحاذق المتعلم من ذوق وحس انتقادي وحكم صحيح، أو هي التربية التي أدت إلى إكسابه هذه الصفات... ومن شرط الثقافة بهذا المعنى أن تؤدي إلى الملائمة بين الإنسان والطبيعة وبينه وبين المجتمع وبينه وبين القيّم الروحية والإنسانية وإذا دلّ لفظ الثقافة على معنى الحضارة civilisation كما في اللغة الألمانية، كان له وجهان: وجه ذاتي وهو ثقافة العقل، ووجه موضوعي وهو... طريقة حياة الناس وكل ما يملكونه ويتداولونه اجتماعيًّا لا بيولوجيًّا... والأولى إطلاق هذا اللفظ على مظاهر التقدم العقلي وحده. تقول بهذا المعنى: الثقافة اليونانية، والثقافة العربية، والثقافة اللاتينية والثقافة المدرسية (الكلاسيكية)، والثقافة الحديثة. وتقول أيضًا امتزاج الثقافات، والنشاط الثقافي، والعلاقات الثقافية، والتخلف الثقافي الخ...»[18].

يتضح مما سبق أنّ الثقافة تمثل سائر المعتقدات والعلوم والمعارف والفنون والآداب والقانون والأعراف والعادات والصفات الخلقية والقيّم الاجتماعية وغيرها التي تؤثر في تكوين الفرد وفي حياته منذ الولادة حتى الوفاة باعتباره عضوًا في المجتمع. والثقافة ذات طبيعة مركبة جدًّا، تتعدد وتتباين بتعدد وتباين الشعوب والأمم، تتطور وتتجدد بتطور وتجدد ظروف الحياة، وتنتشر وتنتقل من جيل إلى جيل ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى ومن جماعة بشرية إلى أخرى بواسطة اللغة وبغيرها كالتجاره والأسفار والغزو والاستعمار وغيره، وهي تقوى وتضعف وتتخلّف، وترتبط الثقافة بالحضارة وتعبّر عنها وعن مكانتها وقيمتها في التاريخ وبين الحضارات، كما تحدد الثقافة الهوية القومية أو اللغوية أو الدينية أو الطائفية أو العرقية أو الوطنية وغيرها للجماعة البشرية صاحبة الثقافة المعنية.

تقوم علاقة الثقافة بالهوية على طبيعة ودور كل منهما في حياة الإنسان وعلى التأثير المتبادل بينهما، والهوية تدلّ وتعبّر عن ماهية وحقيقة الكائن إنسانًا كان أو غيره، فردًا كان أو جماعة، وتحدد المكونات والخصائص التي تميّزه عن غيره، ولا توجد في غيره ولا يوجد من دونها، والكائن المقصود هنا الثقافات والهويات الثقافية، وهي متعددة بتعدد المقومات التي تقوم عليها الهويات مثل الدين واللغة والعرق والتاريخ والماضي والمصير المشترك وغيره، والثقافة بحكم تركيبها قد تحتوي العناصر المذكورة جميعًا وغيرها في انسجام وتآلف وتوحيد، وداخل الكل المركب المنسجم يوجد من العناصر ما هو جوهري وأساسي ورئيسي وما هو فرعي ومكمل وإضافي، فالهوية العربية الإسلامية تتشكل من اللغة العربية والإسلام كمقومين أساسيين وما سواهما من العناصر فهو فرعي ومكمل.

إذا كانت الهوية تدل على الماهية والثقافة تدل على ماهية الإنسان فكريًّا وثقافيًّا وحضاريًّا فإنّ الهوية تدل على الثقافة وتعبر عن مكوناتها وعناصرها ومتضمنة في الثقافة فلكل ثقافة هوية وثقافة من غير هوية عدم ولا وجود لها، وبمقدار تعدد وتباين الثقافات تتعدد الهويات وتتباين، بما أنّ هوية الثقافة هي الثابت من الخصائص والمكونات لا المتحول في الثقافة المميّز لها عن غيرها من الثقافات الأخرى، ومن جهة أخرى تتصل الثقافة بالهوية اتصالًا علّيًّا، اتصال المعلول بالعلة، فالثقافة علّة وجود الهوية، لأنّ الثقافة تصنع الهوية، ولولا الثقافة ما ظهرت الهويات الثقافية أصلًا، ففي مسعى الهوية الثقافية نجد الثقافة أسبق من الهوية، والهوية لدى بني البشر في كل المستويات تتضمن دومًا الثقافة والعناصر الثقافية وتعبر عنها وعن التعدد الفكري والتباين الثقافي، والثقافة تنتج الهوية وتصبغها بخصائصها ومميزاتها وتتطور الهوية بتطور الثقافة أي تتأثر الهوية بالثقافة أي الهوية الثقافية سلبًا وإيجابًّا، تضعف وتقوى وتتلاشى بضعف أو قوّة وتلاشي الثقافة، فالهوية الثقافية العربية في عزّ قوّتها بفعل التقدم الذي حقّقه الغرب حديثًا ومعاصرًا أما الهوية الثقافية العربية الإسلامية في حالة ضعف وتخلف وانحطاط، الكثير من الهويات الثقافية التي قامت واندثرت مثل الهوية الثقافية المصرية الفرعونية القديمة والهوية الثقافية الزرادشتية، وغيرها.

- نستنتج من مدلول الثقافة، ومن مدلول الهوية، ومن العلاقة بين الهوية والثقافة هذه العلاقة التي أنتجت مصطلح «الهوية الثقافية» على سبيل الاقتران الوظيفي في الزمان والمكان، وفي إطار التحولات التي عرفها تاريخ الإنسانية منذ القديم حتى الآن، مصطلح «الهوية الثقافية» الذي يعني سائر الخصائص والمميّزات والمكونات الفكرية والاجتماعية والتاريخية التي تنفرد بها ثقافة ما، تمتلكها جماعة بشرية ما، تتميّز بها هذه الثقافة عن غيرها من الثقافات الأخرى، وتحدد ماهية الجماعة البشرية وتُميّزها عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى، هوية طائفية كانت مثل طوائف لبنان المعاصر، أو هوية دينية مثل الأمة الإسلامية والأمة المسيحية والأمة اليهودية والأمة البوذية في الهند وغيرها، أو هوية لغوية مثل أمم أوروبا الغربية الحديثة والمعاصرة، أو هوية عرقية مثل الهويات التي تعرفها بعض بلدان إفريقيا كأوغندا وغيرها، أو هوية وطنية تقوم على الوطنية كمبدأ وفكر ووجدان وسلوك، وعلى تساوي المواطنين داخل الوطن والدولة في الحقوق والواجبات، وهو المسعى الذي تنشده الدول المعاصرة.

6- العولمة اللغوية

يتركب مصطلح «العولمة اللغوية» من لفظتين مرتبطتين على سبيل الإضافة والاقتران لضرورة وعلاقة وظيفية في الزمان والمكان، وفي إطار التحولات التي عرفتها حياة الإنسان منذ القديم حتى الآن بين طرفي المفهوم المركب، وظيفة لا تتحقق في غياب أحد الطرفين، طرف العولمة وطرف اللغة.

تباينت تعاريف العولمة وتعددت بتباين وتعدد اتجاهات ومواقف المفكرين والباحثين حول طبيعتها وقيمتها، الاتجاهات والمواقف التي انقسمت بين مؤيدة ومعارضة، «بين من يعتبرها حقيقة ثابتة وحتمية تاريخية مثل أيّة حتمية طبيعية بشرية، اشترطتها التحولات الحضارية الجارية وحاجتها إلى تعميم استعمالها لدى كل شعوب العالم، لما لها من دور أساسي في تحقيق التقارب والترابط بين الشعوب والأمم، وهو أمر طبيعي وحتمي لا مفر منه، وبالتالي فهي ضرورة حضارية ومكسب إنساني لا بديل عنه، وبين من يعدّها أحد أشكال الهيمنة الغربية الجديدة التي تعكس بجلاء اتجاه النزعة المركزية الأوروبية الحديثة، الهدف منها الالتفاف على العالم ومن حول كافة شعوبه وجهاته، لتسليط النفوذ الغربي عليه ونهب خيراته وثرواته، وإحكام الطوق عليه واستغلاله طبيعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وبشريًّا، وهذا من منطلق الشعور بالعظمة والاستعلاء والاستكبار، والرغبة في التسلط والتعسف، وفرض إرادة القوي وهيمنته، والعنصر الأبيض أفضل من غيره وهو أحق بالمدنية والتحضر، وغيره كتب عليه التوحش والتخلف وخدمة الأبيض الذي يستعبده إلى أقصى درجة وبدون مشفقة»[19].

وبغضّ النظر عن إيجابيات العولمة كما ينعتها مريدوها ومديروها وعن سلبياتها كما يصفها معارضوها والمعانون من آثارها، فإنّ العولمة تمثل توجّه المركز الأيديولوجي والثقافي والسياسي والاقتصادي والعسكري المفروض على كافة شعوب العالم في الأطراف، وتعميمه ليشمل الإنسان حيثما كان على وجه الأرض لعيش بنمط عيش واحد وبثقافة واحدة وبنظام اقتصادي وسياسيي واحد، تأكيدًا لظاهرة التماثل والتشابه بين بني البشر وفي مجالات الطبيعة والتاريخ والجغرافيا، ومن غير اعتبار لسنة الاختلاف ولآلية الحوار وقيمة التسامح بين الناس.

ارتبطت العولمة كتوجه ثقافي وسياسي واقتصادي وعسكري في عصرنا من حيث تكوينها وتطورها بالتحولات التي شهدها العصر الحديث وعصرنا الراهن، واستمدت مقولاتها من الفكر الليبرالي الغربي، ومن الديمقراطية والحرية في الحياة السياسية، ومن مبادئ ونظم اقتصاد السوق، ومن التطور الصناعي خاصة في مجالات الإعلام والاتصال والإشهار وازدهار الصناعة في جميع ميادين الحياة وخاصة الميادين الاقتصادية، ومن سائر أشكال العلاقات والمعاملات وأنماط السلوك والعيش والحياة عامة، مؤكدة على مراعاة ظاهرة التشابه بين بني الإنسان لتعميم النمط أو النموذج الأمريكي الواحد على شعوب العالم وعلى بلدانها وأنظمتها، من منطلق انتهاج سياسة عالمية واحدة تظم كل بلدان العالم في كوكبة واحدة خاضعة لنظام واحد يسيطر عليه المركز وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية.

أما عن اللغة في علاقتها بالعولمة باعتبارها نسقًا رمزيًّا دلاليًّا وفكريًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا يختص به الإنسان ويتميّز عن غيره من الكائنات، يتميّز النسق اللغوي بالتعدد والتباين، له أهميته القصوى في حياة الإنسان وفي تحديدها وإنتاجها وتوجيهها، يؤثر في العولمة ويتأثر بها في حدود الزمان والمكان وفي سياق التحولات التاريخية الجارية التي تشهدها حياة الإنسان التي تتجدد وتتطور باستمرار، فاللغة بصفة عامة هي التي تكشف عن حقيقة العولمة بمختلف أبعادها وآثارها وتداعياتها، وتعبّر العولمة عن نفسها باللغة كأداة تعبير وتواصل وتخاطب تؤدي إلى التفاهم أو الاختلاف، باللغة بكافة أنواعها ومستوياتها تنتشر العولمة وتنصهر لغات الأطراف في لغات العولمة، باللغة تنتقل توجهات وقيّم وأفكار وثقافة العولمة من جهة إلى أخرى ومن وقت إلى آخر عبر وسائل تواصل شتى وبلغات متعددة ومختلفة تكرس التمكين لثقافة العولمة واقتصاد العولمة وسياسة العولمة ولأيديولوجينا العولمة، وهو الدور الذي تقوم به بعض اللغات في العالم وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة المركز، ويسعى المركز لفرضها على العالم أجمع من منطلق كونها لغة التواصل العلمي والإنتاج الصناعي والمجال التكنولوجي ولغة الحياة الاقتصادية عامة في العالم المعاصر.

وتتأثر اللغة بالعولمة إيجابًا وسلبًا، كما يتأثر أصحاب اللغة سلبًا وإيجابًا نتيجة تأثر لغتهم بالعولمة، بالنسبة للتأثير الإيجابي للعولمة في اللغة يتحقق مع لغات العولمة في المركز وليس مع لغات الأطراف، لغات العولمة وبفعل العولمة تنتشر وتُعمم وتنتقل عبر الشعوب، كما تتطور وتزدهر بازدهار الحياة الثقافية وبانتعاش الاقتصاد وتسويق منتجاته عبر بقاع المعمورة، وبتطور الحياة السياسية والاجتماعية، وبتطور وسائل التواصل والإعلام والإشهار والمعلوماتية وشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وفعل التقدم العلمي والتكنولوجي، وأكثر اللغات تطورًا وتعبيرًا عن العصر وما يتميز به وما يمتلكه من منتجات في مختلف جوانب الحياة اللغة الإنجليزية، وفي المقابل تعيش لغات الشعوب في الأطراف الحصار والعزلة والضعف والتردي والفشل في مسايرة الركب الحضاري والعجز عن التكيف مع العولمة.

ومثال عن التأثير السلبي للعولمة على اللغة ما حدث للغة العربية نتيجة تأثرها بالعولمة، فآثار العولمة في اللغة العربية خطيرة وجسيمة، من أخطرها الثنائية أو الثلاثية اللغوية في التعليم في جميع أطواره وفي التكوين بكافة مجالاته، وسيطرة اللغات الأجنبية في المدارس والجامعات سبب اختلالًا كبيرًا في البناء الاجتماعي ناهيك عن التأثير السلبي في التكوين العقلي والنفسي للناشئة، فهو يؤدي في أغلب الحالات إلى نشأة جيلين إن لم تكن أجيال من أبناء الوطن الواحد، ولكل جيل انتماؤه اللغوي والثقافي الخاص به، فتتعدد الانتماءات واللغوية والثقافية، وتهتز الروح الوطنية، وتختل الهوية، وتتمزق وحدة الأمة، وهو أحد أهداف العولمة الرامية إلى التنميط اللغوي والثقافي الذي لا يعير أدنى اهتمام لسنن الكون في الاختلاف والتنوع العرقي واللغوي والديني والثقافي وغيره، وفي نظر الكثير من المفكرين أنّ التعليم والتكوين في أي مجتمع بغير لغة المجتمع يؤدي إلى مشكلات عديدة تزيد في تخلف المجتمع لغويًّا وحضاريًّا، منها إعاقة نمو ملكة الإبداع، والتبعية الفكرية، وذوبان الذات التاريخية والثقافية والحضارية في غيرها، وجمود اللغة الأم وتحجرها، فتعجز عن مواكبة التطورات الحاصلة في الواقع والعصر، وصعوبة فهم الأحاسيس والمشاعر والتعبير عن الانفعالات، وتدني وضعف مستوى التعليم في جميع أطواره في الابتدائي والمتوسط والثانوي وفي التعليم العالي، صعوبة التحدث باللغة الفصحى مثل حال اللغة العربية في واقعنا، وارتباط اللغات الأجنبية بالتطور العلمي والتكنولوجي مثل اللغة الإنجليزية وعجز اللغة الأم في تحقيق ما حققته اللغات الأخرى أدى إلى الحط من شأنها والطعن في قيمتها وفي بنية الهوية، وينتهي ذلك بضعف الانتماء للهوية لدى الفرد والجماعة.

والحقيقة أنّ الأمر فيه مغالطة، فاللغة ليست هي المسؤولة عن النجاح والتفوق، ليس بين اللغة والتقدم الحضاري علاقة علّية، فألمانيا وفرنسا والصين وغيرها تدرّس بلغتها الأم لا بالإنجليزية، وهي بلدان متقدمة في مصاف الدول الكبرى، فالتقدم الحضاري له شروطه الكثيرة الذاتية والموضوعية ومنها اللغة لا اللغة وحدها، واللغة العربية كانت في يوم ما لغة حضارة وهي لغة وحي كرّمها القرآن وهي لغة كونية في التعبد لدي المسلمين عبر مختلف بقاع المعمورة، ومن أضرار العولمة على اللغة العربية استعمال ما يسمى «بالعربيزية» التي تظهر في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي واستخدام حروف لاتينية في كتابة كلمات عربية، نتيجة عقدة الشعور بالضعف والنقص نحو اللغة العربية أمام اللغات الأخرى، إنّ تعدد اللغات في المجتمع تنجر عنه مساوئ كثيرة منها انتشار اللغات الأجنبية على حساب اللغة الأم، ويؤثر ذلك سلبًا في الهوية الوطنية والثقافية وعلى وحدة الأمة وتماسكها، وتتخلّف اللغة الأم عن مسايرة التقدم العلمي والتكنولوجي وعن مواكبة الركب الحضاري؛ لأن اللغات الأخرى تمنع اللغة الأم من المشاركة الإيجابية في البناء الثقافي والحضاري والانخراط في العصر لتحريك التاريخ، كما يُسهّل استخدام اللغات العامية واللهجات ويُكرّس الانقسام بين الشعوب والأمم على أساس تعدد اللغات واللهجات، وينتج عن هذا الإخفاق والفشل في أية محاولة للنهوض من التخلف والانحطاط وهو حالنا الراهن ووضعنا الحالي.

وإذا كانت هناك عولمة سياسية تتجسد في فرض نظام سياسي واحد على سائر دول العالم هو النظام الديمقراطي كما يريده مركز العولمة، وهناك عولمة اقتصادية تتمثل في اقتصاد السوق والتحكم في اقتصاد العالم عن طريق الشركات الاقتصادية الكبرى المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية والبنكية العالمية التي هي بيد مركز العولمة الذي يفرض في العالم نظامًا اقتصاديًّا واحدًا هو الاقتصاد الرأسمالي كما تريده العولمة، فإن العولمة أخذت طابعًا لغويًّا وثقافيًّا، وإذا كانت العولمة هي هيمنة على اقتصاد وسياسة وثقافة شعوب العالم وتنميطها بنمط واحد، فهيمنة العولمة جاءت كذلك لغوية، عولمة لغوية تسعى إلى فرض هيمنة اللغة الإنجليزية على جميع لغات الشعوب قيل عنها: «استطاعت الدول الناطقة بالإنجليزية الفاعلة في العولمة أن تحقق هيمنة هذه اللغة على سائر اللغات بحكم إسهامها الشامل الفاعل في العولمة، فنتج من هذه الهيمنة ما اصطلح عليه بالعولمة اللغوية»[20].

فالعولمة اللغوية تعني أن يكون للعالم أجمع لغة واحدة للتواصل والتخاطب وللتعامل في جميع مجالات الحياة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وتربويًّا وإداريًّا وإعلاميًّا، وهي اللغة الإنجليزية التي ذاع صيتها وازداد انتشارها وتضاعف استعمالها مع النفوذ الأمريكي الإعلامي والاقتصادي، وهذا يتعارض مع توجّهات بعض الأمم في العالم التي تعتبر نفسها ضاربة في الماضي عراقة وأصالة لغويًّا وثقافيًّا، مثل الألمان والفرنسيين والصينيين وغيرهم، يقول «روبرت جاكسون» وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة كولومبيا ببريطانيا: «ورغم أن اللغة الأمريكية الإنجليزية تختلف في بعض قواعدها عن اللغة الإنجليزية الأنجلوسكسونية إلَّا أن المصلحة المشتركة دفعت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى وضع خطة استراتيجية مشتركة لتوسيع نشر الإنجليزية في العالم بغرض زيادة تفوقها الحضاري في كل المجالات»[21].

تعددت مظاهر العولمة اللغوية وتداعياتها وأثّرت في لغات الشعوب وثقافاتها وهوياتها، وانقسم المفكرون والباحثون في العالم اتجاهها بين مؤيد ومعارض، وهو الحال نفسه تجاه العولمة بشكل عام باعتبار العولمة اللغوية شكلًا من أشكالها حيث يرى المؤيدون أن العولمة اللغوية الإنجليزية أفضل وسيلة للتواصل والتقارب والترابط بين شعوب العالم علميًّا وتكنولوجيًّا وإعلاميًّا وثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا لكون اللغة الإنجليزية لغة العلوم والتقنيات والبحث العلمي ولغة المؤسسات الأممية الرسمية المختلفة، ويرى المعارضون بأن العولمة اللغوية مظهر من مظاهر الاستعمار، وشكل من أشكال التبعية، وصورة من صور الهينة الأمريكية على شعوب العالم تقصي لغات الشوب وتطمس ثقافاتها وهوياتها، وتفرض الأحادية، وتعطل سنن الكون في التعدد والاختلاف والتواصل والتعارف، هو ما أكّد عليه القرآن الكريم في الآية الكريمة: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[22].

7- العولمة الثقافية

صارت العولمة في الفكر الغربي الحديث من الضروريات والبديهيات المطلوبة، فهي كما يقول جيرار ليكلراك: «إنّ العولمة أمر يختلف عن الأمر البسيط والمحض. العولمة كتابة عن ولادة كرة أرضية واحدة هي من الآن وصاعدًا ملك الناس أجمعين: إنّها ليست ملكية أيّة حضارة كبرى ولا سيطرة لأي منها عليها، لكرة أرضية لا مركز عليها أما التغريب وخلافًا لذلك فيعني انقسام العالم إلى مركز مسيطر وإلى طرف خاضع للسيطرة، إنّه اسم آخر للإمبريالية والاستعمار»[23]. وارتبط تعميم الحداثة ونقلها خارج الغرب الأوروبي وخارج الولايات المتحدة الأمريكية بجملة من المبادئ، منها نقل التكنولوجيا وتسويقها لمختلف شعوب العالم، واعتماد أسلوب الحوار من خلال حوار الأديان والثقافات، والحرص على حماية حقوق الإنسان، والمحافظة على البيئة، والحد من التسلح النووي وغيره، فالعقلانية التي قام عليها الفكر الليبرالي الحداثي والمبادئ التي تمثلّتها القوى الكبرى أخذت طابع العولمة وصفة الكونية من خلال حرص القوى المهيمنة على نشر ثقافة العولمة الفكرية والفلسفية والتي تُمثل في جوهرها النموذج الثقافي الفكري والفلسفي الغربي الأمريكي بجميع خصوصياته، النموذج الذي ارتضاه الغرب لنفسه وفرضه على غيره -من خلال عولمة المناهج التربوية- عن طريق العولمة التي تجلّت فيه تربويًّا وثقافيًّا وفكريًّا وفلسفيًّا.

كان للوضع الثقافي في جو العولمة أثره البارز على ثقافات الشعوب في الأطراف، التي تعرّضت وحدتُها للتصدع والتشقق، وطرحت لديها إشكالية العولمة والخصوصية الثقافية، وإشكالية العولمة والوحدة الثقافية والفكرية والدينية، وإشكالية العولمة وتاريخ الثقافة وماضيها وحاضرها ومستقبلها، مما يعني أنّ العولمة نابعة من الشعور بالعظمة وصادرة عن إرادة الهيمنة، يقول محمد عابد الجابري: «العولمة GLOBALISATION إرادة الهيمنة، وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصي. أما العالمية UNIVERSALITE-UNIVERSALISME، فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي: العولمة احتواء للعالم، والعالمية تفتح على ما هو كوني عالمي.

نشدان العالمية في المجال الثقافي، كما في غيره من المجالات، طموح مشروع، ورغبة في الأخذ والعطاء، في التعارف والحوار والتلاقح. إنّها طريق الأنا للتعامل مع الآخر بوصفه أنا ثانية طريقها إلى جعل الإيثار يحل محل الأثرة، أما العولمة فهي طموح بل إرادة لاختراق الآخر وسلبه خصوصيته، وبالتالي نفيه من العالم، العالمية إغناء للهوية الثقافية، أما العولمة فهي اختراق لها وتمييع. والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة يريد إلغاء الصراع الأيديولوجي والحلول محله.. الصراع الأيديولوجي صراع حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشريع للمستقبل، أما الاختراق الثقافي فيستهدف الأداة التي يتم بها ذلك التأويل والتفسير والتشريع: يستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم: الإدراك»[24].

وكان لإشكالية الخصوصية الثقافية والعولمة وقعها الكبير على الثقافة والفكر والمعتقدات الدينية في العالم أجمع، وفي العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر بصفة خاصة، خاصة وهو العالم الأكثر استهدافًا من قبل العولمة لأسباب تاريخية وعقدية وجيوسياسية واستراتيجية، وإذا كان المركز والعولمة قد حرصًا على تفتيت العالم العربي والإسلامي سياسيًّا هدرًا للطاقة وضربًا للوحدة وقضاء على التكتل والتجمع إلى سني وغير سني، إلى بربري وغير بربري، إلى عربي ومسلم إلى غيرها من الثنائيات والثلاثيات وأكبر منها تكريسًا للصراعات الطائفية والمذهبية والنزاعات العرقية والجهوية وغيرها، فإنّهما حرصا على ذلك من قبل ومن خلال المدخل والمقدمة إلى ذلك، أي الانطلاق من تفتيت العرب والمسلمين ثقافيًّا وعقائديًّا وتراثيًّا وتاريخيًّا؛ لأنّ الشعوب العربية والإسلامية مازال التراث فيها حيًّا، يحركها في وجه عواصف العولمة ورياح ثقافتها التي تستهدف إقلاع ثقافات الشعوب من الجذور، وإعادة تشكيلها وفق ما تتطلبه ثقافة العولمة وسائر مصالح المركز، والصراعات السياسية في بلدان العالم العربي والإسلامي بين أنظمة الحكم والمعارضة بمختلف انتماءاتها هي في منطلقاتها وفي جوهرها صراعات ثقافية وفكرية وأيديولوجية تحرص العولمة على خلقها وإذكائها لإيجاد التفرقة والقضاء على الوحدة الثقافية والفكرية والعقدية، والمركز يعي جيدًا دور الوحدة الثقافية في تجميع القوة والنهوض بالتنمية والتطور والازدهار، هو الوضع الذي عرفته الدولة الإسلامية في أيام عزها الديني والثقافي والحضاري عمومًا، وكان للوحدة الدينية وللرابطة الثقافية الأثر الأقوى في تحقيق تلك القوّة والعزة، لهذا كان من حرص العولمة أن تجعل من الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر تيارات فكرية متصارعة، واتجاهات داخل التيارات متباينة، ومدارس فلسفية مختلفة تستمد شرعيتها من الموروث والوافد، التيار الإسلامي والتيار الليبرالي والتيار الاشتراكي والشيوعي، وكل تيار من هذه التيارات منقسم على نفسه، فالتيار الإسلامي فيه الاتجاه السلفي الأصولي المحافظ والاتجاه السلفي المعتدل والاتجاه السلفي الجهادي التكفيري وغيره، بل نجد كل اتجاه هو الآخر منقسم على نفسه في مواقف تحددها آراء الأفراد والفئات، أما التيار الليبرالي القومي نجد فيه الاتجاه الليبرالي التغريبي والليبرالية التوفيقية وهكذا مع التيارات القومية الاشتراكية والتيارات الشيوعية، وصار كل تيار يقدح في الآخر ويطعن في مبادئه وأفكاره، هذا يكفر ذاك وهذا يخوّن الآخر.

إنّ أصول ومصادر وتجليات الثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة التي تسهر العولمة بكل ما أوتيت من قوّة على ترويجها ارتبطت كلها بحركة الإصلاح الديني والفكري والسياسي والتربوي، وبالثورة على القديم في الفكر واللاهوت والسياسة وغيرها، وبالتقدم العلمي والتكنولوجي وبالثورة الصناعية، مما أدّى إلى ظهور فلسفة جديدة وقيّم ثقافية جديدة أفرزها الوعي التاريخي في الغرب الأوروبي الحديث، أهم ما تميّزت به هذه الثقافة والفلسفة هو ارتكازها على عدد من القيّم، وهي قيّم مستمدة من الطبيعة البشرية ومما يعطي الأولوية القصوى للجانب الحياتي في الدنيا من اعتبار للقيّم الأخلاقية والدينية، مثل الاعتماد على العقل والعقلانية ونبذ كل ما لا يقبله العقل، واتخاذ الحرية والتحرر سبيلًا في الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وإبعاد كل ما يعيق ويقيد أو يمنع سير الإنسان نحو التقدم والازدهار في شتى المجلات.

هذا ما تقوم عليه النظرية الليبرالية وفلسفتها الاقتصادية والسياسية، الحرية والتعددية والتداول على السلطة، وإبعاد الدولة والتوجيه مهما كان مصدره من التأثير في الحياة الاقتصادية، وارتكاز الاقتصاد على الحرية والملكية الفردية وعلى قوانين السوق الحرة، ومن قيّم الثقافة الغربية الحديثة التوجّه العلمي والإيمان بالعلم الذي حلّ محل كل فكر وكل حقل معرفي عرفه الإنسان، توجّه أقصى كل صنوف التجلّيات الثقافية الكلاسيكية من فلسفات وديانات وآداب وأخلاق وفنون علوم وغيرها إلَّا ما يخدم المسار العلمي والعقلاني الحر القائم في الوعي التاريخي والحضاري في الغرب الأوروبي الحديث، المسار العلمي في الثقافة الغربية وانفصاله عن سائر المسارات غير العلمية جعله يقطع أشواطًا رائدة في دراسة الطبيعة والطاقة والإنسان، ومعرفة العلاقات الثابتة بين الظواهر واكتشاف القوانين التي تتحكم في تلك العلاقات، التقدم العلمي وحاجة الإنسان إلى التأثير في الطبيعة والسيطرة عليها وتسخير ظواهرها وتحويل الطاقة من صورة نافعة إلى صورة غير نافعة كل هذا فجّر الثورة الصناعية والتطور التقني الذي أصبح ميزة من ميزات العصر وأبرز تحول أثّر في حياة الإنسان اليومية وبصفة مباشرة من خلال الإنتاج الصناعي للاستهلاك اليومي، ومن خلال تحول حياة الإنسان من اعتمادها على وسائل وأساليب وتقنيات بدائية إلى وسائل وتقنيات متطورة جدًّا يستعملها في سائر أعماله وفي مختلف مجالات الحياة. ما تحقق بعد الاعتماد على العقلانية وعلى الحرية وعلى العلم والتكنولوجيا صار التوجّه الحديث للغرب الأوروبي عقلاني علمي حر، ولما أقصى هذا التوجّه كل ما هو غير علمي ومقدس أخلاقيًّا كان أو دينيًّا أو غيره، واهتم فقط بما هو طبيعي موضوعي وبشري، وبما هو دنيوي لا ديني ترسّخ الطابع العلماني في الثقافة الغربية، وأصبحت ذات قيّم استوحاها الإنسان من وعيه التاريخي الحضاري الحداثي والتحديثي في مضمونه وفي المرحلة التاريخية بتحولاتها وتطوراتها المختلفة.

إنّ الخصوصية الثقافية في الغرب الأوروبي الحديث التي ارتبطت بقيّم الحداثة والتحديث والليبرالية من عقلانية وحرية وتعددية وعلمنة وتقانة وعلمانية وغيرها، والتي تطورت واتسعت مجالات استعمالها، صارت تمثل النموذج الثقافي في المركز ومساره الذي يجب أن يُحتذى به في الأطراف، تضطلع بالمهمة عدة جهات مهتمة بالعولمة ومؤيدة لها في المركز وفي الأطراف عن طريق ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، ثقافة العولمة أي تعميم ثقافة المركز لتشمل ثقافات الأطراف وتحتويها دونما اعتبار للتنوع الثقافي والفكري والديني.

وعولمة الثقافة أي تحويل ثقافات الأطراف من خصوصياتها الضيقة ونقلها إلى سعة ورحابة العالمية والانفتاح على ثقافة المركز والاندماج معها في جو من الانسجام والتوافق، وفي الحالين معًا سواء عولمة الثقافة أو ثقافة العولمة فإنّ النتيجة واحدة ومحسومة، هي أنّ ثقافات الأطراف الأجزاء تُصبح محتواة في ثقافة المركز الكل، ليس على سبيل التفاعل الثقافي الندّي وإنّما على سبيل إعادة تشكيل ثقافة المركز لثقافات الأطراف حسب ما تقتضيه الحاجات والمصالح المختلفة للمركز، ودون مراعاة حاجات ومصالح الأطراف، ولما كانت الثقافة الغربية ذات طابع علماني فهي لا تتقيد بالمفاهيم غير العلمانية كالدينية والأخلاقية بل تبدي لها العداء، «ومن الغريب أن عداء الثقافة العلمانية الغربية المادية الحديثة ينصب أساسًا على الثقافة الإسلامية، بل إن القادة الغربيين السياسيين وقادة الثقافة والفلسفة والفكر يُصوبون سهامهم نحو الثقافة الإسلامية ويتخذون منها العدو الرئيسي لثقافتهم العلمانية المادية، وكثير من آراء بعض هؤلاء القادة مثل الرئيس نكسون وفوكويامنا وهنتنجتون وغيرهم، وصراع الحضارات وحوار الحضارات تتجلى فيها هذه الأفكار المعادية للفكر الإسلامي»[25].

إنّ جو ثقافة العولمة وعولمة الثقافة حريص كل الحرص على صهر ثقافات الأطراف في ثقافة المركز، وكان له تأثير ملموس في هذه الثقافات وفي أهلها، فأصبح للثقافة الغربية مروّجون في الأطراف، مما أدّى إلى الاختلاف بين دعاة العولمة ومعارضيها، وكثيرًا ما تحوّل الاختلاف إلى نزاعات وصراعات مسلحة، والحقيقة أنّ الكثير من النزاعات والصراعات الدموية وغير الدموية هي نتيجة صراع بين أنظمة سياسية وثقافية دخيلة ليبرالية وغيرها من جهة وتيارات وتنظيمات محلية ذات انتماءات ثقافية ودينية وتاريخية موروثة، وكثيرًا ما لعبت العولمة الثقافية والسياسية دورًا في تمزيق وحدة الهوية ووحدة الخطاب الديني وحدة الخطاب القومي ووحدة الخطاب الوطني السياسي، و«من نماذج هذا التمزق والهوية المفقودة حال الجزائر، التي لم يستقر فيها الخطاب السياسي على مفهوم واضح يحدد خصوصيات المجتمع الجزائري، وبالتالي انتماءاته السياسية، يوظف هذا الخطاب مفاهيم غير قارّة لتحديد هوية الجزائر مثل مفهوم الأمة الجزائرية حينًا، وأحيانًا أخرى مفهوم الأمة العربية، ثم مفهوم الأمة الإسلامية بكل ما يحمله هذا الأخير من تنوع وشمولية، وأخيرًا دخل مفهوم المتوسطية»[26].

تحرص العولمة على نشر ثقافة التفسخ والانحلال الأخلاقي، وثقافة الشهوة والمتعة، وإذاعة أنشطة الترفيه واللهو واللعب والتسلية التي فيها مضيعة للوقت وهدر للجهد من دون فائدة تُذكر، ثقافة تزرع الفساد والتعفن والمسخ الفكري الذي لا يأخذ في الاهتمام سوى الجانب الحيواني الشهواني في الإنسان، يعامله بطريقة آلية في الفكر والممارسة بأتمتة صماء وبعقلانية مفرطة وبحرية مشبوهة وبعلمانية غير متوازنة، ويسحب منه كل ما من شأنه أن يوفر له التوازن والتوافق بين ماديته وروحانيته من قيّم عليا دينية وأخلاقية وإنسانية، وتحرص وسائل الإعلام والاتصال على غرس قيّم العولمة الثقافية في الأطراف من خلال ما تبثه من أنشطة وبرامج تطبق فيها مناهج تربوية وتعليمية باسم التجديد والتطور في حقل التربية والتعليم والتكوين، تستهدف من ورائها تربية وتكوين الأجيال على قيّم النموذج الثقافي الغربي والأمريكي.

وهو مطلب وطموح المنظمات العالمية الفكرية والثقافية والعلمية مثل منظمة اليونسكو، وهي منظمات تعمل تحت إشراف وتوجيه المركز، وتشرف على وسائل الإعلام والاتصال التي تسعى للنيل من ثقافات الأطراف ومن خصوصياتها، خاصة ممن يُعارض العولمة الثقافية ويتمسك بعناصر هويته الثقافية جهات من المركز حريصة على تغليب نموذج ثقافة العولمة في التربية والتعليم والتكوين والتثقيف والمثاقفة والترفيه والتسلية وغيرها. ونجد أنّ «باسم المثاقفة يتم انحسار الهويات الثقافية الخاصة في الثقافة المركزية مع أنّ اللفظ سلبي ACCULTURATION، ويعني القضاء على ثقافة لصالح أخرى، ابتلاع ثقافة الأطراف داخل ثقافة المركز.

وتخفف بعض المصطلحات الأخرى من مستوى عدم الندية بين الثقافات فتبرز مفاهيم التفاعل الثقافي، التداخل الحضاري، حوار الحضارات، التبادل الثقافي، وهي مفاهيم تنتهي إلى أنّ ثقافة المركز هي الثقافة النمطية ممثلة في الثقافة العالمية والتي على كل ثقافة احتذاؤها، ويُستغل ضعف شعوب الأطراف فيتم تغيير النظم والمناهج التربوية، وتطوير الكتب المدرسية وغيرها في مؤسسات التربية والتعليم والتكوين عامة، مثل ما يحصل في جامع الأزهر بمصر وفي غيره استجابة لتحولات العصر وتماشيًا مع التطورات الحاصلة في التربية والتعليم في بلدان المركز، واستجابة لآليات العولمة ومداخلها المتعددة مثل حاجة شعوب العالم إلى التسامح وإلى حوار والحضارات وإلى حوار الثقافات والأديان وتعايشها، الاستجابة وتمثل ما يترتب عنها كفيل بإفراز تداعيات خطيرة من شأنها أن تطمس الخصوصية الثقافية والسادة الوطنية والمعتقدات الدينية، وتؤيد وتؤبد الاحتلال والظلم الذي تتلقاه الشعوب العربية والإسلامية وغيرها في مختلف أقطار العالم وتنتهي أسطورة التعددية التي طالما قامت عليها حضارة المركز، وعبّر عنها وليم جيمس في «عالم متعدد» لصالح عالم أحادي الطرف. ثقافة تبدع وثقافات تستهلك، ثقافة تصدر وثقافات تنقل... والوطن هو الضحية، ميدان لصراع القوى الكبرى بالمال والسلاح، وتضيع الخصوصية لصالح الصراعات المحلية والدولية، ويصمت الحوار الوطني، ويشق صف الوطن. فالمعركة إذن بين الخصوصية والعولمة ليست معركة بريئة حسنة النية أكاديمية علمية بل تمس حياة الأوطان ومصير الشعوب»[27].

استنتاج

بعدما وقفنا بالضبط والتحديد اللغوي والاصطلاحي على المفاهيم الثلاثة الرئيسية: اللغة والهوية والعولمة، وعلى المفاهيم الفرعية المنبثقة عنها إضافة واقترانًا، وهي الهوية اللغوية والهوية الثقافية والعولمة اللغوية والعولمة الثقافية، وبعد الوقوف على الجدل القائم بين هذه المفاهيم في صورة معركة فكرية وفلسفية يستهدف كل طرف فيها إثبات الذات وفرض الوجود، من خلال علاقات شتى حصرتها في أربع رئيسية تقتضيها طبيعة الجدل في معركة المفاهيم وهي: الاختلاف والترابط والتعارض والتداخل.

1- الاختلاف: تختلف المفاهيم عن بعضها البعض كما يلي:

- اللغة: في اللغة تعني التحدُّث والتكلُّم والتلفُّظ والنطق، أما في الاصطلاح فهي نسق ونظام من الرموز والإشارات تُستعمل للتواصل، ويقترن هذا النظام بالفكر والوجدان والاجتماع والحضارة في الإنسان. اللغة خاصية إنسانية.

- الهوية: في اللغة تعني حقيقة وماهية وجوهر الموضوع، وفي الاصطلاح تعني الثابت والدائم في الموضوع من خصائص ومكونات وعناصر، والمميّز له عن غيره، الموجود به الموضوع والمنعدم من دونه.

- العولمة: الكلمة في اللغة تعني جعل الشيء عالميًّا، ومنه جاء تعريفها الاصطلاحي: تعميم نموذج حضاري واحد على جميع شعوب العالم، وتنميط العالم بنمط واحد فكري وثقافي واقتصادي وسياسي واجتماعي، النمطية لها سلبياتها وإيجابياتها.

- الهوية اللغوية: الثابت والدائم في لغة ما، يميّزها عن غيرها، به توجد اللغة وبدونه تغيب، ويتمسك به أصحابها ويعتزون ويفخرون. اللغة العربية لها ما يميّزها عن غيرها من اللغات الأخرى، مثل الحروف والألفاظ والاشتقاقات وعلومها... إلخ.

- الهوية الثقافية: الثابت والدائم في ثقافة ما تملكها جماعة بشرية ما به تتمسك وتتميّز عن غيرها. مثال الهوية الثقافية الإسلامية، الفكر الإسلامي تاريخه وجذوره، سلوك المسلم ونمط حياته، البيئة الإسلامية وما يميزها عن غيرها فكريًّا وسلوكيًّا وروافد هذا الفكر وهذا السلوك.

- العولمة اللغوية: هي أن يكون للعالم أجمع لغة واحدة للتواصل والتخاطب وللتعامل في جميع مجالات الحياة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وتربويًّا وإداريًّا وإعلاميًّا. ولغة العولمة في عصرنا هي اللغة الإنجليزية لغة بلدان المركز وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

- العولمة الثقافية: هي أن يكون للعالم أجمع ثقافة واحدة هي ثقافة المركز والثقافات التي تتوافق معها في سائر أنحاء العالم. وثقافة المركز هي الثقافة السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الغرب الأوروبي، وأهم ما تتميّز به هذه الثقافة المادية والبراغماتية والعلمانية والاستهلاكية والعلمية والتكنولوجية وغيرها.

2- الترابط: تترابط المفاهيم المذكورة فيما بينها في عدة نقاط أهمها:

- اللغة تعبر عن نفسها وعن اللهوية بشقيها اللغوية والثقافية.

- اللغة تعبّر عن العولمة بشقيها اللغوية والثقافية وهو الدور المنوط باللغة الإنجليزية في العولمة المعاصرة.

- اللغة تنتج الهوية جزئيًّا أو كليًّا.

- الهوية قد تكون لغوية وقد تكون ثقافية وقد تكون هما معًا.

- العولمة لها هويتها ولها لغتها.

- هوية العولمة تتحدد بما هو لغوي وبما هو ثقافي.

- لا تقوم العولمة من غير هوية ومن غير لغة.

- لا تقوم اللغة من غير هوية.

- لا تقوم الهوية من غير لغة.

3- التعارض: تتعارض المفاهيم المذكورة في عدة نقاط أهمها ما يلي:

- الهوية واللغة تعترضان على العولمة لكون العولمة لغوية كانت أو ثقافية تقصي اللغة والهوية، وتعطل التعدد والاختلاف في الهويات والألسن وبذلك فهي تعطل سنن الكون.

- تعترض العولمة على اللغة والهوية لكونهما يفرضان الخصوصية التي تمنع انصهارهما وانتشار العولمة.

- الهوية لغوية كانت أو ثقافية قد تنتهي إلى الانغلاق والتقوقع أمام انفتاح العولمة، ولا تسمح لأصحابها بالمشاركة في تحريك التاريخ وتحقيق البناء الحضاري.

- الثنائية أو الثلاثية اللغوية كثيرًا ما تضر بتماسك المجتمع وتضر بهويته التاريخية والثقافية، فينتهي الأمر إلى الذوبان.

4- التداخل: تتداخل المفاهيم المذكورة بعضها مع بعض في عدة نقاط أهمها:

- الهوية تلازم اللغة والعولمة بصورة دائمة، للغة هوية وللعولمة هوية ولا قيام لإحداهما من غير هوية.

- اللغة تدل وتعبر عن الهوية والعولمة، كما تعبر عن نفسها، ولا تقوم أية هوية وأية عولمة من دون لغة، طبعًا لغة واحدة أو أكثر.

- العولمة حقيقة ثابتة وتحدّ قائم في الواقع تتعاطى معه اللغة والهوية مدًّا وجزرًا إيجابًا وسلبًا.

خلاصة

جدل المفاهيم أو معركة المفاهيم الثلاثة وما انبثق عنها من مفاهيم أخرى لها دورها في النسيج المفاهيمي والثقافي في ظل العولمة، تتحدد طبيعته ويتحدد دوره وتأثيره السلبي أو الإيجابي بحسب تدخل الإنسان بجميع أبعاده من غير استثناء، فالأمر يتوقف بالدرجة الأولى على تفكير الإنسان وإرادته واختياراته وأخلاقه في إنتاج مواقفه من اللغة والعولمة والهوية.

 

 

 

 



[1] ابن منظور، أبو الفتوح محمد بن مكرم، لسان العرب، بيروت، لبنان: دار صادر، بدون طبعة، بدون سنة، الجزء الخامس عشر، ص 251 و252.

[2] ابن جني، أبو الفتوح عثمان، الخصائص، تحقيق عبد الحكيم محمد، المكتبة الوقفية، بدون طبعة، بدون سنة، الجزء الأول، ص 44.

[3] سويد عبد الله ومصطفى عبد الله، اللّغة العربية، طرابلس، ليبيا: دار الكتاب والتوزيع والإعلان والمطابع، الطبعة الثالثة سنة 1982، ص 78.

[4] سعيد أحمد بيومي، أم اللّغات.. دراسة في خصائص اللّغة العربية والنهوض بها، القاهرة، مصر: مكتبة الآداب، الطبعة الأولى سنة 2002، ص 102.

[5] أبو بكر العزّاوي: اللّغة والحجاج، دار إفريقيا الشرق، المملكة المغربية، الطبعة الأولى، ص 43.

[6] مفكر مصري معاصر له مشروع فكري معروف «بالتراث والتجديد».

[7] حسن حنفي، مقال عنوانه: الهوية واللغة في الوطن، رابطه في موقع التجديد العربي:

http://www.arabrenewal.info/2010-06-11.

[8] الزبادي محمد فتح الله، العولمة وآثارها على العالم الإسلامي، منظمة المؤتمر الإسلامي، قطر، سنة 2003، الدورة الرابعة عشر، ص 2.

[9] جيلالي بوبكر، العولمة مظاهرها وتداعياتها، نقد وتقييم، إربد، الأردن: عالم الكتب الحديث، الطبعة الأولى، سنة 2011، ص 5.

[10] بكار عبد الكرم، العولمة.. طبيعتها، وسائلها، تحدياتها، دار الإعلام للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، سنة 2000، ص 11.

[11] نقلًا عن بن سهو محمد، العولمة، عمان، الأردن: دار البيارق، بدون طبعة، سنة 1998، ص 14.

[12] ريمون طحان، اللغة العربية وتحديات العصر، بيروت، لبنان: دار الكتاب اللبناني، بدون طبعة، وبدون سنة، ص 37.

[13] سليمان نايف، الجامع في اللغة العربية، عمّان، الأردن: دار صفاء للنشر والتوزيع، بدون طبعة، سنة 1996، ص 41.

[14] جيلالي بوبكر، العولمة مظاهرها وتداعياتها.. نقد وتقييم، إربد، الأردن: عالم الكتب الحديث، الطبعة الأولى، سنة 2011، ص 16.

[15] حسن حنفي، مقال بعنوان: الهوية والثقافة في الوطن، الرابط:

http://www.arabrenewal.info

[16] الثقافة بين الغة والاصطلاح: http://www.startimes.com/f.aspx?t=30872875

[17] الثقافة بين الغة والاصطلاح: http://www.startimes.com/f.aspx?t=30872875

[18] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بيروت، لبنان: دار الكتاب اللبناني، بدون طبعة، سنة 1982، الجزء الأول، ص 378 – 379.

[19] جيلالي بوبكر، العولمة، مظاهرها وتداعياتها.. نقد وتقييم، إربد، الأردن: عالم الكتب الحديث، الطبعة الأولى، سنة 2011، ص 2.

[20] أحمد شيخ عبد السلام، مقدمة في علم اللغة التطبيقي، ماليزيا: مركز البحوث، الجامعة الإسلامية العالمية، الطبعة الثانية، سنة 2006، ص 142.

[21] روبرت جاكسون، الإمبريالية اللغوية، ترجمة: فاضل حبتكر، الرياض، المملكة السعودية: مكتبة العبيكان، الطبعة العربية الأولى، سنة 2003، ص 235.

[22] قرآن كريم، سورة الحجرات، الآية 13.

[23] جرار ليكلراك، العولمة الثقافية، ترجمة: جورج كتورة، بيروت، لبنان: دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى، سنة 2004، ص 333.

[24] محمد عابد الجابري، العرب والعولمة، بيروت، لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، سنة 1998، ص 301.

[25] محمد الجوهرى حمد الجوهري، العولمة والثقافة الإسلامية، القاهرة، مصر: دار الأمين، بدون طبعة، سنة 2005، ص 116.

[26] عبد الباسط عبد المعطي، العولمة والتحولات المجتمعية، بيروت، لبنان: دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الثانية، 2006، ص 213.

[27] حسن حنفي، حصار الزمن.. إشكالات الحاضر، بيروت، لبنان: الدار العربية للعلوم، الطبعة الأولى، سنة 2007، ص 494-497.