شعار الموقع

الجدل في توتير .. قراءة في أشكال التواصل حول القضايا الساخنة

أحمد اللويمي 2019-06-04
عدد القراءات « 606 »

الجدل في تويتر..

قراءة في أشكال التواصل حول القضايا الساخنة

الدكتور أحمد اللويمي وحسين علي الناصر*

 

* كاتبان وباحثان من السعودية.

 

مقدمة

التواصل الاجتماعي سمة إنسانية أصيلة، تعبر عن الحاجة الأساسية للرابط الاجتماعي، وهي تعبير عن مقولة: «الإنسان اجتماعي بطبعه»، فالدافع في التدافع نحو الرابط الاجتماعي للفرد هو تلبية لحاجة الفطرة المغروسة في نفسه نحو الاجتماع.

يعيش عالمنا المعاصر طفرة منقطعة النظير في التعبير عن هذا الجانب، وذلك للدور الحيوي والفعّال الذي وفرته وسائل الاتصال الإلكتروني أو ما يعرف «بالعالم الافتراضي». لقد أزال هذا العالم الافتراضي الحدود والعوائق بين البشر وقرَّب البعيد في مختلف أصقاع الأرض.

إن الدافع الأساس وراء التواصل الاجتماعي هو تلبية الحاجات النفسية والفكرية للإنسان، فالتواصل هو شكل من أشكال قنوات التبادل المعرفي، وعنصر حيوي للتكامل الإنساني في تلبية الاحتياجات الفكرية والنفسية والمدنية بين ذوي الاختصاصات المختلفة، فالعنوان الحضاري للإنسان يكمن في القدرة على التبادل والتطور من خلال استثمار الخبرات المختلفة.

وبالرغم من هذا التطور الأسهل في أدوات الاتصال في عالمنا الافتراضي، الذي أصبح عنوانًا بارزًا للحضارة الإنسانية الراهنة تحت عنوان: أدوات التواصل الاجتماعي، إلَّا أن المؤسف المؤلم أنه لم يُستثمر منها إلَّا النزر اليسير، وخصوصًا في عالمنا العربي، كعناصر فاعلة ومؤثرة في صناعة فضاء إنساني لخلق بيئة تترعرع فيها القيم الإنسانية المتعالية، وتتطور المعارف البشرية التي تصنع الإنسان المتمدن في مسار بعده المدني والحضاري.

والمؤسف أن تصبح أدوات التواصل الاجتماعي فضاء للكراهية والتحريض في عالمنا العربي، وأن تضحى هذه المنصات الاجتماعية المهمة والحيوية منطلقًا للانشقاقات والقذف والتنافر، وبث النزاع، وتشجيع الاحتراب في شكليه العسكري والمدني.

فالأزمة الراهنة التي تعكسها أنماط التواصل المأزوم في وسائل التواصل الاجتماعي تكشف عن تلك الأزمة النفسية والفكرية والمعرفية المتجذرة في شخصية الإنسان المسلم الراهن، وهذا الغلو في لغة الجهل في وسائل التواصل الاجتماعي والإفراط في دعاوي التدابر والتلاعن تأكد الحجم البالغ في نقص الخبرة في الخطاب المعرفي والوجداني لدى الإنسان المسلم. وهو إفراز ينم عن الركام الكامن من الرواسب لقرون من القهر والعزلة وغياب عقلانية الخطاب والمعالجة والموضوعية في إدراك العناصر الفاعلة في صناعة الواقع.

«حين ننظر إلى المجتمع العربي ككل نجد أنه خلال القرن العشرين ما يزال يراوح داخليًّا بين مرحلتي النزاع والتعايش بين الجماعات والأقطار والكيانات التي يتكوّن منها، دونما تفاهم حول صيغة اندماجية مستقبلية تُقيم توازنًا خلّاقًا بين الوحدة والتعدد. ليس المطلوب إلغاء التعدّد ولا التعايش المؤقت الذي يُبقي على الولاءات للجزء على حساب الانتماء للكل وما هو مشترك على صعيد مصيري، وليس المطلوب الاندماج القسري الذي يُلغي الآخر. المطلوب هو الاندماج الاجتماعي الذي يحترم التنوّع والتعدّد والاختلاف، ويوازن بين المصالح والخصوصيات المختلفة في إطار قانوني دستوري يؤكد على المساواة التامة في المواطنية، ويخلو من التمييز على أسس الدين والعرق والجنس أو أي انتماء آخر»[1].

الدراسة التي بين أيدينا تقدّم قراءة لأشكال الجدل ودوافعه لهذه الظاهرة المستخدمة في أحد أهم وسائل التواصل الاجتماعي «تويتر»، الذي يُشكّل منصة مهمة تجذب الملايين في مختلف أطراف المعمورة. وسيتم التركيز في المعالجة على التغريدات حول قضايا ساخنة تثير الجدل وتستحثّ النزاع، أهمها:

1.       الطائفية: التغريدات المثيرة للجدل حول الصراع العقدي المفتعل بين الشيعة والسنة.

2.       التعايش والمواطنة: التغريدات التي تثير طبيعة الفهم السائد حول المواطنة.

3.       النزاع السياسي: التغريدات المتعلقة بالنزاع الدائر في منطقة الشرق الأوسط.

إن التفكيك بين هذه النقاط السابقة غير ممكن لتداخل موضوعاتها. فالطائفية ومسألة التعايش والمواطنة أو النزاع السياسي في الشرق الأوسط والمحفزات التي تُغذّي الجدل وتسعره في طرحٍ مركّب ومتداخل يصعب التفكيك بين عناصره.

والدراسة سعت بقدر ما هو متوفر من المصادر العلمية لتحليل الدوافع والأسباب التي تجعل من الدافع النفسي للإنسان العربي يتمركز حول التحريض وافتعال العدوانية في معالجته للقضايا الفكرية، إلَّا أن نقص الدراسات العلمية حول ظاهرة الجدل في وسائل التواصل الاجتماعي جعل من مسألة التحليل من خلال التقريب والتحليل بين الظواهر الشائعة في تغريدات المغردين. وسعت الدراسة في الابتعاد عن التفسير بدافع المؤامرة؛ لأن العنصر الفاعل في هذه الدراسة هو فعل الفرد، باعتبار التغريدات نتاج إرادته وقدرته على الاستيعاب والتفاعل مع الأحداث.

القراءة المقدمة لطبيعة الجدل الدائر تستهدف تفكيك العناصر الفاعلة في استثارة الجدل، وتسليط الضوء على العوامل والأسباب التي تجعل من هذه العناصر فاعلة في شخصية الإنسان العربي. ومن هذه العناصر المستمدة من مادة التغريدات الانطباعية، والقناعات المسبقة، والتعميم، ووصم الجماعة في ظل غياب المعلومة والفقر المعرفي المفرط في المعالجة، وغيرها من العناصر التي سوف يسلط الضوء عليها من خلال معالجة قضايا الجدل في «تويتر».

جانب مهم من الجوانب المهمة التي تحققها مثل هذه الدراسات هو التأكيد على اتخاذ «تويتر» وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي مرصدًا مهمًّا لتأسيس مستوى التعايش بين المكونات المختلفة للمجتمع العربي، واعتبار ما يدور من تفاعل اجتماعي معيارًا لقياس الصحة العامة لسلامة النسيج الاجتماعي. إن معالجة القضايا الراهنة للمجتمع العربي تكمن في أدوات البحث العلمي والمعالجة الموضوعية للأسباب والدوافع التي تمكّنها من الديمومة.

بيانات وتعريفات

تويتر: أحد أشهر الشبكات الاجتماعية ووسائل التواصل الاجتماعي، يقدم خدّمة التدوين المصغر، والتي تسمح لمستخدميه بإرسال «تغريدات» عن حالتهم أو عن أحداث حياتهم، أو إبداء آراءهم بحد أقصى 140 حرفًا للرسالة الواحدة، تأسست في 21 مارس ٢٠٠٦، بمدينة سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، الولايات المتحدة، المؤسسون هم: إيفان ويليامز، نوح غلاس، جاك دورسي، بيز ستون.

صاحب فكرة تطبيق تويتر هو المبرمج ورجل الأعمال الأمريكي جاك دورسي، وقد صنفته مجلة معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) كأحد أكثر 35 شخصية مبتكرة في العالم تحت سن 35 سنة[2],

الجدل لغةً

الجدل: اللدد في الخصومة والقدرة عليها، وجادله أي خاصمه، مجادلة وجدالًا. والجدل: مقابلة الحجة بالحجة؛ والمجادلة: المناظرة والمخاصمة، والجدالُ: الخصومة؛ سمي بذلك لشدته[3].

الجدل اصطلاحًا

قال الراغب: الجِدَال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة[4].

وقال الجرجاني: الجدل: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة، أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه[5].

وقال أيضًا: الجدال: هو عبارة عن مراء يتعلَّق بإظهار المذاهب وتقريرها[6].

وقال جمال صليبا: الجدل هو الأصل فن الحوار والمناقشة[7].

طبيعة الجدل ما هو؟

الخصومة والمنازعة في البيان والكلام[8]، وهو أيضًا المشادة الكلامية[9]، والمفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة[10] واشتداد الخصومة في النقاش[11].

الحوار لغة

من حاور يحاور محاورة، وقد ورد في تاج العروس أن الحوار يعني تراجع الكلام، كما ورد في لسان العرب لابن منظور تحت الجذر (حور) يتحاور: يتراجعون الكلام. والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، وقد حاوره، والمَحُورَةُ: من المُحاوَرةِ مصدر كالمَشُورَةِ من المُشاوَرَة كالمَحْوَرَةِ[12].

الحوار اصطلاحًا

هو نشاط عقلي ولفظي يقدم المتحاورون الأدلة والحجج والبراهين التي تبرر وجهات نظرهم بحرية تامة من أجل الوصول إلى حل لمشكلة أو توضيح لقضية ما[13].

طبيعة الحوار ما هو؟

الالتزام لكافة الأطراف والإصغاء إلى بعض لكي يتم تبادل الأفكار وصقل شخصية الفرد للوصول إلى الحقيقة.

الفرق بين الجدل والحوار

صاحبت هاتان الكلمتان الإنسان منذ أن بدأ يدرك ما حوله من آراء متعددة، فحاول الإدلاء بأفكاره ومنحها صفة الوضوح بالإلمام بكل جوانب هذه الأفكار، وهذا ما يسمى بالحوار، ولكن إذا خاض صراعًا ضد أفكار معينة وضد معارضين له يتحوّل الموقف إلى صدام من أجل الغلبة، وهذا ما يسمى جدلًا أو جدالًا[14].

قراءة في تويتر

فكرة التويتر أو الهدف منه هو التعبير عن الرأي لكل شخص، بحيث يستطيع الفرد أن يلخص ما يريد في تغريدة واحدة لا تتجاوز 140 حرفًا، بمعنى أنه خير الكلام ما قلَّ ودلَّ. وبعد انتشاره انحرف عن مساره الحقيقي، ليس من مؤسسيه بل من الأعضاء، حيث ظهرت تغريدات طائفية، عنصرية، دينية، سياسية، والمشكلة ليست في هذه العناوين، المشكلة تكمن في الاستفزاز والتنابز.

لذلك ما أن يتم طرح مسألة دينية تخالف السائد إلَّا وبحجة الحوار يبدأ الهجوم العنيف والقذف والسب فيتحوّل إلى جدال دون نتيجة.

أولًا: أهم الدوافع والعناصر الفاعلة في ظاهرة الصراع في المجتمع العربي

السمة الطاغية للتاريخ الراهن للعالم العربي هو الصراع بكل ما يمكن أن يوصم من صفات، والطاغي منه على السطح، الصراع الديني الطائفي ذو الدوافع السياسية. طغيان الصراع في تاريخنا الراهن هو إفراز لركام من العوامل والأسباب التي تضافرت وتفاعلت في تاريخ العالم العربي، منتجة بذلك ظواهر ما تفتأ تطفو على السطح كلما أصبحت البيئة موائمة لبروزها.

ولعل أهم عامل ترتكز عليها ظواهر الأزمة هو الفقر المعرفي الذي يعاني منه المجتمع العربي، فبالرغم من تطوّر البنية التعليمية وتوفر المصادر المساعدة للبناء المعرفي إلَّا أن المجتمع العربي لم ينل إلَّا مظاهر المعرفة والبنيان الفكري المعرفي الداعي إلى نمو المعرفة واستثمارها، وإشاعة تطبيقاتها كثمرة في سلامة الأدوات التعليمية لبناء الأسس المنطقية في تمكين الإنسان من استثمار الأدوات الاستقرائية أو المنطق العقلي في تحليل ومعالجة القضايا التي يتعاطى معها لتحقيق اكتشافات منطقية متطابقة ومقدماتها.

فالتجهيل المنظم لتوظيف الأسس المعرفية باستخدام الأدوات العلمية التربوية لبناء منظومة تعليمية تربوية غرضها إنتاج مخرجات تستخدم أدوات المعرفة للاستهلاك والاعتياش، لا أدوات للكشف والتدبر والتأمل، لتقديم حلول ومعالجات لمشروع علمي معرفي واضح المعالم.

فالواضح أن المجتمع المعاصر لم ينل من مشاريع التنمية ذات الميزانيات النجومية في مختلف البلدان العربية إلَّا هياكل من كيانات علمية تعليمية خاوية المعنى، مفلسة من المنتج العلمي المعرفي، وقد شخّص المفكر الكبير مالك بن نبي (رحمه الله) مبكرًا هذا الإشكال في البنية التنموية للمؤسسة العلمية للمجتمع العربي بقوله: «فلم يكن العلم الذي اقتبسته من جامعات الغرب وسيلة للإسعاد، بل كان طريقًا إلى المظهرية، ولم يكن ذلك العلم استبطانًا لحاجة مجتمع يريد معرفة نفسه ليحدث تغييرها بل لم يكن استظهارًا لبيئة نبحث عنها لنغيرها، فهو قانع منطوٍ على ذاته، حبيس في صوره وأشكاله المألوفة، وأقرب دليل على انعدام فاعلية هذا العلم الإسلامي هو أننا لم نرَ فينا حتى الآن وجهًا من تلك الوجوه الخالدة، يبرز في تاريخ المعرفة الإنسانية في القرن الحالي»[15].

وقد تمظهر هذا النتاج المظهري للمعرفة في المجتمع العربي في الفقر الواضح لتوظيف الوسائل الحديثة من أدوات التواصل الاجتماعي كـ«تويتر»، فالأدوات الحديثة وسيلة للتطوير والتجديد والتسريع لتحقيق مشروع التصحيح لبنى الفكر والمدنية للمجتمع، وبالتالي هي أدوات للتأثير بهذا الاتجاه لا عناصر هدّامه لتعميق الفقر المعرفي.

هذا الفرق يتّضح في مفهوم المؤثر والمتأثر في وسيلة كـ«تويتر»، فالمؤثر يتجلّى واضحًا في إمكانية توظيف تويتر لخلق شبكة اجتماعية استشارية فعّالة في تعميق الإصلاح والتجديد المعرفي للمجتمع، وأما المتأثر فيفرز على هيئة نقل الداء والأمراض الاجتماعية لتصبح الوظيفة الطاغية لبرنامج التواصل الاجتماعي «تويتر» آلة تُذكي ظواهر الصراع في المجتمع العربي.

ويمكن اعتبار العناصر التالية أهم الدوافع والعناصر الفاعلة لظاهرة الصراع:

1. أثر معجون الدين والتاريخ والتراث على الهوية.

2. وهم المؤامرة والاستسلام للواقع.

3. وهن المرتكز الأخلاقي في السلوك.

4. المعاصرة ومشروع صناعة المستقبل.

1. أثر معجون الدين والتاريخ والتراث على الهوية

اللب الذي منه تتشكّل الهوية الراهنة للإنسان العربي تستمد عناصرها من معجون الدين والتاريخ والتراث، هذا المعجون الذي تركّب وتشكّل ليولِّد كيانًا محتوياته الأساسية الفهم للنص الديني في أدوات قدراته في ظل الظروف التاريخية خصوصًا التحولات الجيوسياسية المختلفة والإدراكات المعاصرة للنص، بما أتيح لها من مفاهيم الوعي والثقافة وحرية التعبير، والمنتج التطبيقي الذي تحوّل إلى ميراث اجتماعي وقناعة فكرية وعرف مقدس.

ومن السذاجة بمكان أن ينظر إلى الميراث الديني نظرة تفكيكية في اعتبار النص معزولًا على التراث الديني في ثرائه والتعاطي معه. الميراث الديني الراهن الذي يُتعاطى في صناعة فهم الدين هو نتاج حركة تاريخية طويلة، في رحمها انعقدت نطفة هذا الميراث الديني، وفي أحشائها ترعرع ونشأ، وفي جنباتها الواسعة المتنوعة اشتد عوده وتصلّبت أركانه.

كأن التاريخ لم يأخذ مساره الطبيعي في ظل مفاهيم الوعي والثقافة وحرية التعبير المستوحاة من النص القرآني أو الميراث النبوي المتعالي، وإنما وُظِّف الأول، وأريد من الآخر أن يصنع مفهومًا دينيًّا يتلاءم مع الظروف المستجدة، وشتان بين فهمٍ لنصٍ جاء ليصنع واقعًا، وفهمٍ أراد أن يفسر الواقع بالنص.

هذا التحول الجوهري في مسار الجولة التاريخية للإنسان المسلم أسّس البيئة الحاضنة لصناعة الفهم للنص الديني بما تقتضيه الظروف التالية:

* الاحتياجات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الناتجة من الواقع خارج المسار المراد للنص الديني أن يتحرك داخله ويترعرع فيه.

* سيطرة المفهوم السياسي الانتهازي الموغل في الأنا والذات ليستمد لوجوده الشرعية من قراءة نفعية للنص.

* صناعة قناعات تاريخية من الصدر الأول وما تلاه من التاريخ الإسلامي لتقديم مبررات وتفسيرات للواقع الذي أفرزته التحولات التاريخية للمجتمع الإسلامي.

الفهم الراهن لهذا التراث الديني وتاريخه ومعطياته هي نتاج بيئة عمل فيها العقل على تقديم قراءات موضوعية استمدت وجودها من الظروف التاريخية التي تم الإشارة لها أعلاه.

منتج هذا المعجون المركب المعقد في الدين والتاريخ والتراث لا بد أن يتسور حوله شعور هائل بالاعتزاز والفخر والتفاني في حمايته ورعايته، لا سيما إذا كان هذا المنتج يمثل عنوانًا لكيان ترتكز على وجوده منافع متبادلة.

كما تبدو صناعة معجون هذا المركب الثلاثي أفرزت حاجة لمؤسسة عكفت على صناعته وتفانت في تربيته، ألا وهي المؤسسة الدينية الضاربة في العراقة والتجذر في عقل الإنسان المسلم، ولعل من الجوانب المهمة التي تجلّت في جعل هذا المنتج أنه يتمتع برعاية اجتماعية شاملة وقبول لا يقبل التشكيك، وتطعيمه بمجموعة من المقبولات التي يعتبر تجاوزها جريمة لا تغتفر، وأي محاولة لإصلاح مرتكزاته أو معالجة إفرازاته تعدّ تجاوزًا على روح الدين.

وأهم الاحتياطات التي عُنيت بها هذه المؤسسة الدينية هو إضفاء روح التقديس على المعجون الثلاثي باعتباره الدين بعينه، وبالتالي سيكون تجاوزه اصطدامًا مع الدين، أو بالأحرى مع المؤسسة التي ترعاه، واعتبار الفهم الذي تبلور تحت ظرف معين أو احتياجات تاريخية خاصة أمرًا يقع في دائرة الصلاحية وشرعية الممارسة دون النظر إلى تغييرات الزمكان.

هذه الرعاية المستميتة للمؤسسة الدينية والقناعة المفرطة للإنسان العربي والمسلم تتجلّى في جانب مهم من آثارها، هو تأكيد أن حركة الحياة الناجحة هي باتجاه الماضي المجيد، نحو عالم السلف، وصناعة المجد هو في إحياء أدوات الحركة الماضوية. ولضمان هذه الحركة الدؤوبة وتأمين الطريق نحو بقاء المعجون الثلاثي فاعلًا ومؤثرًا لا بد من ممارسة المؤسسة الدينية بشكل عام والمؤسسة السياسية الراعية له بشكل خاص رقابتها وحضورها الفاعل في الحياة الاجتماعية.

2. وهم المؤامرة والاستسلام للواقع

انفصام الإنسان العربي عن الواقع هو عَرَض من داء يعاني منه هذا الإنسان ومتجذر في مركب هويته. الإنسان العربي المسلم يعيش الاغتراب في واقعه والهواجس لمستقبله. ولتبرير هذا الاغتراب والهروب من مخاوف المستقبل القائم يلجأ الإنسان العربي لصناعة أوهام المؤامرة، ويبني عليها تحليلاته والركون إلى سكونيته وانقطاعه عن الفعل والتأثير في واقعه العالمي المعاصر، «إن فجوة عميقة فسيحة تفصل بين الواقع والحلم في الحياة العربية الحديثة، تضاف إلى الفجوة بين الواقع والحلم فجوات عدة بين الجزء والكل، وبين الجزء والجزء، وبين الأجزاء في علاقتها بعضها ببعض، وبين الواقع الاجتماعي المتكامل والواقع السياسي المتعاكس وبين الأمة أو المجتمع والدولة، وبين الدعوة والممارسة، حتى لتزداد صعوبة التمييز بين الواقع واللاواقع، وبين الحلم المستحيل والحلم الممكن؛ ولذلك يستمر المجتمع العربي في موقعه الهامشي ساعيًا بإحساس مأساوي لتجاوز حاضره الهزيل»[16].

ما فتأ الإنسان العربي المسلم ينزع في تفسيراته للظروف غير المستقرة في طبيعة حياته ومصيره المستقبلي، وضعف إرادته في تسيير واقعه نحو المؤامرة، وقد أشار في تحليله لهذه الظاهرة المفكر مالك بن نبي في كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» معتبرًا أن الإنسان المسلم -وبسبب بقائه تحت المنظومة الاستعمارية (الاقتصاد والأفكار والثقافة والتعليم) فترة طويلة- استمرأ فيها القابلية للاستعمار، فهو في قوله وتنظيره يرفض المنظومة، وفي واقعه الحياتي يكرّس القابلية للاستعمار؛ لافتقاره للأدوات المعرفية التي تؤسس فيه روح الاستقلال.

وطبيعي في ظل هذه المنظومة التفكيرية أن يكون كثير العتب وشديد اللوم لمن يُحيك له المؤثرات، والواقع أن سلوكه النفسي الانهزامي يكرّس هذا الوهم ويُورثه، فيصبح جرثومة تنقل عدوى الوهم كما يشير إلى ذلك مالك بن نبي بقوله: «فالمحاكاة في السلوك تجد طريقها عبر الأفكار، أما جانبها المرضي فإنها العدوى الاجتماعية التي تنتقل من جيل إلى آخر عبر امتصاص هذه الأفكار حين تنفصل عن نماذجها في عالمها الثقافي الأصلي، إذ تصبح هذه الأفكار حينئذٍ الجراثيم التي تنقل الأمراض الاجتماعية»[17].

3. وهن المرتكز الأخلاقي في السلوك

من الظواهر التي أضحت طافحة على السطح في المجتمع العربي، تصاعد الخطاب الديني الطائفي والخطاب الديني النسكي مع غياب خطير لتبريره ودوافعه وممارساته. السلوك المزدوج في أن يكون الإنسان العربي اليوم ممارسًا لكل سلوك منافٍ من أمثال الكذب، والتهم، والترويج للدجل، وتزوير الحقائق، كسبيل لتثبيت حقانية منهجه الديني المذهبي أو مفاهيمه الأيديولوجية الدينية.

ولعل هذا الجدل الصارخ الذي يسود «تويتر» نموذج مصغر لهذا السقوط الأخلاقي مع الإصرار على تعميقه ودمجه في نظام مؤسسي منظم، وبالخصوص في المؤسسات الإعلامية ومنظمات حقوق الإنسان والتعليم العالي.

السقوط الأخلاقي شكّل معبرًا للنموذج العربي المميز الذي يتجلّى واضحًا في ازدواجية حياته القائمة على خطاب يرفض المنهج الميكافيلي الذي يدفع نحو تبرير الأخذ بأية وسيلة لتحقيق الغاية، بينما تصبح حياته الواقعية في كل أطرافها ميكافيلية بامتياز. إن التبرير الميكافيلي للسقوط الأخلاقي للإنسان العربي اليوم هو أن عقيدته الخالصة ببطلان الآخر تبرّر له كل دنس وخبيث وسوء يمارسه تجاهه، فبينما يدعي التطهير والتفاني يمارس الدنس والتمادي، فأي مخلوق يا ترى يصبح هذا الإنسان؟.

4. المعاصرة ومشروع صناعة المستقبل

إدراك متطلبات الزمان والعناصر الفاعلة والمتحكمة به، هو الأساس في ضمان الحفاظ على المبادرة والحضور في المقدمة، فالمستقبل دون ذلك لا يعني سوى الدوران في دوائر الماضي حتى لو طفح بأدوات ووسائل العصر على الحياة.

والحداثة والتحديث في توظيف الأدوات لتجديد مفاهيم الحياة والحضور الفاعل في صفّها يستلزم بالدرجة الأساس شرط السبق بالوعي في إدراك الزمان، ومعرفة عناصره وتحدياته وشروط الغلبة فيه.

والأهم في كل ذلك القدرة على الارتقاء لمستوى الهيمنة والسيطرة على توظيف وإنتاج أدواته. فالعصرنة أو المعاصرة تعني أن مشروع المستقبل واضح في الأفق وخارطة توظيف الأدوات قد اتّخذت أدوارها لصناعة المشروع.

لكن المؤلم المؤسف أن غياب المشروع وتخلّف الإدراك لتحديات الزمان، وخمول الهمة للمعاصرة، تجعل من الإنسان العربي في توظيف أدوات الحضارة وبالذات ما نعنيه في دراستنا من أدوات التواصل الاجتماعي وبالذات «تويتر»، مرآة فاضحة لانعكاس التخلّف والجاهلية في إدراك متطلبات الزمان.

فبدل أن يصبح مشروع صناعة المستقبل حاضرًا مهيمنًا على أدوات التواصل لصنع شبكة من العقول المتكاملة المتآلفة في الإبداع، أضحى «تويتر» أداة تعكس حجم النكسة الفكرية في رجعيتنا لإدراك الزمان ومتطلباته، ويؤكد الدكتور حليم بركات هذا البعد الغائب في حياة المجتمع العربي بقوله: «إن بين أهم مصادر الإحباطات العربية عدم التمكُّن من العمل الفريقي في حل المشكلات المستعصية، فإن الكثير من التغيير الذي حدث بسرعة مذهلة طيلة القرن العشرين تم لنا من دون مساهمة فعّالة من قِبَلنا، حتى أصبحنا نحسّ وكأننا لا نملك نقاط ثبات نرتكز عليها، وأن أقدامنا لا تطأ أرضًا صلبة. بل على العكس ظلت بعض الأوضاع الأساسية الأخرى، وخاصة على صعيد بناء المؤسسات وقيام الحركات الاجتماعية على حالها، تقاوم ما نبتغيه من تغيير جذري، وقد ساءت بعض الأحوال حتى تكوّن تيار قوي ينشغل باستعادة الماضي أكثر من اهتمامه بشؤون الحاضر وانشغاله بصنع المستقبل. إذًا كثيرًا ما حصل التغيير من دون أن يكون لنا دور جوهري في التخطيط له وصنعه، فاجتاحتنا الأحداث حيث وحين لم نتوقعها كما لو كانت طوفانًا، وكادت حياتنا أن تتحوّل إلى كفاح يائس ضمن دائرة ضيّقة يصعب تجاوزها؛ لأن التغيير حصل لنا أكثر مما شاركنا في صنعه، وتراكمت حولنا وفي صلب حياتنا التحديات والتناقضات والمعضلات من دون حلول، وأسوأ من كل هذا أنه أصبح يعتبر من المثالي أن نُفكّر بمشروع مستقبلي»[18].

ثانيًا: أنماط الخطاب الجدلي في تويتر

التتبُّع المستمر الذي استغرق أكثر من سنتين أظهر الحسابات المهمّة والأوسمة التي تجذب أعدادًا كبيرةً من المغردين، تبيّن أن السمة الغالبة للتغريدات الرئيسية والتعليقات عليها أنها ذات طابع مثير للجدل، وتغلب عليها صفة المراشقات الكلامية وإثارة النعوت ذات طابع التهم والتهكم.

ومن خلال استقراء مختلف التغريدات المتعلقة بالقضايا الساخنة تبيّن أن هناك ستة أشكال أو أنماط في الخطاب الجدلي الذي يسود التغريدات المتبادلة، والأنماط أدناه لا تعني الحصر، وإنما تشير إلى أهم الأشكال شيوعًا في التعبير عن المواقف من القضايا الساخنة:

1- التعميم: لعل الصفة السائدة لأغلب التغريدات المتبادلة في تويتر تتّصف بطبيعة الوصم للجماعة عندما يصدر فعل خاطئ من فرد أو فريق من الجماعة، وصم أتباع مذهب أو جماعة واعتبار ما يصدر من سلوك خاطئ هو من صميم التعليمات التي يصدرها علماء أو مثقفو هذا المذهب أو ما تحتضنه قيمه الأساسية.

إن الإصرار هو السمة التي يشدّد عليها المغردون مما ينم عن جهلهم العلمي والتاريخي بالجماعة أو المذهب المقصود. يتجلى هذا الجهل المعرفي في ضعف أو انعدام أي استشهاد للمجهود العلمي الذي بذله العلماء والمصلحون والمثقفون في تحديد المفاهيم، وتصحيح المناهج العلمية المتبعة في صناعة الفكر والقيم في دائرة هذا المذهب أو تلك الجماعة.

2- الحالة الانطباعية والقناعات المسبقة: لقد أوضحنا في معرض الحديث عن الدوافع والأسباب وراء استفحال ظاهرة الجدل والتضارب في الآراء أنها ترجع إلى الجهل والفقر المعرفيين اللذين يعاني منهما المجتمع العربي.

ولعل أهم سمة من السمات الرائجة لهذا الفقر المعرفي هو صناعة القناعة وبناء الفهم على المشاهدة العامة للظواهر والأحداث العامة، الانطباع المبني على أساس المزاج الشخصي والنرجسية في دائرة فهم الآخر، وهذا يعدّ وقودًا مغذيًا للجدل الدائم لعدم وجود المرتكزات المعرفية التي تمكّن من المعرفة التامة لخلفيته وانتمائه الفكري والعقدي.

3- الانطباعات المسبقة والأحكام المرتجلة: في التغريدات الساخنة حول قضايا حرجة ومصيرية تتصاعد عادة الانطباعات المسبقة والأحكام المرتجلة، دون أن يسنح للطرف الآخر التأمّل والتدبّر بما يمكن أن يفتح أفق أو دروب تخلق حالة من التفهّم، إنه جدل مسعور لا ينتهي بأي صيغة تفاهم؛ لأن الانطباعية غذاؤه والقناعات المسبقة نتاجه.

ثالثًا: نسبة السلوك الجمعي للدين أو المذهب

ليس كل ما يصدر من جماعة تنتمي لعقيدة أو مذهب يعبّر عن صميم تلك العقيدة أو ذاك المذهب، وليس بالضرورة أن يكون مطابقًا في غاياته أو شكله أو أغراضه للمفهوم المشار إليه في النصوص.

يشيع بين المغردين في «تويتر» نسبة بعض الأفعال أو تصرّف بعض الأفراد إلى صميم معتقدهم أو إلى التعليمات الأساسية للمذهب، ويلاحظ أن هذه السمة رائجة في المجال العربي وتظهر في عدم القدرة على التفكيك بين فعل المسلم وتعليمات الإسلام.

إن غلبة هذه الصفة على تصرفات المغردين يرجع بالدرجة الأساس إلى اعتبار أن فعل الفرد هو عمل خالص إلى ما ينتسب إليه، دون الأخذ بنظر الاعتبار الحاجة إلى التفكيك بين المفهوم النظري والمفاهيم السائدة، وبين القدرة على البلوغ لكمال المعنى المطلوب، وبين التقصير في إدراك المعاني المرادة في العقيدة أو المذهب.

رابعًا: مصدر المعلومة

عندما يدور النقاش حول القضايا الساخنة، نجد أن طبيعة النقاش لا تدور حول التوصل إلى حقيقة الأمور، والاطلاع على العوامل والأسباب التي تقف وراء هذا الأمر.

إن الجدل المحتدم يدور على أساس الانطباع المسبق والتعميم والعقل الجمعي المبني على أساس الغلبة، ما يجعله أقرب إلى جدل الطرشان وتكرار المقولات المسبقة دون أن يتحمل أحد أو طرف عناء البحث والتحقّق من صحة المعلومة وتفاصيلها ومصدرها ومنشئها.

وهكذا يدور الجدل السفسطائي في «تويتر» حول القضايا الساخنة المصيرية والحيوية للأمة دون طائل؛ لأن أساس المعلومات المشار إليها في الجدل غير موثّقة أو لم تُفهم بتفاصيلها الصحيحة.

خامسًا: التسليم المطلق للإعلام

أحد أهم المصادر التي يعتمدها المغردون هو ما يبثّ في الإعلام باعتباره مصدرًا موضوعيًّا، في حين أن حقيقة الإعلام -بما لا يقبل الشك- هو أداة من أدوات الضغط وصناعة القناعات؛ وذلك لما يمتلك من قدرات هائلة في صناعة الصور النمطية.

والقضايا التي يبثّها الإعلام تتحوّل -عندما تُقبل دون مراجعة وتثبت وتمحيص- إلى مسائل مُسَلَّم بها، فكل حرب أو نزاع أو فكرة تصبح في ذهن المتلقين قضية مقبولة إذا وافقت جملة من المقدمات التي يتّصف بها المتلقي، من أهمها ضعف الثقافة العامة حول الخبر، وذهنية التعميم، والانطباعات المسبقة، وانعدام القدرة على التحليل وتفكيك المعلومة. ولأن الأغلبية العظمى من المتلقين يتمتعون بهذه الصفات، فالإعلام اليوم أصبح العامل المهم في خلق هذه الظاهرة الجدلية، والعامل المثوّر لكل هذا التوتر الجدلي الذي نرى جانبًا منه يتجلى في تويتر.

سادسًا: ندرة الخطاب العقلاني والأخلاقي في تويتر

لأن الخطاب السائد بين المغردين في تويتر خطاب جدلي نزّاع للخلاف وإثبات الغلبة، يصبح الحديث العقلاني المتّصف بالحكمة والموعظة الحسنة خطابًا مطرودًا أو باردًا لا يجذب انتباه المغردين، ومن ثم فإن التغريد بالحكمة والدعوة للتعقّل أصبح من الظواهر القليلة في حساب المغردين في تويتر، في حين أن الدعوة إلى إشاعة مثل هذا الاتجاه، وتبني هذا المنحى في المخاطبة بين المغردين، أمر مهّم ومطلوب، ويقع على عاتق المصلحين والمفكرين والمثقفين لإشاعة فكر التأمّل والتدبّر والتريّث، ولتعزيز روح التعايش والتقارب بين أنسجة المجتمع والأمة.

الخاتمة

أضحى جليًّا أن الجدل يدور في دائرة خبيثة لا تُفضي إلى حركة تراكمية نحو أفق، إلّا الدوران على الذات، وفقدان الأمل بالخروج من المأزق.

مما لا خلاف عليه أن الجدل العقيم أخذ بأيدي المجتمعات إلى وادي التّيه الذي ينعدم فيه التأمّل والتدبّر في مآلاته وفوائده، وحجم ما يحقّقه من منافع، وسيستمر التّيه ما دامت الغيبوبة ضاربة بأطنابها في الإصرار على الاستمرار بعدم التواصل، والعناد المتخشب لسجر نار الصراع «عندما تنمحي النماذج المثالية، حينئذٍ لا تسمع أبدًا لهجة الروح في تناغم اللحن. فالأفكار الموضوعة حين لا يعود لها جذور في الغلاف الشفافي الأساسي تصمت هي بدورها، إذ لم تعد لديها ما تعبر عنه، ثم لأنها لم تعد تستطيع أن تعبر عن شيء، والمجتمع الذي يصل إلى هذه الدرجة يتفتّت لأنه لم تعد لديه دوافع مشتركة»[19].

ومن ثم تتعاظم أهمية التشديد على طبيعة الفكر الذي يولّد الأدوات، ويعزّز القيم في القضاء على الدوران في هذه الدائرة الخبيثة.

إن أصل كل إصلاح لهذه الظاهرة المتفشية هو معالجة جذرها المتمثّل في الإصرار على النظرة الفردية، ونبذ المشاطرة في تفهّم القضايا المشتركة، والمحاولة الجادة للانفتاح المعرفي، إن الداء الذي يُغذّي ظاهرة الجدل هو الإصرار على الفهم الناقص أو المشوّه.

وتتجلى هذه الظاهرة واضحة فيما أشار إليه العارف الكبير مولانا جلال الدين الرومي البلخي في معرض تعليقه على قصة «الفيل في الغرفة المظلمة»، وتتلخّص في أن جماعة من أهل الهند جاؤوا بفيل لقرية لم ترَ هذا الحيوان من قبل، ووضعوه في غرفة مظلمة، وكان يدخل الناس للتعرّف إلى هذا الشيء في الظلام الدامس فكانت النتيجة أن اختلف الناس في طبيعة هذا الشيء باعتبار أن كل واحد تعرّف إلى جزء منه، ولم يتعرّف إليه كاملًا، وذلك للفشل في المشاركة الجماعية على مشاطرة المعلومات، والإصرار على الوصف بالرغم من انعدام الرؤية.

فيعلق جلال الدين الرومي على ذلك بحكمة عميقة، ورؤية نورانية قائلًا:

«عندما لامس أحدهم خرطومه قال يبدو لي أنه أسطوانة.

وعندما لامس الآخر أذنه قال كما يبدو أنها مروحة يدوية.

اختلفوا منطلقًا من الانطباعات المسبقة، فأحدهم نعته بالدال والآخر بالألف.

لو كان بيد كل واحد شمعة زال الخلاف بينهم.

(وهنا يقصد مولانا بالشمعة رفعة الذوق وبراءة الوجدان والبصيرة الثاقبة)

إن عين الحس كباطن الكف حس عاجز عن الإحاطة الكاملة.

(يقصد مولانا أن الحس الظاهري كباطن الكف مهما بلغ عاجز عن بلوغ المعرفة التامة والإحاطة الكاملة. وبالتالي المقصود الإجمالي أن الفهم الظاهري السطحي هو كباطن الكف لا يدرك إلَّا ظاهر الأمور وعاجز عن بلوغ جوهرها وحقيقتها»[20].

إن تفعيل الأدوات التي تحرّر العقل العربي من هذا الواقع، منوط بقدرتنا على إضاءة الشمعة في وجداننا لإنارة الرؤية والبصيرة في إدراك الحقائق بيننا، ومن أهم هذه الأدوات:

1- تفعيل أدوات التواصل الاجتماعي الفعّال للخروج من هذه النكسة، فكما لها وجه لتأجيج الخلاف والنزاع، فوجهها الآخر هو أن نكرّس مجهودنا الفكري وعزمنا على الخير في تبادل الحقائق ومحاولة التقريب لأفهامنا، وإشاعة المجاميع الحوارية في وسائل التواصل الاجتماعي التي ترفع من مستوى العقلانية والتعايش لقطع الطريق على ثقافة النزاع، واتّخاذ هذه المجاميع قنوات للتبادل الثقافي والمعرفي، ومحاولة سد الثغرات المعلوماتية والعلمية بين المتحاورين.

2- تفعيل المنهج العقلي الفكري الموضوعي الذي تمّت الإشارة إلى جوانب منه في معالجة القضايا الساخنة. إن سرعة الحركة وطي المسافة بين الراهن والمأمول مرهون بتكاثر الشموع المنيرة في وجداننا وعقولنا، والسعي لإنارة أعظم بقعة مظلمة من فكرنا وإدراكاتنا، والعزم على الحركة رهن العزم على أن نحيا حياة الوعي والحكمة، لا أن نُصبح أمة أبدانها متجاورة ونفوسها متنافرة.

 

 

 

 



[1] انظر: حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين.

[2] موقع ويكيبيديا.

[3] لسان العرب لابن منظور، 11/105.

[4] مجمل اللغة لابن فارس، 1/179.

[5] المفردات في غريب القرآن، ص189.

[6] التعريفات، ص74.

[7] المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، بيروت: دار الكتب اللبناني، ط1، 1971م، ج1، ص391.

[8] زاهر عواض الألمعي، مناهج الجدل في القرآن الكريم، مطابع الفرزدق التجارية، ص20.

[9] محمد التومي، الجدل في القرآن الكريم، ص8.

[10] الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، كتاب الجيم، ص97.

[11] زاهر عواض الألمعي، مناهج الجدل في القرآن الكريم، ص20.

[12] ويكيبيديا.

[13] المصدر نفسه.

[14] انظر: محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن قواعده، أساليبه، معطياته، الجزائر: دار المنصوري للنشر، ج1، ص15.

[15] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، بيروت: دار الفكر المعاصر.

[16]حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين

[17] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي.

[18] انظر: حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين.

[19] انظر: مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي.

[20] انظر: كريم زماني، المثنوي المعنوي.