الترجمة والمعنى..
تواصل وتجديد الثقافة بين زكي الميلاد وفرناند دومون
-مقاربة ورؤية فلسفية-
شاشو محمد*
* باحث بجامعة عبد الحميد بن باديس مستغانم، الجزائر.
تمهيد
ربما كنت محظوظًا في أني أجريت حوارًا فكريًّا معرفيًّا[1]مع الأستاذ زكي الميلاد[2]، أيام نزوله ضيفًا ومشاركًا في الملتقى الفلسفي الدولي الثاني الموسوم بـ: «حوارات في الدين واللغة»، بمداخلة حملت عنوان: «حفريات معرفية في معنى الآخر»، والذي جرت فعالياته بجامعة عبدالحميد بن باديس الواقعة بمدينة مستغانم غرب الجزائر، ما مكنني من التعرّف عن قرب على المشروع الفكري للميلاد، والذي راح يعرفه انطلاقًا من مؤلفاته قائلًا: «إن السمة الغالبة عليها هي سمة التجديد، وإن كلمة تجديد والتجديد هي من أكثر الكلمات التي وردت وتكرّرت في هذه العناوين... وإذا كانت هناك من دلالة على ذلك، فهي تدل على المنحى الفكري التجديدي الذي أنتسب إليه من جهة، واشتغل عليه من جهة أخرى»[3].
بهذا الوصف نجد الميلاد يصف مشروعه الفكري، وإن تعدّدت محاور التجديد بين قضايا ومسائل عدة، لكنها تشترك جميعها في الهمّ المعرفي المحرك لها.
تطرّق الميلاد في الكثير من مؤلفاته إلى إشكالية الثقافة وتجديدها كراهن معرفي يجب دراسته على اعتبار أنها خصوصية واختلاف إنساني، تسهم حركيتها وانفتاحها في تطور الشعوب وتقدمها، ما يعني ضرورة تغيير الخطاب الذي ساد قرونًا والذي كان سببًا في تقوقعنا وتقهقرنا، نحو خطاب إنساني يأخذ بعين الاعتبار مسألة الآخر والتعدّد الثقافي والحوار الحضاري وغيرها من المفاهيم التي تحتاج إلى عناية وترسيخ داخل الحقل المعرفي العربي الإسلامي.
هذا التحدي المعرفي عالجه أيضًا المفكر الكندي فرناند دومون[4] بحكم خصوصية الفضاء العمومي الكندي والكيبيكي على وجه الخصوص، الذي هو أشبه بالفسيفساء من حيث التعدّد الثقافي المشكّل لنسيجه الاجتماعي، والذي يجعل من الثقافة محورًا ومنطلقًا لكل تطور إنساني وازدهار حضاري.
في المقابل نجد أن الاهتمام بالترجمة كموضوع وحركة ثقافية-سوسيولوجية مؤثرة في تواصل الشعوب والحضارات تقدّمها أو تأخّرها في تزايد مستمر، من خلال عملية استجلاء المعاني والدلالات والعلامات والرموز أو الحجم عنها، فتاريخ الحضارات قريبها وبعيدها شاهد على الدور المحوري الذي لعبته الترجمة في تواصل الثقافات وتجديدها في استعدائها ونبذها لبعضها البعض.
فالترجمة ليست تقريبًا فقط بل هي أيضًا استبعاد واستعباد وإقصاء، وهي بهذا اتصال وانفصال، اتصال الذات مع الآخر وانفصال عنه. إن الترجمة بهذا تكون أمام رهان التوليد من التمايز، «ذلك الرهان القائم بين ثقافات العالم، تلك النزاعات والصراعات والتآلفات والتدافعات، والتداخل والرفض، وذلك التدافع والتجاذب بين كل ثقافات العالم، هو باختصار امتزاج ولكنه ذو محصلة لها مدى أبعد وغير قابل للتوقع»[5].
إن الغاية هنا في كيفية التعامل مع الترجمة كثِقاف[6] بكسر الثاء، يفتح الآفاق لنحت المفاهيم والتصورات وتبادلها، وكعلاقة تفرضها الروح الإنسانية الشغوفة دوما بالمعرفة والتعارف، والفتح والانفتاح على الغير وعلى الوافد من الثقافات، كنشاط تاريخي لا ينضب في العمل على تقارب الحضارات وتعارفها، وكرؤية واعية تنتقي ما يلائم خصوصيتها، أهدافها وآمالها.
لقد نظّر «الميلاد» كما «دومون» طيلة عقود من الزمن حول الثقافة وإمكانات تقارب الثقافات وتواصلها، بوسائل وطرق تتمظهر أحيانًا وتختفي في أحيان كثيرة، لعل أهمها الترجمة. ومنه سننطلق من طرح السؤال التالي: بأي معنى من المعاني يمكن أن نتحدث عن الترجمة؟ وكيف نظّر كل من الميلاد ودومون للتجديد والتواصل ومدى تأثير الترجمة في ذلك؟
-1-
الترجمة بأي معنى؟
بدايةً دعنا نستشعر أهمية الترجمة مع أنطوان مقدسي حين يقول: «كان لنا في غابر الزمان أجداد شأنهم شأن النسر لا يرضى أن يعيش إلَّا على القمم، هؤلاء دشّنوا رحلتهم إلى الحضارة بالترجمة، بدؤوها بكتاب العبارة لأرسطو وأنهوها كترجمة بكتاب السماع الطبيعي أيضًا لأرسطو، ولم يخطر ببال أحدهم إذ ذاك طرح مشكلة المصطلح. كان العربي إذ ذاك ينشئ ثقافة من مستوى الإنسان، ويبني حضارة تطور التاريخ الإنساني... أولئك كانوا في موقع النسر... فأين هو اليوم موقعنا»[7].
من هنا نجد أن الترجمة كانت ولا زالت تلعب دورًا بارزًا في التقريب والتواصل بين الثقافات، بل وفي إحيائها وتجديدها من جديد كلما دعت الضرورة، وكلما بدأ يأكل الصدأ أعضاءها الحيوية، «لذلك نجد الترجمة ناشطة في كل الثقافات المندفعة في إحياء لغتها وتوسيع آفاق فكرها ومدى وجودها، فالآخر المختلف هو ذاك المجهول والغامض والمخيف، والترجمة هي بداية تفكيك لسحره ووهجه بأن تجعله مقروءًا ومفهومًا ومفسرًا»[8].
إن الترجمة هنا في علاقة عضوية لا انفصام بينها وبين الثقافة، تتجاوز معرفة وظيفة المعرفة نحو وظائف الفكر اللغوي والأسطوري والديني أي في كل الأشكال التعبيرية للثقافة، فهي بهذا تقرب الوافد من الثقافات الأخرى وتعرفه لنستطيع استعماله واستغلاله وفق السياقات حتى يصبح له وظيفته في الثقافة الوافد إليها.
فلا يمكن تجاوز الاختلاف الموجود بين الثقافات إلَّا من خلال الترجمة، والتي يراها الميلاد في مفهوم التعارف انطلاق من الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[9]، فهذا المفهوم في نظر الميلاد «يعبّر عن رؤية إسلامية نستوحيها من القرآن الكريم»[10].
والميلاد بهذا يقرّبنا من مفهوم الترجمة على اعتبار أنها الوسيلة والطريقة التي تمكّننا من التواصل مع الآخر المختلف، والتعرّف على ثقافته ومكوناته الفكرية والروحية، كما يرى أن هذا المفهوم «يشترك في نسق معرفي متقارب أو متجاور مع مفهوم التواصل الذي عرف به المفكر الألماني البارز يورغن هابرماس، والذي حوّله إلى فلسفة أطلق عليها التفاعلية التواصلية... والفارق الرئيسي بين المفهومين أن مفهوم التواصل عند هابرماس يرتبط بحقل المعرفة أو هكذا حاول ربطه، فتحدّدت علاقته بالعقل. أما مفهوم التعارف فيرتبط بحقل الاجتماع، فتحدّدت علاقته بالمجتمع والجماعة والناس»[11]، أي التواصل بين الثقافات والأمم والحضارات.
-2-
الثقافة والترجمة
إذا ما عدنا إلى مفهوم التعارف الذي يعطيه لنا الميلاد، فإننا نجد أن التعارف يشمل كل مكونات الثقافة من فن وأساطير وأديان وعادات وتقاليد، أي كل الأشكال التعبيرية لثقافة الوافد، وحجته في ذلك أن كلمة «الناس» في آية التعارف تطلق على الناس كافة، ولا تقبل التجزئة[12].
ما يعني أن للترجمة هنا دور التعرّف على كل الوظائف الخاصة بتلك الثقافة الوافدة، فكما «أن الفكر اللغوي الحديث يبحث في البنية الداخلية والوظيفية للغة، كذلك يجب البحث عن البنية الداخلية والوظيفية للدين والفن والمعرفة العلمية»[13]، أي في كل مكونات الثقافة عبر تجاربها العديدة والمختلفة تاريخيًّا، «فالآخر ليس جوهرًا ثابتًا، ولا يمثّل حالة كلية، ساكنة وجامدة، وإنما هو محكوم بصيرورة زمنية وتاريخية، يتغيّر فيها حال الآخر وطبيعته من زمن إلى آخر، ومن طور تاريخي إلى طور آخر»[14].
إننا بهذا أمام معرفة الرمز والعلامة كما يشير إليه أرنست كاسيرر فيلسوف الثقافة، فالإنسان عبر ارتحاله مع الزمان أنشأ واخترع رموزًا من خلال تفاعله مع مختلف تصوراته للواقع والعالم والإنسان، وهي تعبير عن تطور أشكال الوعي لديه.
-3-
الثقافة والرمز
بالعودة إلى الاشتقاق اللغوي للرمز فإنه مشتق من الكلمة اليونانية «symbolon»، والتي هي «مشتقة من الفعل «symballein» الذي يعني «وصل، جمع، قرن»، ذلك أن الانسان اليوناني إذا ما ابتعد وسافر وهاجر، يقوم بقطع سهم أو شيء ما إلى جزأين، يحتفظ بجزء ويعطي الجزء الثاني لصديقه أو أحد أفراد عائلته، وعند العودة واللقاء يتم جمع أطراف ذلك الشيء كعلامة للقاء»[15]، فهو بهذا يشير إلى الربط والوحدة، ما يعني أنه مرتبط بخصوصية تلك الثقافة من تلك.
أما من حيث الدلالة فللرمز دلالات عديدة تعدّدت بتعدّد الخبرات والتجارب الإنسانية نفسها، فنجده يأخذ «المعنى التماثلي، فالميزان على سبيل المثال، الذي يزين قصر العدالة عبارة عن رمز العدالة، وهنالك المعنى السيميائي الذي يظهر في استعمالنا للرمز في مجال المنطق والرياضيات، كما أن هناك مستوى آخر للرمز هو المستوى البلاغي والمجازي الذي يؤدي أو يستدعي إلى التأويل»[16].
وفي الدلالات الثلاث السابقة حضور للترجمة، على اعتبار أن الرمز تعريف لطاقات فكرية في علامات ورموز حسية واقعية، «فطبيعة علمية الرمز تتمثل في خلق علم يعلو على الإشارة الحسية ويغلفها به... شأنه في ذلك شأن التصورات، بل إنه يخلقه ويكوّنه ويبنيه وينظّمه»[17].
إن الرمز بهذا انعكاس دلالات فكرية في علامات حسية داخل واقع ونطاق تجربة إنسانية معينة، وهذا ما تفطن إليه كاسيرر حين راح يدعو في مشروعه الهادف إلى إقامة نحو أو منطق للثقافة يعمل على دراسة بنية الرمز وتطوّره تاريخيًّا وفق منظور يأخذ البعد الإنساني المشكل له، فالرمز في نظره مر بثلاثة «مراحل أساسية: مرحلة المحاكاة البسيطة «mimétique» وهي مجرد إعادة انتاج شيء من الأشياء، ومرحلة المماثلة «analogique»، وهي تصور شيء من الأشياء من خلال خواصه، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الرمزية «symbolique» الخالصة. وتتماثل هذه المراحل مع الوظائف اللغوية، فوظيفة التعبير تتوافق مع مرحلة المحاكاة وإدراك الأشياء، ووظيفة التصور مع العلاقة بين الأشياء وهي مرحلة المماثلة، والوظيفة الدلالية مع مرحلة الرمز – العلامة»[18].
ما يعني أن للرمز دلالات تعبر عن خبرة إنسانية، وهو ترجمة لتلك الدلالات الفكرية في قالب محسوس أو مرئي أو مسموع يعبر عن تجربة تلك الثقافات، ويحفظ وجدانها مهما طال الزمان، إنه ذلك المعقد المعاش داخل نسيجها الاجتماعي والذي يعبر عن الإنسان ككينونة تحمل مشاعره وانفعالاته وآماله.
هذا التصور يراه دومون في المسافة التي يعطيها بين الذات والعالم كتواصل ومثاقفة، فالإنسان في نظره يخلق لنفسه رموزًا تعبّر عن كينونته ووجوده وعن تجربته المعيشة، انطلاقًا أولًا من تجربته المحلية ومما يكتسبه من الوافد إليه من الثقافات ثانيًا عبر أقلمتها وتبيِئتها وفق السياقات والدلالات المحلية حتى تندمج وتصبح ذات خصوصية محلية.
والرمز عند كاسيرر يحمل جانبين: جانب إيجابي وآخر سلبي، «الرمز بوصفه منتوجًا والرمز بوصفة عملية، فالرمز المنتوج مجرد أثر فيزيائي يبعث نحو فكرة معينة أو نحو موضوع معين، وتكون وظيفته الإنابة أو الإحالة «substitution» عن الأشياء، أما الرمز العملية فهو إعطاء شكل للتعبير بواسطة الفكر، وهو ما يسمى بعملية الترميز «symbolisation»، والوظيفة الأساسية للرمز العملية هو البناء، بناء المعطيات الحسية»[19].
وهذا ما يشير إليه دومون في كتابه الموسوم بـ: مكان الإنسان، الثقافة بوصفها مسافة وذاكرة، إذ يرى في أن الأنسان دائم البناء والتركيب، بناء الرموز وتركيبها انطلاقًا من وضعياته وتجاربه وتحدياته واحتكاكه بالواقع والوافد إليه، فالإنسان ينتج الرموز إما في قوالب حسية أو قوالب لغوية تعبر عن رؤيته لذاته وسلوكه وللوجود والعالم.
يقول دومون: «عندما أتناول الكلمة فإنني لا أحصر ذاتي داخل اللغة السابقة التي توفر لخطابي عناصر النطق، آخذ أيضًا لحسابي نوعًا من المسافة بين معنى أول لعالم مشتَّت في الأفعال الخاصة بسياقي الجماعي، وعالم ثانٍ حيث يسعى مجتمعي التاريخي لاكتساب دلالة منسجمة مع ذاتها كأفق مطلوب. هذه المسافة والقطبان اللذان يدلان عليها هي ما ينبغي إدراكه من مفهوم الثقافة»[20].
بهذا المعنى فإن الرمز مرتبط بالثقافة، على اعتبار أنه إنتاج للواقع وللتجربة الإنسانية المعاشة ما يجعل منه نشاطًا إنسانيًّا على الدوام، كما أنه واسطة تعبير ومعنى حول العالم والوجود والإنسان، إنّه تمثيل للأشكال الثقافية المختلفة من لغة ودين وأسطورة وفن ومعرفة علمية.
-4-
التفاعل الثقافي بين الميلاد ودومون
ينتقد الميلاد عدم استثمار الباحثين العرب والمسلمين في مخزونهم الدلالي والمعرفي للثقافة الموجود في الإرث الدلالي للغة العربية لتوليد مفهوم أصيل عنها، والذي يراه لا يختلف عن الدلالات الموجودة تاريخيًّا في القاموس اللغوي الغربي، «فالثقافة كلمة عربية كانت معروفة عند العرب في عصر ما قبل ظهور الإسلام وما بعد ظهوره، ومتداولة في اللسان العربي الفصيح. ولسنا بحاجة لأن نبرهن على ذلك، فقد وردت وتكرّرت في الشعر العربي القديم، وهو ديوان العرب، وتطرّقت إليها معظم وأشهر معاجم اللغة العربية القديمة والحديثة، مثل (لسان العرب) لابن منظور، و(معجم مقاييس اللغة) لابن زكريا، و(أساس البلاغة) للزمخشري، وصولًا إلى (المعجم الوسيط) الذي أصدره مجمع اللغة العربية في القاهرة»[21].
ومن المعاني والدلالات التي يستقيها الميلاد من اللغة العربية لكلمة ثقافة نجد: الحذق والمهارة، الفطنة والذكاء، التهذيب وتقويم الاعوجاج، إلَّا أنها تبقى بالنسبة له حبيسة السياقات التي جاءت على إثرها ولم ترتق إلى المفهوم، وأن هذا الأمر لن يتأتَّى إلَّا من خلال التفاعل والالتفاف عليها، وترقية العلوم الاجتماعية والإنسانية، حيث يحثّ ويحضّ الفاعلين في الحقل الاجتماعي والإنساني، على ضرورة العناية بالإرث الخلدوني.
يقول الميلاد: «نحن بحاجة إلى التراث الاجتماعي الذي خلّفه لنا ابن خلدون وغيره، ليكون جزءًا أساسيًّا من السياق التاريخي الذي نتتبع فيه التأمل والتفكير لفكرة الثقافة من جهة، ولاختبار هذه الفكرة من جهة أخرى، حتى نقلب الثقافة على اختلاف دلالاتها ومعانيها، وتعدّد فلسفتها وحكمتها، إلى أن نصل للمعنى المركب الجامع لكل تلك المعاني والدلالات»[22].
فالأمر إذن يتعلّق بالانتقال من الثقافة إلى فلسفة الثقافة حتى نستوعب كل تلك المعاني التي تركها الإرث الفكري واللغوي العربي والإسلامي، «فقد جاءت فلسفة الثقافة لكي تؤكد على ضرورة الحاجة إلى كل التعريفات المطروحة والمتداولة حول الثقافة، وأنه لا فائدة من المفاضلة بين جميع تلك التعريفات، والتي لا ينفي بعضها بعضًا، فكل واحد منها لا يخلو من تخلّق ولمعان. وبالتالي فليس هناك تعريف بمفرده هو الذي ينفرد بتعريف الثقافة، أو يستطيع الإحاطة الكلية والتامة بها، لكن مجموع تلك التعريفات تستطيع أن تعرف الثقافة، وتحيط بهويتها وماهيتها، وبعناصرها ومركباتها، لهذا يجب أن نأخذ بمجموع تلك التعريفات، وهذه هي مهمة فلسفة الثقافة»[23].
على العكس من ذلك وجد دومون أمامه إرثًا استثمر في كلمة الثقافة خاصة بعد تطور العلوم الإنسانية والاجتماعية واستقلاليتها عن الفلسفة، وهذا منذ أن دخلت كلمة ثقافة الحقل الإنساني، ويقصد هنا عصر الأنوار، أي جعلها خاصة بالإنسان وملتصقة به، ومن دون العودة إلى مختلف المفاهيم الخاصة بالثقافة، فإن دومون يرى في الثقافة تلك المسافة بين الذات وذاتها لفهم العالم وإدراكه أي رؤيته، «فالثقافة بالنسبة للإنسان المسافة بين الذات وذاتها، فهي في الوقت نفسه أصل الكلام وموضوعه»[24].
والثقافة عنده ثنائية أو كما تسمى مضاعفة «(le-dédoublement de la cutture)، فالإنسان كما يرى دومون يجد نفسه أمام ثقافة أولى التي يسميها (المعطى) «الذي يكتسبه الفرد في بيئته العائلية والاجتماعية، لأن هذا المعطى هو مجموعة من التقاليد العادات والرموز والنماذج كانت موجودة قبل الفرد وتحصّل عليها كذخائر وسمات ينتمي اليها ويشكل هويته بها، وثقافة ثانية يعتبرها التركيب وطريقة في إضفاء المعنى على المعطى بأقلمته والكشف عنه في السياق»[25].
- 5-
الثقافة كتجديد وتواصل
إن تحليلنا للمفهوم الدوموني يدفعنا إلى القول بأن الثقافة دائمة التجديد والتواصل، سواء من ذاتها أي داخليًّا أو من خلال استقاء عناصر ثقافية أخرى وافدة، ولو تأمّلنا في تاريخنا الإسلامي نجد أن التخلّف بدأ مع الانقطاع وعدم التواصل مع الفكر الإنساني والثقافة العالمة، فالإسلام كثقافة وفكر هو معطى إلهي كان دائم التركيب والتفاعل مع ما هو إنساني من خلال الفاعلين فيه، الذين كانوا يخضعونه لسياقاتهم وتجاربهم المعرفية والتاريخية، أو كما يُسمّى الاجتهاد.
وهو المنطلق الميلادي نفسه الذي يرى أن «التجديد الثقافي نعني به ما يقابل الجمود الثقافي في المفاهيم المتجدّدة، تلك المفاهيم التي تزوّد العقل بحيوية وصحوة في فهم الواقع ومتغيّراته، والزمن وتحوّلاته، التي يترتب عليها كيفية تنزيل الأفكار والمفاهيم على الواقع؛ لأن الحركة في الأفكار تتحقّق في معايشة هذه الأفكار مع الواقع ومن غير هذه المعايشة تصاب الأفكار بالجمود»[26].
فالتجديد لا يكون إلَّا من خلال حركية ثقافية دؤوبة، وتواصل مستمر مع الآخر وفق خطاب مفتوح يأخذ ما يأخذ ويستبقي منه ما يستبقي، ما يعني أن «الجمود الثقافي نمطية عقلية في التفكير والمنهج، والتجديد الثقافي نمطية أخرى تختلف في التفكير والمنهج»[27].
ويمكن للثقافات أيضًا أن تتجدّد من الثقافات التي تسبح معها وداخلها، ولا تتمظهر للعيان بحكم أنها المهيمن، وهذا ما نجده في الثقافات غير الإسلامية التي لبست الثقافة الإسلامية ورسّختها داخل مجتمعاتها، فهذه الثقافات نجدها موغلة في التاريخ تسبق الإسلام زمانيًّا ومكانيًّا انخرطت بحكم الفتوحات في الثقافة الإسلامية، لكنها بقيت محافظة على الكثير من عناصرها الثقافية السابقة، والتي كانت ولا زالت ذخرًا تتجدّد من خلاله الثقافة كلما استدعت الضرورة وتغيّرت السياقات والرهانات.
ما يعني أن تلك الثقافات بقيت في تواصل مع ذاتها لأجل ذاتها، وهي دائمة الاشتغال داخل سياقاتها الثقافية العديدة والمختلفة، لكنها تختار رؤيتها للعالم وفق ما يناسب آفاقها وسياقاتها، وهذا ما يشير إليه دومون حين يقول: «لا يمكن للأشخاص إدراك كل القيم الضمنية في النماذج والمعايير التي تعمل فيهم، فلا يمكن لوعيهم المفكر أن يساوي الثقافة الأولى، فكأنهم يختارون ويحبذون في هذه الثقافة بعض المعايير والقيم لجعلها مثال الرؤية الصريحة للعالم»[28].
بهذا فالتواصل والتجديد خاصية وسلوك أصيل في الإنسان، ما يعني أنها ثقافة إنسانية تعمل على وضعه في أحسن الوضعيات والرؤى انطلاقًا من التجارب والسياقات والوضعيات التاريخية التي تواجهه، «فالبحث في مفهوم الإنسان يراعي مبدأ الذاتية ويمنح مكانًا للآخر كفاعل في هذا الوجود، لم يقتصر فقط على الجانب الفلسفي بل طال مجالات العلم والثقافة، القانون، السياسة، والفن... وغيرها من المحطات التي شهدت انزياح مفهوم الذات والوعي والآخر من مجرّد أسئلة أنطولوجية تحمل أبعادًا ميتافيزيقية وأحيانًا أخلاقية، إلى المجال العملي، فالنقاشات خاضعة هي كذلك لمحددات زمكانية، تتموضع في سياقات اجتماعية من حيث إن المشاركين في التواصل ليسوا أرواحًا خالصة، وإنما هم كذلك مدفوعين بدوافع أخرى، غير كزنهم ساعين لبلوغ الحقيقة المشتركة، بل هم مقيدين ببعض ضوابط العالم المعيش»[29].
-6-
خاتمة
إن الغاية هنا توضيح الرؤيتين الميلادية والدومونية، لتحريك الراكد فينا، الذي كان ولا زال يسمّم كل من يغترف منه أو يستحم به، نحو خطاب يفتح الآفاق ويحمل همَّ الآمال المقهورة والملجومة.
لقد عمل الميلاد ولا زال كما فعل دومون في وضع ميكانيزمات فكرية تراعي خصوصية الإنسان أينما كان، فالتجديد لا يكون إلَّا من خلال الانفتاح على الآخر كشريك توحدهم الميزة الإنسانية، ما يعني ضرورة التحرّك من دون تأخير ومن دون حسابات ضيّقة، وأحكام مسبقة تحقر أو تلغي الآخر، خاصة في ظل التغيّرات التي يشهدها العالم والتي طالما كانت الثقافات المحرك الرئيس لها، نحو منحى آخر يجعل من المساواة والحرية المسؤولة مبدأ له، يجعل من التعايش بين الثقافات في هذا العالم ممكنًا.
[1] تجدون هذا الحوار في مجلة الحوار الثقافي، عدد ربيع وصيف 2014، وهي مجلة فصلية أكاديمية محكمة تهتم بالدراسات العلمية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، تصدر دوريًّا عن مخبر حوار الحضارات، التنوع الثقافي وفلسفة السلم، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر.
[2] كاتب وباحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة، إلى جانب الاهتمام بالدراسات الحضارية، متفرغ للعمل والبحث الفكري، نشر حتى هذه اللحظة ما يزيد على ثلاثين كتابًا، له مقالة أسبوعية في صحيفة اليوم السعودية، ونشر مئات المقالات الفكرية والثقافية، وعشرات الدراسات في أكثر من ثمانين منبرًا ما بين صحيفة ومجلة ودورية، ومنها مجلات علمية محكمة، وشارك في عشرات الندوات والمؤتمرات والملتقيات العربية والإسلامية والدولية، ويتولى رئاسة تحرير مجلة الكلمة الصادرة سنة 1993م، وهي مجلة فصلية فكرية تُعنى بشؤون الفكر الإسلامي وقضايا العصر والتجدّد الحضاري، ومع نهاية سنة 2013م أكملت المجلة العقد الثاني من عمرها الزمني (منقول من الحوار السابق الذكر).
[3] شاشو محمد، حوار فكري مع أعلام الفكر العربي: زكي الميلاد، شابي نور الدين، عبد الله الأحمدي، ضمن مجلة الحوار الثقافي، مخبر حوار الحضارات، التنوّع الثقافي وفلسفة السلم، مستغانم، الجزائر، عدد ربيع وصيف 2014.
[4] فيلسوف الكيبيك كما يلقب، ولد في 24 جوان 1927 بمونتمورانسيب الكيبيك بكندا، له كتابات عديدة في علم الاجتماع وفي اللاهوت والشعر ولكن أهمها في الثقافة، أستاذ سابق وباحث بجامعة لافال بكندا، توفي في 1 ماي سنة 1997م، تاركًا وراءه دراسات مهمة حول الإنسان والثقافة.
[5] محسن بوعزيزي، التعبيرات الاحتجاجية والمجال الاجتماعي، تونس: الدار العربية للكتاب، ط1، 2009، ص33.
[6] يسمي الأستاذ محمد شوقي الزين الثِّقاف في كتابه الموسوم بـ: الثقاف في الأزمنة العجاف، صفحة 73 ذلك القالب، المادي والنظري، الذي به يتقوّم الطبع والرؤية والسلوك، حيث الثقاف المادي هو المخزون التراثي والعقل المدوَّن (بالمقارنة مع المخزون لتبادل الصفقات) والثقاف النظري هو مجموعة من التصورات أو التمثّلات التي تشكّل المنظومة الفكرية للمجتمع .وقد يتّخذ الثقاف أيضًا دلالة (المثال)، ليس بالمعنى المجرّد لأقنوم مفارق يقتضي الإذعان والاحتذاء، ولكن كنموذج يكون بمثابة المعلم الذي يمكن السير وفقه في شكل معيار، ويضعه كمقابل للمقولة الإنجليزية «نموذج» (pattern) أو للمقولة الفرنسية «إيتالون» (étalon)...
[7] صابر جمال، الترجمة وعلاقتها بالفلسفة، اللغة العربية، والفضاء الجامعي، ضمن مجلة: الحوار الثقافي مخبر حوار الحضارات، التنوع الثقافي وفلسفة السلم، مستغانم، الجزائر، عدد خريف وشتاء 2015، ص74.
[8] دايفيدجاسبر، مقدمة في الهيرمينوطيقا، ت: وجيه قانصو، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2007، ص9.
[9] سورة الحجرات، الآية 13.
[10] زكي الميلاد، تعارف الحضارات، فكرة وتطورًا ومصيرًا، دمشق، سوريا: دار الفكر، ط1، 2006، ص19.
[11] زكي الميلاد، تعارف الحضارات، الفكرة والخبرة والتأسيس، مجلة الحوار الثقافي، مخبر حوار الحضارات، التنوع الثقافي وفلسفة السلم، مستغانم، الجزائر، عدد خريف وشتاء 2013، ص 19.
[12] المصدر نفسه، ص20.
[13] cassirer Ernest, essai sur l’homme, éd de minuit, paris, 1975, p35.
[14] زكي الميلاد، حفريات معرفية في معنى الآخر، مداخلة ضمن فعاليات الملتقى الدولي الثاني حول: حوارات في الدين واللغة، قسم الفلسفة، جامعة مستغانم، الجزائر، د.ط، 2013، ص15.
[15] الزواوي بغورة، التقليد والتجديد في الفن والثقافة، وجهة نظر فلسفية، ضمن كتاب سلسلة الأنوار: الرهانات السوسيو-ثقافية للفنون، جامعة وهران، د.ط، 2003، ص52.
[16] المرجع نفسه، الصفحة نفسها .
[17] مجدي الجزيري، الفن والمعرفة الجميلة عند كاسيرر، الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا للطباعة والنشر، د.ط، 2002، ص25.
[18] الزواوي بغورة، التقليد والتجديد في الفن والثقافة وجهة نظر فلسفية، مرجع سابق، ص53.
[19] المرجع نفسه، ص54.
[20] fernanddumont, le lieu de l’homme, la culture comme distance et mémoire, Montréal, Hurtubise-HMH, 1968, p41.
[21] زكي الميلاد، هل توجد لدينا نظرية في الثقافة؟ بيروت، لبنان: مجلة الكلمة، العدد 40، السنة العاشرة، صيف 2003م - 1424هـ.
[22] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[23] زكي الميلاد، المسألة الثقافية.. من بناء نظرية في الثقافة، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2005، ص247.
[24] fernanddumont, le lieu de l’homme, la culture comme distance et mémoire, op.cit, p11.
[25] Ibid ,p51.
[26] زكي الميلاد، التجديد الثقافي في مناهج التغيير الإسلامي المعاصر، بيروت، لبنان: مجلة الكلمة، العدد3، السنة الأولى 1994م/ 1414هـ.
[27] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[28] fernanddumont, le lieu de l’homme, la culture comme distance et mémoire, op.cit, p124.
[29] العربي ميلود، المقاربة التأويلية للنظرية التواصلية، الغيرية عبر ممر التواصل، ضمن فعاليات الملتقى الدولي الثاني حول: حوارات في الدين واللغة، مرجع سابق، ص174.