شعار الموقع

العرب والمسألة الدينية .. تحديات راهنة وآفاق معاصرة

محمد محفوظ 2019-06-05
عدد القراءات « 712 »

العرب والمسألة الدينية..

تحديات راهنة وآفاق معاصرة

محمد محفوظ

في معنى المعرفة الدينية

من الطبيعي القول: إن تجربة الأفكار الواقعية، هي المدخل الفعّال لمعرفة جوهر هذه الأفكار، ومستوى الحيوية والفعالية الذي تمتلكه، ومدى قدرتها على المساهمة في معالجة أهم المشاكل التي تواجه الإنسان والمجتمع. وعلى هدى هذه الأفكار والقضايا نحن ندرس التجارب الفكرية والثقافية الإنسانية. بمعنى أن المطلوب ليس إسقاط أفكارنا على هذه التجربة أو تلك، وإنما العمل على استنطاقها، ومعرفة ميكانيزمات حركتها الداخلية، وطبيعة الظروف والأحوال التي تشكّلت التجربة فيها. ولا يمكن فهم تجارب العلماء والفقهاء وإصلاحاتهم العلمية أو الثقافية أو الاجتماعية، إلَّا بالتسلّح بالعدة النظرية التالية:

1. إن الدين بقيمه ومعارفه المتنوعة، ليس صندوقًا مغلقًا، وإنما هو فضاء مفتوح، بحيث يتحمّل الناس بكل فئاتهم ومستوياتهم مشروع حمل وفهم وتطبيق قيم الدين.

والمعارف الدينية لا يمكن أن تتطوّر بدون تطوّر واقع الناس والمجتمع.

لذلك فإن الجهود الفكرية والسياسية والاقتصادية والإبداعية، التي تستهدف ترقية المجتمع، وتطوّر وقائعه المختلفة، لها الدور الأساس في تطوير وعي الناس بقيمهم الدينية والثقافية. بمعنى أن هناك علاقة سببية بين تطوّر واقع الناس والمجتمع، وتطوّر رؤيتهم ومعارفهم الدينية.

2. عديدة هي المقاربات التي تستهدف فهم الدين وقيمه وشعائره وشعاراته. ولكن السائد في مجتمعاتنا هو المقاربة الفقهية، التي لا تتعدّى فهم الفتوى الشرعية على الموضوع الخارجي المتعلّق دائمًا بحركة الفرد في المجتمع.

وفي تقديرنا أن سيادة المسار الواحد في فهم قيم الدين ومعارفه، لا يؤدّي بنا إلى اكتشاف كنوز الدين الإسلامي وثرائه المعرفي. لهذا فإننا بحاجة إلى الانفتاح والتواصل مع كل المسارات والمقاربات الفقهية والفلسفية والعرفانية والمقاصدية والشاملة، التي تستهدف فهم الدين وتظهير معارفه الأساسية.

3. إن قيم الدين ومعارفه الأساسية هي منظومة متفاعلة مع قضايا الواقع والعصر. وأية محاولة لبناء الحواجز والعوازل بين قيم الدين وحركة الواقع ستنعكس سلبًا على فهمنا وإدراكنا لمعارف الدين وقيمه الأساسية؛ لهذا فإننا نعتقد أن عملية التفاعل والتواصل بين قيم الدين والواقع، بكل حمولاته وأطواره وتحولاته، يؤدّي إلى تطوّر وإنضاج الرؤى والمعارف الدينية، لهذا نجد باستمرار تحوّلات على مستوى الأحكام الشرعية والمعارف الدينية بتغيّر الزمان والمكان.

لهذا فإننا نستهدف باستمرار خلق التفاعل بين المعرفة الدينية وحركة الواقع، وإدراك مقتضيات الزمان والمكان؛ لأنها من المداخل الأساسية لفهم قيم الدين ورصد عملية التطوّر في المعارف الدينية، انطلاقًا من تحوّلات الزمان والمكان.

ومن يبحث عن تطوّر المعارف الدينية، بعيدًا عن حركة الواقع والتفاعل مع مقتضياته، فإنه لن يجني إلَّا الضحالة المعرفية والبعد الجوهري عن معارف الدين ومقاصده الأساسية.

ومن خلال التفاعل والتواصل مع حركة الواقع والعصر، نتمكّن من إضفاء قيمة دينية على الأعمال والأنشطة والمبادرات الخاصة والعامة، التي تستهدف رقي وتقدّم الأفراد والجماعات.

فالقيم الدينية ليست خاصة بعبادة الأفراد، وإنما تتَّسع للكثير من الأنشطة والمبادرات السياسية والثقافية والإبداعية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم في تطوّر المجتمعات، ونقلها من مستوى إلى مستوى آخر أكثر تقدُّمًا وعدالة وحرية.

لهذا ثمة ضرورة باستمرار إلى تظهير القيم الدينية، التي تستوعب أنشطة الإنسان الجديدة. فلا فصل بين قيم الدين وحركة الإنسان والمجتمع. وكلما عملنا من أجل تظهير قيم الدين ومعارفه، القادرة على استيعاب وتسويغ أنشطة الإنسان الجديدة والهادفة إلى الرقي والتقدم، ساهمنا في تطوير وعي الناس بقيم الدين، وفتحنا الباب واسعًا تجاه تطوّر معارف الدين الأساسية.

4. تظهير العلاقة العميقة بين عملية التجديد الديني والإصلاح الثقافي ومشروع الإصلاح السياسي. فلا يمكن أن يتحقّق مشروع الإصلاح السياسي في أية بيئة اجتماعية، بدون إطلاق عملية التجديد الديني والإصلاح الثقافي.

لأن هناك الكثير من العقبات الموجودة في الفضاء والبيئة الثقافية والاجتماعية، لا يمكن تجاوزها بدون الانخراط في مشروع التجديد الديني والإصلاح الثقافي. فتجدّد المعرفة الدينية في أي مجتمع هو رهن بحضور المجتمع وتفاعله مع واقعه.

فالمعرفة الدينية لا تتجدّد وهي حبيسة الجدران، وإنما تتجدّد حينما تستجيب إلى حاجات المجتمع، وتتفاعل مع همومه وشؤونه المختلفة. وتتجلى هذه العناصر في تجارب كل الشخصيات الفكرية والعلمية التي عملت عبر إسهاماتها العلمية والثقافية لبلورة مشروع إصلاحي للأمة. إذ إنها تتحرّك من مرجعية الدين الإسلامي للحياة والإنسان في كل مراحله وأطواره الحضارية. ومهمتنا العلمية استنباط الرؤى والبصائر الدينية التي تعكس هذه المرجعية وتعزّزها في الواقع الخارجي. فالمعارف الدينية لا تتجدّد بمعزل عن تفاعل الانسان فردًا وجماعةً مع واقعه الحياتي. فحينما يتفاعل الانسان مع واقعه سيبحث عن أجوبة دينية لأسئلته المباشرة. وهذه الأسئلة المباشرة ستقود المعنيين بالمسألة الدينية إلى استنطاق القواعد الشرعية، لمعرفة الإجابة عن هذه الأسئلة. وعبر هذه العملية تتراكم المعرفة الدينية، وتزداد لصوقًا بالواقع، وهذا هو حجر الزاوية في التجديد الدائم للمعارف الدينية.

السجن الأيديولوجي

على المستويين المنهجي والمعرفي ثمة محاولات عديدة تستهدف خلق مساوقة بين مفهوم الدين المنزَّل من السماء والأيديولوجيا، وهي تفسير بشري خاضع لظروف زمانه ومكانه لمبادئ الدين وقيمه الأساسية.

فقيم الدين واسعة، وشاملة، وقادرة ذاتيًّا على استيعاب مستجدات الحياة، بما توفره نزعة الاجتهاد من علم عميق بالمكونات الأساسية للدين، وقدرة عقلية على استنباط أحكام وتصوّرات جديدة على موضوعات جديدة، انطلاقًا من كليات الدين وثوابته العليا.

كما أن قيم الدين الأساسية بطبيعتها عابرة لكل زمان ومكان وخالدة بخلود الإنسان، بينما تفسيرات البشر لهذه القيم محدّدة بحدود زمان ومكان، وغير قادرة هذه التفسيرات على تجاوز مقتضيات الزمان والمكان؛ لذلك يصح القول: إن في كل زمان ومكان يمكن أن نُعطي تفسيرًا محدّدًا لتلك القيم، بحيث يكون هذا التفسير متعلقًا أو متأثرًا بطبيعة ظروف ذلك الزمان والمكان.

ولعل الإشكالية الحقيقية التي تُثيرها النزعات الأيديولوجية على هذا الصعيد، هي أنها -أي الأيديولوجيا- تتعامل مع تفسيرات البشر أو تعمل عبر التعبئة الأيديولوجية، إلى التعامل مع عناصر الأيديولوجيا وتفسيرات البشر لمفاهيم الدين وقيمه الأساسية وكأنها هي الدين ذاته.

من هنا لو تأمَّلنا في طبيعة المجتمعات والجماعات الأيديولوجية، لرأينا أن هذه الجماعات تتعامل مع قناعاتها وأفكارها، بوصفها هي الإسلام ذاته، وإن رفض هذه القناعات أو معارضتها، يعدّ وفق المنظور الأيديولوجي وكأنه رفض أو معارضة لقيم الدين ذاتها. كما أنه في هذه الجماعات تتفشى نزعة الجزمية والثبوتية في التعامل مع قناعات الذات وأفكارها الأساسية، وتعمل هذه الجماعات على تعميم نزعة الجزمية لدى الأتباع في التعامل مع قناعات الجماعات الأيديولوجية.

ولا شك في أن نزعة الجزمية تلغي إمكانية الانفتاح الفعلي والتواصل الحقيقي مع قناعات واجتهادات الغير. فبعض هذه الجماعات الأيديولوجية، تدَّعي الانفتاح والتواصل، ولكن على المستوى الفعلي هم لا يتعاملون أو لا يلتزمون بحقيقة التواصل ومقتضيات الانفتاح. فهم كأنهم فقط يُزيِّنون قناعاتهم الأيديولوجية بجلباب الانفتاح والتواصل. فالجزمية في التعاطي مع قناعات الذات تُفضي إلى الانطواء العملي والانكفاء المعرفي الذي يحول دون الاستفادة الفعلية من المنجزات والمكاسب العلمية والمعرفية الإنسانية.

لهذا فإن هذه الجماعات الأيديولوجية المغلقة تعيش حالة الرهاب من حقائق التنوّع والتعدّد بكل مستوياته؛ لأنها لا ترى إلَّا ذاتها وتلغي من الناحية الفعلية كل ما عداها. فهي تحارب التنوّع والتعدّد، وتتمسّك بأهداب التفسير الأحادي لقيم الدين، ولا تتواصل معرفيًّا مع الاجتهادات العلمية الأخرى، والتي تنطلق من الأرضية المعرفية ذاتها إلَّا أنها تختلف معها سواء في مضمون الفهم والتفسير أو في نظام الأولويات أو ما أشبه ذلك من دوائر الاختلاف.

فأزمة الجماعات الأيديولوجية - الدينية اليوم هي في التعامل مع قناعاتها النظرية والتحليلية بوصفها هي المعادل الذاتي والموضوعي للدين، وأن الخروج على هذه القناعات كأنه خروج من الحق إلى الباطل، وأنها تتعامل مع مبادئ وقيم الدين بنزعة حزبية ضيقة وكأن الدين جاء فقط بمقاس هذه الجماعة، وكل إنسان يريد الهدى والاستقامة فعليه أن يمر بصراط هذه الجماعة الأيديولوجية أو تلك، ويلتزم بمقولاتها وقناعاتها الأساسية. ولعل الكثير من المشاكل التي تعانيها مجتمعاتنا اليوم، وبالذات فيما يتعلّق بسؤال التعدّد الديني والمذهبي، هي تعود في جوهرها إلى هذه النزعة الأيديولوجية التي تعمل على حبس قيم الدين في فهمها وتفسيرها وحدها للدين.

ويبدو أنه لا خروج فعليًّا من هذه المشاكل إلَّا بفك الارتباط بين النزعة الأيديولوجية والدين؛ لأن الدين بمنظومته التشريعية وقيمه الأخلاقية ومبادئه الإنسانية، أوسع من كل النواحي من الأفهام الأيديولوجية مهما كانت هذه الأفهام.

وإن التفسيرات التعصبية للأفهام الأيديولوجية هو الذي يساهم في تحويل الدين من طاقة إيجابية للتهذيب والوحدة بين الناس، إلى مصدر للشقاء والقتل والفرقة بين الناس. فقيم الدين كالمسجد تجمع ولا تفرّق، وتحتضن الجميع مهما كان وضعها الاجتماعي أو فهمها ومستواها المعرفي. بينما النزعات الأيديولوجية تطرد المختلف، ولا يسع عقلها وقلبها للاختلاف والتعدّد، وتعمل عبر آليات قسرية إلى إخضاع الناس إلى قناعاتها وأفكارها. وإذا أبدى الناس رفضهم لهذه القناعات اتهموا في دينهم، وتمَّ التعامل معهم بوصفهم من أهل الزيغ والضلال.

فقيم الدين تتعالى على انقسامات البشر، وتعمل عبر آلياتها التربوية والأخلاقية والقانونية لمعالجة هذه الانقسامات. بينما النزعات الأيديولوجية تساهم في إنتاج الخلاف والنزاع بين البشر، وتنمية الفوارق بين البشر.

ولو تأمّلنا في طبيعة الوظائف والأدوار التي تقوم بها اليوم بعض الجماعات الأيديولوجية، لرأينا أن هذه الجماعات تخضع لتفسيرات بشرية، ضيقة لقيم الدين، دون أن تمتلك الجرأة على عرض هذه التفسيرات على النص القرآني وثوابته الأساسية. حينما تنادي بعض الجماعات الأيديولوجية الدوغمائية أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء بالذبح، يتم التعامل مع هذه المقولة وكأنها من النصوص المتعالية على الزمان والمكان. بينما لو عرضنا هذه المقولة على آيات الذكر الحكيم وسيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي كلها رحمة، لوجدنا أن هذه المقولة تساهم في تشويه سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وفق النص القرآني، وليس وفق مدونات المؤرخين التاريخية.

فحينما يقبع الإنسان في السجن الأيديولوجي، يتعامل ببلادة تامَّة مع الإنسان وجودًا ورأيًا وحقوقًا، وأن هذا الإنسان ما دام ليس على نهجي أو فهمي أو مذهبي، فهو لا يستحق مني التعاطف أو التضامن أو التعاضد.

أسوق هذا الكلام لأنني اطلعت على بعض التغريدات الأيديولوجية بعد حادثة الدالوة في منطقة الأحساء مفادها أنني ذهبت إلى التعزية بهؤلاء الضحايا انطلاقًا والتزامًا بما قام به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مع اليهود. حينما نساوي بين اليهودي والمسلم المختلف، هل هذه المساواة منضبطة بمعايير التفاضل والتقويم وفق الرؤية القرآنية؟. أم أن هذه المساواة والبوح بها هو نتاج تربية أيديولوجية، طائفية، منغلقة، ومعادية لحق الاختلاف؟.

قيم الدين لا تؤسّس لبلادة في المشاعر الإنسانية، بل هي تُساهم في إثراء المشاعر الإنسانية؛ لأن كل ما هو ديني هو بالضرورة إنساني، وأن الملتزم بقيم الدين تثرى مشاعره وتفيض إنسانية.

أما من ينطلق من النزعات الأيديولوجية المغلقة، فهو يقمع مشاعره الإنسانية ويحجز البعد الإنساني في شخصيته بجدار سميك من التبريرات الأيديولوجية.

لهذا كله فإن الخطوة الأولى في مشروع إصلاح أوضاعنا، هو الانعتاق من ربقة النزعات الأيديولوجية الدوغمائية، والانفتاح على كل الاجتهادات والمقولات الدينية التي تثري الواقع الإنساني في أبعاده المختلفة.

الدين وأنماط التدين

على المستوى المجتمعي ثمة خلط جوهري بين الدين بوصفه مجموعة من القيم والمبادئ المتعالية على الأزمنة والأمكنة، وبين أنماط التدين، وهي مجموع الجهود التي يبذلها الإنسان فردًا وجماعةً لتجسيد قيم الدين العليا. فكل محاولة إنسانية لتجسيد قيم الدين أو الالتزام العملي بها تتحوَّل هذه المحاولة الإنسانية إلى نمط من أنماط التدين، قد يقترب هذا النمط من معايير الدين العليا وقد يبتعد. قد تكون أنماط التديّن منسجمة ومقتضيات قيم الدين أو قد تكون متباعدة أو مفارقة. ولكون حظوظ الناس في الالتزام متفاوتة كذلك هي أنماط التدين متفاوتة من فرد إلى آخر ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى. وبالتالي فإن أنماط التديّن ليست خارج سياق التطوّر الإنساني. فطبيعة الظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعيشها البيئات الاجتماعية، ستنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على أنماط تدينها وأشكال التزامها بقيم ومبادئ دينها.

لذلك نستطيع القول: إن الإنسان (الفرد والجماعة)، وظروف هذا الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وأنماط علائقه العامة ونوعية الثقافة ومنظومة القيم التي يحملها، هي من الناحية الواقعية التي تصنع أنماط تديُّن والتزام هذا الإنسان. فإذا كان الدين يُساهم في صنع الإنسان، فإن الإنسان هو الذي يصنع نمط تديُّنه والتزامه الديني. لذلك نجد في الساحات الإسلامية والاجتماعية المتنوعة أنماط تديّن متنوعة ومتعدّدة، وكلها تشكّل حركة الدين في المجتمع. ولا يمكن أن نفصل بين قيم الدين وتاريخ المسلمين الذي هو نتاج جهد المسلمين الفردي والجماعي في تنفيذ قيم الدين والالتزام بهدي الإسلام وتشريعاته المختلفة. ولعل هذا ما يفسر لنا وجود أفهام متعدّدة ونماذج تاريخية متنوّعة في إطار الإسلام الواحد.

وكل محاولة سلطوية أو دعوية - دينية لقسر الناس على فهم واحد أو معنى واحد للممارسة الاجتماعية، هي محاولة فاشلة ودونها خرط القتاد؛ لأنه خلاف طبائع الأمور، كما أن هذه المحاولات تساهم في إفقار المجتمعات الإسلامية على المستويين التاريخي والمعرفي.

فالإنسان ليس كائنًا سلبيًّا فيما يرتبط وعلاقته بقيمه الكبرى وتشريعات دينه. فهو كائن إيجابي ويتفاعل مع تشريعات دينه، وطبيعة موقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي تحدّد شكل وطبيعة النمط الديني الذي يؤسّسه الإنسان لبيئته أو لواقعه. لأن أنماط التديُّن هي انعكاس مباشر لطبيعة الإنسان وطبيعة ظروفه وبيئته الاجتماعية. فإذا كان الدين متعاليًا على ظروف الزمان والمكان، وليس خاضعًا لمقتضيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ فإن أنماط التديُّن على العكس من ذلك تمامًا. إذ هي نتاج الظروف والبيئة، ولا يمكن أن تتشكل أنماط التديًّن بعيدًا عن جهد الإنسان ومستوى وعيه وإدراكه لعناصر واقعه وراهنه.

وثمة دائمًا مفارقة بين الدين وأنماط التدين. وهذه المفارقة تصل في بعض الأحيان أن تكون بعض حقائق وأنماط التدين هي مناقضة في جوهرها لمقتضيات الدين. وحينما تبرز المفارقة بين الدين والتديُّن ثمة حاجة إنسانية ودينية ملحة للانخراط في مشروع الإصلاح الديني، والذي هو في بعض جوانبه محاولة لردم الهوة وتجسير الفجوة بين الدين وأنماط التديُّن التي تعيشها المجتمعات الإسلامية. فالدين في كل مراحله هو طاقة توحيدية في الواقع الإنساني، ولكن بعض أنماط التديُّن السائدة هي طاقة انشقاقية - تجزيئية لواقع العرب والمسلمين.

ولعل هذه المفارقة هي التي توضّح طبيعة تجربة الإصلاح وفعاليته في المجتمعات الدينية. بمعنى أن المجتمع الإنساني في المرحلة الأولى لتجسيد قيم الدين وتفاعله الإنساني مع مبادئه، تكون حركة المجتمع في خط مستقيم مع الدين وتوجيهاته، ولكن بعد فترة من الزمن قد تقصر وقد تطول، تبدأ المفارقة بالبروز بين جهد الإنسان - المجتمع، وبين توجيهات الإسلام ومعاييره الأخلاقية والمعنوية. وتبدأ هذه المفارقة بالاتساع، مما يُفضي إلى نتيجة عملية وواقعية وهي أن توجيهات الدين في وادٍ، وحركة المجتمع في أغلبه في وادٍ آخر، مما يؤسّس لمناخ اجتماعي وثقافي يفرض ضرورة الإصلاح وتجسير الفجوة والمفارقة التي تشكّلت في التجربة العملية.

لذلك نجد أن كل التجارب الإصلاحية تستهدف بالدرجة الأولى خلق الانسجام والتناغم بين التاريخ والرسالة، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتديُّن. وإن جوهر الجهد الذي يبذله الإصلاحيون هو خلق التماثل بين القيم والواقع.

وإن جوهر المشكلة تتجسّد في وجود مفارقة وابتعاد بين الدين وبين التديُّن، والإصلاح الديني يستهدف تجسير العلاقة وخلق التناغم بين حقائق الدين ومعطيات التديُّن. ولعل هذا هو أحد أهم القوانين الجوهرية التي تتحكّم في سياق أي حركة إصلاحية في الاجتماع الإسلامي المعاصر.

ولو تأمَّلنا اليوم في طبيعة المشاكل الكبرى التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، لوجدنا أن من أبرز هذه المشاكل، هو شيوع أنماط من التديُّن، تتبنّى خيار العنف والإرهاب، وتعمل عبر هذه الوسيلة لإنهاء المفارقة بين الدين والتديُّن. ولكن المحصلة العملية لذلك هو المزيد من الإخفاق والمآزق والتأزيم. فالعنف لا يُجسِّر الفجوة، وإنما يعمّقها، والإرهاب هو سبيل تعميق المفارقة وليس إنهاءها.

ولعل هذا من أهم المآزق التي تعانيها الساحة العربية والإسلامية اليوم. فثمة جماعات وحركات عنيفة وإرهابية تحمل لواء الدين وترفع شعاراته، إلَّا أن المحصلة العملية لجهدها وأفعالها الإرهابية والعنفية، هو المزيد من تشويه الإسلام وتعميق المفارقة والفصام النكد بين الدين وأنماط التديُّن السائدة في الاجتماع الإسلامي المعاصر.

ويبدو أنه لا تجديد في العقل الإسلامي ولا إصلاح في الواقع الإسلامي، إلَّا بنقد وتفكيك أنماط التديُّن التي تُنتج باستمرار ظواهر العنف والتكفير والإرهاب في الواقع المعاصر.

لأن هذه الظواهر ليست رافعة للواقع الإسلامي، وإنما هي ومتوالياتها وتأثيراتها المتعدّدة تزيد من الأزمات والمآزق، وتُفضي إلى تدمير النسيج الاجتماعي للمسلمين، وتجعل جميع البلدان العربية والإسلامية مكشوفة أمام الإرادات الإقليمية والدولية التي تستهدف أمن واستقرار المسلمين في كل بلدانهم وأوطانهم.

وإن إحباطات الراهن الإسلامي ينبغي أَلَّا تقود إلى تبني بناء مجموعات وتشكيلات أيديولوجية تتبنَّى خيار العنف والإرهاب سبيلًا لإنجاز رفعة وعزة المسلمين جميعًا؛ لأن هذا الخيار يعزّز من الاحباطات، ويُساهم في تدمير ما تبقى من وحدة وتفاهم وألفة بين المسلمين بمختلف مذاهبهم ومدارسهم.

فالوعي الديني الصحيح والذي يرفض خيار العنف والإرهاب مهما كانت الظروف والصعاب، هو الذي يؤسّس لوقائع وحقائق إسلامية جديدة، تحرّر الواقع الإسلامي من ربقة الأفهام العنفية التي تقدّم الإسلام بوصفه دينًا للقتل والتفجير والإرهاب.

ولعل من الأهمية في هذا السياق القول: إن نقد أنماط التديُّن ليس نقدًا للدين، وإن الوقوف ضد بعض أشكال التديُّن ليس وقوفًا في مقابل الدين. وإن حرصنا على الدين ينبغي ألَّا يقودنا إلى رفض عمليات النقد التي تتَّجه إلى أنماط التديُّن؛ لأننا نعتقد أن المستفيد الأول من عمليات النقد العلمي لبعض أنماط التديُّن هو الدين نفسه، لأن بعض أشكال التديُّن تشكّل عبئًا حقيقيًّا على الدين والمجال الاجتماعي للدين.

وعليه فإن الضرورة المعرفية والاجتماعية تقتضي التفريق الدائم بين الدين وأنماط التديُّن، وإن الكثير من البلاءات التي تواجه الواقع الإسلامي اليوم، هي نابعة من بعض أنماط التديُّن، وإن هذه البلاءات لا يمكن مواجهتها إلَّا بتفكيكها ونقدها من جذورها، حتى نتحرّر من سجنها، ونتفاعل بوعي وحكمة مع قيم الدين الأساسية، التي هي قيم العدالة والمساواة والحرية، بعيدًا عن إكراهات بعض أنماط التديُّن التي لا تقدّم حلولًا، بل تضيف إلى مآزقنا مآزق جديدة.

من العقل السجالي إلى العقل النقدي

ثمة صفات وسمات عديدة تتَّصف بها المجتمعات الإنسانية المتخلّفة والمتأخّرة عن الركب الحضاري، وغير القادرة على النهوض في مختلف جوانب الحياة. وهذه الصفات والسمات ليست متعلّقة بحياة الأفراد فحسب، بل هي متعلّقة بحياة المجتمعات وأنظمة العلاقة الداخلية بين مختلف الشرائح والفئات، وأنماط العيش، وسبل التعامل مع الثروات والإمكانات الطبيعية والاقتصادية المتوفرة.

كما أن هذه الصفات تؤثّر على طبيعة الثقافة السائدة وأولوياتها ومعايير التفاضل على مستوى القيم الاجتماعية والعملية.

وما أود أن أتحدّث عنه في هذا السياق جانبًا واحدًا يتعلّق بالجوانب المعرفية والمنهجية، وهذا الجانب هو طبيعة العقل والعقلية السائدة في المجتمعات المتأخرة والمتخلفة.

وقبل الخوض في هذا الجانب من الضروري في هذا السياق التفريق بين مفهوم العقل، وهو ما وهبه الله سبحانه وتعالى لجميع الناس الأسوياء بالتساوي، والعقلية وهي نتاج الثقافة والبيئة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان فردًا أو جماعةً.

فنحن جميعًا كبشر أسوياء نمتلك العقل ومواده الخام إذا صحَّ التعبير واحدة سواء عشنا في الغرب أو الشرق، في هذه اللحظة الزمنية الراهنة أو في أي لحظة زمنية أخرى، وبين العقلية وهي نتاج طبيعي وضروري لنوعية وطبيعة الثقافة التي يتلقّاها الإنسان وطبيعة الظرف الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه الإنسان. فعقليات البشر مختلفة ومتنوّعة ومتفاوتة باختلاف وتنوّع وتفاوت حصيلة الإنسان الثقافية وطبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الإنسان.

وعلى ضوء هذا نستطيع القول: إن عقلية الإنسان الذي يعيش في مجتمعات متقدّمة ومتطوّرة علميًّا وإنسانيًّا، تختلف في منظومتها وأولوياتها وهمومها واهتماماتها، عن تلك العقلية التي تشكّلت في مجتمعات متخلّفة حضاريًّا ومتأخّرة اقتصاديًّا واجتماعيًّا.

وانطلاقًا من هذا التباين والاختلاف في عقليات البشر، تبعًا لطبيعة حياتهم الحضارية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، يمكن الإشارة إلى طبيعة العقل بمعنى (العقلية) التي تتشكّل لدى الآحاد والمجموعات في المجتمعات المتقدّمة والمتأخرة في آنٍ.

فالعقلية التي تسود في المجتمعات المتأخّرة، هي عقلية سجالية، لا تراكم المعرفة، ولا تتَّجه صوب تظهير وتجلية الحقيقة أو الحقائق، بل تتَّجه إلى الشخصنة والدخول في معترك سجالي يتَّجه صوب الإفحام والإحراج والخروج من لحظة السجال الأعمى بحالة من القبول والرضا عن الذات وأدائها؛ لذلك نجد أن في المجتمعات المتأخرة تكثر السجالات والنقاشات، والتي في أغلبها حول موضوعات خارج نطاق الواقع المعاصر والمعاش.

وهذه السجالات في أغلبها لا تؤسس لمعرفة جديدة، ولا تعمل في صياغة رؤية أو نظرية للخروج من المآزق الراهنة التي تضغط سلبًا على حركة المجتمع بكل فئاته وشرائحه. ولعل من أهم سمات العقلية السجالية هي أنها تتَّجه في سجالاتها صوب الأشخاص والذوات وليس حول القناعات والأفكار؛ لذلك حينما أرفض فكرة تبعًا لذلك أرفض صاحبها وفي بعض الأحيان أمارس الإساءة إليه.

لذلك يبقى المجتمع يعيش السجالات تلو السجالات، دون أفق عملي واجتماعي لهذه السجالات، سوى المزيد من الاحتقان والتأزيم الاجتماعي.

كما أن من سمات هذه العقلية السجالية هي أنها لا تبحث عن الحقيقة وتوسيع المساحات المشتركة بين البشر، بل كل إنسان أو طرف راضٍ دون فحص عملي دقيق وموضوعي بما عنده، ويرى أن وظيفة كل السجالات هو إثبات أن ما لدى الذات هو كل الحق والحقيقة، وما لدى الآخر هو كل ما يخالف الحق والحقيقة. فجدل وصراخ واستماتة في الدفاع عن قناعات الذات وأفكارها، دون أن يكلّف الإنسان نفسه فحص ما لدى الإنسان وفق معايير علمية وموضوعية.

لذلك فإن هذه السجالات لا تؤسّس لمعرفة موضوعية سواء عن الذات أو عن الآخر، وكل ما تعمله هذه السجالات هو المزيد من الشحن النفسي والاحتقان الاجتماعي.

فالسجال لا يبحث عن حلول ومعالجات لأزمات العلاقة بين المختلفين، وإنما يزيد من الإحن والأحقاد، ويوفر المزيد من المبرّرات والمسوّغات لاستمرار القطيعة والاحتراب المادي والمعنوي بين المختلفين. فالإنسان المنخرط في حروب السجال لا ينظر إلى ما قيل، وإنما ينظر إلى من قال. ولكون هذا القائل من الضفة الأخرى فكل ما يقوله ويتفوّه به، ليس مادة للتأمّل والنقاش العلمي الهادئ، بل كل ما يقوله الآخر هو محل الرفض والازدراء بكل صنوف الازدراء.

فالعقلية السجالية تحوّل المختلف إلى خصم فكري واجتماعي؛ لذلك فإن العقليات السجالية هي المسؤولة إلى حدٍّ بعيد عن خلق البغضاء والعداوة بين أبناء المجتمع والوطن الواحد. ولعل من أخطر سمات العقلية السجالية أنها عقلية لا تستهدف خلق التفاهم بين المختلفين، بل تغطية الممارسات العدوانية على المختلف والمغاير؛ لأن هذه العقلية تنتهك الحرمة المعنوية والمادية للمختلف، كمقدمة لنبذه واستئصاله وشن الحرب المعنوية والمادية عليه. لذلك فإن الاختلافات الطبيعية تتحوّل بالعقلية السجالية إلى اختلافات جوهرية؛ لكونها عقلية تعتمد في عملية التقويم على رأيين لا ثالث لهما، فهو إما معي فهو يستحق التبجيل حتى لو لم تكن ثمّة مبرّرات حقيقية للتبجيل، أو ليس معي فهو وفق النسق السجالي ضدي ولا يستحق مني إلَّا النبذ والتشويه وإطلاق التّهم بحقّه جزافًا وكذبًا وبهتانًا.

ونحن نرى أن استمرار العقلية السجالية هي السائدة في المجتمعات، يعني المزيد من الحروب العبثية والمزيد من التآكل الداخلي لمجتمعاتنا؛ لأننا نريد جميع الناس على رأينا وقناعاتنا أو نحاربهم ونعاديهم بكل السبل والوسائل.

ولا سبيل للخروج من الكثير من المشكلات التي تعانيها مجتمعاتنا على صعيد علاقاتها الداخلية بين جميع مكوناتها إلَّا التحرّر من ربقة العقلية السجالية، وتأسيس العقلية النقدية القادرة على خلق بيئة معرفية واجتماعية محفّزة على الوئام والتضامن الاجتماعي مهما كانت موضوعات الاختلاف.

فالعقلية النقدية المطلوبة هي التي تُخرج ذواتنا وأشخاصنا من كل جولات الحوار والنقاش. فالحوار لا يتم بين ذوات، وإنما بين أفكار وقناعات، ولا شك في أن هذه الآلية تساهم في إزالة البعد النفسي الذي يحول دون القبول بالحق أو الحقيقة.

كما أن الحوار وفق النسق الثقافي النقدي لا يستهدف الإفحام وتسجيل النقاط على الطرف الآخر، وإنما تجلية الحقائق وتعريف الذات بعلمية وموضوعية تامة. فالآخر المختلف ليس فضاءً للنبذ وإطلاق التُّهم جزافًا بحقّه، بل هو مساحة للفهم والتفاهم، للحوار والتعارف، بعيدًا عن القناعات المسبقة والمواقف الجاهزة.

كما أن الحوار وفق النسق الثقافي النقدي مهمته الأساسية هو تعزيز الجوامع المشتركة وسبل تفعيلها في الواقع الاجتماعي، ومعرفة الآخر معرفة حقيقية ووفق نظامه العقلي والثقافي الداخلي. فالنسق النقدي يعمل على خلق أصدقاء ومنظومات اجتماعية متداخلة بعضها مع بعض بعيدًا عن الرؤى النمطية، التي تستسهل الخصومة والعداوة مع المختلف والمغاير.

وجماع القول في هذا السياق: أن المجتمع الذي تسود فيه العقلية السجالية، سيعيش في كل لحظاته أسير صراعاته الحقيقية والوهمية، دون إرادة حقيقية للمعالجة والبحث عن حلول ممكنة.

والمطلوب ليس الخضوع إلى متواليات العقلية السجالية، وإنما معالجة الأمر، وتفكيك كل الحوامل المعرفية والاجتماعية التي تعزّز عقلية السجال في البيئة الاجتماعية، والعمل في آن واحد على بناء أسس ومرتكزات العقلية النقدية لكونها العقلية القادرة على مراكمة المعرفة، وضبط الصراعات الاجتماعية والأيديولوجية بعيدًا عن الاحتراب والعنف.

كما أنها عقلية تستهدف معرفة الحقيقة بدون افتئات على أحد، فالعقلية السجالية صانعة أزمات ومشاكل باستمرار حتى بمبررات واهية أو ناقصة أو غير حقيقية، والعقلية النقدية تبحث عن استقرار اجتماعي على قاعدة معرفة عميقة ومتبادلة بين المختلفين.

العقلية السجالية من أولوياتها إسقاط حرمة المختلف، بينما العقلية الأخرى تعمل على صيانة وحماية حرمة المختلف. العقلية السجالية تبحث عن التباينات التي تبرّر لصاحبها البقاء على موقفه العدائي من الآخر، بينما النسق النقدي يبحث عن تدوير الزوايا وعن الحلول الممكنة لمشكلات واقعه وراهنه؛ لذلك لا خروج من مسلسل الأزمات والمشاكل العبثية والصغيرة، إلَّا بتفكيك حواضن العقلية السجالية لأنها المسؤولة عن الكثير من الأزمات والمشكلات على المستوى الاجتماعي - الداخلي.

العرب والمسألة الدينية

على المستوى الأيديولوجي والمعرفي في العالم العربي، ثمَّة نقاش حقيقي وجِدِّي حول موقع الدين في الحياة العامة. وما يُثير هذا النقاش ويُعطيه طابع الجدية والحيوية هو وجود مجموعات بشرية في الحياة العامة العربية والإسلامية، تحمل شعار ومشروع الإسلام، وترتّب مواقفها من الآخرين على ضوء بعدها أو قربها من الالتزام بالإسلام. والمقصود بالالتزام هنا تبنِّي المشروع السياسي والحركي لهذه الجماعات. ومن الأهمية في هذا السياق أن نفرّق بين الإسلام كدين وتشريعات سماوية، وهو كدين يدين به كل العرب إما اعتقادًا أو ثقافةً. بمعنى أن الإنسان العربي المسلم لا يمكن إخراجه من ربقة الإسلام، حتى لو لم يكن مؤمنًا بالمشروع السياسي للإسلاميين. كما أن المسيحيين العرب هم على المستوى الثقافي والحضاري مسلمون. لذلك نتمكن من القول: إن كل العرب من المسلمين على النحويين المذكورين أعلاه، وفي المقابل أو من ضمن هؤلاء ثمة وجودات متمايزة على مستوى القول والفعل تتبنَّى رؤية خاصة بالإسلام وتبني مشروعًا سياسيًّا على ضوء مرجعية الإسلام.

فليس كل المسلمين من جماعات الإسلام السياسي، ولا يمكن أن تقوم جماعات الإسلام السياسي بسلب الإسلام من كل العرب والمسلمين.

وعلى كل حال من الضروري القول: إن المسألة الدينية بكل عناوينها وهواجسها، أضحت اليوم من المسائل الهامة والحيوية، التي تحتاج إلى نقاشات عميقة ومستفيضة للوصول إلى توافقات أهلية حولها. وفي هذا الإطار نود التأكيد على النقاط التالية:

1. تُعلِّمنا التجارب السياسية والمعرفية في الفضاء العربي أن الخيارات التي تؤسِّس إلى علاقة عدائية وصدامية ومتوحشة مع المسألة الدينية بكل عناوينها، لن تتمكَّن هذه الخيارات من إنجاز مشروع النهضة والتقدّم. فلا نهضة فعلية في كل البلدان الإسلامية في ظل خيار عدائي للدين وقيمه؛ لأن هذا الخيار يؤسِّس لخلق المناخ والشروط الذاتية للاحتراب الداخلي بين فئات وشرائح المجتمع.

2. إن ترك الجماعات العنفية والتكفيرية تختطف الإسلام وتمارس أعمالها الإرهابية باسم الإسلام وتشريعاته، سيُلقي بظله الثقيل على راهن العرب والمسلمين ومستقبلهم؛ لأن ترك هذه الجماعات تمارس أفعالها الإرهابية والعنفية باسم الإسلام، سيخلق متواليات ثقافية واجتماعية خطيرة تهدّد استقرار مجتمعاتنا وأمنها الذاتي والثقافي والحضاري.

3. إن ثروات الإسلام وكنوزه المعرفية والثقافية والإنسانية، بحاجة باستمرار إلى جهود علمية لتظهيرها وإبرازها، حتى تتمكّن الرؤى والمعالجات الإسلامية من مواكبة العصر والحضارة الحديثة، وتقديم إجابات نوعية على ضوء هدى الإسلام تفيد الإنسان في راهنه ومستقبله.

المسلمون وقوّتهم الناعمة

أصدر جوزف ناي مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق في عام 1994م كتابًا أسماه (القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية).. تحدَّث فيه بتفصيل عن مفهوم القوة ودورها في السياسات الدولية والإقليمية، وقسَّم مفهوم القوة إلى قسمين: القوة الصلبة أو الخشنة، وهي مجموع المؤسسات العسكرية والأمنية المباشرة والقاهرة في آنٍ.

والقوة الناعمة، وهي شبكة العلاقات والإعلام والثقافة وكل عناصر التأثير في الآخرين بدون قوة خشنة مباشرة. ويعتقد جوزف ناي أن ثمة متغيّرات دولية واجتماعية وعلمية كثيرة، تدفع باتِّجاه أن تكون القوة الناعمة هي مصدر القوة الأساس لدى الأمم والشعوب المتقدمة. ويشير في كتابه إلى «أن القوتين الصلبة والناعمة مترابطتان لأنهما معًا من جوانب قدرة المرء على تحقيق أغراضه بالتأثير على سلوك الآخرين. وما يميّز بينهما هو الدرجة في طبيعة السلوك وفي كون الموارد ملموسة، فالقوة الآمرة -أي القدرة على تغيير ما يفعله الآخرون- يمكن أن ترتكز على الإرغام أو على الإغراء، أما قانون التعاون الطوعي -أي القدرة على تشكيل ما يريده الآخرون- فيمكن أن ترتكز على جاذبية ثقافة المرء وقيمه أو مقدرته على التلاعب بجدول أعمال الخيارات السياسية بطريقة تجعل الآخرين يعجزون عن التعبير عن بعض التفضيلات؛ لأنها تبدو بعيدة عن الواقع أكثر من اللازم. وتتدرج أنماط السلوك بين الأمر والتعاون الطوعي على مدى الطيف من الإرغام على الإغراء الاقتصادي، إلى وضع جدول أعمال، إلى الجاذبية المحضة. وتميل موارد القوة الناعمة إلى الترابط مع طرف التعاون الطوعي من طيف السلوك، بينما تترابط موارد القوة الصلبة في العادة مع السلوك الآمر ولكن العلاقة غير كاملة».

ولو تأمَّلنا في التجربة الإسلامية التاريخية، لاكتشفنا بوضوح موقع ما يسمَّى اليوم بالقوة الناعمة في انتشار الدين الإسلامي ودخول الناس أفواجًا في دين الله، بدون فرض وقهر، وإنما بفعل الجاذبية الأخلاقية والسلوكية. وثمة نصوص قرآنية عديدة، تؤكد هذا المعنى، وتحثّ عليه، بوصفه الوسيلة الفعّالة لنقل الآخرين من موقع الخصومة والعداء إلى موقع الصديق والمؤمن والمنتمي إلى ذات المنظومة العقدية والأخلاقية.. قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[1]، وقال عز من قائل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[2]، وقال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[3] وغيرها الكثير من الآيات القرآنية الشريفة، التي تؤكد على العدل والصفح والحب، وتنبذ كل أشكال القوة الخشنة التي تمارس بحق الآخرين مهما كانت درجة الاختلاف والتباين.

فأخلاق المسلمين مع بعضهم ومع خصومهم، هي من عناصر القوة الأساسية في التجربة الإسلامية التاريخية. فالالتزام بمقتضيات الأخلاق الفاضلة في التعامل مع الآخرين، هو أحد عناصر القوة الأساسية، وليس عنصر ضعف، يمكن أن يُعاب عليه الإنسان. الإنسان يعاب عليه حينما يتحوَّل إلى وحش كاسر، يقتل ويفجّر ويحرّض عليهما؛ لأن هذه الممارسات ليست لها صلة جوهرية بقيم الإسلام الخالدة، حتى لو تجلبب قائلها بالإسلام. إن قوة المسلمين الهائلة هو حينما يلتزمون بالقوة الناعمة للإسلام، وعناصر القوة الناعمة في الإسلام هي تشريعات خالدة ومطلوبة من الإنسان المسلم في كل الأحوال والظروف. والدفاع عن الإسلام في ثوابته ومقدساته لا يمكن أن يتمّ بممارسة السلوك النقيض لقيم الإسلام، بل بالالتزام بالإسلام قولًا وفعلًا. فقتل الخصوم والمختلفين ليس من الإسلام في شيء، وتفجير دور العبادة ليس من الإسلام في شيء، وبثّ الكراهية والبغضاء بين الناس، ليس من أخلاق الإسلام في شيء. فتعالوا جميعًا نعيد حساباتنا على هذا الصعيد. فحق الإنسان الأصيل أن يدافع عن مقدساته وثوابته، ولكن بالوسيلة المشروعة، التي لا تأباها شريعة الإسلام وأخلاقه.

أما أن يتحوّل الإنسان المسلم باسم الدفاع عن المقدسات والثوابت، إلى قاتل ويستسهل سفك الدم الحرام، فهذا مما يناقض عدل الإسلام ورحمته. واليوم حيث تعاني العديد من البلدان العربية والإسلامية من عمليات القتل والتفجير وبثّ الأحقاد والضغائن بين الناس، تتأكّد الحاجة للعودة إلى أخلاق الإسلام ورحمته. فلا دفاع عن الإسلام إلَّا بعدل الإسلام، ولا صيانة لمقدسات الإسلام إلَّا بالالتزام التامّ بهدي الإسلام وتشريعاته الخالدة. فالقوة الناعمة هي التي وسّعت دائرة المنتمين إلى الإسلام تاريخيًّا؛ فالملايين من المسلمين دخلوا الإسلام وتعرّفوا عليه من خلال قيم الرحمة والرأفة والأخلاق الفاضلة وحسن الجوار وحرمة الدم والعرض والمال والبر بالآخرين. فلا نطرد الناس من الإسلام اليوم بممارسة القتل وسفك الدم وتجاوز كل الحرمات. فما نشاهده على شاشات التلفاز وفي وسائل التواصل الاجتماعي من صور مرعبة ووحشية باسم الإسلام، هي من أعظم الصور التي تشوّه الإسلام في اللحظة الراهنة، وتخيف العالم من المسلمين.

فحريّ بنا جميعًا اليوم، أن نعود إلى رشدنا، ونقف بوجه كل صور سفك الدم والتعدّي على الحقوق والممتلكات والأعراض؛ لأن الإسلام جاء لصيانة هذه الحقوق والأعراض، ولمنع سفك الدم بغير وجه حق. وما يجري اليوم في أكثر من بلد عربي وإسلامي هي جرائم موصوفة، حتى لو مُورست باسم الإسلام. ولا يجوز لنا جميعًا القبول بهذه الممارسات الخطيرة بدعوى أن المقتولين والمذبوحين يستحقون ذلك؛ فلا قتل في الشريعة إلَّا بحكم قضائي عادل، وما نشاهده بعيد كل البعد عن المحاكمات العادلة والقضاء العادل. فحكم الله في الأرض لا يقوم إلَّا بالعدل وإشاعة الأمن ومراعاة الحدود مع الآخر قبل الذات.

وإن البطولة الحقيقية ليس إطلاق مارد التوحش والغرائزية لدى الإنسان، وإنما كظم الغيظ والصبر على الأذى والعفو عمَّن ظلمك.

وندعو في هذا السياق جميع علماء الأمة ودعاتها ونخبها الدينية والثقافية والإعلامية، إلى رفع الغطاء عن كل الممارسات الوحشية التي ترتكب باسم الإسلام، ودعوة جميع أبناء الأمة من مختلف مواقعهم المذهبية والجغرافية إلى الالتزام بقيم الحوار والتسامح، ونبذ العنف، والوقوف بحزم ضد كل أشكال العنف والقتل التي بدأت تجتاح مناطق الصراع في العالمين العربي والإسلامي. وثمة ضرورة ينبغي لنا جميعًا أن نعمل من أجلها في الواقع العربي - الإسلامي المعاصر، ألا وهي إشاعة ثقافة التعايش، ونبذ نزعات الإقصاء، وإدارة اختلافاتنا بعيدًا عن لغة السيف والقتل والمغالبة العنفية.

فنحن جميعًا في سفينة واحدة، ومعنيون جميعًا بحمايتها وصيانتها من عبث العابثين وتخريب المخربين.

في إدارة التنوُّع الثقافي

ربما تتّضح في مقبل الأيام، أن جذور ما تعيشه العديد من بلدان العالم العربي من تطرُّف وفوضى وأشكال عديدة من الاحتراب الأهلي بيافطات دينية ومذهبية وقومية وعرقية، تعود إلى لحظة الاستقلال من الهيمنة الأجنبية.

لأن الكثير من الدول العربية بعد لحظة الاستقلال، تشكّلت بنزعة عصبوية ضيقة، احتضنت بعض التعبيرات وأعطتها ما تستحق وما لا تستحق، ومارست النبذ والتهميش والاستئصال بمكونات أخرى، ومنعت عنها حقوقها وما تستحقه انطلاقًا من إنسانيتها وآدميتها ولكونها شريكًا أصيلًا في الوطن والمواطنة.

واستمرت الكثير من دول العالم العربي تعيش وفق هذه المفارقة، بحيث غالبية المواطنين لا يعرفون من الدولة إلَّا أجهزتها الأمنية والإجرائية، وفئة قليلة تحكم باسم حزب تقدُّمي أو مشروع سياسي يستهدف -كما تدَّعي أدبياته- إخراج أبناء المجتمع والوطن من الظلام والظلامية والتخلُّف المقيم في كل أروقة المجتمع.

ومارست في سبيل تحقيق أهدافها كل ألوان الظلم والحيف بحق أبناء شعبها. ولكن ولاعتبارات بنيوية متعلّقة من لحظة تشكيل الدولة الحديثة في العالم العربي، كانت النتائج كارثية وعلى النقيض تمامًا من الشعارات واليافطات المرفوعة.

فشعار الوحدة المرفوع تحوَّل على المستوى العملي إلى استمرار مشروع التشظِّي الاجتماعي العمودي والأفقي، وبقي الجميع محبوسون في دوائر انتمائهم الضيقة التي أقل ما يقال عنها: انتماءات ما دون المواطنة وبناء الدولة الحديثة. وباسم الاشتراكية في بناء الاقتصاد تمَّ التدمير الممنهج والمنظم لكل الصناعات الوطنية التقليدية والحرفية، وأصبحت أسواق هذه البلدان مفتوحة على مصراعيها لكل المنتجات الأجنبية. فأضحت المعادلة التالية: صعوبات جمَّة تحول دون استمرار أصحاب الصنع اليدوية والحرفية من العمل لأسباب متعلّقة بالجدوى وسياسات الحماية، وتسهيلات مالية وجمركية لاستيراد كل شيء، فكانت النتيجة انهيار متسارع للصناعات الوطنية وغزو متعاظم للبضائع والصناعات الأجنبية.

وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي، حيث شعار الحرية، تفاقمت من جراء هذه السياسات القسرية التناقضات الأفقية والعمودية، وأضحت خلافات الناس الجوهرية - التقليدية تدار بيافطات حديثة. فلم تتمكّن هذه الدولة من بناء مشروع وطني، ينقل أبناء الوطن على مستوى علائقهم الداخلية وطريقة نظرتهم بعضهم إلى بعض من الحالة التقليدية الموغلة في التباينات والصراعات ذات البعد التاريخي، إلى حالة حديثة قائمة على العقد الاجتماعي ومنظومة دستورية - قانونية تحدّد الواجبات والحقوق، انطلاقًا من قيمة المواطنة بعيدًا عن دوائر الانتماء التقليدية.

وهكذا نستطيع القول: إن ما يجري اليوم في العديد من دول العالم العربي، هو نتاج طبيعي إلى بنية الدولة العربية الحديثة، وطبيعة الخيارات السياسية السائدة منذ لحظة الاستقلال الوطني إلى الآن. فكانت النتيجة وجود -تحت سقف وطني واحد، مجتمعات متخاصمة بعضها مع بعض، وكل طرف يتحيّن الفرصة للانقضاض على الطرف الآخر، مع غياب شبه تامٍّ لقانون قادر على ضبط هذه النزعات. وحينما خفَّ منسوب الخوف لدى الناس، أو سقطت هيبة الدولة في نفوسهم، كان حاصل ذلك الفوضى والانفلاش الداخلي على أكثر من صعيد.

فأضحى المجتمع الواحد مجتمعات، والانتماء الوطني انتماءات تاريخية وتقليدية متصارعة ومتحاربة، والذاكرة التاريخية الواحدة مجموعة ذاكرات تاريخية كلها ملغومة وتحمل في طياتها قنابل موقوتة بحق الآخر الذي كان قبل أيام شريكًا وطنيًّا.

وتُعلِّمنا هذه التجربة المريرة، والتي نشهد نتائجها الكارثية في العديد من الدول العربية، أنه حينما يغيب الوطن الواحد الجامع والحاضن للجميع، فإن النتيجة المباشرة لذلك هو دخول الجميع في حروب باردة وساخنة ضد الجميع تحت يافطات ومبرّرات لا تنتمي إلى العصر ومكاسب الحضارة الحديثة. وحينما تنهار أسس العيش المشترك، ولو في حدودها الدنيا، فإن النتيجة الفعلية لذلك هي الاستمرار في الانهيار الاجتماعي والأمني بشكل متسارع وبعيدًا عن القدرة على الضبط والإدارة.

وحينما لا تتمكّن الدولة من رعاية شعبها وحمايته، فإن النتيجة المباشرة لذلك، أن أبناء الوطن سيكونون فضاء للثأر والانتقام والخصومات المفتوحة على كل الاحتمالات.

وكل هذا يُوصلنا إلى النتيجة التالية: أن غالبية الدول العربية الحديثة، وبالذات التي حكمت بيافطات ثورية وتقدّمية، فشلت في إدارة تنوُّعها الديني والمذهبي والإثني بشكل صحيح، وإن ما نشهده من حروب وكانتونات مغلقة هو نتاج هذا الفشل والإخفاق، وإن المطلوب الاستفادة من هذه التجربة، لبناء مقاربة جديدة تقطع مع تلك الممارسات التي أفضت إلى تلك النتائج الخاطئة والخطيرة.

وفي سياق تظهير أهم الدروس والعبر لخلق رؤية جديدة لإدارة التنوُّع نذكر النقاط التالية:

1. إن إدارة التنوُّع الثقافي في كل الأوطان والمجتمعات هو أسلم الخيارات وأسهلها، والذي يجنب الأوطان مآزق وأزمات كبرى. فمن يبحث عن استقرار سياسي واجتماعي عميق في ظل مجتمعات متعددة ومتنوعة، لا سبيل لديه إلَّا تطوير نظام الإدارة والاستيعاب لحقائق التنوُّع الموجودة في المجتمع.

2. تطوير درجة الوعي الأخلاقي والالتزام بالمناقبيات الأخلاقية في المجتمع؛ لأنه لا يمكن إدارة التنوُّع إدارة حكيمة في ظل أخلاق متدهورة أو بعيدة عن مسارها الصحيح. لذلك حيثما وجدت أخلاق عملية فاضلة سيحظى الجميع -وهم مختلفون- باحترام متبادل. أما إذا ساءت الأخلاق وتدهور السلوك الأخلاقي العملي فإن جميع الاختلافات ستتحوَّل إلى مصدر إلى التوتر الدائم في المجتمع.

3. ضرورة أن تتعالى المؤسسات الوطنية عن الانقسامات الاجتماعية، بحيث لا تكون طرفًا سلبيًّا تُغذِّي الاختلافات وتحمي بعض أطرافه. والمقصود بالتعالي هنا هو أن تُؤدِّي هذه المؤسسات وظيفتها الوطنية للجميع على قاعدة المواطنة الجامعة، وأَلَّا تكون انتماءات المواطنين لها مدخليته في إعطائهم أكثر مما يستحقون أو منعه مما يستحقون.

فلا يمكن إدارة التنوُّع الثقافي والاجتماعي في ظل مؤسسات وطنية خاضعة لمقتضيات ومتواليات الانقسام الاجتماعي؛ لأن هذه المؤسسات ولكونها طرفًا في هذه الانقسامات فإنها ستُغذِّي التباينات بين المواطنين من موقع القدرة والسلطة. أما إذا مارست هذه المؤسسات تعاليها على انقسامات مجتمعها، فإنها ستحظى باحترام وتقدير الجميع، وستُعبِّر بصدق عن وعي وطني عميق وجامع يحول دون تفاقم الاختلافات والتباينات بين أبناء المجتمع والوطن الواحد.

4. ضرورة العمل على بناء مشروع وطني ثقافي واجتماعي متكامل، بحيث تكون مبادئ وقيم وأولويات هذا المشروع هي التي تُغذِّي جميع أبناء الوطن، بعيدًا عن التصنيفات والانتماءات الفرعية.

ولعلنا لو تأمَّلنا في التجارب التي أخفقت في إدارة تنوُّعها، سنكتشف أن أحد الأسباب المهمة لذلك هو غياب مشروع وطني جامع، يعمل على دمج كل التعبيرات في إطار رؤية تمثّله وتعبّر عن ذاته الفردية والجمعية.

أما إذا غابت هذه الرؤية فإن الشيء الطبيعي لذلك هو تمسُّك كل جماعة فرعية بانتمائها الخاص، مما يُفضي إلى الإخفاق في إدارة التنوُّع الثقافي على نحو إيجابي وحضاري.

وجماع القول: أن الأمن العميق في مجتمعاتنا العربية اليوم يتطلَّب العمل الجاد في بناء رؤية وطنية متكاملة لإدارة التنوُّع بعيدًا عن نزعات الاختزال وعبء التاريخ والراهن.

العرب ومستقبل الإسلام

ذات مرة أطلق الزعيم الماليزي السابق مهاتير محمد موقفًا صريحًا حينما قال: إن العرب لم يعودوا قادرين على حمل رسالة الإسلام في العالم الحديث؛ لأنهم لم يألفوا التعدّدية في فضاءاته. فتوالت الردود حول هذا التصريح والموقف بين رافض لهذه الرؤية ومبرّر لها، وبين متعصّب اعتبر هذه التصريحات تنمُّ عن موقف نابذ للعرب وساع إلى نقل الثقل الإسلامي من المنطقة العربية إلى منطقة شرق آسيا.. وعلى كل حال وبعيدًا عن التباينات في الرؤية والموقف مما أطلقه مهاتير محمد، من الضروري العودة إلى جوهر المسألة، ولعل جوهر المسألة هو هل يمكن للعرب في ظل أوضاعهم الحالية وأحوالهم القائمة أن يمارسوا ذات الأدوار والوظائف التي مارسها العرب في صدر الإسلام؟

وقبل أن نوضّح وجهة نظرنا ورؤيتنا حول هذه المسألة ومبرّراتها الثقافية ومعطياتها الاجتماعية وخلفيتها الحضارية والمعرفية، من الضروري القول: إن الشعوب العربية وعلى طول التاريخ الإسلامي أبلت بلاءً حسنًا في خدمة الإسلام وإيصال معانيه إلى مساحات جغرافية جديدة، إلَّا أن هذا البلاء الحسن ليس من نصيب العرب وحدهم، وإنما هناك قوميات إسلامية ساهمت بهذا الدور وتركت وقائع حضارية وتراث مجيد في خدمة الإسلام وإيصاله إلى شعوب جديدة.

وهذه الحقيقة لا تلغي الموقع المتميز الذي تبوَّأه العرب في التجربة الإسلامية التأسيسية، وأن لغتهم هي لغة القرآن الكريم، وأن بيئتهم هي البيئة الأولى للدين الإسلامي. ولكن هذا الموقع المتميّز للعرب في تجربة الإسلام التاريخية لا يلغي موقع ودور الشعوب والأمم الأخرى على صعيد خدمة الإسلام وإيصال قيمه ومبادئه وتشريعاته إلى مساحات جديدة. فالكثير من الجهود التي بذلها المسلمون من غير العرب كان لها الدور الأساسي في إيصال الإسلام إلى شعوب جديدة، وفي إثراء المعارف الإسلامية عبر سلسلة كبيرة من العلماء والفقهاء والدعاة من غير العرب.

وبعيدًا عن الرؤية النرجسية والنمطية في النظر إلى البعد القومي للمسلمين جميعًا، نستطيع القول: إن جميع الأمم والشعوب الإسلامية تفتخر بإسلامها، وبذلت في حقب زمنية متنوّعة الكثير من الجهود في خدمة الإسلام والمسلمين، وعلى رأس هؤلاء هم العرب من المسلمين. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن العرب من غير المسلمين كان لهم أيضًا الدور المتميّز في خدمة اللغة العربية والحضارة الإسلامية. فالمسيحي العربي هو مسيحي الديانة إلَّا أنه مسلم الثقافة والحضارة؛ لذلك ثمة منجزات إدارية ومعرفية عديدة صنعها المسيحيون العرب في تجربة الإسلام التاريخية.

ولكن كلنا يعلم أن عدم التمسّك بالمنجز التاريخي وعدم الإضافة عليه، قد ينقل دفة الأمور إلى مواقع اجتماعية أخرى، ولكل ظرف تاريخي ومرحلة اجتماعية وسائلها وآليات عملها المناسبة. وعلى ضوء التواصل الكبير بين أمم الأرض أضحت هناك مستلزمات ومتطلّبات جديدة، لكي تتمكّن الأمم من إيصال رسالتها وقيمها إلى الأمم والشعوب الأخرى.

وعلى ضوء هذه الحقيقة تصبح مقولة مهاتير محمد جديرة بالفحص والتأمُّل والتحليل من خلال الأفكار التالية:

1. على ضوء التطوّرات العلمية والتواصلية المختلفة، لا يمكن أن يتسيَّد العالم، إلَّا الأمة التي تعرف التعددية والتنوُّع الثقافي والحضاري وتعترف بلوازمه ومقتضياته. وإن عدم الاعتراف بحقائق التعدّدية ومعطيات التنوُّع، يصحر البيئة الاجتماعية مما يفقد هذه البيئة الكثير من المعاني الرائعة التي يحتاجها العالم اليوم، وهي اللغة المتداولة بين شعوب الأرض.

فالموقف الواقعي والفعلي العربي من مقولة التعددية، هو الذي يحدّد إلى حدٍّ بعيد مدى قدرة العرب المعاصرين على إيصال المعاني السامية لدينهم ورسالتهم السماوية. ويبدو ووفق المعطيات القائمة على هذا الصعيد نتمكن من القول: إن المجتمعات العربية اليوم تعاني من مشكلات حقيقية في استيعاب تعدّدياتها الدينية والمذهبية والقومية، والمجتمع الذي لا يُحسن احترام تنوُّعه ولا يحافظ عليه، فإنه لن يتمكّن من بناء جسور معرفية وحضارية مع الأمم والشعوب الأخرى.

لذلك فإن إعادة الدور الرائد للعرب في التجربة التاريخية الإسلامية، يتطلّب من جميع المجتمعات العربية العمل على بناء واقع سياسي واجتماعي جديد يحترم تنوُّعه الأفقي والعمودي ويذود عن حقوقهما الخاصة والعامة.

فلا مستقبل على المستوى الحضاري إلَّا إلى المجتمعات التي لا تقمع تنوُّعها ولا تحارب حقائق التعددية فيها. وجميع مجتمعاتنا العربية اليوم بحاجة إلى خطوات نوعية في هذا السبيل.

2. إن المجتمعات التي تعاني من رهاب التجديد والإصلاح وتحارب أهل التنوير وبناء الرؤى والمعارف الجديدة، هي مجتمعات غير مؤهلة لريادة قاطرة الإسلام في العصر الراهن؛ لأن ضمور القدرة والطاقة التجديدية والإصلاحية للمسلمين هو الذي يساهم في تراجع مستوى الوعي الحضاري والقدرة العامة على مواكبة العصر ومنجزات الحضارة الحديثة. والمجتمعات العربية على هذا الصعيد أيضًا تعاني من مشكلات وأزمات، حيث إنها مجتمعات لا تحفل بالتجديد ولا تحتضن المجدّدين ولا تحمي المصلحين، بل في الأغلب هي تكون في الموقف المقابل لذلك، حيث إنها تألف الركود والجمود وتسوّغ استمرارهما، وتحارب أصحاب العقول التجديدة والإبداعية القادرة على تحريك الساكن، وتُعلي من شأن سدنة القديم وتعتبره هو المعادل الموضوعي للقيم والمقدسات. لذلك تتلاشى في هذه المجتمعات كل الفعاليات القادرة على إحداث معادلة جديدة في مسار هذه المجتمعات. ولا يمكن لمجتمع يعيش الجمود ويحميه أن يتمكّن من قيادة مشروع الإسلام في العصر الجديد. فالإسلام اليوم يحتاج إلى مجتمعات تعيش الحرية والفعالية والحيوية في مختلف مجالات الحياة.

3. ثمة علاقة عميقة تربط بين الريادة والتمكُّن الحضاري في الأرض والقدرة على إنتاج المعرفة والعلم، بمعنى أن المجتمعات الإنسانية القادرة على قيادة دفَّة العالم هي تلك المجتمعات القادرة على إنتاج العلم والمعرفة، أما المجتمعات التي لا تشارك بفعالية في إنتاج العلم والمعرفة فهي مجتمعات غير قادرة من الناحية الفعلية على التأثير النوعي في مسيرة العالم.

والعرب اليوم إذا أرادوا قيادة دفَّة العالم الإسلامي فعليهم الاهتمام بصناعة العلم وتبيئة المعرفة القادرة على المشاركة والتفاعل مع قضايا واحتياجات العالم، ودون ذلك لن يتمكّن العرب من القيادة والريادة لعالم الإسلام المعاصر.

وخلاصة القول: إن الأمة القادرة اليوم على قيادة دفَّة العالم الإسلامي وصناعة مستقبله، هي الأمة المتطوّرة في إدارة تعدّديتها وتنوُّعها الثقافي والاجتماعي، والقادرة على إنتاج العلم والمعرفة، والمشاركة من موقع القدرة الفعلية في تقديم العلوم والمعارف للعالم، كما أنها الأمة التي لا تُحارب التجديد ولا تقف موقفًا سلبيًّا من محاولات التطوير ومشروعات الإصلاح.

 

 

 



[1] القرآن الكريم، سورة الحشر، الآية 9.

[2] القرآن الكريم، سورة فصلت، الآية 34.

[3] القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية 12.