شعار الموقع

إشكالية المواطنة بين الواقع والتحديات

محمد تهامي دكير 2019-06-05
عدد القراءات « 552 »

إشكالية المواطنة بين الواقع والتحديات

بيروت في 10 كانون الأول – ديسمبر 2015م

محمد تهامي دكير

 

«إن المواطنة هي الوسيلة الأمثل لحفظ الأديان والمذاهب والأحزاب..».

السيد علي فضل الله

 

في إطار التأكيد على منظومة القيم المشتركة بين الأديان، والسعي إلى تهيئة مساحات التعاون المشترك والعمل الجماعي الهادف إلى إعداد البرامج والمبادرات، ومن بينها ضرورة التعريف بالمواطنة الحقيقية المتمثلة بالسلوك الحضاري والاجتماعي، وضرورة الجمع الأخلاقي بين أطياف المجتمع اللبناني.

نظّم ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار في بيروت، مؤتمرًا دوليًّا بعنوان: إشكالية المواطنة بين الواقع والتحديات، وذلك في 10 كانون الأول 2015م.

شارك في المؤتمر حوالي 300 شخصية حزبية وسياسية ودبلوماسية وتربوية وفكرية واجتماعية وممثلون لمؤسسات المجتمع المدني.

تخلَّلت المؤتمر أربع جلسات، تمحورت حول إشكاليات المواطنة بين الدين والعلمانية، المواطنة من الناحية القانونية، المواطنة والمجتمع والتربية، وجلسة ختامية تضمَّنت خلاصات واستنتاجات.

فيما يلي قراءة في عدد من الأوراق المقدمة في هذا المؤتمر..

الجلسة الافتتاحية

انطلقت أعمال المؤتمر بكلمة للعلامة السيد علي فضل الله، أكَّد في بدايتها أهمية المواطنة لكونها ضرورة ملحّة في هذه المرحلة العصيبة التي تعيشها أمّتنا، حيث يتنامى الانقسام بكلّ تلاوينه، والذي بات يهدّد نسيج المجتمع والأوطان، حتى أصبح الحديث عن التقسيم ظاهرًا في العلن بعدما كان قائمًا في السر.

وأضاف: إنّ المواطنة هي الوسيلة الأمثل لحفظ الأديان والمذاهب والأحزاب وكلّ الفئات؛ فهي صمام الأمان من كلّ الفتن الّتي تعصف بواقعنا وتكاد تودي به... فلا يمكن لمن يرى إنسانيّتنه مقهورة وحقوقه مهضومة، أو يرى نفسه من الدّرجة الثّانية، فيما شريكه في الوطن في الدّرجة الأولى يتنعّم بامتيازات، أن يقبل ويرضخ ولا يبالي، بل إنّه سيتوتّر وسينفعل ويثور ويستجدي من يمدّ له يد المساعدة، وغالبًا لا تكون مساعدة الغير له لسواد عيونه، بل تكون توطئة لقدم له، وعندها لن تبقى هناك وحدة إسلاميَّة، ولا وحدة وطنيّة، ولا تلاقي أديان.

إنَّ الغبن اللاحق بأيّ طائفة أو مذهب أو موقع سياسيّ -كما يقول السيد فضل الله- هو مشروع فتنة أو حرب، عاجلًا أم آجلًا، وهو مشروع تهجير من الأوطان. فالذين يهاجرون إلى أوروبا، ولأجل ذلك يتعرّضون هم وعوائلهم وأطفالهم للخطر، إنّما يهاجرون لأنّهم شعروا بأنَّ أوطانهم لم تعد تُلبِّي احتياجاتهم، ولم تعد تشعرهم بإنسانيتهم، فغادورها دون نية العودة إليها. لقد ربط عليّ (عليه السلام)، وفي أكثر من حديث، بين الوطن والإنسانيّة، فاعتبر أنّه لا يمكن أن يُطلب من إنسان أن يحبّ وطنه، وأن يضحّي لأجله، وألَّا يبيعه، ما لم يحفظ له الوطن إنسانيته ولم يشعره بكيانه، إلَّا إذا كان قديسًا أو ملاكًا.. فقال (عليه السلام): «الغنی في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة.. ليس في الغربة عار، إنما العار في الوطن الافتقار»... وقال (عليه السلام): «ليس بلد أحقّ بك من بلد، خير البلاد ما حملك». وقال (عليه السلام): «لا خير في الوطن إلَّا مع الأمن والسرور». لذلك، نحن هنا نؤكّد هذه القيمة لنتدارسها ونزيل كلّ التساؤلات التي تطرح حولها.

وأضاف: لقد كنا ولا نزال نريد للبنان أن يقدّم أنموذجًا يُحتذى في إحساس الإنسان بإنسانيته، ما دام هذا البلد ولد من رحم الأديان والقيم، وسنبقى نصرّ على أن يكون لبنان هو مهبط هذه القيم ومنطلقها إلى العالم، وإلا فلنكفّ عن الحديث عن الأديان، ولنتحدّث عن العشائر الَّتي تسمّى باسم الأديان. من موقع حقوق الإنسان في هذا الوطن إننا نريد للبنان، وكما نريد للمنطقة، بناء دولة الإنسان، ولو كان ذلك من باب الاعتراف بالطوائف والمذاهب. وهذا لا يتم إلَّا إذا جرَّدنا الطوائف والمذاهب من عصبياتها، وأدخلنا إليها روح الدين.. دين القيم والإنسانية والتسامح.

إنّ الطائفية بمعناها الموجود هي عشائرية مقنّعة بقناع الدين وبغطائه، وهي أبعد ما تكون عن الدين والإيمان. إنّ الطائفية تستغلّ الدّين وتستثمره وتشوّهه، بحيث معها يبدو الدين عامل كراهية وحقد وانقسام، وهذا طعن في الدين. وأخيرًا دعا السيد فضل الله إلى اعتبار المواطنة خيارًا للنظام والمواطن معًا.

وبناء دولة المواطنة لمواجهة دولة العصبيات الطائفية، وبناء دولة الشفافية والقانون في مواجهة دولة الفساد، ودولة القانون في مواجهة دولة المحسوبيات، دولة العدالة في مواجهة الاستئثار، دولة التّخطيط في مقابل دولة الارتجال، الدولة الموحدة القويّة في مقابل الدولة المتشظية بتشظي طوائفها والضّعيفة بانقسام شعبها.

تحدَّث في هذه الجلسة كذلك الأستاذ نعمة فرام، الرئيس السابق لجمعية الصناعيين، فرأى انّ كلّ ما يُصيبنا اليوم هو نتيجة خلل بنيوي، مؤكدًا أن في الدخول إلى عالم المواطنة نموًّا طبيعيًّا ترقى له المجتمعات من خلال وعيها وتجاربها، داعيًا إلى وجود عقد وطني يحمي الجميع.

أما المهندس أمين محمد الدّاعوق، رئيس جمعية المقاصد في بيروت، فقد طالب المسؤولين السياسيين أن يكونوا مواطنين صالحين، وأن يوفّروا الأجواء للناس ليكونوا كذلك.

وفي نظره المطلوب هو تربية المواطن على المواطنية، وأن يتساوى المواطن مع أخيه لا على أساس المذهب أو الدين أو المعتقد، بل على أساس المواطنة.

فيما أشار القاضي عباس الحلبي إلى أن الخوف ما كان ليستعر في لبنان لو بقيت الدولة قوية بدستورها ومؤسساتها الدستورية وجيشها، وكانت قادرة على إعطاء الاطمئنان لجميع اللبنانيين، لكن ضعف الدولة بجميع أجهزتها شكَّل فرصة للطوائف للاستقواء عليها فحدثت الفوضى. وأخيرًا أكد القاضي الحلبي أنّ مستقبل هذه المنطقة هو في دولها الموحدة القائمة ليس على أساس ديني بل بالسعي لتحقيق الدولة المدنية التي تقر بالأديان وتحترمها.

من جهته، أشار الدكتور طيب تيزيني إلى أنَّ فكرة المواطنة إنما هي إنتاج بشريّ بامتياز، وأنها نشأت حينما بدأ الكائن التاريخي يفصح عن نفسه.

وأضاف: تصبح المواطنة هنا حالة غير مستحيلة، إنها شأن البشر، كيف تربّوا، كيف عاشوا، ما هي مصالحهم.

انطلقت أعمال المؤتمر بتقديم مجموعة من الأوراق والكلمات في جلسات تخللتها نقاشات ومداخلات، فيما يلي قراءة في عدد من الأوراق المقدمة.

- «المواطنة وإشكالاتها التطبيقية: مع مشروع للخروج من الأزمة المزمنة»، هو عنوان الورقة التي قدمها د. عصام نعمان، في البداية عرَّف الباحث المواطنة بأنها مصطلحٌ حديث مشتقٌّ من المواطن. فهي، إذًا، رابطةُ انتماء المواطن، اجتماعيًّا وسياسيًّا، إلى وطنٍ، ووجود علاقات قانونية وسياسية مع دولة قائمة في وطن. بعد ذلك بدأ بالحديث عن الوطن والمواطنة في التراث، كما تحدث عن لبنان الوطن في التاريخ، وواقع التلازم بين كيانه ونظامه، وسبب غياب مفاهيم الوطن والمواطن والمواطنة في الدستور، وبناء الدولة بما هو شرط لبناء المواطن والمواطنة. وفي ضوء توضيح هذه المسائل تقدم الباحث بمشروع للخروج من أزمة لبنان المزمنة.

بالنسبة للوطن والمواطنة في التراث، فالوطن في لسان العرب هو «المنزلُ تقيم به، وهو مَوطِنُ الإنسان ومحله... يقال: أوْطَن فلانٌ أرضَ كذا وكذا أي اتّخذها محلًّا ومسكنًا يقيم فيه. أوطَنْتُ الأرض ووَطّنْتُها توطِينًا واستوْطَنْتُها أي اتّخذتها وَطَنًا».

الوطنُ إذًا، هو المحل والمسكن. لم يأتِ ذكر هذه المفردة مقرونًا بسلطة أو بدولة.. والحالة هذه، أن لا ذكر لمفردة المواطنة في لسان العرب كونها مفهومًا حديثًا اقترن بنشأة الدولة الحديثة. وعليه ينهض سؤال: هل من ذكر للبنان في التاريخ؟

يرى الباحث أن التاريخ القديم والوسيط يخلو من أي ظاهرة لكيان لبناني واحد، متميز وشامل الرقعة الجغرافية نفسها لإقليم «دولة لبنان الكبير» التي أعلنت فرنسا قيامها سنة 1920. بمعنى أن هذه الرقعة الجغرافية لم تحتضن في الغالب مجتمعًا واحدًا له حياة مشتركة، يمارسها في مؤسسات مشتركة، ويتطلع إلى مصير مشترك في مواجهة تحديات مشتركة. ولغياب الكيان السياسي الواحد عن الجغرافيا اللبنانية -في نظر الباحث- أسباب عدة، أبرزها تميّز تركيبة لبنان السكانية بظاهرة تعدد الأديان والطوائف والمذاهب؛ لأن في الأصل، كان النظام السياسي اللبناني ثمرة تزاوج عوامل ثلاثة: النظام الملي العثماني، والنظام الإقطاعي الفرنجي (الصليبي)، والجغرافيا اللبنانية التي احتضنت طوائف وجماعات تأثّرت بأحد هذين النظامين أو بكليهما.

ويضيف: لعل تجذّر الطائفية كعصبية وخاصية ثابتة في كيانات فئوية متمايزة يفسر، جزئيًّا، سبب اختيار دول أوروبا الاستعمارية للبنان نظام المتصرفية، ذلك أن نظام الإمارة كان في الواقع نوعًا من الاتحاد الكونفدرالي يجمع كيانات طائفية وإقطاعية ذات حكم ذاتي يتربع على قمته أمير.

وعندما جاء الفرنسيون مستعمرين تحت راية الانتداب، لم يتغيَّر شيء في طبيعة العلاقة بين الكيان والنظام. فقد عزَّز الفرنسيون النظام القائم بمرتكزاته الأساسية، بل سعوا إلى تكريس مضمونه الطوائفي الكونفدرالي باعتماد الطائفية في التوظيف (المادة 95 من الدستور) وفي انتخابات المجالس النيابية، واعتمادها في توزيع مناصب السلطات العليا، وفي تكريس الانفصال التام بين رعايا الجمهورية بإقرار نظم مختلفة لأحوالهم الشخصية (المادة 9 من الدستور)، وبالسعي إلى ضمان فوز الإقطاعيين وأتباعهم في الانتخابات العامة وبتنظيم خاص للدوائر الانتخابية وقمع لا هوادة فيه للحركات الوطنية والأحزاب العلمانية.

وقد طرح الباحث سؤالًا مهمًّا ومفتاحيًّا، ففي وطن هذه حاله، هل ثمة فرصة لنشوء مُواطن وتكوين مواطنة؟

لقد غاب الوطن والمواطن والمواطنة في الدستور -كما يقول الباحث-، وإذ غاب الوطن وحضر الكيان متلازمًا مع النظام، كان من الطبيعي أن تغيب الدولة قبل الوطن في الواقع كما في النصوص. فالدولة هي التي تنشئ الوطن وليس العكس. تقوم الدولة فيقوم معها أو بعدها الوطن ويترسّخ في الوجدان كما على الأرض وفي النصوص. ربما لهذا السبب غاب ذكر الوطن أو كاد في أحكام الدستور، فقد ورد ذكره ثلاث مرات فقط. وعدم رسوخ مفهوم الوطن أدَّى إلى غياب مفهوم المواطن. فالدستور خالٍ تمامًا من ذكر المواطن.

من هنا يؤكد الباحث أن أزمة لبنان مردّها -في الدرجة الأولى- إلى غياب الدولة. لا دولة عندنا بل مجرَّد نظام هو عبارة عن آلية لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم بين أركان شبكة سياسية قابضة قوامها متزعمون في طوائف ورجال أعمال وبيوت أموال، ومتنفذون في أجهزة أمنٍ واستخبارات.

وهكذا بات اللبنانيون أمام حقيقة عارية هي أن النظام القائم والشبكة السياسية القابضة أصبحا يشكّلان خطرًا على الكيان، وأن السبيل الوحيد لتفادي الانهيار هو في التوافق على تسوية تاريخية يتأتَّى عنها تجديد القيادات السياسية لتمكين قوى شابة ونهضوية من إعادة تأسيس لبنان دولة ووطنًا.

والمخرج الوحيد من هذه الأزمة المزمنة -في نظره- هو في بناء الدولة المدنية الديمقراطية على أساس حكم القانون والمشاركة والعدالة والتنمية.

باعتماد الدولة المدنية الديمقراطية والجدّية في بنائها يتعمّق الولاء الوطني، ويتوضَّح دور المواطن، وتتعزَّز رابطة المواطنة، وتتوسَّع قاعدة القوى الوطنية النهضوية، ويصبح بإمكانها الانتظام في جبهةٍ عريضة بصيغةِ مؤتمر وطني دائم للإصلاح الديمقراطي ومواجهة إسرائيل والإرهاب التكفيري.

ففي إطار الإعداد للمؤتمر، يجب –يقول الباحث- إيلاء وثيقة البرنامج المرحلي عناية بالغة لتأتي، في مبناها ومعناها، مَعْلَمًا بارزًا من معالم تطور لبنان الحضاري، وعنوانًا ساطعًا لافتراقه عن زمن الطائفية والاستبداد والفساد، وولوجه عصر الديمقراطية والتنمية والتقدُّم والإبداع.

على أن تتضمن الوثيقة مواقف متقدمة من قضايا بارزة مثل:

• اعتبار الدولة المدنية الديمقراطية القادرة والعادلة جوهر الحضور اللبناني المعاصر ورسالته إلى عالم العرب.

• اعتبار التعددية خصوصية لبنانية وعربية تغتني بالديمقراطية، وتتغذى بالعروبة الحضارية، وتحتمي بالحريات العامة وحقوق الإنسان.

• بناء مفهوم المواطنة بتجاوز الطائفية تدريجًا في الدولة والمجتمع من خلال خطط مرحلية تتناول ميادين السياسة، والتعليم، والتربية على المواطنة، والثقافة، وأنشطة المجتمع المدني، ومساواة المواطنين أمام القانون، وسنّ قانون للحماية من التمييز الطائفي.

• كفالة حريـة العقائد الدينية أمام القانون، فيكون للجميع الحق في أن يعلنوا عن عقيدتهم الدينية، منفردين أو مجتمعين، وأن يمارسوا شعائرها بطريقة علنية شرط عدم الإخلال بالنظام العام، وتكريس حياد الدولة بين المؤسسات الدينية...

ولمناقشة محور «المواطنة بين الدّين والعلمانية» قدَّم الدكتور أحمد موصللي ورقة بعنوان:

- «أزمة المواطنة في الخطاب الإسلامي المعاصر»، في البداية استعرض الباحث مواقف عدد من الفقهاء القدامى من السلطة وطبيعة العلاقة بين المواطن والحاكم، ففي نظره فقد وعى الفقهاء المسلمون في عصور الإسلام الأولى والوسيطة لطبيعة السلطة السياسية وقدرتها على التأثير في إنشاء منظومات فكرية سياسية، وفي تكييف الممارسات السياسية. فقد اعتبر الإمام الغزالي، المفكر والفقيه والصوفي، أن القوة -في كل مظاهرها المادية والاقتصادية والمعنوية- هي جزءٌ مهم لفهمنا لطبيعة دور الدولة، لكنه يرفض تحديدًا أن تكون للغلبة السياسية القهرية أي مشروعية في تحيدها أو خرقها للمثل العليا، وفي مقدمتها العدل والحقوق، والحريات، والمساواة، والتكافل الاجتماعي والسياسي وفضائل عامة أخرى. وبالتالي لا يجوز إخضاع الإنسان للقوة المادية التعسفية. إذًا، إن القوة التي توظّفها الدولة يجب أن توجّه إلى حماية الدولة والمجتمع في الداخل والخارج؛ لذلك فالمشروعية بالنسبة له ترتبط بالاختيار الحر للجماعة وبموافقتها، وليس بخيار النخبة فقط.

أما الفقيه السياسي الماوردي فإنه يرى أن القوة القهرية ضرورة لوحدة الأمة، وخاصة عند تفاقم التصارع بين الفئات ذات المصالح الضيقة والخاصة. إلَّا أنه يؤكد أيضًا أن من واجبات الدولة حماية حقوق الجميع، مسلمين وغير مسلمين، وكذلك نشر العدالة. ومن الناحية النظرية فإن المنظرين السياسيين من قدامى الفقهاء متفقون على وجوب أن تؤسس الدولة السياسية على نظام شوري صحيح؛ أو بلغة حديثة حكومة من الشعب تقوم على شكل ديمقراطي (شورى). فالمنظومة السياسية القائمة على الشورى تنص على المساواة، وحقوق الأفراد، وتقيد وظيفة الدولة بخدمتها لمصالح الجماعة. كما تنص هذه المنظومة على مسؤولية الحكم أمام الله، والجماعة، وأحكام الشريعة.

وبالنسبة للدكتور الموصللي فإن النموذج السياسي الذي قدَّمه معظم الفقهاء من أجل التنظير لدور مؤسسة الحكم هو نموذج دولة الرسول التي وحَّدت إطار الأسس النظرية السياسية، من شورى وإجماع وعقد وبيعة، وحرية المعتقد والأفراد. إذ إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أسس، بصفته القائد والحاكم والقاضي، المجتمع السياسي الأول. فقد حدَّد في الصحيفة أركان المجتمع التعددي، المتعدد بأديانه وقبائله وفئاته. فالصحيفة، دستور الدولة الإسلامية الأولى، تؤكد على تنوُّع المجتمع وتعدُّد فئاته توحّده كدولة سياسية بقيادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يرسم سياسات الحرب والسلام ويعقد المعاهدات والاتفاقيات، اعترافه بحرية المعتقد والممارسة للمجتمعات الدينية المختلفة.

لكن للأسف -يقول د. الموصللي- انتصرت التقاليد الإمبراطورية في فرض أفكارها وسلوكياتها. عندما وُصف الخلفاء الأمويون والعباسوين بخلفاء الله وأُخذت البيعة في أغلب الأحيان، بالقوة القهرية.

أما في العصر الحديث فالحركات الإسلامية والإصلاحية تحاول تقليد أو استلهام هذا النموذج النبوي.. من هذا المنطلق أصبحت الحاكمية مفهوم عقائدي تنظيمي للحكم تُمثّل في محاولة الإخوان الدخول في بنية الدولة والانفتاح على المجتمع. بمعنى آخرـ أصبحت الحاكمية مفهوم استيعابي ديني أخلاقي يسمح بتعددية فكرية واجتماعية وسياسية. كما أن تأكيد البنا على أهمية تأسيس الأيديولوجيا السياسية على مفهوم عقائدي إسلامي لم يمنع أو يُقصي التأويلات والتفسيرات الفردية والجماعية الاجتماعية والسياسية للمبادئ السياسية الإسلامية طبقًا لحاجات المجتمع الحديث وتطلعاته وقناعاته.

إذًا، تؤسس الإسلامية المعتدلة، وعبر القبول النظري للتأويلات والتفسيرات الاستيعابية والديمقراطية والتعددية السياسية، لميل مستقبلي عند الإسلاميين اليوم للتعددية السياسية وللديمقراطية، مع أنها ترتبط في نهاية المطاف بمبدأ التوحيد وتطبيقه العملي، أي الوحدة. فالتعددية الحزبية وكذلك الأنظمة السياسية تُبنى على الاختلافات الحقيقية في الأيديولوجيا والسياسات والبرامج. وبالتالي فإن الدولة الإسلامية لا تُقصي تعدُّد الأحزاب إلَّا تلك التي تعارض الوحدانية.

وهناك مفكرون إسلاميون آخرون يتجاوزون حتى مثل تلك المقولات. فمحمد سليم العوا، وهو مفكر إسلامي بارز، يعالج بشكل مباشر ودون مواربة مسألة التعددية والديمقراطية. فالإسلام عنده متَّهم زورًا بأنه معارض للمجتمع التعددي وللمواطنة الحقة.

ويقدّم د. العوا الدولة الإسلامية الأولى التي أسسها النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دليلًا على عدم مصداقية ادِّعاء وجود علاقة بين الاستبداد والحكم في الاسلام.

أما المفكر السوداني الترابي فإن المرجعية السياسية العليا عنده هي للمجتمعات، التي تبرم عقدًا بينها وبين الحكم الذي تختاره لتنظيم شؤونها. كما ويشترط الترابي الحرية الشاملة كحق أصلي ومبدأ أساسي في حياة المسلمين، لذلك يرفض -على سبيل المثال- أيَّ حق للدولة في فرض مذهب فقهي معين أو رأي محدّد على الجماعة؛ لأن مثل هذا الفرض يشكّل تدخُّلًا غير مشروع للدولة في حياة المجتمع وانتهاكًا لمبدأ الشورى.

وتتشابه آراء راشد الغنوشي، مؤسس حزب النهضة في تونس، مع آراء حسن الترابي؛ حيث يحرص الغنوشي على ضرورة المحافظة على الحريات العامة والخاصة، وكذلك على حقوق الإنسان؛ لأن هذه الحقوق والحريات تنصُّ عليها التعاليم القرآنية وتوثِّقها المعاهدات الدولية.

إذ إن هذه الحقوق والحريات لا تُناقض جوهر الإسلام وترتبط أساسًا بحريات التعبير والاجتماع، وكذلك حقوق المشاركة السياسية والاستقلال. كما أنها ترتبط بنبذ العنف ورفض قمع الرأي الحر. ومثل هذه الحقوق والحريات تشكّل عند الغنوشي مركز التعايش بين المسلمين والحوار البناء بين المجتمع والدولـة...

وبقبوله لحرية التجمع يتقبَّل الغنوشي لقيام الأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية وحتى الحزب الشيوعي. كما أنه يمكن لمجموعة من المواطنين أن ترتئي أنه من الأفضل قيام أحزاب غير دينية من أجل الصالح العام. وهذا لا يُفضي بالضرورة إلى مخالفة الشرع؛ إذ إن التعددية، وحتى في قضايا الإيمان، يُشرِّعها الدين. وهناك مفكرون آخرون يتخطون مثل هذه المقولات ويؤمنون بالضرورة المطلقة للديموقراطية والتعددية.

وهكذا، فإن الرؤية التي وضعها مفكرو القرون الوسطى –كما يقول د. الموصللي- التي استُمدت منها الحقوق في المجتمعات الإسلامية قد لا تكون مناسبة اليوم، خاصة وأن السياقات المادية والمعنوية للحقوق قد تغيَّرت ليس فقط في المجتمعات الإسلامية بل في العالم كله وفي كل الأديان والثقافات؛ وبالتالي فإن حقوق اليوم يجب أن تعكس حقائق اليوم.

وتأكيدًا على هذه الفكرة فقد تحدَّث الباحث مطوَّلًا عن موضوع أهل الذمة والجزية وحقوق غير المسلم في الدولة الإسلامية، واستعرض مجمل آراء الفقهاء والمفكرين المعاصرين في ذلك.. الذين اعتبروا أنه من واجب الدولة الإسلامية حماية أهل الذمة في الداخل والخارج لارتباطهم بعقد الذمة، مما جعلهم جزءًا من الدولة، وبالتالي كانت لهم حرية التعبير والحركة.

كما ناقش الباحث الموصللي المفاهيم الإسلامية الحديثة للمواطنة في الدولة الإسلامية، متتبعًا التطورات النظرية لرؤية الإسلاميين لمفهوم المواطنة لدى البنا وفيصل المولوي والمودودي وغيرهم.

ويمكن لنا –يقول د. الموصلي- أن نستمزج آراء التيار الإسلامي الذي يُشرعن المجتمع المدني والديمقراطية من الميثاق الذي نشره ووزَّعه محمد الهاشمي الحامدي وإسلاميين آخرين. الذي يقول: إن نجاح الحركة الإسلامية بعد أن تتوصَّل إلى السلطة يتوقَّف على تأسيس النظام الديمقراطي العادل في العالم العربي.

وأخيرًا استعرض الباحث بعض آراء الرافضين لمواطنية غير المسلمين في الدولة الإسلامية، أو ما أسماهم الحركات الإسلامية الاستبعادية والمتشددة في العالم العربي.

- «المواطنة والدين: نظرة إسلامية»، عنوان الورقة التي قدَّمها د. خنجر حمية. في البداية أشار الباحث إلى طبيعة الإشكالية وحدودها انطلاقًا من فرضية تقوم على التباس العلاقة بين المواطنة والديني. وهو التباس ينهض بداهة حتى عند أولئك الذين لا يملكون معرفة كافية بالكيفية التي تطوَّر من خلالها مفهوم المواطنة في السياق الفكري السياسي للغرب الحديث.

وحسب الباحث فإن إعادة قراءة العلاقة تاريخيًّا بين السياسي والدين، قد تكشف لنا عن المغزى الأعمق لهذا الالتباس في مجرى الاجتماع السياسي شرقًا وغربًا، وتضع أمامنا من جديد مشكلة الهوية والتباساتها وتعدد مستوياتها وتنازع القيم التي تتشكل منها.

وبالتالي فإن فهمًا لمفهوم المواطنة في صورته الراهنة وللكيفية التي اكتمل من خلالها وتوسع ليستوعب جملة التنوعات والاختلافات الهوياتية والثقافية وتعارضات المصالح، وجملة المرجعيات الخصوصية، القيمية والثقافية، كاف -فيما يرى الباحث حمية- لتفكيك هذا الالتباس وتبسيطه بما يخدم إعادة توضيح العلاقة بين السياسي والدين في مجتمع متنوع يقوم على المشاركة والاعتراف، من غير حاجة إلى تظهير التجربة التاريخية لهذه العلاقة في مناخات ثقافية وحضارية جد متباعدة، وتقوم بمجملها على رهانات معرفية ووجودية متعارضة، وعلى تصورات ميتافيزيقية متباينة أشد التباين، تغري، ولكنها تعمق المأزق.

ثم شرع الباحث بفحص المفهوم في سياق إسلامي، واستعرض بعض المواقف منه في مغزاه وطبيعته وفي كيفية استثماره، معطوفًا على خلفية تاريخية في تجربة السلطة، وفي وعيها.

بالنسبة لبعض المستشرقين ما يوجد في الثقافة العربية هو مفردة (وطن)، و(واطن) و(توطن) وهي تعني السكن مع، وواطن ساكن، والتوطن السكن، ومعناه البسيط الساذج هو الاشتراك في سكن المكان، لكنها تخلو بدرجة كبيرة من أية مضامين أو إيحاءات كتلك التي تحملها الكلمة الإنكليزية (Citizen) التي تتحدر من أصول إغريقية لاتينية، وتعني الفرد الذي يشارك في الشؤون المدنية، أو المشاركة في مثل هذه الشؤون. وقد ذهب مفكرون عرب إلى الرأي نفسه، فذهب سمير أمين مثلًا إلى «أن المساواة القانونية لم تكن سمة من سمات الأنظمة التقليدية العربية».

ورأى محمد أركون أن مفهوم الجماعة السياسية في الإسلام يخلو من أية محاولة لتطوير سياق المواطنة كشرط ضروري، ليس لنشوء حكم القانون فحسب، بل لظهور المجتمع المدني الذي يستطيع السيطرة على الدولة وتقييدها.

وقد يبدو أن مثل هذا الرأي –كما يقول د. حمية- يتمتع بالكثير من المصداقية إذا ما استحضرنا عند حديثنا عن الوطن والمواطنة الدلالات التي بات يحملها في سياقات تطوّر في الثقافة الغربية الراهنة وفي الممارسة. لكن فكرة المواطن في مجتمع سياسي، الذي عليه واجبات وله حقوق تحتم عليه المشاركة في الحياة العامة، فكرة عرفها الإسلام في أول أمره، ونادى بها، ورسَّخ مضمونها نظريًّا على الأقل. ونحن نقع عليها فيما لو حرَّرنا أنفسنا من الوقوع في شراك المقارنة السطحية بين المفاهيم.

فكلمة مواطن في السياق الغربي تقابلها كلمة مسلم في السياق المفهومي للاجتماع السياسي الإسلامي التقليدي. وسبب ذلك أن مثل هذا الاجتماع قامت هويته على الدين، باعتباره العنصر الجامع لكل من ينتمون إليه، ويعيشون في ظل مبادئه وقوانينه. ولقد كان المسلم يتمتع بحكم كونه كذلك بعضوية فورية وكاملة في المجتمع السياسي الذي ينتمي إليه، يدل على ذلك ما رواه البخاري: «المسلمون ذمتهم واحدة، ويسعى بهم أدناهم، فمن أحقر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

وكان من السهل لاجتماع سياسي تقوم وحدته على دين جامع مهيمن أن يستوعب كذلك التعدد الناشئ من وجود جماعات دينية أقلوية عبر التعاهد أو التعاقد، كما حصل في وثيقة المدينة حينما جعل أهل الكتاب أمة مع المسلمين من دون الناس، بمنحهم حق الانتماء السياسي إلى الجماعة الأمة، التي تكفل لهم الحق في الحياة والأمن والعمل وممارسة خصوصيتهم الدينية والثقافية.

والملفت –يقول د. حمية- أن الفكر السياسي الإسلامي برمته في القرون الوسطى، منذ الماوردي وحتى انتهاء عصر الخلافة، كان اهتمامه ينصب على اقتراح الوسائل التي تكفل للسلطان بسط هيمنته ولو بالتغلُّب، وترسيخ نفوذه. وعلى التنظير للآليات التي تكفل له إبقاء جماعة متنوعة مختلفة الميول والانتماءات العرقية والمذهبية والدينية متعددة المصالح والرؤى والأهداف، مضمونة الخضوع لسلطانه، منصاعة لإرادته الجامعة المالكة لسلطة التشريع والتقنين والتدبير، وعلى توفير التبرير الديني لقمع لا هوادة فيه لكل اختلاف أو إعلان اختلاف أو تمايز أو معارضة، تخلّ بهيبته وبالوحدة الكلية الصورية التي يوفرها وجوده.

بعد ذلك انتقل الباحث لتسليط الضوء على مواقف عدد من المفكرين الإسلامين من التعدد وحقوق المواطنة في الدولة الإسلامية، فأشار إلى وجود أصوات كانت وما زالت على قناعة تامة بأن الدولة الدينية، على شكل نموذج الخلافة، هي الحل الأمثل لمأزق الاجتماع السياسي الإسلامي، وهي وحدها الصالحة لتحقيق مجتمع العدالة وتأكيد مبادئ الخير العام استنادًا إلى مبادئ الشريعة وأحكامها.

وأكثر هؤلاء الدعاة غلوًّا هو أبو الأعلى المودودي، الذي اعتبر أن المجتمع الإسلامي يقوم على قاعدة ولاء هي الدين. ولقد عبَّر سيد قطب خير تعبير عن مثل هذه الرؤية في كتابه معالم على الطريق 1962م، وبقي وفيًّا لها إلى آخر أيامه. وطبقًا لهذا التصور فلا يوجد مشكلة مواطنة بالنسبة لغير المسلمين في مجتمع إسلامي؛ لأن الدولة الإسلامية إنما تنشأ من قبل المسلمين ولأجلهم.

وعلى غير المسلمين إن أرادوا العيش في الدولة المسلمة أن يخضعوا لقوانينها وأن يعيشوا كأقلية محفوظة الحقوق وفق تشريعاتها، شرط الولاء لطبيعتها التي قامت عليها، وما داموا لا يشكلون لها تهديدًا لوحدتها وسلامة انتظامها. ولقد وجدت هذه الآراء صدى عند مفكرين معاصرين آخرين.

وحسب الباحث، فقد بقي تصور هؤلاء النظَّار للدولة مثاليًّا، يعبّر في العموم عن رغبة بقيت بلا تحقق في سياق تاريخي، لكن ولطبيعة الهوية الدينية نفسها وعناصرها والجدل الذي يحكم حضورها في سياق تعارضات المصالح الفردية والأهواء. كل ذلك دفع مفكرين أكثر وعيًا لمقتضيات الحداثة، ولجدل القيم والتاريخ، إلى تطوير تصورات أكثر إقناعًا وأقل جذرية، من أمثال: فهمي هويدي، طارق البشري، سليم العوا، أحمد كمال، أو المجد وآخرين.

ومهما يكن من أمر فما قدَّمته هذه الجهود من تبصُّرات، فإن الرؤى الإسلامية الحديثة فيما يخص المواطنة وحدود المشاركة السياسية للمختلفين دينيًّا في مجتمع إسلامي، لم يكن لها تأثير كبير على مجريات الأحداث، ولا على التجربة السياسية في المجتمع الإسلامي حديث التشكُّل، لأن أغلب الدول الإسلامية بقيت علمانية، تقوم في الأعم على القومية، ولم يكن الدين فيها أساسًا، في بناء خصائصها الثقافية ونظمها الأخلاقية وقيمها السياسية، بالرغم من أن حقوق المواطنة بقيت فيها منتهكة إلى حد بعيد ومنقوصة.

وفي إطار الفضاء العمومي، ولفك الاشتباك بين العام والخاص، فإن الواقع الأشمل للمواطنة –كما يقول الباحث- يستدعي التساؤل عن حيِّز الدين ضمن المفهوم الشامل المتعلق بالحياة العامة والخاصة للأفراد، ومن ثمَّ التساؤل عن نجاعة التدبير العقلاني للاختلاف، من حيث إنه يقوم على الاعتراف بالهوية بما هي آلية تُسهم في تكون الذات المواطنة قدر مساهمتها في ضمان حقها في التمتع بالعدل الاجتماعي وتوزيع الخيرات.

والاعتراف بالهوية، هو الإقرار بالاختلاف نفسه، أو بعبارة (بالحال الاختلافية للهوية) أو بواقع الحالة الاختلافية للهوية، والتي بسببها، يتولَّد نظر إلى الاختلاف باعتباره المفهوم الذي بفضله يتعدد الكائن، والذي بفضله يصبح التعدد خاصية الهوية، ويصبح الانتقال والترحال، سمته الذاتية.

وبذا -يقول الباحث- يتبدى في السياسة مطلب الاعتراف على أساس كونية الإنسان لا على أساس دعوات الانتماء الضيق، ويُصبح معها التنوُّع الذي تُمثِّله هوية معينة تكوينًا ثقافيًّا في مجرى الوجود الإنساني بعامة، ويتعيَّن احترامه على هذا الأساس.

فهل يمكن إعادة التأصيل لمواطنة في مجتمع سياسي موحد تحفظ فيه الهويات وتعبّر فيه عن نفسها، وتجد فيه حمايتها من أي نكران أو نفي أو تحقير، استنادًا إلى أخلاق سياسية تقوم على احترام الكرامة البشرية، وعلى أولية التعارف أو الاعتراف استنادًا إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.

- «دور المؤسسات الأهلية والمدنية في تعزيز المواطنة» عنوان الورقة التي قدَّمها الأستاذ معن بشور، المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية في لبنان.

في البداية قدَّم الباحث عرضًا تاريخيًّا لكيفية انتهاء الحرب الأهلية في لبنان وبداية محاولات إعادة اللحمة والوئام بين الطوائف، والطبقات الاجتماعية في لبنان، حيث بدأ اللبنانيون يتطلَّعون للوحدة الوطنية والسلم الأهلي، والعمل على التأسيس لمواطنة تنطلق من قواعد المساواة والعدالة السياسية والاجتماعية. وهذا ما بدا في طريقه للتحقق مع اتِّفاق الطائف.

يقول الباحث معن بشور: كنا نحس أن لبنانًا جديدًا قد بدأ يخرج من بين الركام، لبنانًا واحدًا لا مكان للطائفية في ربوعه، ولا إمكانية للعودة إلى النظام القديم في ظله، بل لبنان حيث الوطنية فيه تعني المواطنة، وحيث المواطنة فيه هي قاعدة الوطنية.

كما تأسست هيئات وأندية في إطار الهدف نفسه من بينها دار الندوة وعلى رأسها المفكر الراحل منح الصلح، التي قامت بالكثير من الأنشطة الداعمة للوحدة بين اللبنانيين، وحدة قائمة على قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية. لكن هذه الطموحات والآمال –كما يقول الباحث بشور- سرعان ما تبدَّدت مع مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، حيث قام بعد اتفاق الطائف تحالف متين بين قوى الحرب والمال أخذ على عاتقه الانقضاض على مؤسسات العمل الأهلي والمدني المستقلة، إما بالتجويف أو التعطيل، أو بالحصار المادي والإعلامي، ناهيك عن الحصار السياسي.

وهذا التراجع لدور المؤسسات الأهلية والمدنية انعكس سلبًا على فكرة المواطنة، التي كان مأمولًا أن ترى أول تطبيقاتها في هذه المؤسسات، كونها تقوم على الممارسة الديمقراطية المتجاوزة لكل تمييز بين مواطن وآخر. وقد تحدث الباحث بالتفصيل عن أسباب هذا التراجع، أهمها تحكُّم قوى الحرب والمال بمصير البلاد بعد اتفاق الطائف، وإغراق البلاد بجمعيات وهيئات لا تضم إلَّا رئيسها وبعض أفراد عائلته، بما عرف «بالدكاكين» السياسية والاجتماعية والأهلية، وثالث هذه الأسباب إغراق البلاد بمؤسسات أهلية طائفية أو مذهبية تكرّس التفرقة والعصبيات، بدلًا من مؤسسات وطنية جامعة تكون أرضية لبيئة وطنية مشتركة هي البيئة الأمثل لفكرة المواطنة.

وفي ختام ورقته، أكد الباحث أن فكرة المواطنة كفكرة وطنية وديمقراطية في آنٍ، لا تقوم إلَّا إذا حملها مؤمنون حقيقيون بها، مارسوها بشكل صادق في مؤسساتهم وجمعياتهم الأهلية والمدنية، وهو أمر لا يتحقَّق إلَّا إذا جرى التغلُّب على كل الأسباب المعيقة التي تحول دون قيام مؤسسات نظيفة مستقلة وطنية جامعة لا يقوم للوطن قائمة بدونها.

- «المواطنة وتحديات السّلم الأهلي» هذه الورقة قدَّمها المحامي عمر الزين، الأمين العام لاتحاد المحامين العرب سابقًا، ورئيس اتحاد الحقوقيين اللبنانيين.

في البداية تحدث الباحث عن تطور مفهوم المواطنة على مر الزمن، مؤكدًا أن «المواطنة هي صفة المواطن التي تحدّد حقوقه وواجباته الوطنية ويعرف الفرد حقوقه ومؤدى واجباته عن طريق التربية الوطنية، وتتميز المواطنة بنوع خاص من ولاء المواطن لوطنه وخدمته أوقات السلم والحرب، والتعاون مع المواطنين الآخرين عن طريق العمل المؤسساتي والفردي والرسمي والتطوعي في تحقيق الأهداف التي يصبو لها الجميع، وتوحد من أجلها الجهود وترسم وتوضع الموازنات».

بعد ذلك تحدَّث الباحث مطولًا أولًا عن التحديات الإيجابية للسلم الأهلي بتأثير المواطنة، مثل تمتين ركائز المواطنة في الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة، و تعميم ثقافة المواطنة، ما يعزّز الحوار المؤدي إلى تقوية التضامن الاجتماعي، ويعزّز تعلُّق المواطن بوطنه ودولته، ويحد من الفتن.

كما تحدَّث عن التحديات السلبية للسلم الأهلي في غياب المواطنة، فغياب ثقافة المواطنة يؤدّي إلى عدم احترام الحقوق والحريات والتنكيل بالإنسان وحقوقه، كما يؤدّي أيضًا إلى الصراع على الهويات الفرعية، وغياب روح الانتماء إلى المجتمع، واستبدال الانتماء للدولة والأمة بانتماءات أخرى يلجأ إليها المواطن لحماية نفسه من الظلم والاستبداد.

وفي الأخير، أكَّد الباحث الزين على أهمية التربية على المواطنة؛ لأنها تُؤمِّن التوازن بين ما هو وطني وما هو عالمي وتؤكد على الخصوصية الثقافية للوطن، وبها يؤكد الانتماء الشخصي والحضاري للمواطن كي لا يتحوَّل الوطن إلى حقيبة والمواطن إلى مسافر.

توصيات المؤتمر

في نهاية فعاليات المؤتمر أصدر ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار بيانًا تضمَّن التوصيات الصادرة عن المؤتمر، نذكر منها:

-         العمل على تعميم المسائل التي طرحها هذا المؤتمر من أجل تكوين ثقافة ووعي عامٍّ حول المواطنة وتحدياتها.

-         وضع آليات عملية وتنفيذية لوضع المقولات التي طرحها هذا المؤتمر موضع التطبيق والتجسيد العملي في التربية والسياسة والإعلام والتعليم.

-         مطالبة القوى السياسية والحزبية والمؤسسات الدينية والتربوية والثقافية والمؤسسات الإعلامية طرح مسألة المواطنة بجديّة، من أجل تكوين رأي عامٍّ مُؤيِّدِ لمضمونها.

-         تشجيع ودعم المؤسسات الملتزمة بمبدأ المواطنة فكرًا وعملًا، وإبراز المعالم التي جسَّدت المواطنة في تراثنا وتاريخنا.

-         إنشاء شبكة من المؤسسات والجمعيات وهيئات المجتمع المدني، المؤمنة بالمواطنة كأساس من أجل بناء نظام جديد يحقق حرية الإنسان وكرامته.

-         مطالبة وزارات الإعلام في لبنان والعالم العربي اعتماد برامج إعلامية تعمّم ثقافة المواطنة.