شعار الموقع

الجمال والجمالية في الترجمة الصوفية ..

ميلود حميدات 2019-06-06
عدد القراءات « 798 »

الجمال والجمالية في التجربة الصوفية..

دراسة تحليلية لبعض أنواع الإبداع الصوفي

الدكتور: ميلود حميدات*

 

* باحث من الجزائر، البريد الإلكتروني: hfarouk18@hotmail.fr

 

 

 

 

مقدمة: معالم الجمالية في التجربة الصوفية

التجربة الصوفية غنيّة في مبناها، عميقة في معناها، ثريّة في نتاجها، متنوعة في مجالاتها، جريئة في موضوعاتها. وفي هذا البحث نحاول أن نقوم بمقاربة جمالية تتناول التجربة الصوفية في منهجها وفي إنتاجها، دون أن ندخل في متاهة محاكمة هذه التجربة الجميلة من ناحية الصواب والخطأ؛ إذ لسنا مؤهلين لذلك من جهة، ومن جهة أخرى إنها تجربة واقعية أثْرت وأثَّرت دون شك في الموروث الثقافي الإسلامي منذ قرون، وترَاكَم انتاجها فصار جزءًا لا يتجزَّأ من الفكر الفلسفي في الإسلام خصوصًا، وفي الثقافة الإسلامية عمومًا، وكما يقول (جوزيف شاخت J.Chakht ت 1969): «عندما نتكلم عن التصوف أو مذهب الصوفية، ندخل في ناحية من أروع نواحي الفكر الإسلامي بل الحضارة الإسلامية»[1].

وعليه ستكون المعالجة من زاوية التصوف كمنتج للجمالية، وخاصة ثورة البيان، فلعلنا لا نبالغ اذا اعتبرنا أنّ أجرأ فريق على اللّغة حين قام بترميزها، وتغييرها سواء في مبانيها أو تأويل معانيها، أو في صناعة الكلام هم المتصوفة، إذ تميّزت نصوصهم عمومًا بصعوبة في إدراك معانيها، وفك رموزها، وولوج ميادينها العميقة، حتى أطلق على بعض تلك الأقوال والأحوال شطحات الصوفية، لما استُغلقت على الأفْهام.

ومع ذلك شكّلت تلك النصوص إضافات على مستوى الإبداع البياني شكلًا ومضمونًا؛ إذ أثْرت مضامين اللغة بالمعاني تأويلًا وتعليلًا وتبديلًا، من خلال المجاز والتأويل، وثراء التعليل، والرموز الجديدة، وصور الخيال العديدة. وعلى كثرة النصوص وضخامة ذلك التراث الممتد تاريخيًّا وجغرافيًّا، فإنّنا نكتفي بتحليل جمالية بعض النماذج للتدليل على المطلوب.

أولًا: مفهوم الجمال والجمالية

ما هو الجمال؟ من السهل أن تصف شيئًا أو موضوعًا بأنه جميل لأن العين تستمتع به، أو الأذن تستلذه أو العقل يستحسنه، ولكن من الصعب تعريف الجمال في حد ذاته، وإنما تقاربه فقط من موضوعاته، فيُعرف الجمال من الجميل، والحُسن من الحَسن، واللذّة من اللذيذ، والطّيبة من الطيّب وهكذا..

«إن مفهوم الجمال قريب متداول يفهمه الجميع، ويتعاملون معه ولكن التعريف به بعيد المنال، وهذا ما دفع بعض الكتّاب والفنانين إلى التصريح بصعوبة ذلك، وبعده عن الإمكان»[2].

ما دام موضوع الجمال من الوجدانيات فإننا ندركه بالحدْس أي بالمعرفة المباشرة، وبالتالي يصعب اخضاعه للتعريف، وإنما الجمال تجربة ذوقية تُعرف بشكل مباشر كالأحوال الشعورية والتجارب النفسية والمدركات المعنوية، فالنفس تتعرّف على الجمال كما تَسعد بالحب وتتألم من الحزن، وتسعى إلى الخير، وتنفر من الشر، وتدرك الحق والصواب، وتبتعد عن الباطل والخطأ.

وعليه أدرك الصوفية ذلك، فالجمال عند الغزالي هو ما يُحرك النفس ويُثير المشاعر ويُسعدها ويغبطها لما يحسّه الإنسان بجوارحه، أو يدركه بقلبه، والجمال فيه لذة وحُسن، والحُسن تحقيق الشيء لكمال صورته الظاهرة أو الباطنة[3].

ومنه فالجمال حسي ومعنوي، يدرك بالحواس والعقل أو بالذوق والقلب، والجمال الداخلي أو الباطني أعظم من الجمال الخارجي الظاهري، ويتدرج الناس في إدراكهم للجمال؛ لاختلاف قدراتهم واهتماماتهم، فكل ميسّر لما خُلق له.

كما أختلف الفلاسفة في طبيعة الجمال إلى اتجاهين، اتجاه ذاتي يجعل من الجمال تقدير تطلقه الذات على الموضوع، وبالتالي فالجمال ذوق ذاتي وموقف إنساني من الأشياء، واتجاه موضوعي يجعل من الجمال صفات تتوفر في الشيء الجميل، وأن الموضوع الجميل يفرض نفسه على الذات بما يتوفر عليه من معطيات الجمال[4].

إذن الشعور بالجمال شعور إنساني راقٍ، يعبّر عن حاجة من الحاجات الإنسانية الأساسية كالحاجة إلى الهواء للتنفس والماء والأكل للحياة وغيرها من الحاجات، فكذلك الشعور بالحُسن يغبط النفس ويسعدها، فالإحساس بالجمال يحقّق للنفس السعادة، والنفوس الزكية تطلب الجمال في الأشياء وتسعى إلى الأشياء التي تتوفر فيها معالم الجمال.

إذ يُلتمس الجمال في الوجود المادي والمعنوي، في الطبيعة والإنسان وجمال الموجودات إلى مصدر الجمال وأصله وواهب الوجود، وإلى ما ينتجه الإنسان من قول وفعل وحركات وما فيها من تناسق وانسجام وجماليات، وقديمًا قال أرسطو بأن إنتاج الجمال يأتي من محاكاة الطبيعة وما فيها من جمال طبيعي.

ومنه نستنتج أن الجمال نوعان: جمال طبيعي (إلهي) ليس للإنسان يد فيه، وجمال اصطناعي إنساني من إنتاج الإنسان وإبداعه وهو مادي ومعنوي. والفرق واضح بين الأصل والتقليد، فالجمال الطبيعي جمال مبدع من عدم وهو جمال إلهي خالص لا يجاريه ولا يوازيه ولا يماثله أي جمال، أما الجمال الاصطناعي أو الفني فيأخذ مادته من الجمال الطبيعي أو الإلهي ويركّب في جمالية جديدة.

أما العلاقة بين التصوّف والجمال فعلاقة متأصلة، لأن التصوّف يربط علاقته بأصل الجمال ومبدع الوجود علاقة العبد بالمعبود، وترقيًا في العبادة والمحبة والسجود، ليتحقق له ما يبتغيه من فيض محبه الله ورضاه، فيلتقي الجلال والجمال في واهب الوجود.

والتصوف يعمل على الاتصال بأصل مبدع الجلال، وخالق الجمال، إذ يلتقي الجمال والجلال في ذاته وصفاته، ومخلوقاته وآياته، إذ نلمس الجلال والرهبة في قوله: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[5].

ويتجلّى الجمال والرحمة في قوله: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[6]. ويجتمع الجلال والجمال، الترغيب والترهيب، الخوف والرجاء في قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[7].

والتصوف كما قلنا تعلّقٌ وحبٌّ لأصل الجمال، ومنبع الكمال، ومصدر الجلال، لذلك يصبغ ما ينتجه من أقوال وأفعال وأحوال بصبغة الجمال، فالتصوّف قدّم نفسه دائمًا أنه طريق وسلوك نحو الجمال، وينطبق عليه كن جميلًا وتصرف جميلًا لا ترى الوجود جميلًا فحسب وإنما تصير جميلًا وتصل إلى أصل الجمال.

فالصوفي يُسبّح باستمرار بجمال وجلال الله، سواء في الذكر أو في الصلاة، ويسعى إلى ذلك بإخلاص العبادة، والمعرفة المباشرة، وهذا سرّ ذوقي عندهم، «فإنك إذا ذكرت الرحمن، أو سمعته من غيرك، وجدت وذقت منه مجموع صفات الجلال، من الكبرياء والعظمة والقدرة والعزة والتعالي وشدة البطش والقوة؛ وإذا ذكرت الرحيم أو سمعته من غيرك، وجدت وذقت منه مجموع صفات الجمال، من الرحمة والكرم والعطف والسلام والنعمة»[8].

لقد قدّم لنا التراث الصوفي نصوصًا ومواقف غاية في الإبداع والجمالية، فالجمالية متأتية من صدق التجربة الروحية، وفيض المحبة الإلهية، حين يلتقي الجمال والجلال، الرغبة والرهبة، من رحم المعاناة التي يكابدها الصوفي فينتج نسْجًا من أعماقه ومشاعره، إبداعًا وإمتاعًا مسّ جوانب متعدّدة من مجالات الفنون نثرًا وشعرًا، وحكمةً وخطابةً، وأحوالًا وأهوالًا، وهي كثيرة بحيث يتعذّر حصرها وإنما سنأخذ نماذج منها للتمثيل بها على ما أردنا إثباته، وقد سميناها معالم لأنها مجرّد إشارات واضحة، أو ومضات مضيئة، أو درر نادرة في بحر واسع يصعب احتواء مكنوناته لذلك نأخذ نماذج للتمثيل.

منها أن إبداع الموضوع في حدّ ذاته، أي التصوف ومشروعيته، ثم صار علمًا له مسائل خاصة به نكتفي بذكر بعضها ألا وهي أولًا: الموضوع وهو الباطن، ثانيًا: المنهج وهو التجربة الصوفية، ثالثًا: قضايا التصوف ونكتفي بذكر المقامات والأحوال باعتبارها من أهم مسائل التصوف والتي تدل على الإبداع في الموضوع والمنهج.

ثانيًا: إبداع موضوع التصوف وإنتاج الجمال..
(جمالية الذوق الصوفي)

تُنتج التجربة الصوفية معانيَ ذوقية قوامها الاجتهاد في الطاعات، والترقي في المقامات، وتطهير الباطن من الشهوات، وتصفية النفس من النزوات، ومحاربة الشيطان والنزغات، ليصير القلب مستعدًا لتلقي أنوار الرحمة الربانية، ونفحات المحبة الإلهية، مصداقًا لقول الحق: ﴿وأَسْبَغَ عَليْكُم نِعَمَهُ ظَاهِرة وبَاطِنَة﴾[9].

وهي نِعمٌ وهِباتٌ ربانية، ينالها المريد في طريقه التعبدي، وذلك يزيده شوقًا وزهدًا للترقي في مراتب التقرّب من الله، نظرًا إلى إشارات الرضا الرباني، والأنس بمناجاة الخالق، والتعلّق بمواهب الرازق، وهو أساس تحقّق الذوق الصوفي.

إن هذه المعاني الراقية، والحقائق الذوقية العالية، هي التي تُعطي قيمة للسلوك التعبدي بالنسبة للمريد، حيث تصبح العبادة شوقًا وتقربًا إلى الله، وسعيًا إلى التواصل المستمر بالخالق، وليس مجرّد حركات وطقوس لا روح لها، بل العبادة ممارسة ثرية بالأفضال الإلهية من نيل الطمأنينة والاستقرار والرضا الرباني.

هذه المعاني التي يستشفها الصوفي، ويعيشها واقعًا ملموسًا، هي نتيجة الالتزام بالعبادات المشروعة، ومداومة الذكر للترقي إلى مقامات الجمال الإلهي، ومواظبة التفكر في مخلوقاته لإدراك الجلال والكمال الرباني، ومنه تتنزّل الرحمات، ويَنال المطيع الكرامات، وتتحقّق الأمنيات، حين يصفو القلب من كل المغريات، ويتجنّب الرذائل والموبقات، ويُعمّر بذكر الله والصلاة، مصداقا لقوله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾[10].

إن الطريق الصوفي طريق ذوقي، لا يتعامل مع النصوص الشرعية تعاملًا نظريًّا محضًا، بل يعتمد منهجًا متكاملًا يجمع بين الجانب النظري والجانب العملي، أي التكامل بين فهم النصوص الشرعية وبين التجربة الحيّة والممارسة الحقّة للعبادات.

لذلك فإن المعرفة الصوفية تنتج من تجربة وممارسة طويلة ومضنية في السلوك، لتمثّل الأوامر الإلهية والعبادات الشرعية قلبًا وقالبًا وليس مجرّد حركات وطقوس، وإنّما مواظبة على العبادات وتذوّقها بالجوارح والقلب، في كل حركاتها وسكناتها لتتحقق من خلالها ما يسعى إليه المؤمن من معانٍ وحقائق وأذواق.

المعرفة الصوفية تستخلص من التجربة الصوفية، ولا تنقل مشافهةً أو تعليمًا، وإنما ممارسة ومعايشة للوقائع ومعاناة للمواقف، وتدرّجًا في المراتب العملية، وترقيًا في الدرجات المكتسبة بالعمل والمجاهدات، وتحققًا للهبات والكرامات والنعم والرّحمات، لأنها معرفة ذوقية خاصة طريقها التزام في العبادة وطهارة للقلب وزيادة، لذا هي تجربة لا يدركها إلَّا من مارسها، وعايشها وتذوقها.

إن أساس التجربة الصوفية هي التعلّق بالله والتقرّب منه بالعبادات الحقة، وتخلية القلب من غير الله وتحليته بالذكر والصلوات، وتصفية النفس من الرذائل والتحلّي بالفضائل، والسير على هدي النبوة.

لقد بيّنا أن التصوّف يربط علاقته بأصل ونبع الجمال، وبالتالي تصبح أفعال التصوف سعيًا إلى الجمال وتعلقًا به، ومنه ينتج الجمال من الأفعال والأقوال التي يصنعها التصوف.

ينسب إلى شاعر الإسلام محمد إقبال قوله: «إن الإسلام عند الصوفية يأخذ طابعًا من الجمال والكمال، والإنسانية العالية، والأخوة العالمية، لا تجده في إسلام الفقهاء والمتكلمين»[11].

ينظر المتصوف إلى كل الموجودات نظرة تقدير لأنها جميلة فهي من صنع الله، وتمثّل الجمال الطبيعي الذي أوجده الخالق في الطبيعة والإنسان التي هي ميادين الجمال الطبيعية، أضف إليها ما ينتجه الإنسان في تفاعله مع الطبيعة أو ما يسمى بالفن الذي هو الجمال الاصطناعي الناتج من محاكاة ومجاراة الجمال الإلهي أو الطبيعي.

بل يجعل بعض المتصوفة كابن عربي من الوجود مظهرًا للوجود الإلهي وتجلّيًا لجلاله وجماله وبصمته في الكون، وما جمال الإنسان الكامل إلَّا تجلٍّ للجمال الإلهي وفيض من الألوهية على المخلوقات، والصوفي في كل أفعاله يهدف إلى رضا الله، وبالتالي يسعى أن تكون خالصة لوجه الله، وأن تكون أفعالًا جميلة لا تشوبها شائبة من رياء أو طمع.

ثالثاً: الإبداع الفني في التراث الصوفي
(النثر والشعر، الرمزية والتأويل والخط)

ليس النص الصوفي عند الصوفية نصًّا أدبيًّا عاديًّا، وإنما يحمل بذور القداسة من ناحيتين:

أولًا: لأن الصوفية يقدّسون الحروف ويجعلون منها ذواتًا تحمل أسرارًا إلهية.

ثانيًا: لأنه يتقاطع مع النص الديني المقدّس، كلام الله، والحديث النبوي، ويتعامل معه تعليلًا وتأويلًا، ولكن تعاملًا جديدًا فيه من الجرأة الكثير.

ولذلك عمل المتصوفة على تحطيم كثير من المقدسات والتابوهات وتناولوا موضوعات كانت من الممنوعات، والخوض فيها بذاك الشكل من المحرمات، فطالها التصوف على مستوى الموضوع، وتناولها على مستوى المعالجة بطرق جديدة وغير مألوفة، فحطّموا قيود القمع، وتحرروا من أشكال المنع، وتطرقوا بجرأة لا نظير لها إلى قضايا الدين والحب الإلهي،  مثل مسائل الألوهية والكون والوجود والاتّحاد والحلول والفيض كرموز للجلال والرهبة، والحب والغزل والاتصال والوصال والعشق والمرأة والخصوبة والسُّكر كرموز للجمال والرغبة.

وأبدعوا اصطلاحاتهم الخاصة، ومفردات علوم المكاشفة، وألفاظ عالم التصوف، نذكر منها على سبيل التمثيل لا التحليل، الظاهر والباطن، الأحوال والمقامات، والمشاهدة والمكاشفة، والشريعة والحقيقة، والذوق والوجد.. وغيرها من الاصطلاحات التي لا يتّسع المقام لذكرها، وهي مبثوثة في أمهات كتب التصوف[12].

أولًا: في النثر والشعر الصوفي

لقد خلّف التصوف نصوصًا كثيرة تنوّعت من النثر إلى الشعر وامتازت بغزارة الإنتاج وتنوّع أغراضه ومجالاته، واحتوت تلك النصوص على كنوز من الحكم والأمثال والعبر والدروس ولوامع الدرر، لأنها كانت في أغلبها حصيلة تجارب روحية ومعاناة نفسية وخبرات حقيقية عاشها أصحابها في الزهد والعبادة.

وقد امتازت اللغة الصوفية بأنها لغة خاصة فهي ليست لغة فقهية ولا لغة دينية محضة، بل لغة عرفانية إن صح التعبير، إذ تميّزت بمعالجة رمزية لموضوعاتها، واتَّخذت من الإشارة أداة، والتأويل وسيلة والتجديد في المصطلح، فعلى سبيل المثال امتازت اللغة الصوفية الشعرية، بأنها حصيلة تجربة روحية عالية، وليست حصيلة رؤية فنية محضة، لذلك كان الإبداع متأتِّيًا من صدق التجربة، وأنتجت أعمالًا رائعة.

وامتازت هذه الأعمال بخصائص إبداعية مهمة مسَّت الشكل والمضمون، وهي: التجديد والإبداع، الرمزية والتأويل.

نماذج من الإبداع الفني

التجربة الصوفية إبداع وممارسة حقّة، وكما وصفها الغزالي: «وحصَّلت ما يمكن أن يُحصّل من طريقهم بالتعلُّم والسماع، فظهر لي أن أخَصّ خواصهم، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلّم، بل بالذوق والحال وتبدّل الصفات... فعلمت يقينًا أنهم (أي المتصوفة) أرباب أحوال لا أصحاب أقوال»[13].

ترك المتصوفة إبداعًا أدبيًّا جديرًا بالتنويه، حيث وضع -مثلًا- الصوفي الفارسي الكبير (جلال الدين الرومي 605/ 711ﻫ) عبقريته الشعرية في ديوان ضخم بالفارسية هو (مثنوي ومعنوي) الذي ضمّ 25632 بيتًا من الشعر، وقد بدأ تأليفه سنة 660ﻫ واستمر في نظمه إلى وفاته[14].

وقد استعمل فيه الحكايات والأساطير والتأملات والمجازات والأمثال، وكلها في محبة الله والسعي إلى ذلك الحب. ورموزه وأوصافه تفيض بالوحي الشاعري، ومفعمة بنغمات الشوق والحنين المريرة أحيانًا، وبالمرح أحيانًا أخرى[15].

وهو من أروع ما ألَّف في الشعر الصوفي بالفارسية، وقد تضمّن تعاليم طبيّة وروحيّة لعلاج الأمراض العضوية والنفسية[16]، ولشهرته وإبداعه ترجم إلى عدة لغات.

سنأخذ بعض الأبيات المترجمة إلى العربية منها: قصيدة لجلال الدين الرومي ترجمة زهير سالم عن الفارسية بتصرّف، وهي أنين الناي:

* أنصت إلى الناي يحكي حكايته..

* ومن ألم الفراق يبث شكايته..

* ومذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون

* أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق

* لأبوح له بألم الاشتياق..

* فكل من قطع عن أصله

* دائمًا يحن إلى زمان وصله..

* وهكذا غدوت مطربًا في المحافل

* أشدو للسعداء، وأنوح للبائسين

* وكلٌّ يظن أنني له رفيق

* ولكن أيًّا منهم (السعداء والبائسين) لم يدرك حقيقة ما أنا فيه!!

* لم يكن سري بعيدًا عن نواحي، ولكن

* أين هي الأذن الواعية، والعين المبصرة؟!!

* فالجسم مشتبك بالروح، والروح متغلغلة في الجسم..

* ولكن أنَّى لإنسان أن يبصر تلك الروح؟

* أنين الناي نار لا هواء..

* فلا كان من لم تضطرب في قلبه النار..

* نار الناي هي سورة الخمر، وحميا العشق

* وهكذا كان الناي صديق من بان

* وهكذا مزقت ألحانه الحجب عن أعيننا..

* فمن رأى مثل الناي سمًّا وترياقًا؟!

* ومن رأى مثل الناي خليلًا مشتاقًا؟!

* إنه يقص علينا حكايات الطريق التي خضبتها الدماء

* ويروي لنا أحاديث عشق المجنون

* الحكمة التي يرويها، محرمة على الذين لا يعقلون،

* إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعية[17]

وهو شعر مفعم بالرمزية والشوق الى الله، إذ «تدور فكرة القصيدة حول ذلك الانجذاب الذي يتولّد لدى الإنسان عندما يُطهر نفسه ويصقل قلبه، فيصبح كالمرآة الصافية، فيغدو انعكاسًا لكل ما هو جميل، ومن اللافت أن هذه القصيدة الرائعة تحكي نتائج الوصول، وما تؤول إليه حال العارف عندما يقوم العقل والوجدان بتلك العملية التشاركية التي ترقى بالإنسان إلى موقع القدرة على إطلاق الحكم وفق معايير دقيقة وقيم مضافة»[18].

وقد اختير الناي كأداة لأن أنينه يشبه أنين المحرومين والعاشقين والمساكين، إنَّ اللّوعة والحرقة التي تصدر من أنين الناي هي خير تعبير عمَّا يعانيه هؤلاء الناس من هموم مختلفة[19].

كما استخدم الصوفية الشعر الغزلي والخمريات للدلالة على أن «الصوفي يستعير من المقروء الشعري الخمري الخمرة، وما تُثيره من نشوة لدى شاربها للتعبير عن نور الشهود، ونشوة الوصال بالكينونة الأزلية، وتحقيق الوثبة من الوجود الخاضع لشروط الزمان والمكان.. وفي هذا السياق يرمز الساقي إلى المرشد الذي يأخذ بأيدي السالكين والمريدين إلى حضرة العلو»[20].

وتتحوَّل عند الصوفي مدلولات الشعر الغزلي والخمري الحسية، إلى معانٍ روحية متعالية فيتحوّل الحب والغزل، إلى شوق وعبادة وعمل، والسُّكر والمُدام، إلى الشكر والمقام، والساقي والسُّكرة، إلى المرشد إلى الحضرة. وغيْبة العقل في نشوة المدام، إلى غيْبة الحال في لحظة الوصال، إنها استعارة المحسوسات للدلالة على المعقولات، واللذائذ المادية للتعبير عن المسرّات الروحية، وذلك بتبسيط القول والتمثيل بالمحسوس، لتقريب المعاني إلى النفوس، وإدراك المقصود.

حيث تقول -مثلًا- رابعة العدوية في أبيات بسيطة ورائعة:

راحتي يا أخوتي في خلوتي

وحبيبي دائمًا في حضرتي

لم أجد لي عن هواه عوضًا

وهواه في البرايا محنتي

حين كنت أشاهد حسنه

فهو محرابي إليه قبلتي

إن أمت وجدًا وما ثَمَّ رضًا

وا عنائي في الورى وا شقوتي

يا طبيب القلب يا كل المنى

جُد بوصل منك يشفي مهجتي

يا سروري وحياتي دائمًا

نشأتي منك وأيضًا نشوتي

قد هجرت الخلق جمعًا أرتجي

منك وصلًا فهو أقصى منيتي[21]

ويقول السهروردي في أبيات من قصيدته المشهورة التي يمتزج فيها الغزل بالسُّكر، والحب بالفِكر، والرمز بالعبارة، والتلميح بالإشارة:

أبدًا تحنُّ إليكم الأرواح

ووصالكم ريحانها والراح

وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم

وإلى لذيذ لقائكم ترتاح

وا رحمة للعاشقين تكلّفوا

ستر المحبة والهوى فضّاح

بالسر إن باحوا تباح دماءهم

وكذا دماء العاشقين تباح

ركبوا على سفن الوفا ودموعهم

بحر وشدة شوقهم ملاح

عودوا بنور الوصل من غسق الجفا

فالهجر ليل والوصال صباح

وتمتعوا فالوقت طاب بقربكم

راق الشراب وراقت الأقداح

لا يطربون لغير ذكر حبيبهم

أبدًا فكل زمانهم أفراح

قم يا نديم إلى المدام فهاتها

في كأسها قد دارت الأقداح

من كرم إكرام بدنِّ ديانة

لا خمرة قد داسها الفلاح[22]

لذلك ينهل التصوّف من معين الشعر الغزلي والخمري، ويستعير تلك الرموز ويُعطيها مفاهيم متعالية، ويؤول المعاني في تجربة صوفية روحية، وكأنه يهذّب العبارات المستهجنة، إلى معانٍ مستحسنة، ويسمو بالألفاظ الحسية الرقيقة، إلى الآفاق الروحية الرفيعة.

كما نأخذ للتمثيل على جمال المعنى، وصدق العاطفة، ونبل الموضوع، في هذا النص الصوفي المنسوب للجنيد وهو دعاء من كتاب المناجاة:  «اللهم إني أسألك يا خير السامعين، وبجودك ومجدك يا أكرم الأكرمين، وبكرمك وفضلك يا أسمح السامحين، وبإحسانك ورأفتك يا خير المعطين، أسألك سؤال خاضع خاشع متذلل متواضع ضارع اشتدت إليه فاقتُهُ، وأنزل بك على قدر الضرورة، وعظمت فيما عندك رغبتُهُ، وعلم ألَّا يكون شيء إلَّا مشيئتك، ولا يشفع شافع إليك إلَّا من بعد إذنك، فكم من قبيح قد سترتهُ، وكم من بلاء قد صرفته، وكم من عثرة قد أقلتها، وكم من زلة قد سهلت بها، وكم من مكروه قد رفعته، وكم من ثناء قد نشرته، أسألك يا سامع أصوات المستغيثين، وعالم خفيَّ إضمار الصامتين، ومُطلِع في الخلوات على أفعال المتحركين، وناظر إلى ما دقّ وجل من آثار الساعين، أسألك ألَّا تحجب -بسوء فعلي- عنك صوتي، ولا تفضحني بخفيّ ما اطّلعت عليه من سري.. إلهي وسيدي وسندي أنا بك عائذ لائذ مستغيث مستجير من تكاثف مخاوف علل سري ومن لزوم ذلك ضميري وقلبي، وأرزقني من طعم ذلك اللذائذ السابغة يا أكرم الأكرمين»[23].

أما الإبداع النظري والتأسيس لنظرية في التصوف كعلم قائم بذاته، فيمكن اعتبار الغزالي مؤسسًا مبدعًا للتصوف السُّني منهجًا وموضوعًا، ويشهد ابن خلدون على ذلك، إذ جمع ما قاله فيه أسلافه، وبيّن أصول التصوف وآدابه، وحدّد مناهجه وأهدافه، إذ يقول: «كتب رجال من هذه الطريقة في طريقتهم، فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس... (المحاسبي ت243ﻫ)؛ ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم... كما فعل (القشيري ت465ﻫ)، (والسهروردي ت587ﻫ) وأمثالهم، وجمع (الغزالي) -رحمه الله- بين الأمرين في كتاب الإحياء، فدوّن فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بيّن آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم. وصار علم التصوف في الملة علمًا مدوّنًا، بعد أن كانت الطريقة، عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال»[24].

كل ذلك في مؤلّف ضخم هو إحياء علوم الدين الذي تضمّنه إبداعًا فكريًّا ولغويًّا، كما عالج فيه أهم أفكاره في الفقه، والعقيدة والأخلاق والتربية، وعُدَّ مصدرًا في تلك المجالات لمن جاء بعده لقرون طويلة.

كل ذلك الإبداع الفني والأدبي لم يكن في كثير من الحالات مباشرًا، وإنما غلّف بالرموز، وأحيط بالأسرار، ووظّفت الإشارات والتلميحات، مما يتطلّب فكّ تلك الشفرات وتوضيح تلك اللمحات وتأويل تلك المجازات ليبرز الابداع ويظهر الإمتاع، ويتذوق الجمال في تلك الأعمال، التي تعلّقت بالجلال ووصفت الكمال، لذا كان ضروريًّا تحليل وتعليل وظيفة الرمزية، وتفسير استخدامات التأويل في الإبداع الصوفي.

ثانيًا: وظيفة الرمزية

لقد بدأ التصوف رمزًا، فالصوف يحيل إلى الزهد والفقر، فلا عَجَب إن استخدم المتصوفة لغة خاصة مفعمة بالإشارات والتلميحات والإيحاءات والرموز، فغدت الرمزية أهم آليات الخطاب الصوفي، وهي تتطلّب حتمًا التأويل، فقد تكلّم ابن عربي عن الرمز وذِكْره في القرآن، فقال: «الرموز والألغاز ليست مرادة لأنفسها وإنما هي مرادة لما رمزت له... يضرب الله الأمثال وقال: {اعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}، أي تعجبوا وجوزوا واعبروا إلى ما أردته... وكذلك الإشارة والإيماء»[25].

كما قال شعرًا مبرزًا مكانة الرمز في الخطاب الصوفي:

ألا إنّ الرُموزَ دليلُ صدق

على المعنى المغيب في الفؤاد

وأن العالمين لهُ رُموز

وألغاز ليدعي بالعباد

ولولا اللغزُ كان القول كفرًا

وأدّى العالمين إلى العناد

فهم بالرمز قد حسبوا فقالوا

بإهراق الدماء وبالفساد

فكيف بنا لو كان الأمر يبدو

بلا ستر يكون له استنادي

لقام بنا الشقاء هنا يقينا

وعند البعث في يوم التنادي

ولكن الغفور أقام سترًا

ليُسعدنا على رغم الأعادي[26]

لقد استحبّ الصوفية لغة الرموز ووجدوا أنها تناسب خطابهم، بعد أن برّروها من القرآن، ثم فخَّخوا نصوصهم بالإشارات والرموز، ليصبح فهمها كالكشف عن الكنوز، وعمدوا إلى تبنيها لغة مُفضّلة، ووسيلة مُبجّلة، لإخفاء أفكارهم، وحفظ أسرارهم، فقد استخدموا -مثلًا- رموزًا مستهجنة، صادمة من الشعر العربي، كالخمر والمدام والسكر، والساقي ومجلس السكارى، والمرأة والغزل والحب. وأعطوها دلالات راقية، مقبولة وهي حلقات الذكر والشكر وحصول الذهول والإغماء، والنشوة في الحضرة الإلهية، والشوق والنشوة في الحب الإلهي.

ووظّفوا اصطلاحات كثيرة كرموز منها لغة الطير، فالطير للسفر ورمز سليمان (عليه السلام) حاكم الأرواح لأنه يَعْلم منطق الطير للحكمة والعلم اللّدني، وقد بلغ الوصف الرمزي درجات الرقي الصوفي، الذي يستهدف الاتحاد بالذات الإلهية ذروته، مع جلال الدين الرومي (605/ 711ﻫ) في ديوانه (مثنوي ومعنوي).

وأيضًا مع فريد الدين العطار (513/ 636ﻫ) في كتابه (منطق الطير)، وهو قصة جماعة من الطير انطلقت بزعامة الهدهد للبحث عن ملكهم الخفي (السي مُرْخ) أو (العنقاء)، وبعد عبورها الوديان السبعة وهي: البحث، والحب، والمعرفة، والانفصال، والاتحاد، وإنكار الذات، سمح لمن نجح في الوصول –وكانت ثلاثين- بدخول حضرة (السي مرخ) وهناك أدركوا أنهم هم (السي مرخ)[27].

وهي رحلة روحية معراجية للبحث عن الكمال والحق، وقد استمد العطار من قصة سليمان (عليه السلام) بعض الرموز والمعالم وأعطاها دلالات تُحيل إلى الاتحاد.

لقد وجد المتصوفة في الرموز خيْر معين لإخفاء أسرارهم، وتغليف علومهم بحيث لا يتيسر فهمها إلَّا لخبير، وبذلك لا تكون في متناول العامة.

وإن كان ابن خلدون «يدعو إلى حمل ألفاظهم على القصد الجميل، لأنهم أهل غيبة عن الحس، فينطقوا بما لا يقصدونه، والتصوّف المحمود عنده هو تصوّف سلف الأمة الذين لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب، وإنما همّهم الاتّباع والاقتداء بالرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الأطهار»[28].

ثالثًا: استخدام التأويل

التأويل في حدّ ذاته عمل إبداعي لأنه يتطلّب أدوات تفكيك النص وتحليله وتفسيره تفسيرًا جديدًا، إذ يرتبط التأويل بالنص، فالتأويل أداة من أدوات الكشف عن المعنى الباطني للنصوص عندما يتعذّر الوصول الى المعني الظاهري لها، لأن الكلمة لها ظاهر وباطن كالحقيقة التي قد تظهر جليّة مباشرة، وقد تكون مخفيّة وراء حجاب، وقد تتكشف بشكل غير مباشر، بعد تبديد السحب، وإزالة الحُجب، وبالتعويل على التأويل الذي لا يتأتَّى، إلَّا بعد جهد وتحليل عقلي، وتمكّن ودليل لغوي، وتشبّع وتعليل ثقافي.

فالتأويل نشاط نقدي يستنطق النصوص المُبهمة، والمعاني المُستغلقة، والكلمات المُرمّزة، إنه قراءة ابداعية للنص تغْترف من مدلولات اللغة، والتراث الثقافي، ونشاط التأمل والخيال، لتغوص فيما يجود به النص من أسرار، وما يُحيل اليه من أخبار، وما يحقّقه من أنوار.

لقد وجد المتصوّفة ضالتهم في التأويل «فاختصّوا بالتأول والغوص في الباطن أكثر من كل الفرق، فإن العرفان الصوفي، يمثل المنهج التأويلي بامتياز، فمع العرفان بما هو تأويل، يتقاطع البيان والبرهان والحدس والاستدلال، والوحي والنظر»[29].

«والحقيقة أنه ليس فهم مسائل الدين وتأويلها ما يصح أن نسمّيه صادقًا أو كاذبًا، مادام قائمًا على أساس الكتاب والسُّنة، ومادام المتأوّل لا يخرج بالنص عن المعاني التي جرى بها العرف على اللسان العربي، بل أقصى ما يجب أن توصف به تأويلات المتأولين هو أنها حرفية ضيقة، أو متحرّرة واسعة، أو أنها أكثر عمقًا في الروحانية أو أنسب لموضوعها وهكذا»[30].

والحقيقة أن ثورة التأويل التي قادها مبكرًا المتصوّفة تعدّ بحق موقفًا حداثيًّا بامتياز، لأنهم ثاروا على محتكري التأويل من المفسرين، ورأوا أن من حقهم قراءة النص المقدّس دون واسطة، مستفيدين من عدم وجود رهبانية في الإسلام. والحداثة تُقرأ هنا من ناحية تجديد القراءة وتجديد الخطاب، ومن جهة أخرى تجديد في الأدوات والمضامين والمصطلحات والموضوعات.

ومع ذلك عُدَّ موقفهم خروجًا عن المألوف من السلطة التقليدية المتضامنة مع المفسرين الظاهريين. ولم تمرّ ثورتهم تلك دون عقاب، إذ تعرّضت محاولتهم الجريئة للتجريم والتحريم، وبرغم ذلك يُحسب للمتصوفة أنهم أول من طالب بقراءة حرّة للنص المقدّس، وفتح باب الاجتهاد فيه، دون قيود مذهبية أيديولوجية كانت أو سياسية، وهو سبق معرفي وإبداع منهجي يحسب لهم دون شك.

لقد استخدم المتصوّفة التأويل في قراءتهم للنصوص وخاصة المقدّسة منها أي القرآن الكريم، والحديث الشريف، وبالتالي فتحوا آفاقًا جديدة لفهم متجدّد مبدع للنص الديني، ثم كتبوا وألّفوا وغلّفوا نصوصهم بحيث فرضوا التأويل على غيرهم، لأنهم نسجوا نسْجًا لا يُفهم إلَّا بالتأويل، وبالتالي استخدموه وأبدعوه أداةً ومنهجًا في الوقت نفسه.

ﷺ رابعًا: في الخط وسرّ الحروف

الخط فن إسلامي قائم بذاته، وقد تطوّر الخط بتطوّر أنواعه وأشكاله وتداخله مع فن الزخرفة للمباني والمساجد وكتابة الآيات على الجدران والسجاد ونسخ الكتب واللوحات، وتفنّن المسلمون إلى حدٍّ كبير في ذلك إذ تعدّدت أنواع الخط وبرز فن الأرابيسك ولم تعرف أمة من الأمم كالأمة الإسلامية قدّست لغتها وطوّرت الخط نتيجة نزول القرآن بالحرف العربي[31].

تأثير التصوّف على اللغة من حيث تحطيم الحواجز والقواعد المتعارف عليها، وأيضًا في تطور الخط العربي موجود، فالخطّاط يحتاج إلى لحظات عُزلة واعتكاف لإنتاج لوحاته، وإبداع خطوطه، تُماثل لحظات التأمل والمناجاة التي يقوم بها المتصوف.

وقد كسب الحرف العربي قدسيته باعتباره حامل كلام الله، وقد أدرك المتصوفة ذلك فجعلوا للحروف أرواحًا وأرقامًا وأسرارًا، واستمدوا ذلك من قراءتهم لفواتح سور القرآن الكريم.

كما امتزجت الحروف والأرقام لديهم، وتجسَّدت في حلقات الذكر، وفي طقوسهم ومربعاتهم الروحانية، وكتاباتهم وأشعارهم، إذ يجعلون للحروف مقامات، فمثلًا يقول بعضهم: «الألف سماوية والياء أرضية، وكذلك العرش سماوي والقلب أرضي. فلهذا جعلت الألف للنصب، والياء علامة الكسر، والواو علامة الرفع، لأن الرفع ما بين النصب والكسر، فإن الواو اسم الروح، والألف اسم الحق، والياء اسم الخلق»[32].

كما نُشير على سبيل التمثيل أن ابن عربي ألَّف كتابًا في الحروف هو كتاب الميم والواو والنون[33]، كما حفل ديوانه بذكر الحروف وأسرارها الخفية، وقد خصّص لها أكثر من 2900 بيتًا[34]، وهو ما يُشير أن الصوفية مارسوا طقوسًا واستخدموا أسرار الحروف وطلاسم وألغازًا تُشبه السحر.

ولكن ابن خلدون يبُرئهم من السحر قائلًا: «وقد يوجد لبعض المتصوفة وأصحاب الكرامات تأثير أيضًا في أحوال العالم، وليس معدودًا من جنس السحر، وإنما هو بالإمداد الإلهي؛ لأن طريقتهم ونحلتهم من آثار النبوة وتوابعها.. إذا اقتدر أحدهم على أفعال الشر لا يأتيها لأنه متقيّد فيما يأتيه يَذَرُهُ لأمر الله»[35].

أما الخط فقد تفنّن الخطاطون في رسم وإبداع أشكاله وأنواعه ومجالاته، وقد شغف الأوربيون أيضًا بفنون الخط العربي، إذ «ظهر اقتباس شرقي الطابع في التهافت الكثير على الحروف العربية باستخدامها لغايات زخرفية... لتأثير الفن الإسلامي المباشر على الصناع المسيحيين»[36]. والعجيب أن هذا التأثر مازال قائمًا إلى اليوم لما فيه من إتقان وفن وجمالية. وإن كان هذا التأثير الجمالي الصوفي له تأثير في جوانب عديدة من الثقافة الأوربية، وقد استمدت منه في مجالات متعدّدة، فلسفية وفكرية وفنية، وهناك ما يقرون به وما لا يقرون به، ونشير «على أن المقدار المستمد عظيم جدًّا بدون شك، فقد يكون عجبًا ألَّا يصل تأثير هذا المنزع إلى شخص كتوما الإكويني وإكهارت ودانتي»[37].

ﷺ خاتمة

إن مصاحبة موضوع جمالية التصوّف في سياحة فنّية أمر ممتعٌ شيّق، ولكن اختصار البحث في بضع صفحات لأمر بالغ الصعوبة، ولا يمكن أن يًعطي الموضوع من الدراسة والتحليل حقّه، لثراء التجربة الصوفية وامتدادها التاريخى الزماني والمكاني، ولكنها محاولة تُمثل إشارة وتنبيهًا إلى مبحث مازال يشكّل حقلًا خصبًا واسعًا، يحتاج إلى كثير جُهدٍ وأن يُولى أكبر قدرٍ من البحث والاهتمام.

ولعلنا في هذه المحاولة أشرنا فقط إلى معالم من جمالية التصوّف، ومدى أصالة مباحثه والإضافات التي يقدّمها للفكر الفلسفي الإسلامي خصوصًا، والتراث العالمي عمومًا، لأن «المؤلفات الكبرى لمتصوفي الإسلام العظام ستظل تستحوذ على إعجاب كل أولئك الذين تستجيب قلوبهم للجمال، ويتعطّشون إلى المطلق.. أن يجدوا فيها غذاءً لتشوقهم الروحي»[38].

تلك الجمالية التي أحلنا إلى بعض معالمها، والملاحظ لتلك المعالم يُدرك أن التجربة الصوفية لم تعد ممارسة دينية تعبّدية منزوية ومنعزلة عن المجتمع كما انطلقت في البداية، ولكنها بعد أن انطلقت وتحرّرت من عقالها، فأبانت عن إبداع ثقافي حقيقي يمسّ جوانب مهمّة من النشاط الفكري والثقافي للإنسان، كالشعر والنثر والقصص، والأمثال والخط والمديح والإنشاد والذكر، والسماع والموسيقى والرقص والعلاج النفسي والروحي وغيرها من الآثار، التي انتشرت وأثّرت في الشرق والغرب.

كما كانت من جهة أخرى ثورة روحية سلمية على السلطة وعلى الفتنة بالرجوع واللجوء إلى الله، ونتج عن هذه الثورة جمالية في المضمون أي ثورة بيانية مسّت الخطاب الصوفي الذي أصبح خطابًا إبداعيًّا جديدًا يتميّز عن الخطاب التقليدي، في مضامينه وأدواته التي أشرنا إلى بعضها في تحليلنا.

كما نودّ أن نُنوّه بهذه التجربة لأنها صمدت، برغم أنها نشأت في ظروف صعبة وتعرّضت للتضييق والتعنيف وحتى التكفير، وذلك بسبب تأويل وتفسير قد لا يكون دقيقًا، أو لم يدرك حقًّا كُنه شطحات أو أحوال الصوفية، لذلك دعا العلامة ابن خلدون إلى حمل ألفاظهم على القصد الجميل[39].

ولعل استمرار وجودها مردّه أن الصوفية قدّمت نفسها أنها حركة تعبّدية مسالمة معتدلة، تنبذ الصراع والتقاتل، ولم تقدّم نفسها يومًا كمذهب ديني خارج عن صحيح الإسلام، أو كحزب سياسي له طموحه للحكم والزعامة.

وذلك ما عِيب عليها واعتبره البعض سلبية وعدم مجابهة ودعوة إلى الاستسلام والخنوع والكسل[40].

لكن لم يكن التصوّف يومًا حالة تعبُّدية منفصلة عن الواقع، وإنما عملية تزكية للنفوس المريضة، التي غلب عليها تحقيق المطالب المادية، دون مراعاة للقيم الأخلاقية، ومنه كان التصوف دعوة إصلاحية، لمحاربة الأمراض الاجتماعية والنفسية، وحتى السياسية، لأنه ردّ فعل على زمن انتشرت فيه المذاهب والفتن، وعمَّت فيه المفاسد والمحن.

وككل تجربة إنسانية لقد عرفت الصوفية فترات قوة وسمو وتجلٍّ، كما عانت من مواقف ضعف وتدنٍّ وتخلٍّ.

وكما ذكرنا في البداية لقد أردنا أن نثبت وجود جمالية في التجربة الصوفية، ونعتقد أننا أشرنا إليها، وقد أكدنا أننا لسنا مطالبين بمحاكمة تلك التجربة؛ لأنها تمثل في اعتقادنا اجتهادًا في البحث عن الحقيقة والجمال والجلال فيها، والبحث عن الحق دومًا طريق صعب، طويل محفوف بالمخاطر، كما يبقى واردًا جدًّا في أي اجتهاد الإصابة أو الخطأ.

 

 

 

 



[1] جوزيف شاخت وآخرون، تراث الإسلام ترجمة: حسين مؤنس وآخرون، الكويت: عالم المعرفة، عدد 12، ج 2، 1978، ص 54.

[2] صالح أحمد الشامي، الظاهرة الجمالية في الإسلام، بيروت - دمشق: المكتب الإسلامي، ط 1، 1986، ج 1.

[3] ينظر: الغزالي، الإحياء، عالم الكتب، دمشق، ، ج 4، ب ت، ص 256 - 257.

[4] ينظر: صالح أحمد الشامي، مرجع سابق، ص 26.

[5]) سورة غافر، آية 22.

[6]) سورة التوبة، آية 22.

[7]) سورة فصلت، آية 53.

[8]) نجم الدين كبرى، فوائح الجمال وفواتح الجلال، تحقيق ودراسة: يوسف زيدان، الكويت، القاهرة: دار سعاد الصباح، ط1، 1993، ص 201.

[9] سورة لقمان، آية 20.

[10] سورة العنكبوت، آية 45.

[11] أبو نصر السراج الطوسي، اللمع، تحقيق وتقديم: عبد الحليم محمود وآخرون، القاهرة- بغداد: دار الكتب الحديثة، دار المثنى، 1960، مقدمة المحقق، ص 9.

[12] ينظر في ذلك: الرسالة للقشيري، والتعرف لمذهب أهل التصوف للكلابذي، والإحياء للغزالي.

[13] الغزالي، المنقذ من الضلال، صيدا - بيروت: المكتبة العصرية، ط1، 2003، ص65 و66.

[14] ينظر: ندى حسون، الطب والمتعلقّات به في مثنوي مولانا جلال الدين محمد مولوي، مجلة جامعة دمشق، المجلد 27، العدد 1+2، 2011، ص 141-174، ص 147.

[15] جوزيف شاخت، مرجع سابق، ص 70.

[16] ينظر: ندى حسون، مرجع سابق، 171.

[17] https://ar.wikipedia.org/wiki جلال الدين الرومي.

[18] ألما المحمد، نار العشق في جلال الدين الرومي، مجلة ثقافتنا، المجلد 6، العدد 23، (الصفحات 177، 194)، طهران، 2010، ص 188.

[19] ينظر المرجع نفسه، ص 188.

[20] خديجه توفيق، التلقي في الشعر الصوفي، مجله علامات محور العدد: 28 الخطاب ومحدداته، (ص 64، 70)، مكناس، 2007، ص 69.

[21] عبد الرحمن بدوي، شهيدة العشق الإلهي، الكويت: وكالة المطبوعات، 1978، ص 54، 55.

[22] سامي الكيالي، السهروردي، القاهرة: دار المعارف، 1966، ص 102.

[23] الطوسي، مصدر سابق، ص 329، 330.

[24] بن خلدون، المقدمة، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ب ت، ص516.

[25] ابن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق وتقديم: عثمان يحيى، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، د ت، ج 1، ص 187.

[26] المصدر نفسه، ص186.

[27] ينظر: أرنولد نيكلسون، التصوف، مرجع سابق، ص 339.

[28] ابن خلدون، مصدر سابق، ص516.

[29] علي حرب، التأويل والحقيقة.. قراءات تأويلية في الثقافة العربية، بيروت: دار التنوير، ط1، 2007، ص 6.

[30] أبو العلاء عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام، الإسكندرية: دار المعارف، ط 1، 1963، ص5.

[31] ينظر: صالح أحمد الشامي، ميادين الجمال في الظاهرة الجمالية في الإسلام، بيروت- دمشق: المكتب الإسلامي، ط 1، 1988، ج 2، ص 253.

[32] نجم الدين كبرى، مصدر سابق، ص 201، 202.

[33] ينظر: ابن عربي، كتاب الميم والواو والنون، تحقيق وضبط عبد الرحيم مارديني، بيروت: دار المحبة، ط1، 2003.

[34] ينظر: ديوان ابن عربي، شرح أحمد حسن يسج، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1996.

[35] ينظر: ابن خلدون، مصدر سايق، ص 502.

[36] توماس أرنولد، الفن الإسلامي وأثره على التصوير في أوربا.. بحث في تراث الإسلام، مرجع سابق، ص 225.

[37] أرنولد ألن نيكلسون، التصوف، مرجع سابق، ص306.

[38] جورج ش قنواتي، الفلسفة وعلم الكلام والتصوف.. بحث في تراث الإسلام مرجع سابق، ج 2، ص79.

[39] ينظر: ابن خلدون، مصدر سابق، ص516.

[40] ينظر: زكي مبارك، الأخلاق عند الغزالي، صيدا: المكتبة العصرية، ب ت.