شعار الموقع

الشمس المتوهجة .. قول في كونية العقل الصوفي

عبدالرزاق بلعقروز 2019-06-06
عدد القراءات « 1033 »

الشَّمسُ المتوهّجة..

قولُ في كونية العقل الصوفي

الدكتور عبدالرزاق بلعقروز*

نصر الدين بن سراي**

 

* أستاذ محاضر، جامعة محمد لمين دباغين، سطيف 2، الجزائر.

** طالب دكتوراه، فلسفة القيم وإبستمولوجية العلوم الإنسانية، جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2. الجزائر.

 

 

أولًا: فاتحة واستهلال

إن أول ما يواجه الباحث في التصوف المقارن هو صعوبة إيجاد تعريف جامع مانع للتصوف كموقف روحي يتسم بالنشاط والتأمل، الذي تلازمه حالة وجدانية ونفسية مخصوصة، والسبب خلف كل هذا هو تنوّع هذه التجربة واختلاف أشكالها وحضورها في جميع دوائر الفكر والحضارة الإنسانية، وبمعزل عن الأديان والملل التي تعتقدها، سواء كانت التوحيدية منها أم الوضعية، فالتجربة الصوفية مهما تنوّعت أشكالها ظاهرة عند أغلب الأديان سواء المنزلة (اليهودية، المسيحية، الإسلام)، أم الوضعية (الهندوسية، البوذية) وأيضًا لدى التأملات الفلسفية (الزرادشتية مثلًا)، التي تقر إما بالتوحيد أو بوحدة الوجود.

هذه الأنماط من التصوف تهدف في غاياتها إلى تحصيل الاجتهاد لمحاولة الوصول أو الاتصال بالحقيقة المطلقة أو التدرج والمشاركة في السر الإلهي، وهذا الاتصال لا يكون بالنظر والبرهنة أو الاستدلال، بل عن طريق النور الإلهي أو المعرفة الحدسية التي ترتفع عبر السبل التأويلية الباطنية، وصولًا إلى الشعور الحي بتحقيق الكلية مع ما هو جوهري إلى درجة الاتحاد معه، وبلوغ النشوة الروحية الكاملة بسبب الوصول إلى المبدأ الأعلى الذي تُختزل معه المسافات ويتوحّد فيه الجزئي بالكلي والنسبي بالمطلق.

إن هذه المرتبة عند المتصوفة وبمعزل عن مللهم ونحلهم، موقوف حصولها على رياضات نفسية وممارسات تعبدية مُجهدة زمنيًّا ونفسيًّا وجسديًّا.

وبناء على هذه الملاحظات المبدئية، أي إدراك عناصر الالتقاء أو العناصر المشتركة بين التجارب الصوفية المتنوعة طريقة، والمختلفة حضارة، فإننا سنحاول في مطالعتنا هذه، تسليط الضوء على الكليات التي تتقاطع فيها التجارب الصوفية المتنوعة، وذلك بتوظيف أدوات التحليل والقراءة التي يوفرها علم التصوف المقارن، وتوسُّلًا كذلك بمكتسبات المنهج المقارن بغاية تفسير التداخل الموجود بين هذه التجارب الصوفية المتنوعة، بخاصة لدى الأديان المنزلة والوضعية التي تلتقي رغم ما بينها من اختلاف في مستوى الأسئلة الكلية والنهائية، أي بتلك المتعلقة بأسئلة المبدأ والمعاد أو المأتى والمصير.

فالتجربة الصوفية كما يقول أحد المهتمين بالتصوف المقارن، خبرة معيشة تتجاوز إمكانات القول والكتابة والإدراك الفكري، ومع ذلك فهي لحظة تتسم بالعالمية في الخبرة الإنسانية العامة، ومتجذرة باستقلال في لحظة إشراق ذاتي، وهي وليدة ذاتها ليست بحاجة إلى تصديق أو تبرير من خارجها.

ثانيًا: في مفهوم التصوف المقارن

تجدر الإشارة قبل مباشرة أي جهد تحليلي أو تفسيري الوقوف على الأرضية المفهومية لمصطلح التصوف، سواء من وجهة نظر فلسفية بخاصة على النحو الذي تقرأ به مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة النص الصوفي، أم المفهوم الذي نجده مبثوثًا في شُعب المعرفة الإسلامية الموروثة، فالتصوف mystique حسب أحد المعاجم الفلسفية «مذهب أو اعتقاد يتأسَّس على المشاعر والحدس، والمتصوفة يعتبرون أن المشاعر وحدها ترفع الأفكار إلى رتبة اللاّمتناهي... ويرى الثيولوجيون أن التصوف الحقيقي يلتمس تقنية عالية الدقة، وتحضير شديد يمنع الخلط مع أية فوضى في الشعور، ونميّز بين تصوف سلبي يقود إلى عدمية الفرد في الألوهية، وتصوف إيجابي ينادي إلى العكس، أي إلى ملء النفس بالنور الإلهي»[1].

وإنه ليبدو أن هذه المقاربة تستبطن المفهوم الكلي لمصطلح التصوف، فالعناصر المكونة لهذا التصور كالمشاعر، والجهد الشديد، والتقنية التربوية هي المكونات المبثوثة في شعب التجارب الصوفية الإنسانية، أما المفهوم الذي شكّله الموروث الثقافي الإسلامي فيحتوي على الخصوصية الممثلة في التأطير الشرعي والبناء المقاصدي، مثال ذلك تعريف أبو حامد الغزالي للتصوف ووصف الطرق المؤدية لصلاح النفس وإرضاء المولى عز وجل، فهو برأيه «تصفية القلب عن مرافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلّق بالعلوم الحقيقة وإتباع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الشريعة»[2].

ومن هذا التعريف يتبدَّى لنا الحضور الشرعي في ضبط المفهوم وتحديد العناصر الأساسية، وذلك لأنه محكوم باتِّباع الشريعة التي تمنحه وصف المشروعية والصلاحية، وضمن هذا المقام، يقول رونيه غينون أو الشيخ عبدالواحد يجي: «الالتزام بالشريعة هو الشّرط الأول الذي يتوقّف عليه الاقتراب من التصوف؛ وفوق ذلك، لا ينبغي اعتقاد أنه يستغنى عن الشريعة بعد سلوك الطّريق، مثلما أن الأسس لا يمكن إزالتها عند الانتهاء من تشييد المبنى. بل نضيف بأن الشريعة في الحقيقة بعيد عن أن تطرح جانبًا، بالعكس ينبغي أن تتجوهر بمقدار مناسب للدرجة التي يبلغها السالك... والشخص الذي لا يلتزم بأي شريعة سوية، لا يمكن أن يحيا إلَّا حياة غفلة دنيوية بحتة»[3].

أما التصوف المقارن الذي هو موضوع هذه الورقة، فيتأسَّس على النظر إلى التصوف انطلاقًا من أنه ظاهرة دينية عالمية تسم الأديان جميعًا، ولا تتقيَّد بحدود الزمان والمكان أو الدوائر الحضارية المختلفة، ومن أخص أوصافها أن الصوفي من مختلف الدوائر الحضارية والثقافية إنما يصدر من قناعة راسخة مفادها «أن الحقيقة الكلية تجاوز التجربة الإنسانية العادية والاعتيادية المستفادة من الحواس أو الخطاب بالكتابة والقول أو الاستدلال، ثم هو يعتقد بأن الوسائل البشرية المعتادة في الخطاب غير قادرة على التعبير عن الحقيقة الإلهية، إذ الحقيقة الصوفية هي مما لا يمكن الإشارة إليه بالعبارات[4] وحتى الإيماءات الرمزية الغامضة التي يتوسَّل بها الصوفي إلى بيان مقصوده، لا تضيف جديدًا إلى المقصود، إنها خبرة مخصوصة لا يمكن فهمها إلَّا ممن يتذوَّقها بذاته أو من صوفي قرين له كابد التجربة بنفسه»[5].

وهذا الوصف نجده يخترق التجارب الصوفية تتساوى في ذلك ذات الجذر الفلسفي أو الديني، هذا ما نعثر علية في القراءات المعاصرة التي تجعل من التجربة العرفانية موضوعًا لتأمُّلاتها، وتقرؤها على ضوء المكتسبات المعرفية التي يفرزها الدرس الألسني والإبستمولوجي المعاصر.

ويرى أحد المهتمين بالدرس العرفاني المعاصر وهو ميشال دوسارتو (1925 - 1986) Michel de sarteau، أن النص الصوفي يتكلَّم بالعبارة وعبرها، فهناك انفصالات وانزياحات لا تنضب، تُغيِّر باستمرار هذا النسيج العرفاني، وتؤسِّسه كخطاب تحتويه آليات التحليل النفسي والحفري واللغوي بحذافيرها، فما دام النص الصوفي خطابًا مثبتًا بالحرف وبالعبارة، فهناك دومًا إمكانية معرفية في قراءته نقديًّا بمعزل عن كل إكراه دوغمائي أو اتجاه أيديولوجي... وأن التجربة العرفانية تجد تجلياتها المعرفية والقيمية في الحكاية، أي في نقل المحتوى الرمزي والدلالي والميتافيزيقي إلى العبارة، وهو ما نصطلح عليه بالاسم الثلاثي، التعبير والتفكير والتدبير (اللغة/ الفكر/ الواقع)[6].

وإذا كان التفكير يعني الإطار الأدبي والمضمون الدلالي والرمزي، فإن التدبير هو المحتوى الأخلاقي والقيمي وأشكال العلاقة مع الأفراد والمعبود أفقيًّا وعموديًّا، هذه المكوّنات تجد محتواها النظري والعملي في التعبير، ويمكن التمييز على ضوء هذا بين نمطين من أنماط التجربة الصوفية بمعناها الكلي هما:

النمط الأول: الوعي الصوفي المنفتح على الخارج (تلازمه مقولات الواحد والمتكثر، الظاهر والباطن).

النمط الثاني: النمط المنكفئ على الذات، أو النظر إلى العالم وظواهره على أنه نتاج متأخر لشعورنا.

ثالثًا: مظاهر كونية العقل الصُّوفي

مرادنا في هذه المساحة من التَّحليل، رصد نقاط الالتقاء بين التجارب الصوفية سواء من داخل المعتقد، حيث تقف كل فرقة صوفية على شرعية تأويلية مخصوصة، أم مع الذين يقعون خارج هذه الدائرة من ملل ونحل تنتمي إلى أديان متعدّدة، ومذاهب فلسفية مبثوثة في التاريخ الإنساني فكرًا وممارسةً؛ لذلك سنحاول رصد المظاهر المشتركة، يمكن إجمالها في:

1. الاستعصاء على التعبير

هذا الوصف اعتبره أحد المهتمين بالتصوف المسيحي علامة مشتركة وعامة في التجربة الصوفية، وقد سمَّاها الإمام الغزالي كلل اللَّسان، وابن عربي الخرس، وصوفية الهندوس الصمت المطلق، أو بعبارة أخرى: غلق منافذ الحواس وفتح البصيرة الجوانية.

إذ إن المنطلق هو الاشتغال بعمارة الباطن ومغالبة النفس بالمجاهدة والرياضة، وقطع العلائق وهجر العوائد وإزالة العوائق، أما الغرض من هذا كله، فهو الوصول إلى الفناء عن الغير وتعلّق القلب بالمبدأ الأعلى وحده.

وتصاحب هذه التجربة أحوالًا وجدانية ونفسية يرى المتصوفة أنه من غير الممكن وصفها أو التعبير عنها تعبيرًا كليًّا، فالدخول العملي والمباشر في هذه التجربة هو الطريق نحو معرفتها، لأن اللسان المطلق والقلب المطبق المملوء بالغفلة والشهوة علامة الشقاوة؛ وما لم تقتل النفس بصدق المجاهدة لن يحيي قلبك بأنوار المعرفة، وإحياء القلب بأنوار المعرفة لا يستقيم التعبير عنها باللغة أو الكلام.

أو بعبارة الغزالي: «إن بعض المسائل لا يستقيم جوابها بالكتابة والقول، إن لم تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي، وإلَّا فعلمها من المستحيلات لأنها ذوقية، وكل ما يكون ذوقيًّا لا يستقيم وصفه بالقول كحلاوة الحلو ومرارة المر لا يعرف إلَّا بالذوق»[7].

فالتجربة الصوفية كما يقول وليم جيمس في كتابه: «أشكال التجربة الدينية» vartieties of religious expérience تتحدى التعبير، فليس في الإمكان التعبير عن مضمونها في كلمات[8] «فالحالات الصوفية مستعصية على التّعبير، فلا يمكن وصفها بغير الصور والإيحاءات العادية»[9].

إذن فالاستعصاء على التعبير وصف ملازم للتجربة الصوفية أو «إن الصمت[10] ظاهرة مستحكمة في التجربة الصوفية، لأن الذي يعانيها يبدأ المحاولة بغلق منافذ الحواس كليا (في الهندوسية مثلًا)، وذلك استباقًا وتمهيدًا لفتح البصيرة الجوانية واستباقًا للمعرفة النورانية، التي سرعان ما تنبثق من أغوار النفس التي وصلت في معراجها الروحي إلى الحق تعالى (عند صوفية الإسلام)، أو التحدث بالنفس الكلية في التصوف الهندوسي»[11].

2. سيلان اللّسان وانسحاب اللغة

لقد سبق الذكر في مسألة الاستعصاء على التعبير؛ أن التّجربة الصوفية، تجربة ذوقية تدرك بالدخول فيها ولا يمكن معرفة كنهها بالعقل أو الفكر المجرّد، وتشكّل اللغة داخل هذا الفضاء حاجزًا يجب تكسيره وتجاوزه، ومن أشكال هذا التجاوز اللجوء إلى لغة الإشارة والرمز وتغيير دلالات العبارات، بتلوينها بمضمون جديد يناسب المرتبة النفسية أو المقام الروحي الذي يحياه المتصوف.

وإلى هذا المعنى أشار أبو الحسن الششتري حيث يقول:

ثم خاطبتني كما تدري

ففهمت الخطاب

ثم شاهدت وجهك البدري

عند رفع الحجاب

وسمعت الخطاب من ذاتي

من مكان قريب

يا حياتي وأنت في ذاتي

حاضر لا تغيب[12]

والتوسل بالإشارة دون العبارة يعكس في حقيقته ثنائية تبدو جدلية، ترى بأن «ما لا يمكن التعبير عنه» لا يمكن السكوت عنه أيضًا، إنها مفارقة عجيبة تجعل من الخطاب العرفاني في آنٍ واحد لا إمكانية التعبير، واستحالة الصمت؛ متردد بين اللامنطوق والمنطوق، «إنه بالأحرى ظاهرة قابلة للملاحظة والتَّجريب؛ لأنه ينبثق عن كل مكان ويتحرّك في كل اتجاه فهو مواقعي، تشهد آثاره ويختفي جوهره، تفحص بنياته الدينامية وتتوارى أحواله الروحية، فحركة ما هو تحتي (متوارٍ) تتجلى آثاره على السطح المواقعي... بمعنى التحام المنطوق واللامنطوق اللذين يؤسِّسان ظاهرة التجربة وظواهرية الخطاب»[13].

إن هذه اللطيفة البعيدة القريبة تنبِّئنا بمدى الالتحام الحاصل بين اللغة والمستحيل النطق به، غير أن اللغة المقصودة هنا ليست هي اللغة العبارية بل اللغة الإشارية الرمزية، التي تنوب مناب الأولى وتملأ الفراغ الذي تتركه لغة العلامة، لأنها تُعطي للنص كثرة دلالية وتعدّدية في التأويل.

3. التَّكامل بين الذّوقي والمنطقي[14]

قد يبدو الانطباع الأولي بالنسبة للمتأمل في هذا العنوان الجزئي أننا نجمع بين نقيضين، إذ كيف يستقيم عقلًا أن يكون هناك جمع بين طريق المعرفة الذوقي والطريق المنطقي، لأن مدار الأولى الحدس أو المعرفة المباشرة من النور الإلهي أو النفسي، وهي معرفة يقذفها الله سبحانه وتعالى في صدر العارف دون توسّط منطقي أو إعمال فكري.

في حين يكون مدار الطريق المنطقي، هو التفكير بالعقل والاستدلال واستخلاص النتائج من المقدمات للبرهنة وتأسيس القناعة، فالمعقولية شرط للاعتقاد وصفاء النفس وإدراك اللذة العقلية القصوى، غير أن هذه الحقيقة لا تقل لطافة عن سابقتها، وستُجلَى الأفهام، ويُزال الغموض، إذا عرفنا أن من خصائص التجربة الصوفية الجمع بين الذوق والمنطق، ومن أنَّ كبار المناطقة، وفلاسفة التحليل، كانوا لا يقلّون شعرية ووجدانية عن نظرائهم المتصوفة بالمعنى الخالص.

هذه اللَّطيفة نعثر عليها في التراث المعرفي الصوفي الإسلامي، وفي غيره من تراث الفكر الإنساني، بخاصة في الفلسفة المعاصرة وقطاعها المتعلّق بالتَّحليل المنطقي واللغوي للفلسفة، بل أكثر من ذلك أن الجمع بين التصوف والمنطق علامة على عبقرية قصوى لا ترقى إلى رتبتها عبقرية من عرف أحدهما ولم يعرف الآخر.

يقول الفيلسوف الإنجليزي الشهير بيرترند رسل في مقال يحمل عنوان «التصوف والمنطق»: إن أعظم الذين كانوا فلاسفة شعروا بالحاجة إلى العلم والتصوف معًا، إذ ظلوا في حياتهم يسعون إلى التأليف بينهما، هذا السعي الذي، وإن حفَّه شك مضنٍ، يرى البعض أنه ينبغي دائمًا أن يجعل الفلسفة أعظم من «العلم المجرد» وأعظم من «الدين المقلد»[15].

ومن النماذج التي يسوقها رسل للبرهنة على موقفه أفلاطون وهيرقليطس بخاصة الأخير الذي تنخرط لغته في سياق اللغة الإشارية التي تخفي أكثر مما تعلن، شبيهه بالحكمة المضغوطة التي لا تفك رموزها من القراءة الأولى، بل تحتاج إلى من يرفعها إلى مرتبة جعلها فنًّا من الفنون، أو فن القراءة البطيئة[16].

وغير بعيد عن الفيلسوف الإنجليزي رسل وفي أفقه القريب «واحد من أصدقائه الذين تأثّروا بفلسفته الذريّة في مطلع حياتهم الفكرية، لم يحل تبحّره في المنطق بينه وبين الاشتغال بالتصوف، حتى إنه كان يفاجئ مستمعيه بقراءات في الشعر الصوفي أو مناقشات في قيمة التصوف حيث كانوا يترقبون منه نظرات في الفكر المنطقي أو مدارسات في فائدة المنطق، وما هذا الفيلسوف إلَّا النمساوي لودفيج فتجنشباين الذي نفذ تأثيره في شتى مجالات المعرفة والفكر»[17].

وإذا كان هذا الوصل حاضرًا بين التصوف والمنطق في فلسفة التحليل والمنطق المعاصرين؛ فهو في الفلسفة الإسلامية أشد وأقوى، فهذا أبو حامد الغزالي الذي اشتغل بالمنطق وتبحّر في مسائله وأبوابه، نجده منطقيًّا بقدر ما هو صوفي، فلقد أدخل المنطق إلى فروع العلوم الإسلامية وعمل على تحييده علميًّا وتأسيسه قرآنيًّا وتوظيفه فقهيًّا، وابتكر له أسماء من داخل المجال التداولي الإسلامي؛ نحو محك النظر ومدارك العقول والقسطاس المستقيم، حتى يصرف عنه الصبغة التَّجريدية، ويجعله مثمرًا سواء في الإلهيات أو المنطقيات أو الفقهيات.

وهذا التَّمكين للمنطق والتمكّن فيه، لم يمنع الغزالي من الاشتغال على التصوف مدارسة وممارسة، فهو الداعي إلى إحياء فقه القلوب، وتطهيرها من مذموم الأوصاف وخبائث النفوس، والمدافع بقوة الحماس نفسها التي دافع بها عن المنطق، ووصف من لا يلتزم بقواعده، إنه لا يوثق بعلمه، وهو القائل بالعلم اللّدني الذي وضع له قواعد للوصول وأسباب للحصول، ويرسم لها مراحلها على النحو الآتي فيقول: «اعلم أن العلم اللّدني وهو سريان نور الإلهام يكون بعد التسوية كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}، وهذا الرجوع يكون بثلاثة أوجه:

أحدها تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها.

والثاني الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشار إلى هذه الحقيقة فقال: «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم»، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أخلص لله أربعين صباحًا أظهر الله تعالى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».

والثالث التفكر، فإن النفس إذا تعلّمت وارتاضت بالعلم ثم تتفكر في معلوماتها بشروط الفكر ينفتح عليها أبواب الربح...»[18].

وفي سياق الفلسفة المعاصرة تتبدى لنا تجربة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، على أنها نموذج لشكل من أشكال التصوف لا يعترف بالألوهية المفارقة، ولا يبحث عن قيمة الحياة في العوالم الأخرى، تتساوى في ذلك العوالم الميتافيزيقية، التي بشّرت بها الفلسفات المثالية، أم العوالم التي تحدّثنا عنها الديانة المسيحية أو البوذية، حيث يجوز لنا أن نسمّي هذا النوع من التجربة الصوفية بالتصوف الأرضي، لأنه يمجّد الحياة على الأرض ويحتفل برحابتها، وهو تصوف لأنه يتوسل بالإشارة لتبليغ مراده، ويتأسّس على الذوق في فعل الإدراك، والعودة إلى الذات للتحرّر من المشاعر العدمية والإرادة الواهنة.

وفي هذه الفلسفة أي «فلسفة نيتشه» يعبّر عن الجمع بين الذوقي والتَّحليل الهادئ للفكر، بالجمع بين الغنائي والتَّحليلي، وهي من أخص خصوصيات التصوف، «فهو يفضل على سلاسل الأسباب الطويلة التي كانت تفتن ديكارت كثيرًا الشعر، والمثل السائر، والكلمة الجامعة، والمجاز والنشيد التقريظي، والاستعارة، والحكمة، والمحاكاة الساخرة... هذا الإلهام الشعري لدى الأعظم شأنًا لا يسيء بتاتًا إلى صرامة الفكر، الذي يخدمه على العكس»[19].

وهذه فقرات من الكتاب الذي هو قصيدة مكتوبة بأسلوب شعري، وفي الوقت نفسه منظومة فلسفية متكاملة، إنه كتاب «هكذا تكلّم زرادشت»، الذي يرى نيتشه بأنه أجمل ما أهدى للبشرية، يقول في بعض فقراته: «ما الإنسان إلَّا حبل منصوب بين الحيوان والإنسان المتفوق، فهو الحبل المشدود فوق الهاوية.

إن في العبور للجهة المقابلة مخاطرة، وفي البقاء وسط الطريق خطرًا، وفي الالتفات إلى الوراء، وفي كل تردد وفي كل توقف خطرًا.

إن عظمة الإنسان قائمة على أنه معبر وليس هدفا، وما يستحب فيه هو أنه سبيل وأفق غروب، فالعقل والذوق كمثل لشمس والظل صحيح أن الظل لا يفارق الشمس، فهما مقترنان وجوداً»[20].

«... لقد آن للإنسان أن يضع هدفًا نصب عينيه، لقد آن له أن يزرع ما ينبت أسمى رغباته ما دام للأرض بقية من ذخرها، إذ سيأتي يوم ينفذ هذا الذخر منها فتجدب ويمتنع على أيه دوحة أن تنمو فوقها»[21].

إلَّا أنه عند العرفاء أن طريق السلوك لا يمر من العقل بل القلب، «وهذا المرور يستلزم التخلّي من عقال الفكر العقلي، أي التحرّر من كل ملكة للاستدلال الفكري،... «إذ لا يمكن الانعتاق من الحدود المفروضة عليها بحكم نفس طبيعتها، والبصيرة القلبية هي وحدها المتحرّرة من هذه القيود،... فيمكن القول: إن مركز الوعي ينبغي أن يتحوّل حينئذٍ من الدماغ إلى القلب»[22].

ولذلك يؤكدون على جعل القلب لا العقل طريقًا في السلوك.

4. مدارج التَّرقي ومعيارية الذّات في الحقيقة

يؤمن المتصوف بأن الوصول إلى المبدأ الأعلى يقتضي تدرّجًا نفسيًّا وزمنيًّا، يعبّر عنه في التراث المعرفي الإسلامي بالمقامات والأحوال، وفي التصوف المسيحي خاصة مع كيركوغارد بالمدارج أو أنماط الحياة، أما الأحوال فهي «ما يرد على القلب من غير تأمل ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أو حزن أوغم أو فرح أو قبض أو بسط أو شوق أو ذوق أو انزعاج أو أنس أو غير ذلك، وإن الأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود... فحاصل تسمية الحال حالًا إنما هو لتحوّله وزواله، وسمّي المقام مقامًا لإقامته واستقراره»[23].

والسالك يتدرّج في طريقه للوصول، فهو يبدأ بالتقليل من التعلّق بالأكدار والمنغصات الدنيوية، كالبدء بالتقليل من الغذاء؛ لأن مدد الوجود والظلمة من الغذاء والشيطان، وقلة المخالطة حتى لا تؤثّر عليه أنفاس بني آدم؛ لأن الطبع يسرق من الطبع.

والإنسان لا يدري كما جاء في منثور الحكم، ثم لزوم الصمت وكثرة الذكر حتى يطهّر القلب من دنس الوجود والظلمة، ويصير محلًّا قابلًا للتفكّر، ومحلًّا لورود الوارد حتى يكون على الله واردًا، وبالتالي تصير الحقيقة ذاتية ترجع بالتفكر في النفس حتى ينفجر ينبوع المعرفة، وليس البحث عنها في الخارج أو في الموجودات الموضوعية.

هذا، ويعد الفيلسوف الدانماركي سورين كيركوجرد من المتصوفة المسيحيين الذين طوروا منهجًا روحيًّا للوصول إلى الحقيقة، وثورة في الوقت نفسه على العقل الهيجلي المجرّد، الباحث عن الإنسان الكلي، الذي أفرغه المفهوم من كل روحية عليا، أو قوة في الحياة، وقد ميّز كيركيغارد في فلسفته الدينية بين ثلاثة مدارج مختلفة ومتفاضلة من حيث القيمة، هي تواليًا:

- المدرج الحسي.

- المدرج الأخلاقي.

- المدرج الروحي.

إنها أنماط من الحياة ينفي أحدهما الآخر، «فالمدرج الحسي صاحبه ذواقة الجمال الذي يحب الحاضر ويسلس قياده لهواه، ويهزأ من كل شاغل مطّرد، وهناك نصير الأخلاق الذي يختار حياته بكل الإلزامات التي يفرضها عليه المجتمع والأسرة، وهناك أخيرًا الإنسان المتدين. والحس الديني عند كيركوغارد هو إحساس بهوة لا قرار لها بين الطبيعة والروح، بين الزمان والأبدية»[24]، هذه اللّحظة هي لحظة الحقيقة التي تنعزل فيها النفس وتقيم في المطلق.

وبالرجوع إلى الفلسفة اليونانية بخاصة مع أفلاطون، فإن الوصول إلى الُمثل يستوجب تدريبًا عقليًّا ونفسيًّا شديدين لرؤية المعاني توسلًا في ذلك بواسطة الرياضيات والجدل، وما تقسيمه للعالم إلى قسمين، عالم المثل المتعالية، والعالم الحسي، إلَّا بوحي من إيمانه بالتفاضل بين طبيعيتين مختلفتين من حيث القيمة، طبيعة موقعها متعال على المحسوسات وموصولة بالأخلاق والالتزام الديني، وطبيعة موقعها عالم الحس المتغيّر والمليء بالشرور والكراهية والشهوات والأخلاق، بالتالي لا يمكن أن تكون منبعًا للحقيقة أو مقياسًا لها.

نحن إذن إزاء المدارج الروحية، التي يقطعها المتصوف من أجل بلوغ الحقيقة والاستقامة السلوكية التامة. تتداخل في ذلك وسائل منها إزالة العوائق وتقبل الكلفة والجهد والمشقة وغيرهما.

ومنه فإن معيار الحقيقة ليس هو التطابق مع شهادة الحواس أو الواقع، بل بالتجربة الذوقية التي تتأسس على اليقين الذي لا يقارنه شك أو يخالطه إمكان الغلط والوهم.

«فالمدارج موجودة طبعًا حتى في كل انحراف، غير أن لسلّم المدارج الروحية ميزة تختلف فيها عن جميع السلالم الأخرى، وهي أنه مشكّل جوهريًّا من درجات في المعرفة، مع كل ما تستلزمه هذه الكلمة بمعناها الحقيقي، والمقصود من معناها الكامل في الحقيقة هو المعرفة الفعلية... وآخرون شبّهوا أيضًا سلّم السلوك الروحي بهرم، يتقلّص وسّع مدارجه بمقدار الصعود انطلاقًا من القاعدة وتوجهًا نحو القمة»[25].

وفضلًا على هذه العناصر المشتركة بين التجارب الصوفية فإن المستقرئ والمتابع لها عبر مختلف الدوائر الحضارية والثقافية يستخلص عناصر أخرى لا تقل أهمية عمَّا سبق ذكره، ويمكن إحصاء البعض منها في هذه الوحدات الفكرية والفلسفية.

5- التَّمييز بين علوم الفكر وعلوم الذكر

وما يلفت الانتباه هنا، فكرة المفاضلة بينهما من حيث القيمة، فعلوم الذكر مقامها الوحي والوهب، أما الأفكار فمحلها الغلط والوهم، فالوجد عند المتصوفة ليس مجرّد رتبة حالية روحيةّ، إنّما هو رتبة تأملية، لها منظورها في المعرفة أيضًا، «إذ تستطيع بعض دقائق أن تعلّمنا أكثر مما نقدر على معرفته في هذا الشأن بالدّراسة طوال سنوات عديدة، فالتّجربة الصوفية هي إذن، بمعنى ما، بديل عن العقل، بل أكثر من ذلك، العقل هو وسيلة تتَّسم بالارتجال، ومسلك طويل يُعفى منه المصطفون الذي بمقدورهم بلوغ أيسر السّبل المختصرة إلى الوجد»[26].

وإلى هذا المعنى أشار جلال الدين الرومي «العقل رائد في الطريق الموصل إلى الحبيب، فالشوق والعشق هما اللذان يوصلان إليه، العقل يقول لك: تمهَّل، قف، فكّر، أشفق على نفسك... أما العشق فهو يأمرك بالموت في سبيل الحبيب»[27].

فالعشق هنا هو الوله بذكر الحبيب رمز لعلوم الذكر، فإذا كان السالك محبًّا للقرب وللوصال إلى الحق، فلا سبيل له إلَّا طريق الذكر، وإذا ضحيت بشيء لأجل المحبوب أورثك محبوبك ما لا يخطر على فكرك فكن له يكن هو لك، «وبدلًا من عقل واحد سيهب لك ألف عقل وعمرًا خالدًا مقابل عمر واحد»[28]، فعلوم الذكر مورثة لعلوم الفكر ومصوبة لها، إنه الفكر الملهم بالعقل المؤيد من مشكاة الحق.

6- السّلبية والاستعداد لما يؤمر به

المعرفة رغم الجهد والبذل ليست ثمرة هذا الجهد، بل هي معرفة متلقّاة في صورة وهب إلهي ومنحة ربانية، وليس للصوفي إلَّا أن يستعد بذاته ويتهيَّأ لاستقبال الأنوار الإلهية في صورة إلهام وكشف.

أو بعبارة أخرى: المعرفة لا تحصل بالجهد والتحصيل، أي الطرق المعهودة والمسالك المحسوسة في التعلّم الإنساني، بل هي معرفة تنفث في روع الآدمي يتلقّاها من الحضرة الإلهية أو النفس الكلية بعد الرياضة الروحية ومكابدة التَّصفية. حيث يسلك جلال الدين الرومي طرقًا بديعة ومختصرة في ذكر سبل التربية، من خلال بيان عيوب النفس الشاملة لكل العيوب، وبيان الصفات القبيحة المشنعة التي تجمع شتات القبيح من الأوصاف ذاكرًا ذلك في قصة لطيفة، مشبهًا تلك العيوب بالطيور، وهي عبارة عن رموز، وكل قراءة جديدة لروح القرآن تتناسب مع روحه عصره الذي عاش فيه.

فذبح الطيور الأربعة حيث أراد إبراهيم الخليل أن يبلغ «أعلى مراتب اليقين فيما يتعلّق بالمعاد فقال له الله تعالى: خذ أربعة من الطيور واذبحهن وأخلط لحومهن ببعضها بصورة جيدة، ثم قسّم ذلك الخليط عشرة أقسام، وضع كل قسم على قمة جبل ثم ادعهن بإذني، ففعل إبراهيم (عليه السلام) ذلك، وأخذته الدهشة حين رأى تلك الطور الأربعة حية سالمة وهي تلتقط الحب هنا وهناك، وكانت تلك الطيور عبارة عن: البط والطاووس والغراب والديك، وهي ترمز إلى حرص الإنسان وتكبّره وطول أمله وشهرته بالترتيب، فلو جرّدت نفسك يا أخي من هذه الصفات الأربع الذميمة (الحرص، الشهوة، التكبر، وطول الأمل) سلكت طريق إبراهيم (عليه السلام) نحو الخلود الأبدي. إن التجرّد منها لا يعني التجرّد المطلق طبعًا، بل ضرورة السيطرة عليها قدر المستطاع وأن خير الأمور أوسطها، وبعبارة أخرى: يجب التعامل مع هذه الصفات الأربع بشكل آخر وتسخيرها بما فيها الخير والصلاح»[29].

ومراتب السلوك والتحقيق في السير تتمّ بعد أن يقطع السالك من نفسه الصفات الذميمة السابقة.

خاتمة

إن مرادنا في هذه الخاتمة هو استخلاص أهم النتائج المنهجية والمعرفية التي أفرزها موضوع هذه المقاربة، فبناء على ما سبق ذكره ورصده من عناصر الالتقاء والاشتراك بين التجارب الصوفية يمكن الإقرار بأنّ:

التصوف ظاهرة دينية بالمعنى الوحياني، وظاهرة إنسانية عالمية، ليست مخصوصة بدائرة حضارية دون أخرى، فهي لا تتقيّد بحدود الأديان والأجناس والأوطان. وبالتالي فالفكرة التي يراد لها أن ترسخ؛ من أنَّ هناك تجربة واحدة أثرت في غيرها على نحو سببي؛ يتم بموجبها ربط السَّابق باللاحق، تبدو أنها مقاربة غير مشروعة معرفيًّا وتاريخيًّا، فهي قراءة الأجنبي الذي يغفل ويسقط من الاعتبار تأثير العوامل الذاتية في نشأة الظاهرة وتطوّر معانيها.

أو هي وليدة المنهج الاستشراقي الذي همُّه التماس الأشباه والنظائر بين التجارب الإنسانية وردّ السابق إلى اللاّحق. مثلما تمَّ ربط نشأة الفرق والعقائد الإسلامية بعوامل خارجية وفلسفات يونانية وهندية، في حين أن الحقائق التاريخية تثبت عكس ذلك تمامًا.

ثم إن نشوء التصوف سواء في التراث المعرفي الإسلامي أم في غيره، قد ظهر نتيجة تحديات وأزمات اجتماعية وسياسية جعلت المتصوفة ينأون بأنفسهم ويفرّون إلى ذواتهم يصفونها وينظرون إلى إقبال الناس على الدنيا وملذاتها أنه تنصل من المجاهدة واستثقال للرياضة الروحية التي تقتضي جهدًا زمنيًّا ونفسيًّا كبيرين.

وفضلًا على هذا كله، فالنص الصوفي في الفلسفات المعاصرة والآداب أيضًا يشهد إعادة بعث وتنشيط[30] سواء بتوظيفه في بناء الأنساق الفلسفية كما يطوّر ذلك جاك دريدا أم في تأسيس النظريات الأخلاقية للتصدي لأزمات العقل التقني خاصة لدى الفيلسوف الفرنسي المعاصر إيمانويل ليفيناس ورواد مدرسة فرنكفورت، أم من جهة قراءة الحكاية العرفانية عن طريق تسليط العدة المنهجية والعلمية التي أفرزتها العلوم الإنسانية المعاصرة كالألسنية لفك شفرة الخطاب الإشاري والعلوم النفسية لفهم دلالة المستبطن الشعوري للمتصوف، والعلوم الاجتماعية لقراءة الأبعاد السياسية والاجتماعية للتصوف، ويعدّ الفيلسوف الفرنسي ميشال دوسارتو المختص في التصوف المسيحي والتصوف المقارن من الذين طوّروا أدوات تحليل جديدة لقراءة النص الصوفي وسبر أغواره وممكناته.

هذه الحقائق علامات على أن الإنسان المعاصر بقدر ما استهوته الماديات واستوعبته الثقافة الاستهلاكية يحسّ أنه كائن أخلاقي قبل كل شيء، وأن همَّته أقوى من الواقع القائم وأصلب من حتمية الحدث، وبأن القيمة الأخلاقية لها أسبقية زمنية وفعلية قبل غيرها من القيم، حتى يصح لنا أن نستخلص هذه الحقيقة التي مؤداها أن الهوية الإنسانية هوية أخلاقية يختص بها بوحده لا يشاركه فيه سواه.

كما أصبح التصوف رهان إيتيقي جديد يمكن أن نراهن عليه، إيبستيميًّا، وسلوكًا عمليًّا في رأب تلك الشروخ التي طالت، جانب القيمي والأخلاقي في الزمن المعاصر؛ لأن الخطاب الصوفي يعتبر باعثًا لاستيقاظ الروح ومُلهمًا لانتفاضة القلب ضد، الصيغ اللاإنسانية التي كرستها الخطابات المادية.

فكونية الخطاب الصوفي تستمدّ وصف العالمية في كونها تجمع الضمير الأخلاقي الإنساني على المبادئ التي هي مكمن وجُمَاعُ الجوهر الكوني الإنساني، وهو الحب والعشق الذي يجعلنا نتصالح مع أنفسنا ومع جميع العوالم، بما فيها الأرض والجماد والأشياء، ففي لغة الحب الصوفي سيحل السلام وتتصالح جميع الموجودات بعضها مع بعض حتى الماء مع النار، فلا مكان للأضداد أن تتصارع، إنها تحيا لتتكامل وتؤدّي وظيفتها، فالحب في المدونة الصوفية لا يترك مجالًا للاشتغال إلَّا به ولا يترك الفراغ للصراع، ومنه تتحقّق السعادة في هذا الوجود.

 

 

 

 

 



[1] Didier julia, dictionnaire de la philosophie, librairie Larousse paris, 1994 P 192.

[2] أبو حامد الغزالي، روضة الطالبين وعمدة السالكين، مجموعة الرسائل أبو حامد الغزالي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1994، ص 18.

[3] رونيه غينون، التصوف الإسلامي المقارن.. وتأثير الحضارة الإسلامية في الغرب، ترجمة عبد الباقي مفتاح، دار عالم الكتب الحديث، ط1، 2013، ص 33.

[4] حيث يقول النفري: «أوقفني وقال لي: كلما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة ،وقال لي: العبارة ستر فكيف ما ندبت إليه»  محمد بن عبد الجبار النفري».

المواقف والمخاطبات، تحقيق آرثر أربري، القاهرة مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985، ص115.

[5] انظر: عرفان عبد الحميد فتاح، في التصوف المقارن.. ملاحظات منهجية، مجلة إسلامية المعرفة، أمريكا، العدد 36، 2004، ص14.

[6] محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات.. فصول في الفكر الغربي المعاصر، المغرب: المركز الثقافي العربي، ط1، 2002، ص 90.

[7] أبو حامد الغزالي، رسالة أيها الولد المحب، مجموعة الرسائل أبو حامد الغزالي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1994، ص106.

[8] «ونحن نرى في الحلم بلا عيون ونسمع بلا آذان ونجري بلا سيقان... والحقائق العالية تقصر دون بلوغها الحروف والعيون والآذان، وإنما خلقت الحروف للتعبير عن أشتات العالم المادي وجزئياته ، وهي مجرّد رموز ومصطلحات ونظائر لما نرى حولنا من شجر وحصى ورمل وبحر وتلال ووديان وجبال ، أما عالمنا الداخلي وسماواتنا الداخلية، وسرائرنا العميقة، تقتصر دونها الحروف ولا تصورها كلمات» مصطفى محمود، الروح والجسد، القاهرة: دار المعارف، ط7، ص 7.

[9] جيل جاستونجارانجي، العقل، ترجمة: محمود بن جماعة، تونس: دار محمد علي للنّشر، 2004، ص 32.

[10] ونظائر ذلك كثير خاصة وقد اشتهر بها من المتصوفة محمد بن جبار النفري حيث يقول: «بين النطق والصمت برزخ فيه قبر العقل وفيه قبور الأشياء» محمد بن جبار النفري، كتاب النطق والصمت، تحقيق وتعليق: قاسم محمد عباس، الأردن: الأزمنة للنشر والتوزيع، ط1، 2001.

[11] عرفان عبد الحميد فتاج، في التصوف المقارن ملاحظات منهجية، مرجع سابق، ص 30.

[12] ديوان أبي الحسن الششتري، حققه وعلق عليه: الدكتور علي سامي النشار، القاهرة - مصر: دار المعارف، ط1، 1960، ص 320.

[13] محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات.. فصول في الفكر الغربي المعاصر، مرجع سابق، ص93.

[14] فلا مانع في تكامل بين الذوقي والمنطقي عند العرفاء فكلاهما بدا من الحق؛ العقل والذوق، فالكل يدل عليه مصداقًا لقول الحق: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة، الآية 115.

[15] أورده طه عبد الرحمن في كتاب: فقه الفلسفة (القول الفلسفي - كتاب المفهوم والتأثيل)، المغرب: المركز الثقافي العربي، ط1، 1999، ص96.

[16] للاطلاع على نماذج من شذرات هيرقليطس ينظر كتاب ،  فريدريك نيتشه،  نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة: سهيل القش، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط2، 2005.

[17] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة (القول الفلسفي - كتاب المفهوم والتأثيل)، المغرب: المركز الثقافي العربي، ط1، 1999، ص 97.

[18] أبو حامد الغزالي، الرسالة اللدنية، مجموعة الرسائل أبو حامد الغزالي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1994، ص106.

[19] بيار هيبرسوفرين، زرادشت نيتشه، ترجمة: أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 2002، ص39.

[20] جيهان أوقويوجو، مولانا جلال الدين الرومي، مصر: دار النيل، ط1، 2009، ص 185.

[21] فريدريك نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة: فليكس فارس، بيروت، لبنان: دار القلم، الاستهلال، ص 35-37.

[22] عبد الواحد يحيى (روني غينون)، نظرات في التربية الروحية، ترجمة وتعليق: عبد الباقي مفتاح، إربد الأردن: عالم الكتب الحديث، ط1، 2014، ص202.

[23] ابن عطاء الله السكندري، الحكم العطائية الكبرى والصغرى، دار الكتب العلمية، ط1، 2002، ص100.

[24] إميل برهيه،  تاريخ الفلسفة، ( القرن التاسع عشر)، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت: دار الطليعة، ط1، 1985، ص 303.

[25] عبد الواحد يحيى (روني غينون)، نظرات في التربية الروحية، مرجع سابق، ص 272.

[26] غاستونغرانجيه، العقل، مرجع سابق، ص 33.

[27] جيهان أوقويوجو، مولانا جلال الدين الرومي، مرجع سابق، ص 187.

[28] المرجع نفسه، ص 187.

[29] محمد المحمدي الشهراوي، قصص المثنوي، مصر: دار الحجة البيضاء، ط1، 1418هـ - 1998م، ج3، ص 90-91.

[30] انظر: مالك بن نبي، في مهب المعركة (الدراسات العصرية والتصوف الإسلامي)، دمشق: دار الفكر، 2007، ص 167.