شعار الموقع

السنة النبوية ودراساتها بين الماضي والحاضر

طه جابر العلواني 2004-10-14
عدد القراءات « 522 »

طلب إليّ الصديق العزيز الأخ زكي الميلاد أن أكتب افتتاحية لمجلة «الكلمة» الناهضة، ولم أعتد الاعتذار من مثل أخي الكريم الشيخ زكي، وإذ كنت منغمساً في إعداد دراسة في «السنة النبوية» المشرفة رأيت أن أشرك القراء في بعض الهم الذي أحمله، والعبء الذي أنوء تحت وطأته لعل فيهم من يعين فيحمل من الهم بعضه، أو يواسي فيخفف من الإحساس بالوطأة، والشعور بالثقل. فكانت هذه الإفتتاحية.

إن دراسات السنة النبوية المطهرة في وقتنا الحالي لم تختلف كثيراً عن دراساتها منذ عصر التدوين وحتى يومنا هذا، اللهم إلا تلك الاختلافات المعروفة بين أساليب المتقدمين والمتأخرين في تناول علمي الحديث دراية ورواية، بل إن ما عرف بعلوم الحديث والدراسات الحديثية لم يتجاوز في عصرنا هذا مرحلة إعادة إنتاج إشكاليات بعضها يعود إلى عصر التدوين وما تلاه، وبعضها يرجع إلى عصور المتأخرين من المحدثين. والدراسات التي وضعت لمعالجة تلك الإشكاليات تغلب عليها صفة الرغبة في المحافظة على بقاء ما كان على ما كان وعدم المراجعة غلقاً للذرائع. وقد آن الأوان لاستيعاب ذلك وتجاوزه والخروج إلى دائرة معالجة الإشكاليات المعاصرة التي تستبد بحياة البشر اليوم ووفقاً للسقف المعرفي الراهن.
إن السنة النبوية إلى جانب القرآن الكريم وفي إطار تصديقه وهيمنته قادرة على أن تمد البشرية حين تحسن فهمها، وتتقن مناهج التعامل معها بمنهج تأس واقتداء ينير لها كثيراً من الجوانب التي تفتقر البشرية فيها إلى الهداية والنور والأسوة الحسنة. وهذه الافتتاحية تحاول أن تثير بعض أهم الإشكاليات في الدراسات الحديثية، التي إذا يسر الله معالجتها فإن ذلك سوف يساعد كثيراً على إعادة السنة إلى موقعها الصحيح مصدراً أو معيناً لاينضب للبشرية كلها في إدراك معاني التوحيد وأهميته ومنهج التزكية وضرورته ومنطق العمران، والحاجة الملحة إليه. ولاندعي أن هذه الافتتاحية قد جمعت سائر الإشكاليات المطلوب معالجتها وأوعت، إذ حسبها أن تنبه إلى بعض تلك الإشكاليات وتفتح الأذهان على الباقي، ونشير إلى بعض الإشكالية والله الموفق.

العلاقة بين الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة
من أهم الأمور التي تشغل العقل المسلم، قضية تحديد العلاقة بين الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، فمع أن من البديهي أن القرآن الكريم هو المصدر المنشئ للأحكام، وأن السنة النبوية هي بيان له على سبيل الإلزام، بيد أن طبيعة العلاقة بينهما بقيت يسودها كثير من التساؤلات، لأن بعض أهل العلم يقول: إن السنة يمكن أن تكون مصدراً مستقلاً في إنشاء الأحكام وفي الكشف عنها، وقد ترتب على هذا التصور أن قرر الأصوليون والفقهاء أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، كما أن المصدر الأول هو القرآن الكريم وانطلقوا في بناء هذا التراث من قضية «القطع والظن»، فالقرآن مقطوع به فهو أول، والسنة في عامتها ظنية فلتكن ثانياً.
نجد كثيراً من العلماء في مقابل ذلك دَمَجَ بين الكتاب والسنة من حيث كونهما وحياً، وبعضهم شاع لديه استعمال التثنية بأن يقال: «الوحيين»، وأن التمييز يكمن في أن القرآن الحكيم وحي باللفظ، والسنة وحي بالمعنى، والقرآن معجز وما السنة معجزة، والقرآن يتلى كما أنزل، ويجوز أن تروى السنة بالمعنى، وقد ترتب على هذه التصورات القول بجواز نسخ السنة للقرآن الكريم والعكس، وكذلك قبول فكرة إمكان التعارض بينهما ووجوب التوفيق سواء بطريق النسخ أو بطريق التاويل أو بأي طريق آخر، مما أدى إلى توهم البعض أو ظن البعض أن الفوارق بينهما هي فوارق شكلية فقط تتعلق بالألفاظ وبالمرتبة، وبذلك أصبحت معاني القرآن الكريم يمكن أن ترتبط بالإطار التاريخي الذي تكونت فيه السنة النبوية المطهرة ارتباطاً وثيقاً يجعل بيئة التنزيل نفسها هي بيئة التفسير والتأويل الذي لايجوز تجاوزه، بحيث لاينبغي أن يبحث عن أي معنى آخر لآيات القرآن الكريم خارج عن تطبيقات السنة النبوية وفهم الصدر الأول. وذلك قد يؤدي إلى نفي صفة الإطلاق عن القرآن، وكونه معادلاً موضوعياً للكون وحركته، بحيث يقوم باستيعاب كل عصر ويتجاوزه حتى يوم الدين. كما قد يؤدي ذلك إلى ما يسمى بـ «التاريخانية» أي تقييد القرآن الكريم ومعانيه بفترة تاريخية محددة هي التي حاول الأصوليون رفضها حين عالجوا قضية الخطاب القرآني، وهل هو خطاب شامل لمن يأتي بعد عهد رسول الله (ص) وصحابته، أو هو خطاب خاص بتلك المرحلة؟ فقرروا أنه خطاب شامل للناس كافة يتناول كل من يخلق حتى يوم الدين.
إن أي نوع من الفهم يمكن أن يؤدي إلى توهم نسبية القرآن الكريم، وأنه ليس نصاً مطلقاً يستوعب الزمان والمكان يعد فهماً خطيراً لابد من التنبه إليه واستبعاده، ولايغني القول بعموم الخطاب وشموله إذا اعتبر القرآن في المآل نصاً نسبياً يتحدد بالزمان والمكان. فمؤدى ذلك أن الصيرورة التاريخية وما يترتب عليها، لايمكن للنص القرآني أن يستوعبها ويتجاوزها. وفي ذلك كله تجاهل للتحديد الدقيق للعلاقة بين الكتاب والسنة، ذلك التحديد الذي جاءت به آيات سورة النحل وغيرها، ومنها قوله تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (النحل: 64)، وقوله تعالى {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء هدى ورحمة وبشرى للمسلمين} (النحل: 89). إضافة إلى قوله سبحانه في سورة النمل: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين} (النمل: 91ـ92).
وهذه الآيات تحدد بوضوح أن محور الرسالة هو القرآن الكريم ومهمة النبوة تبليغه وبيانه، وتقديم نموذج تطبيقي لقيمه وأحكامه يمكن للبشرية أن تحتذيه في كل أزمانها وأماكنها، وليست هي مطالبة بإعادة إنتاجه، وإذا تصورت ذلك فإنها واهمة خاطئة. وما لم تتم عملية تحديد دقيق لعلاقة الكتاب بالسنة وبيان دقيق كذلك لطبيعة كل منهما لتبدو الفوارق الدقيقة بينهما فإن من الصعب جداً تجاوز تلك الإشكالية.
لقد حفل تراثنا الفقهي والأصولي والحديثي وغيره بأفكار شوشرت على طبيعة هذه العلاقة، ومنها تلك المقولات التي روجها بعض أهل العلم بالقول «بأن السنة قاضية على الكتاب»، و«أنها ناسخة له»، و«ان الكتاب يحتاج السنة أكثر مما تحتاج السنة إلى الكتاب»، وهي أقوال غير دقيقة ولا مسؤولة إن دلت على شيء فإنما تدل على تلك الإصابات الفكرية الخطيرة التي نجمت عن تشوش العلاقة بين الكتاب الكريم والسنة النبوية في تلك الأذهان.
كما أن كثيراً من الدراسات ذات العلاقة بهذا الجانب من معارفنا الإسلامية، وعلوم الكتاب والسنة الموروثة انبثقت أو بنيت على تلك الفرضية المشار إليها، فكرست أفكاراً لا تزال تحتاج إلى مراجعة لتصحيح مسار تلك العلوم والمعارف في ضوء إعادة النظر في العلاقة بين المصدرين. كما إن طرائق الاستدلال المرتبطة بالعقلية الفقهية وجدت في السنة مصدراً أيسر في الرجوع إليه من القرآن الكريم، لارتباطها بوقائع وأشخاص وأحداث واقعية يسهل العثور على أشباه ونظائر لها في الأزمنة اللاحقة، فكرست بذلك فكرة الانفصال بين المصدرين وقطعت أشواطاً طويلة في بناء كثير من القضايا الفقهية على ذلك التصور، حتى تحولت إلى مسلمة لاتكاد تقبل مراجعة، زاد من ذلك تعقيداً اختلاط حاولات تحديد العلاقة بين الكتاب والسنة بمحاولات القدح في «حجية السنة» أو التقليل من أهميتها، وعدم التمكن من صياغة خطاب العلاقة بين المصدرين بشكل يفتح العقول للتداول المعرفي الحر في هذا الأمر بشكل هادئ بعيد عن التشنجات والإتهامات بإنكار الحجية أو التقليل من أهمية السنة النبوية المطهرة، فإذا بفكرة العلاقة التكاملية بين الكتاب والسنة تختفي، لتحل محلها تلك العلاقات التي تكرست بناء على ما ذكرنا. كما أن التركيز على الجانب الفقهي، وأن الكتاب الكريم والسنة النبوية مصدران للأحكام، أدى إلى ضمور إدراك العقل المسلم بأنهما ـ معاً ـ مصدران لبناء الإنسان وتحقيق العمران وإنشاء الحضارة، وبالتالي فإن الحاجة ماسة إلى تسليط الأضواء على الجوانب الأخرى التي لم تحظ من العقل المسلم بما حظيت به آيات وأحاديث الأحكام من اهتمام نتيجة بروز الاتجاه الفقهي أو هيمنته وسيطرته.

تفرد منهجية الإسناد
لقد اعتبرت منهجية الإسناد قمة لاتعلو عليها منهجية أخرى، فيما يتعلق بتصحيح السنة النبوية، على اعتبار أن الأنظار تركزت على السنة باعتبارها نصوصاً وألفاظاً وعبارات حديثية منضبطة، مثل آيات القرآن الكريم، وبالتالي فإذا صح السند فينبغي أن ينقطع كل حديث عما عدا ذلك. وكان الأمر يقتضي ان تعطى لمقاييس نقد المتون، وهي مقاييس معرفية دقيقة، أسسها علماء الحديث أنفسهم، فرصة التكامل مع منهجية الإسناد لتنفتح آفاق التفكير على السنة النبوية لا باعتبارها نصوصاً مجزأة، بل باعتبارها طريقة حياة بالقرآن الكريم، وطريقة تنفيذ وتجسيد لقيمه وتعاليمه. وهذه الثقة التي منحت لمنهجية الإسناد بنيت على فرضية أن القرآن الكريم استمد قطعيته من النقل المتواتر له من جيل إلى من تلاهم. والقرآن حفظه الله تعالى من داخله وينظمه فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه سواء تكاثر نقلته أو قلوا فإن ذلك لاأثر له في عملية تواتره.
ولو أن المعنيين شغلوا المنهجين معاً بطريق سليم بحيث يمر الحديث من خلال منهجية السند للكشف عن صحة سنده أوضعفه، ثم يمرر متن الحديث ذاته من خلال منهجية نقد المتون ومقاييسها، لغربلة تلك الأحاديث ووزن متونها بالموازين التي تنبثق عن اتجاهات القيم الحاكمة في الإسلام، وهي التوحيد والتزكية والعمران، ولو أتيح للمنهجيتين أن تعملا معاً، وتستمرا وتتطورا ـ معاً ـ لما كان هناك كبير جدل حول ما عرف بـ «مختلف الحديث»، أو حول «الحجية» ذاتها.
إن معظم الجدل القائم بين المعاصرين هو جدل يقوم على تجاهل إحدى المنهجيتين، فهناك من يأخذ بمنهجية الإسناد، فإذا صح السند عنده لم يسمح باستعمال مقاييس نقد المتون، لأن السند قد صح عنده فانتهى الأمر، ولم يعد هناك مجال للحديث في الموضوع، وبعضهم يتجاهل الإسناد ولا يهمه أن يكون من أخرج ذلك الحديث البخاري أو مسلم أو الطبراني أو ابن ماجه أو سواهم، فيخضعه لمقاييس نقد المتون، وأحياناً قد يتجاوز البعض هذه المقاييس التي لم يطورها بعد عصور الاجتهاد أحد، ليخضع الأحاديث إلى مقاييس قد تبدو للآخرين أنها تعتمد على الهوى، وعلى رؤى شخصية لاقيمة علمية لها، وهذا ما لاينبغي لطالب علم الوقوع فيه.
ولايمكن الخروج من هذا الإشكال بدون إعادة النظر والقيام بدراسة نقدية تحليلية شاملة لمنهجية الإسناد ومنهجية مقاييس نقد المتون وعلاقتهما بالسقف المعرفي التاريخي الذي انبثقا في ظلاله، ورصد تطور هاتين المنهجيتين، ودراسة جهود المحدثين في استعمال كل منهما، أو استعمالهما معاً، والأحاديث التي لم تخضع إلا لأحدهما. ثم القيام بعملية تتبع تاريخي لتطور هاتين المنهجيتين، وفترات التوقف والإنقطاع في تطوير كل منهما واستعمالهما، إذ أنهما مرّا بمثل الأطوار التاريخية التي مر بها علم أصول الفقه أو سواه من أدوات ووسائل الاجتهاد. كما أن دراسة وتحليل النصوص المختلفة يمكن أن ييسر السبيل إلى إعادة تفكيك هذه المناهج وتركيبها، بحيث تساعد على إعادة بناء العلاقة بشكل سليم بين الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة.
في هذه الحالة تشتد الحاجة إلى دراسات تاريخية جادة تتناول بالدراسة والنقد والتحليل موروثاتنا المعرفية وتراثنا في علوم القرآن والسنة النبوية للخروج بالتصورات المناسبة حول المصدرين الأساسيين وطرائق التعامل مع كل منهما. إن دراسة كل من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة من المنظور الفقهي التجزيئي قد أدت إلى تجاهل الوحدة البنائية للقرآن الكريم والوحدة البنائية للسنة النبوية المطهرة ثم وحدتهما كمصدرين، أحدهما مبيِّن والآخر مبيِّن، وبالتالي فلا بد من العمل لاستيعاب هذا التصور وتجاوزه إلى التصور العمراني الشامل للفقه ولسائر قضايا العمران.

الفهم الكلي للسنة النبوية وأدوارها.
وتبرز في هذا الإطار أيضاً قضية فهم السنة النبوية المطهرة، فقراءة السنة بالمنهج الفقهي وحده أدت إلى تركيز الإهتمام على أحاديث الأحكام، واعتبار سائر ما عداها أحدايث تدخل في مجالات الآداب والفضائل والترغيب والترهيب والسنن ونحوها. وكل ذلك ضاعف من آثار القراءة الجزئية، والفهم الجزئي الذي يغلب عليه إطار الفهم المباشر الفطري. ولقائل أن يقول: إن المجتهد إذا عالج قضية ما فإنه يجمع سائر ما يصل إليه من أحاديث متعلقة بها، ويقوم بتصنيفها ودراستها، ومعرفة ناسخها من منسوخها، ومطلقها من مقيدها ومجملها ومبينها ونحو ذلك، وذلك يعني أن القراءة كانت قراءة كلية، فلماذا توصف بالجزئية؟
الجواب على هذا، أننا لم نقصد بالقراءة الكلية هذا الإتجاه، فبالرغم من أنه يبدو للوهلة الأولى كليّاً، لكنه في الحقيقة لا يدور حول كليات السنة وكليات القرآن، بل يدور حول كلية ترتبط بجزئية أو بسؤال فقهي مباشر، نحن نريد بالكلية «الكليات العامة» و«القيم المطلقة». وهذه الكليات والقيم إنما تكتشف من خل النظر غلى الوحي في كليته وغائيته ومقاصد الحق من الخلق، والفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة، والقيم الحاكمة، وهي التوحيد والتزكية والعمران، ثم العدل والحرية وتحقيق الضروريات الإنسانية والحاجيات والتحسينيات، فهذه هي الأمور الكلية التي تدفع ملاحظتها إلى تشكيل الضوابط والكشف عن الكامن والمحددات المنهجية، كما أنها هي التي تكشف عن المبادئ العامة للوحي، لتعين المجتهد والباحث بعد ذلك على إدراج الجزئيات في إطار الكليات وفهمها في ذلك الإطار، لكن تجاوز هذه الطريقة إلى القراءة بالنموذد الفقهي وحده ساعد على عدم بروز الحاجة إلى الوصول إلى القراءة المنهجية الكلية.

تنوع الوظائف والمهام النبوية
إن هناك نوعاً من الغبش لدى بعض المعاصرين في فهم مهام صاحب الرسالة (ص) وتنوعها والحدود الفاصلة بين مهمة وأخرى، وتمييز ذلك لاشك أمر فيه العديد من الصعوبات، ويحتاج إلى البحوث المتعمقة المستفيضة للكشف عن الفواصل بين صفة وأخرى من صفاته «ص». وإذا كان الأصوليون الكبار «رحمهم الله» قد قاربوا ذلك فيما يتعلق بأفعال رسول الله (ص) وتنوعت وتعددت أقوالهم في ذلك بناءً على ملاحظة صفاته المختلفة (ص) من الإمامة والنبوة والبشرية، ففرقوا بين الفعل الجبلي والتصرف الطبيعي، الذي يقوم به عليه الصلاة والسلام بفطرته البشرية وطبيعته الإنسانية وبين الفعل الذي يقوم به باعتباره نبيّاً ورسولاً، والفعل الذي يقوم به للتعليم، والفعل الذي يقوم به وبصفته إماماً وحاكماً، والفعل الذي يقوم به بمقتضى أي صفة أو مهمة أخرى، لكنهم لم يطردوا ذلك في معالجتهم لأقواله عليه الصلاة والسلام، وذلك لما تقرر عند الأصوليين من فروق بين الفعل والقول يعرفها أهل الاختصاص، وبذلك تاثرت قضية الفهم أيضاً لهذا الأمر الذي يحتاج منا إلى كثير من الدراسات والضبط والتحقيق.
ويبدو أن أئمة الحديث، سواء أولئك الذين اهتموا بالأسانيد والمتون وبالتاريخ ومعرفة الرجال، أو بالعلل وقضايا الجرح والتعديل أو بأي جانب آخر من هذه الجوانب، اعتبروا أن أبرز الأسئلة وأقوى القضايا التي عرضت عليهم، قضية الوضع وكيفية التخلص منه، باعتبارها أبرز التحديات التي واجهتهم بعد الفرقة، فانصب اهتمامهم وتركيزهم على قضايا التصحيح وبناء منهجية الأسانيد والروايات والعمل على جعلها الضابط الأساسي، ولم تعط الأمور الأخرى، ومنهما من نعتبره تحديات معاصرة، الاهتمام المطلوب، لكنها لم تكن قضايا مطروحة بالنسبة إليهم ولكنها في وقتنا هذا لابد أن تصبح جزءاً من دراساتنا في علوم الحديث.
ولذلك فإنه حين برزت مشكلة ما عرف بـ «مختلف الحديث» أي الأحاديث التي تبدو وكأن فيها نوعاً من التعارض، برزت اتجاهات التأويل، تأويل تلك الأحاديث التي ثبت صحتها ولكن وردت عليها بعض الأسئلة فيما يتعلق باللفظ أو المعنى، وكتب أهل العلم في هذا كتباً لايزال بعضها متداولاً مثل كتاب: «تأويل مختلف الحديث» لابن تيمية، و«تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة.
كل هذه القضايا تجعل من الضروري إعادة النظر في علوم الحديث المتوازنة في ضوء كل ما تقدم، والعمل على وضعها في الإطار السليم بتحقيق التواصل بين قضاياها واخضاعها للتحليل والتمحيص والنقد والتفكيك وإعادة التركيب، فذلك هو الذي سيساعد ـ إن شاء الله ـ على تحديد العلاقة بدقة بين الكتاب والسنة من ناحية، ثم تحديد العلاقة بين الكتاب ومعارف التراث الإسلامي من ناحية أخرى، والتمكن من تجاوز القراءات التجزيئية وإشكاليات الفهم، والخروج من دائرة الجدل حول الحجية بمستوياته المختلفة، لجعل السنة مصدراً يتعاضد ويتكامل مع المصدر المنشئ «القرآن الكريم»، لإرساء دعائم القيم الحاكمة: التوحيد والتزكية والعمران، وبيان القيم المتفرعة عنها من عدل وحرية ومساواة، وأمانة ونحوها، وتحقيق الضروريات والحاجيات والتحسينات الإنسانية، وبناء المعرفة الإنسانية بناءً سليماً.
ولذلك فإن المكتبة الإسلامية المعاصرة ودوائر البحوث الإسلامية في مسيس الحاجة إلى تناول الموضوعات التالية بالبحث والدراسة والتمحيص:
أولاً: اختلفت تعريفات المحدثين والأصوليين والفقهاء لمصطلح أو لمفهوم السنة، وقد أدى اختلافهم ذلك إلى بروز تساؤلات حول حقيقة مفهوم السنة، هل هي الفعل النبوي والتصرف وحده؟ أو هي الفعل والقول والتقرير؟ حيث أن السنة لغة لاتطلق إلا على ما اعتيد وتكرر. ويمكن للباحث هنا أن يلتفت إلى رؤية الإمام مالك في قضية عمل أهل المدينة واعتباره دليلاً من الأدلة، والاحتجاج به فإنه يدل بوضوح على أن الإمام لاحظ في مفهوم السنة ذلك المعنى اللغوي الذي ينبه على الاعتياد والتكرار والشيوع والانتشار، كما أن الموطأ نفسه قد يشير إلى منهج الإمام مالك أو رؤيته في النظر إلى مفهوم السنة، فلابد من تحقيق هذا الموضوع والفراغ منه، والوصول فيه إلى قول جامع، ذلك لإنه لم يعد من المقبول الاحتجاج بقاعدة: «لامشاحة في الإصطلاح»، وترك مفهوم في هذا المستوى من الأهمية عائماً. كذلك تشتد الحاجة في هذه النقطة إلى بحث وتحليل ونقد مواقف الأصوليين من فعل النبي (ص)، وكيف انقسموا إلى أربعة مذاهب أو تزيد في موقفهم من الفعل النبوي. وأما القول النبوي فقد اعتمدوا فيه على صيغ الأمر والنهي، أي ما صدر بـ (افعل أو لاتفعل) وما عدا ذلك فقد أحيل إلى معانٍ أخرى كالوعظ والتذكير والتزكية ونحوها. فهذا النوع من التجزئة للسنة إذا كان مناسباً للأغراض التعليمية فإنه ليس بمناسب أو مقبول في إطار بناء «منهجية التأسي» به عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: إشكالية العلاقة بين الكتاب والسنة، ففي الوقت الذي ينص الكتاب الكريم فيه على أن السنة بيان له وتؤكد السنة ذلك أيضاً، وأن العلاقة بينهما هي علاقة المتن والشرح أو المبيَّن والبيان، ينص الأصوليون على أن المصدر الأول للتشريع هو القرآن والمصدر الثاني هو السنة والثالث هو الإجماع وهكذا.. والمطلوب هنا دراسة شاملة لهذه القضية وتحليلها بشكل دقيق، ومعرفة آثارها بشكل مناسب. ولكن لِمَ لم يظهر هذا السؤال في العهد النبوي وظهر فيما بعد؟ وهل كان سؤال الخلفاء الراشدين عن السنة لمعرفة كيفية التطبيق النبوي لتوجيهات القرآن الكريم في تلك الواقعة، أو هي لمعرفة الحكم ابتداءً؟ وإذا كانت السنة أصلاً مستقلاً بين المبَّين والمبيِّن بصفة عامة، علماً بأن الأمثلة التي قدمت على استقل السنة بالتشريع كانت أمثلة محدودة جداً يمكن إدراجها تحت عمومات القرآن الكريم ورد تلك الجزئيات إلى كلياته سواء بطريق شمول الكل للجزء، أو بطريق تحقيق المناط، أو أي طريق مناسب آخر.
ثالثاً: هل كان جمع السنن في بدايته وتدوينها بهذا الشكل المستعجل لتسد مسد الفقه ولتقديم الفقه النبوي، أو «فقه السنة» للأمة للحيلولة بذلك دون تكاثر المدارس الفقهية والتقليل من آثار الاختلاف؟ أو لتوسيع دائرة المصادر الملزمة المساعدة في المحافظة على وحدة الأمة خاصة بعد ظهور بعض المقالات مثل الجبر والقدر والعدل والحسن والقبح العقليين وغيرها.
رابعاً: هناك المتقدمون من المحدثين ومناهجهم في الدراية والرواية، وهم الذين اشتغلوا بهذا الشأن حتى نهاية القرن الرابع، وهناك المتأخرون، والاختلاف كبير بين المناهج التي وصفها المتقدمون لغربلة الحديث والمناهج التي طورها المتأخرون. وقد نجمت عن ذلك قضايا كثيرة هي في حاجة إلى بحث وتناول وتدقيق لتحديد معالم المنهجين: منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين في قضايا الدراية والرواية وتوضيح ذلك بشكل لايقبل الخلط الذي يقع كثير من المعاصرين فيه، اعتماداً على المسلمة الخاطئة في وحدة المنهج بين المتقدمين والمتأخرين.
خامساً: يلاحظ أن لكل مدرسة من مدارس الحديث اصطلاحاتها وشروطها وتعريفاتها للمصطلحات وللمفاهيم، سواء تلك المتعلقة بالسند أو بالمتن، فلابد من دراسة ذلك وتوضيحه بدقة، وبالتالي فهل يحق لمحدث أو لطالب الحديث أن يفعل ما يفعله طالب الفقه من التخيير بشروطه بين مذاهب الفقهاء وتقليدهم؟ أو أن هناك شيئاً آخر يمكن أن يؤخذ به في مجال الحديث؟
سادساً: هناك كثير من الفقهاء قد قالوا بمسائل فقهية بحسب اجتهادهم، ثم جاء أعتباهم فجمعوا له مسانيد وأحاديث قدروا أنها كافية أو ظاهرة في أذهان أولئك الأئمة، حين قرروا ما قرروه، لكن الأئمة لم يظهروا ذلك الدليل فأظهره أتباعهم تعزيزاً لموقفهم، وهذا يحتاج إلى إحصاء وتدقيق وتحديد هذا النوع من الكتب الحديثية التي استشهد بها المتمذهبون لتعزيز مذاهبهم، فنسب إلى كثير من الأئمة الذين كانوا يؤكدون أنهم ليسوا من أصحاب هذا الشأن، نسب إليهم مسانيد كمسند الإمام الشافعي، ومسند الإمام أبي حنيفة وغيرهما، وكيف نحدد العلاقة بين السنة والفقه، وبين السنة وأصول الفقه، وفقاً لذلك، وما الفرق بين اتخاذ السنن مصادر، وبين اتخاذها شواهد، وكيف يمكن معالجة هذه المعضلة التي يمكن ملاحظتها في كثير من المذاهب التي اعتمدت على الاجتهاد العقلي، وحولت نصوص الكتاب والسنة إلى شواهد لا مصادر؟
سابعاً: تختلف اصطلاحات المتقدمين عن اصطلاحات المتأخرين في مفاهيم التخريج والتحقيق، فما الذي يمكن عمله لبناء منهجية تخريج موحدة يمكن أن تساعد على تحديد المقبول من المردود في هذه الأحاديث، خاصة بعد أن أصبحت وسائل مثل الكمبيوتر وغيره متيسرة.
ثامناً: منهجية الإسناد: هل هي منهجية تم ابتكارها من قبل المحدثين في نهايةالقرن الأول الهجري أو بداية القرن الثاني؟ أم هي منهجية مقتبسة من عملية الإسناد في حفظ العرب أنسابهم وأنساب خيولهم وأيامهم وتواريهم؟
تاسعاً: قضية الرواية بالمعنى: من المعروف أن رواية السنن بالمعنى أجيزت عن البعض بشروط وتساهل البعض فيها على اعتبار أن السنن ليست كالقرآن متعبداً تلاوتها. ما أثر ذلك في منهجنا للحديث النبوي وقدرتنا على التعامل معه خاصة إذا تعرض هذا المعنى لتصرف أكثر من راو واحد بأن يكون الراوي الأول قد روى بالمعنى الذي فهمه ثم يأتي الراوي الثاني فيروي المعنى الذي فهمه من المعنى الذي فهمه من المعنى الراوي الأول وهكذا إلى نهاية السند.. فماýأثر ذلك على حجية الحديث المروي بالمعنى علماً بأن غالبية الأحاديث قد رويت بمعانيها لا ألفاظها؟
في ضوء دراسة ذلك كله ومناقشت نحتاج إلى الخروج بمنهج محدد للتعامل مع السنة بأنواعها: القول والفعل والتقرير، وكذلك إعداد كتاب أو أكثر في بيان علم الحديث دراية ورواية.
عاشراً: كثير ممن قاموا بتحقيق كتب الحديث المشهورة لاحظوا وجود اختلاف كبير بين النسخ الخطية والمطبوعة (1) ، بعض هذه الاختلافات خطير إن فيه أحاديث رفعت من الأصل وأحاديث أضيفت إليه، فكيف يمكن للباحث المعاصر في كتب السنة المطبوعة التي لم تخضع لتحقيق علمي دقيق الوصول إلى برد اليقين بأن ما أخذه من الكتب المتداولة كله موثق وصحيح لدراسة عصر تدوين السنة دراسة تحليلية بما فيه من فتن وخلافات وانقسامات وفرق تبين أثر مشكلات العصر في عملية التدوين. وهل توقف هذا الأثر على عمليةالوضع من قبل هذه الفرق أم أن الأمر تجاوز ذلك إلى إظهار بعض العلم وإخفاء غيره.. وأنه لابد من التحقيق العلمي الدقيق لكل كتب الصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم والرجال وغيرها للخروج بنسخ سليمة، وللوصول إلى الصيغ الدقيقة التي وضع مؤلفو تلك الكتب كتبهم عليها؟ كالذي فعله د. محمد مصطفى الأعظمي ـ وفقه الله ـ في «سنن ابن ماجه» على سبيل المثال؟
وبعد: فهذه ملاحظات موجزة مركزة أظن أنها تستحق من قراء الكلمة الاهتمام، ولعلها تسترعي الانتباه وتسلك سبيلها إلى بعض الباحثين الجادين من المخلصين الغيارى على هذه الأمة وتراثها، والراغبين بتوفير عوامل النهوض لها، فكم من حديث ضعيف اشتهر وتوهم الناس صحته وتداولوه فأورث من الفرقة والإختلاف والوهن ما بدّد طاقات الأمة، ودمّر قابلياتها، وشلّ الكثير من فاعليتها نحو حديث: «الافتراق إلى ثلاث وسبعين والفرقة الناجية، والفرق الهالكة برواياتها المختلفة التي ظلت الفرق الإسلامية تتراشق بها وتزيد في شهرتها لتتحول إلى مسلمة من المسلمات وإذا بباحث ناشط مسلح بالخبرة والمعرفة بهذا الفن ليميط اللثام عن ضعف هذا الحديث سنداً ومتناً بعد أن استقرأýأسانيده وطرقه لدى سائر الفرق الإسلامية وبين أسباب اشتهاره، كما بين تعارضه مع القرآن المجيد وسنن نبوية ثانية كتعارضه مع الواقع التاريخي الإسلامي والواقع المعاصر. والباحث الذي تصدى لذلك هو الأستاذ الشيخ محمد يحيى سالم عزان من العلماء الباحثين من اليمن وقد نشرت مجلة «المسار» الصادرة عن «مركز التراث والبحوث اليمني» بحثه القيم في عددها الأول وجاء البحث مع مراجعة خمس وثلاثين صفحة، ولو كتب بطرائق المتقدمين لجاء بمجلد ضخم. لذلك فنحن نهيب بالباحثين الشباب ان يسلكوا مسلك الأستاذ محمد يحيى في أحاديث مشتهرة كثيرة أدت إلى كوارث وإصابات فكرية خطيرة فتكت في عقل الأمة ولاتزالن، ولن يجدي في التخلص منها ومن آثارها إلا البحث العلمي الجاد والرصين والمستقرأ.. وفق الله العاملين لإعلاء كلمته ونصرة دينه لما يحبه ويرضاه. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

* من الهيئة الاستشارية لمجلة الكلمة، رئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية ليسبرغ ـ فرجينيا/ الولايات المتحدة الأمريكية.

1) انظر الإمام ابن حجر السقلاني، هدي الساري مقدمة فتح الباري شرح صحيح البخاري، المقدمة، تركيا، المكتبة الإسلامية، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، ط / أعيد طبعه بالأوفست، ص6 وما بعده