شعار الموقع

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومعادلة الصراع الفكري ..

الطاهر سعود 2019-06-06
عدد القراءات « 1995 »

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومعادلة الصراع الفكري..

اقتراب نقدي

الدكتور الطاهر سعود*

 

* أستاذ محاضر بقسم علم الاجتماع، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2، الجزائر. البريد الإلكتروني: tahar.saoud73@yahoo.fr

 

 

 

مفتتح استشكالي

كتب المفكر مالك بن نبي في معرض نقده للجهد الإصلاحي والتجديدي لحركات الإصلاح والتجديد الإسلامي مشدّدًا على حاجة المسلمين إلى علم جديد أسماه علم «تجديد الصلة بالله»[1].

إلَّا أنّ المسلمين اليوم هم في مسيس الحاجة أيضًا إلى ما يمكن تسميته بعلم «توثيق الصلة بالواقع»؛ ذلك أنّ حظهم منه في هذا العصر باهت وضعيف، فجوانب كثيرة من حياتهم، وخطابهم، وسلوكهم، هي خارج دائرة العصر، وخارج نطاق التاريخ، وبعيدة عن الدور والرسالة التي كُلّفوا بها، وهي الشهادة على الناس {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا}.

والشهادة كما هو معلوم فعل حضاري يتطلّب التواجد والحضور في معترك التدافع الحضاري بين الأمم، ومن مستلزمات هذا الحضور أن يتكلّم المسلمون لغة وخطاب عصرهم، وأن يكونوا على وعي بواقعهم، وعلى فهم دقيق له، حتى يُؤدّوا واجب الشهادة على وجهه المطلوب.

إنّ فقه الواقع والوعي بمعادلاته المعقّدة أصبح من المستلزمات الضرورية التي تستدعي الاشتغال عليها وتطوير الاهتمام بها، لجهة ترقية أداء نخب المجتمع الفاعلة في عمليات التغيير المجتمعي، وإتقان مناهج التحرّك في المجتمع، وتحقيق القدرة المثلى على التأثير فيه، وبالتالي ضمان نجاح انتقاله وتحوّله (أي المجتمع) السلس نحو آفاق الحضارة والتقدّم بأقل تكلفة ممكنة.

ولعلّ مراجعة مسار حركة الانتهاض والتجديد الإسلامي منذ أكثر من قرنين من الزمن، أي منذ تجربة محمد بن عبد الوهاب النجدي، والتعرّف إلى حظها ونصيبها من «فقه الواقع» بما هو واحد من الأسباب الرئيسة التي تشرط نجاح أو إخفاق كل عمل أو جهد تغييري، تكشف لنا عن بعض جوانب القصور في هذا الجهد التجديدي الذي على الرغم من تضحياته وميزانيات الوقت والجهد المبذول لم يسفر عن نجاحات كبرى، بالمقارنة إلى تجارب مجتمعية وحضارية أخرى، وهو ما يفسّر لنا -ولو جزئيًّا- منطق المراوحة والبدايات الصفرية التي ميّزت جهد التغيير الإسلامي إلى اليوم.

إننا نسعى في هذه الدراسة إلى محاولة الاقتراب النقدي من تجربة تاريخية ورائدة، ومحاولة نهضوية من ضمن سلسلة المحاولات العديدة وغير المنتهية للإصلاح والتجديد الحضاري في العالم الإسلامي، وهي تجربة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (A.O.M.A).

وعلى هذا الأساس فإنه ليس من شأن هذه الدراسة تقديم عرض لجهد هذه الجمعية في المجال الفكري والثقافي، بما هو الحيّز الذي رابطت فيه منذ البداية، فهو جهد ضخم وينتزع كل الإعجاب، بخاصة إذا اعتبرنا بالظرفية التاريخية التي انطلق واستمر فيها هذا الجهد (1931 - 1956) فرديًّا كان أم جماعيًّا، عندما أسس بعض أفراد النخبة الجزائرية العالمة هيكلهم التنظيمي ممثلًا في الجمعية.

كما أنّ هذه الدراسة لا تريد أن تكرّر الثناء والمدح الذي عادة ما يُصاحب استذكار جهد هؤلاء النخبة من العلماء الجزائريين، بل تحاول القيام بعمل نقدي يتتبع سيرة الجمعية ومسيرة بعض أعلامها اعتبارًا بمعطى «الصراع الفكري La lutte Idéologique» وآلياته التي جرى تشغيلها في تلك الفترة من طرف خصوم مشروعها، وعلى رأسهم مخابر الصراع الفكري الفرنسية.

إنّ استقراءنا لبعض المحطات من تاريخ الجمعية يُبرز لنا أنّ حظّها من التحكم في آليات الصراع الفكري كان متفاوتًا، وإن كانت في بعض هذه المحطات قد أبانت عن وعي متقدّم به، فإنها في محطات أخرى تبرز بعض القصور الملحوظ إذا قارناه بوعي بعض الفعاليات الحزبية والجمعوية الجزائرية في الظرفية التي اشتغلت فيها هذه الفعاليات[2].

يعزو الباحث الأمريكي مايكل ويليس هذا القصور إلى الطبيعة الدينية والثقافية للجمعية[3]، ويعزوه البعض إلى طبيعة الإعداد والتكوين الذي تلقّاه كثير من أعضاء الفريق الباديسي، وقد ذكر لنا مالك بن نبي في جهده النقدي للعلماء بعض النماذج التي تبرز حظهم من هذه القضية. وهو ما يفسر لنا بعض مآلات الفعل الإصلاحي في الجزائر في أواخر مرحلة ما قبل الثورة وفي مرحلة ما بعد الاستقلال.

لذلك فإننا سنحاول في هذه الدراسة الاشتغال على هذه المسألة رابطين إياها ببعض الأخطاء المنهجية التي تقع فيها عديد حركات الإصلاح في العالم العربي المعاصر، وعلى رأسها مسألة الوعي بمعطى الواقع، وبمعطى الصراع الفكري كأحد مفرداته المركزية.

أولًا: مقدّمة تمهيدية حول مفهوم الصراع الفكري
وآلياته وطرقه ووسائله، وأهمية الوعي به

قبل الخوض في مسألة الصراع الفكري وربطه بجهد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يبدو ضروريًّا من الناحية المنهجية البحث في مدلولات هذا المفهوم وحيثياته، ثم تطبيق ذلك في الأخير على التجربة التاريخية للجمعية[4].

1- في مفهوم الصراع الفكري

الصراع الفكري آلية من آليات تحريك الواقع الاجتماعي والسياسي... والتدافع بين القوى الاجتماعية داخل النسق المجتمعي، وبقدر ما يتحقّق الأفراد وتتحقّق الجماعات التغييرية بفقهه، وتعي آلياته ومناهجه وتَخبَرُ طرقه ومساربه يتحقّق لها التحكم في هذا الواقع وتوجيهه، أو على أقل تقدير أن تتحقّق لها القدرة على المناورة والمغالبة فيه مع القوى الأخرى الطامحة هي كذلك لتحقيق أهدافها ومطامحها.

إنّ الصراع أو الصدام على صعيد الأفكار ليس فعلًا مقصورًا على النطاق المحلي (داخل المجتمع الواحد بين القوى المتنافسة فيه، أحزاب، حركات، جماعات...)، وإنما هو ممارسة كونية ساحتها اليوم ليست جبهات القتال، وإنما ساحتها هي الأفكار؛ حيث أصبح سلاح الفكرة هو أمضى سلاح؛ وحيث لم تعد الأمور الأخرى سوى مكمّل للمعركة، فالأفكار والمفاهيم هي الشخوص التي تتبادل النزال في حلبة التاريخ.

وعلى هذا يمكن أن نعرّف الصراع الفكري بأنه «وسيلة أو نسق من الوسائل يستعملها شعب أو مجموعة من الشعوب، للحط من قيمة أفكار الخصم، أو لإبطال مفعولها، أو لتحويلها عن الهدف المنشود، أو لتعفينها، أو لشلّها، أو لإدماجها، أو لعزلها عن الجمهور عزلًا تامًّا أو جزئيًّا»[5].

وما دمنا بصدد مناقشة موضوع الصراع الفكري فلا بد أن ننبّه إلى الإسهام المهم الذي قدّمه مالك بن نبي في هذا الإطار، بخاصة في كتابه الموسوم بـ«الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»، والذي تبقى الكثير من تنظيراته تحمل طابع الراهنية، مع الإشارة -طبعًا- إلى ما يمكن أن يكون قد استجدّ في زمننا من الوسائل والآليات والطرائق التي أغفلها الكتاب، على اعتبار أنه مرّ عليه ما يجاوز نصف قرن كامل.

وعلى اعتبار ما تُبدعه مخابر الصراع الفكري العالمية التي أكّد مالك بن نبي بأنها مخابر تستعين بخريطة نفسية العالم الإسلامي وتجري عليها التعديلات الضرورية في كل يوم، يقوم بها رجال متخصصون مكلّفون برصد الأفكار، ورسم الخطط، لكف هذه الأفكار والحدّ من فعاليتها على ضوء معرفة دقيقة بمعادلاتنا النفسية والاجتماعية[6]، ونقاط ضعفنا وعناصر قوّتنا... وتوظيف كل ذلك ضمن مشروع تثبيت الوضع القائم، وهو -مثلما هو معلوم- وضع المستغِل مع المستغَل، أو بتعبير ابن خلدون: وضع المغلوب مع الغالب.

2- في أهمية الوعي بظاهرة الصراع الفكري وخطورتها

إذا كانت الحركات الإصلاحية المنبثقة منذ أكثر من قرنين من الزمان قد ولدت بالأساس لجهة تغيير الواقع وتوجيهه نحو آفاق التقوّم بمقوّمات الشرع والانضباط بها على صعيد التصور والسلوك، وإذا كانت المشاريع الإصلاحية لهذه الحركات قد راعت بهذا القدر أو ذاك شرط الواقع وبعض متغيراته، وكان لكل منها حظ كبير أو صغير منه، فإنّ عديد النقاد والباحثين قد خلصوا في هذا الصدد ابتناءً على ما آلت إليه هذه المشاريع من الإخفاق والفشل، وعدم تحقيق الهدف المنشود، إلى ما يمكن أن يكون ضعفًا في الإحاطة بهذا الواقع، وضعفًا في الإلمام بحيثياته، وبالتالي كانت هذه ثغرة آلت بعديد هذه المشاريع إلى وعدها المحتوم.

وإذا كان أحد هؤلاء النقّاد وهو مالك بن نبي قد خلص –مثلما أشرنا إلى ذلك في مفتتح هذه الدراسة- إلى أهمية أن ينشأ علم جديد يُعيد وصل الإنسان المسلم بالمورد الروحي الأعلى، وأسماه «علم تجديد الصلة بالله»، فإننا نزعم أننا اليوم أحوج ما يكون إلى علم جديد يعيد صلتنا بواقعنا، يمكن أن نسميه «علم تجديد الصلة بالواقع»، أو «علم توشيج العلاقة مع الواقع».

ولعلّ الوعي بظاهرة الصراع الفكري وسننه وقوانينه ومعادلاته هو نافذة مهمة وأساسية للوعي بمعطى الواقع.

إننا نعيش اليوم في عالم معقّد، لم يعد فيه للصدفة مكان، فكل شيء فيه يخضع للتخطيط الدقيق، بيد أنّ بعض مورّثات العطالة الثقافية التي ورثناها عن عصور الانحطاط الحضاري، تجعلنا اليوم لا ندرك خطورة ظاهرة الصراع الفكري، وغيرها من «الظواهر المفتاح» التي يعدّ الوعي بها، وفهمها واستيعابها، مقدماتٍ ضرورية على طريق فقه الواقع وتغييره.

إننا تعوّدنا كما يقول مالك بن نبي «بمقتضى العقل الذري الذي يجزّئ الأشياء [النزعة الذرية Atomisme]، ألّا نرى الجزئيات التي تقع تحت حسّنا تنبع من كليات لم تصل بعد إلى عقولنا، كما لا نرى من ناحية أخرى وبسبب تخلّفنا الاجتماعي أنّ العالم الذي نواجهه ونعيش فيه مخطط؛ أي إنه عالم لا تأتي فيه الأشياء عفوًا وإنما بوصفها نتائج لخطط محكمة»[7].

إنّ كل ذلك نابع ممّا يطلق عليه ابن نبي «تصورنا الصبياني للعالم» الذي نعيش فيه، هذا التصوّر الذي يمرّ على سطح الأشياء دون أن يلامس جواهرها[8].

إنّ إدراك أهمية عالم الأفكار وطبيعة الصراعات الفكرية يعدّ اليوم أكثر من ضرورة؛ ذلك لأنّ مستقبل وجودنا كمسلمين مشروط كله بما تصنعه الفكرة، فساحة النزال والمعركة الحضارية اليوم هي -مثلما أكّدنا- الفكرة سواء كانت هذه «المعركة الحضارية مقصودة لذاتها بعلم كل الأطراف التي لها خلفية مطروحة سلفًا عن دوافع هذه المعركة، وإدراك ما ينجرّ انتهاء عندما تتحدّد المعالم آخر المطاف، ويظهر للعيان ما كانت هذه المعركة... تطلبه، أو كانت نفس هذه المعركة الحضارية مقصودة، ولكن طرفًا واحدًا ووحيدًا هو الموجّه»[9].

وإذا كانت عدّة الحروب الكلاسيكية هي الحديد والنار فإنّ عدة الحروب والمعارك في عالم القرن الحادي والعشرين هي الأفكار، ذلك ما يؤكده أرباب الفكر الاستشرافي والدراسات المستقبلية عندما يقرّون بأن معطى الفكر والثقافة والانتماء الديني هي محرّك صدامات المستقبل؛ وعندما يؤكّدون على الدور المحوري للأفكار والرموز الثقافية والدينية في تشكيل نماذج التماسك والتفكك، والصراع في عالم القرن الحادي والعشرين.

إذ الاختلافات الكبرى بين مجتمعات هذا القرن هي اختلافات من طبيعة فكرية وثقافية، والخطوط الفاصلة بين الحضارات والثقافات هي خطوط المعارك في المستقبل كما يتصوّرها هنتنغتون، وكما تدفع باتجاهها سياسات وممارسات القوى الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية اليوم[10].

3- مبادئ الصراع الفكري

يمدّنا الإسهام البنابوي ببعض الإشارات والتنبيهات، والتحليلات الوافية حول الأساليب والطرق التخريبية التي تمارسها مراصد ومخابر الصراع الفكري، وحول ما تستخدمه من الوسائل والآليات.

بيد أنه وإن جاء هذا الإسهام عاكسًا لتجربة ذاتية في قراءة الظاهرة، ولبعض تفاصيل خبرة شخصية وفردية، ومرتبطًا بالاستعمار كفاعل في ساحة الصراع؛ حيث يأتي كتابه كرصد تحليلي وتنظيري لظاهرة الصراع الفكري في ظل الوضع الاستعماري الذي عاينه هو كابن للمستعمرات[11]، فإننا يمكن أن نوسّع حقل دلالة ما أسماه بالاستعمار ليشمل كل القوى الاجتماعية والسياسية والفكرية الموجودة على نطاق محلي أو إقليمي أو عالمي، والتي تصارع لأجل ضمان مصالحها بأن تَكُفَّ كل جهد فكري أو جهد نهضوي، يهدّد أهدافها ومصالحها الاستراتيجية.

وعلى هذا فإنّ الأساليب تتطوّر والتقنيات تتعدّل، لكن الهدف العام يبقى هو ذاته؛ أي تحطيم الأفكار وكفّ مفعولها في الإطار الاجتماعي.

يحدثنا ابن نبي عن مبدأين أساسيين يعتبران المنطلق الذي تتأسّس عليه ظاهرة الصراع الفكري، ويتمّ تشغيلهما على مسرح المعركة وجبهة النزال الفكري، هذين المبدأين هما: مبدأ الغموض، ومبدأ الفعالية.

1.3- مبدأ الغموض: ومفاده أن مخابر ومراصد الصراع الفكري لا تكشف النقاب عن وجهها في المعركة، وبأنها هي من يوجّه هذه العمليات، حتى وإن اقتضتها الضرورة إلى ذلك. وهنا يجري تشغيل سنن النفس والاجتماع، وتوظيف ما تقدّمه الخبرة العلمية في حقل الدراسات السيكولوجية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية، والعلوم الاجتماعية الغربية بعامة «كآليات وظيفية تقنن عملية الاستيلاب الفكري والثقافي»[12]، وتعمل هذه المراصد على تطبيقها «على وسط إنساني معيّن قد درسـ[ـت] من قبل استعداداته الخاصة بالنسبة إلى مقتضيات الصراع الفكري»[13].

2.3- مبدأ الفعالية: وهو ناتج عن المبدأ الأول في حيز التطبيق لتحقيق عزل المكافح (فرد، مجموعة، حركة، تنظيم...) في جبهة الصراع الفكري عن حلبة الصراع باستخدام أساليب خاصة تتمثل في[14]:

أ- تنفير الرأي العام من أفكاره بجميع الوسائل الصالحة لذلك، كسلاح الإغراء، وسلاح المال، وسلاح الدعاية والإعلام، وحملات التغليط والتزييف، واختلاق مختلف أنواع السرديات التي تحطّ من قيمة الخصم، وتشوّه صورته لدى المجتمع العام. إنّ مراصد الصراع الفكري تستعمل الوسائل المادية، وعندما تفقد هذه الوسائل مفعولها تلجأ إلى استخدام الوسائل العلمية البحتة.

ب- أن تنفره هو نفسه من القضية التي يكافح لأجلها بأن تشعره بعبث كفاحه. والهدف من كل ذلك -مثلما يؤكد ابن نبي- ليس النيل من حياة المناضل الناشط على جبهة الصراع الفكري، فالقوى الفاعلة والمستفيدة من الصراع لا تلجأ إلى هذا الأسلوب إلَّا إذا اضطرتها الظروف إلى ذلك، وإنما هو النيل من أفكار معينة تريد تحطيمها، أو تجميدها وكفّها، حتى لا تؤدّي مفعولها الإيجابي في توجيه الطاقات الاجتماعية في البلاد التي تخاض فيها هذه المعركة.

وفي الحالة الاجتماعية التي تتكثّف فيها بذور نجاح فكرة ما عندما تتوفر لها بعض الظروف الاستثنائية في شكل عمل إيجابي مشترك مثلًا، فإنّ مراصد الصراع الفكري تلجأ إلى تشغيل آليات أخرى[15]، من قبيل تشتيت القوى وتمزيق وحدتها الاجتماعية، عبر توظيف قوانين النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا وتشغيل دولاب المال، والدين، والانتماءات القبلية والإثنية، ورغائب النفوس، وميولاتها... لتحريف مجريات المعركة حتى تتحوّل إلى معركة داخل فضاء البيت الواحد (صراع حزبي، طائفي، عرقي..)، وإلى معركة بين القوى الشعبية ذاتها، بدل أن تكون معركة بين قوى الشعب أو الشعوب المتحدة ضد أسياد النسق الماسكين بزمام الأمر والمحافظين على الوضع القائم، وبهذا يتحقّق للخصم هدفان استراتيجيان هما[16]:

- الحط من المستوى الروحي أو الأيديولوجي الذي تكون فيه المعركة ضده، وبذلك تفقد طابعها الشمولي، وبالمحصلة تفقد معنوياتها، وشيئًا من قداستها في نظر جموع الجماهير.

- تشتيت القوى الموجودة في المعركة وتبدُّدُها كنتيجة للهبوط والتحطيط الذي أصاب المعركة في مستواها الروحي والأيديولوجي، وهو ما سينعكس حتمًا في مستويات اجتماعية أخرى لها كلفتها على صعيد المجتمع العام (على الصعيد السياسي والثقافي..).

4- آليات الصراع الفكري

يشبّه مالك بن نبي حيثيات ظاهرة الصراع الفكري بفصول المسرحية التي تؤدَّى على ركح، ويتقاسم فيها الأدوار مجموعة من الشخصيات هي[17]:

- فكرة: كشفت وجودها المراصد المختصة بالصراع الفكري.

- شعب: يجهل دخول هذه الفكرة إلى حلبة الصراع.

- قيادة: تتجاهل هذه الفكرة.

- صاحبها: أي صاحب الفكرة الذي يريد تبليغها.

- الاستعمار: الذي حاول خنقها.

في هذه المسرحية تصوّب مراصد الصراع الفكري كافة أسلحتها ومدافعها لقصف الفكرة وإنهاء دورها ووظيفتها الاجتماعية، وإصابتها، سواء كانت منفصلة أم متصلة بصاحبها. «إنّ المختبرات التي تقوم أعمالها على علم النفس [مثلما يؤكد ابن نبي] توجّه العمليات بكل دقة [أي العمليات التي تستهدف تعطيل الأفكار وكفّها]، حتى يكون فصل من فصول المعركة في بعض الأحيان قريبًا من التجربة التي يجريها علماء الحياة على بعض الحيوانات الصغرى»[18].

ومن الوسائل والطرق التي يتم توظيفها في هذه المعركة:

1.4- مرآة الكفّ أو الحرمان أو التنفير: وهي آلية سيكولوجية يجري تشغيلها للتأثير والحدّ من فاعلية الأفكار وكفّ أثرها، وتقوم على مبدأ أنّ صورة الشيء تتغيّر حسب الأضواء التي تسلّط عليه، وبما أنّ الفكرة هي شيء لا يُرى، فإنه يجري التأثير فيها عبر إلصاقها باسم صاحبها، وعلى هذا فإنّ ما يطال صاحب الفكرة يلحق أثره النفسي على الفكرة بالتبعية.

إنّ مرآة الكفّ هذه إما أن تتَّجه، أو بالأحرى أن توجّه إلى تشويه الفكرة ذاتها من داخلها بتوظيف كل الآليات الممكنة لإثبات عدم جدواها الذاتية، أو بالتأثير فيها من خارجها عبر طريقة الإيحاء، وذلك بالتوجّه نحو منتجها بالتأثير والتشويه الذي يطال الفكرة عبر ما يطال منتجها نفسه، بمعنى أنّ ما يحقن من شبهات حول دائرة العلاقات الاجتماعية، أو الدائرة الشخصية الخاصة به، يصبّ حتمًا بسلبياته أو إيجابياته في دائرة أفكاره. وبمعنى آخر: إنّ أي تعفّن أخلاقي يحدث داخل الدائرة الشخصية، أو ضمن دائرة العلاقات الاجتماعية يحدث أثرًا يتّجه مباشرة نحو دائرة الأفكار وينعكس عليها[19].

2.4- آلية الإزاحة والاستبدال: حيث تعمد الجهات المعنية بكفّ الأفكار عبر إزاحة بؤرة الاهتمام التي تُشير إليها الفكرة نحو بؤرة ثانوية أو فرعية أو أقلّ ضررًا، وتسخّر لها الأقلام والأموال لتصرف الناس إلى معارك وهمية أو شبه حقيقية تصرف الانتباه عن الأشياء الجدية، وتغرقها في موجات من ردود الأفعال غير المنتجة.

3.4- آلية المزلقة: وهي آلية يجري تطبيقها عندما يكون الهدف ألَّا يقف البحث عند فكرة معينة، فتطرح خلال مناقشة ما أفكار جديدة بالتوالي على طريقة التداعي الحرّ للأفكار. طرح لا يصل فيه النقاش إلى أي نتيجة عملية.

4.4- آلية البتر: ويتمّ تطبيقها عندما توشك مناقشة فكرية ما أن تأتي بنتيجة في موضوع هام، فتتسلل إلى حلبة المناقشة يدّ خفية تُبقي النقاش معلقًا دون نتيجة.

5.4- آلية التعطيل أو التجميد: التي تطبّق في جبهات القتال لتجميد قوات العدو عند نقطة معينة؛ حيث يتمّ تعليق تحقيق خلاصة نقاش هامّ تمّ فيه التوصل إلى نتيجة على شكليات لا قيمة لها، فتؤول العملية كلها إلى العدم[20].

6.4- طريقة الاستفزاز، أو لعبة الثور والمنديل الأحمر: التي تستفز الخصوم حتى تثير غضبهم وتغرقهم في حالة شبيهة بالحالة التنويمية التي تفقدهم شعورهم فتتوجّه ضرباتهم توجيهًا أعمى وتهدر قواهم من دون طائل.

لا يخفى إذاً ما للعبة الصراع الفكري التي تُلعب على مسرح محلي أو إقليمي أو دولي لعزل الأفكار، أو تشويهها، أو كفّها، أو تحطيمها حتى يتعطّل مفعولها التغييري والإيجابي في النفوس.

يمكن أن نلحظ ذلك على سبيل التمثيل في عمليات التشويه التي تطال الإسلام كفكرة مجرّدة، عندما تسوّقه على مستوى عالمي الآلة الدعائية للإعلام الدولي في هيئة أفكار مجسّدة تصوِّرُه كرسالة قروسطية مشحونة بالعنف، والتدمير، وهدر الكرامة والحرية الإنسانية، ترسم مشهديتها تنظيمات وحركات شاذة (حركة طالبان، تنظيم القاعدة، جماعة بوكو حرام، تنظيم الدولة الإسلامية...)؛ حيث يغدو الإسلام بما هو دين يحتفي بالكرامة الإنسانية ﴿وَلَقَد كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ والحرية «مَتَى استَعْبَدتُم النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتهُم أُمَهَاتُهُم أَحْرَارًا»، وحرية الاعتقاد ﴿لَكُمْ دِينُكُم وَلِيَ دِين﴾ و... دينًا للقتل وسفك الدماء وقطع وجزّ الرؤوس، وفي أفضل الأحوال دينًا يحافظ على الحياة ولكن على طريقة التسرّي والسبي[21].

5- وسائل الصراع الفكري

في ساحة الصراع الفكري يتمّ التوسل بكل الوسائل، فمراصده لا تستخدم أصحاب الشهوات وذوي الميول السيئة من المأجورين فحسب، بل تستخدم أحيانًا حتى ذوي الإرادات الخيّرة والنوايا الطيبة، وتستغلّ سمعتهم الخلقية مراعاة لمبدأ الغموض حتى تستطيع النيل من الفكرة وإلحاق العطل بها، فهي تستخدم الفضيلة كضمان لإبعاد الشكوك، كما تستخدم الأسلحة الأخرى بالضرورة؛ إذ الغاية تبرّر الوسيلة في عرف هذه الجهات.

في هذا الصدد يجري توظيف كل وسائل الإغراء لأجل الإغراق والنيل من الفكرة، بل حتى الدين يناله شيء من ذلك.

1.5- توظيف الدين: مثلما وظّف الاستعمار ذلك في فترة هيمنته؛ حيث تعطيل مفعول الفكرة الإصلاحية وتعطيل زخمها النهضوي لجأ إلى ضربها بالفكرة الطرقية. وفي زمننا هذا يجري اللعب على هذه المعادلة ويتم توظيف معطياتها بطريقة خطيرة؛ حيث يغدو فضاء الديني بما هو فضاء موحّد وضام إلى فضاء للتفرقة والتقسيم، فتوظّف معادلة المالكية قبالة الإباضية، ومعادلة التشيّع أمام التسنن، واللامذهبية أمام المذهبية، والوهّابية أمام الطرقية.. وهكذا يُعاد إنتاج الثنائيات الانقسامية التي كرّستها المدرسة الكولونيالية ومعها المشروع الاستعماري في واقعنا المعاصر، بل إنّ هناك ثنائيات جديدة مسترجعة ومستعادة من مقبرة التاريخ الإسلامي يجري تشغيلها هي الأخرى داخل الحيّز الإسلامي، كمعادلة الخوارج، والمعتزلة، والشعوبية...

2.5- توظيف المال: حيث يغذي الخصم الهوى والشهوات، ويبذل كل مواهبه الشيطانية لكي يصرف الفكرة عن تحقيق وظيفيتها. (يضرب مالك بن نبي مثالًا بالبعثات العلمية في الغرب).

3.5- الإغراء أو الترهيب: نظرًا لما يحوز عليه الخصم -عادة- من موارد يتمّ توظيفها في المعركة الفكرية فإنّ مآل الأفكار تحكمه وتشرطه طبيعة النسق الاجتماعي الذي تنشأ في نطاقه هذه الأفكار؛ فحين لا تنفع وسائل الإغراء يتمّ استخدام وسائل الترهيب لتنفير الرأي العام من الفكرة؛ تحت شعارات تقيّم الالتفاف حول هذه الفكرة كإضرار بـ«المصالح العليا للنسق»، و«بالخروج على الإجماع»، و«تعطيل التنمية» أو حتى الاتهام بـ«الخيانة والعمالة»، وبالتالي توظّف العمليات الوسيطة (الترغيب والترهيب) التي يستخدمها أسياد الحقل لتصريف الوضع نحو مسارب ودروب أخرى.

4.5- الوضع الفكري والنفسي في ساحة المعركة: لا بد أن نشير هنا إلى أن استخدام تلك الآليات والوسائط والوسائل لا يتمّ على أرض وهمية، وإنما على أرض لها من الميزات الثقافية والحضارية ما يجعل المعركة الفكرية والحرب المفاهيمية أكثر ضراوة.

إن مراصد الدراسات النفسية والاجتماعية -كما يقول أحدهم- تولّد في ثقافتنا أفكارًا وتعمل على إلصاقها بالأشياء والأشخاص، ودسّها في الفكر التغييري قصد إجهاضه، لعلمها بأنّ الشعوب الإسلامية في واقعها الراهن، وفي ميدان الصراع الفكري، تجهل قيمة الفكرة في مصير المجتمعات، كما تجهل دقة الخطط المرسومة من أجل التحكّم في مصائر الشعوب المتخلّفة عن طريق أفكارها[22].

ثانيًا: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
ومعادلة الصراع الفكري

بالعودة إلى الفترة التاريخية التي تشكّلت فيها جمعية العلماء واشتغلت فيها، وهي فترة تزيد عن العقدين (1931 - 1956) والحفر حولها ومحاولة قراءة إسهام الجمعية وجهدها التغييري في ضوء سنن الصراع الفكري، يمكن الخروج بجملة من الاستنتاجات، لعلّ أبرزها هو أن حظ هذه الجمعية وحظ الفاعلين من قياداتها وأتباعها من معادلة الصراع الفكري هو حظ متفاوت في الدرجة والنوع.

فإذا كانت بعض قياداتها التاريخية قد أبانت عن وعي متقدّم بمعادلة الصراع مع الخصم الفرنسي وبعض مشايعيه المحليين، فإن بعضها الآخر كان ضحية هذه المعركة نفسها. فضلًا عن أنّ الوعي بهذا المعطى المهم (معطى الصراع الفكري والانفتاح على آلياته وطرقه) لم يؤل إلى تيار عام داخل المدرسة الإصلاحية العلمائية، ومردّ ذلك راجع لعديد الأسباب التي سنناقش بعضها في العناصر اللاحقة من هذه الدراسة.

1- نماذج من الوعي المتقدّم بمعادلة الصراع الفكري

تُشير مطالعة الأدبيات الشفوية والمكتوبة عن تاريخ الجمعية إلى وعي متقدّم لدى عديد قيادييها بمعطى الصراع الفكري، وبمعطى الواقعية الحركية كشرط أساس ينبغي أن يتوفّر عليه كل جهد تغييري، وسنذكر هنا بعض الصور الواقعية لذلك على سبيل الذكر لا الحصر:

1.1- فكرة تأسيس الجمعية والاستفادة من الهامش القانوني المتاح في الفضاء الاستعماري: وهي نزعة واقعية تبرز واقعية العلماء في التعامل مع الظرف الاستعماري واستغلال المقدار المتاح من مساحة الحرية والتحرك، دون التذرع بصعوبة هذا الظرف وخصوصيته كما هي حال عديد الحركات والتنظيمات الإسلامية المعاصرة اليوم.

لقد استغلّ زعماء الإصلاح الجزائري التشريع القانوني الفرنسي الخاص بالجمعيات (قانون جويلية 1901)، ومبدأ علمانية الدولة الذي نص عليه قانون 1907والقاضي بفصل الشؤون الدينية عن الدولة الفرنسية لتتولى إدارتها جمعيات يشكّلها أتباع كل ديانة. ورغم أن هذا المبدأ لم يطبّق على الدين الإسلامي؛ إذ بقيت الإدارة الفرنسية تتدخل في شؤونه لفترة طويلة، إلَّا أنّ نضال العلماء توّج دعوتهم وإلحاحهم بأن يتولى المسلمون الجزائريون إدارة شؤونهم الدينية مثل غيرهم من الكاثوليك واليهود، وأسسوا تبعًا لذلك تنظيمهم الجماعي، وهي خطوة أتاحت لهم -بعد أكثر من عقد من النشاط الفردي المعزول- التغلغل في المعادلة الثقافية والسياسية للمجتمع الجزائري لأكثر من ربع قرن لاحق[23].

2.1- الظرفية الزمنية وذكاء استغلال الفرصة التاريخية: فسّر الكثير من الباحثين الظرفية التي تأسست فيها الجمعية والتي أعقبت احتفالات مئوية الاستعمار، بأنّ هذا التأسيس جاء كرد فعل على ادّعاء نجاح المشروع الاستعماري وانتصاره النهائي وتأبيد بقائه في الجزائر[24]، بيد أن هذا التفسير وإن كان صحيحًا فإنه يحجب تفسيرًا آخر يبرز لنا إذا تأمّلناه حنكة وذكاء في استغلال الفرصة واللحظة التاريخية وتوجيهها بما يخدم مصلحة الأمة الجزائرية.

في هذا الصدد يشرح علي مراد ما توفّق إليه العلماء مبرّرًا القبول الذي حظي به ملف اعتماد جمعيتهم من قبل الإدارة الفرنسية -وهي الإدارة المتحسسة من كل جهد من شأنه أن يوقظ الضمير الأهلي..- قائلًا: إنّ «هذه الجمعية لم تكن لتعتمد من قبل السلطات الفرنسية لو لم يكن المناخ العام في الجزائر موسومًا بالانفراج، ذلك أنّ سنة 1930 كانت بالنسبة للفرنسيين سنة المئوية الباعثة على النشوة، كانت الأنوار الاصطناعية لم تنطفئ بعد. كان الفرنسيون لا يزالون تحت وقع الاحتفالات الباذخة المقامة بمناسبة مرور قرن من التاريخ الاستعماري الفرنسي، وكان يحدوهم إذن التفاؤل حيال الأهالي، ونوع من الأبوية أو ما يشبه الرفق. وقد ترتب عن ذلك تليين للسياسة الأهلية للإدارة الجزائرية»[25].

ويبرز مراد بعض الأسباب الأخرى التي تفسّر بدقة أكبر ما أسماه بـ«الرفق الإداري» الذي استفاد منه مؤسسو الجمعية بـ[26]:

- وجود السيد ج. ميرانت على رأس الشؤون الأهلية في الحكومة العامة، وهو أحدالفرانكو-ماسونيين.

- كان ميرانت قد أظهر عداءً في السابق للنظام المرابطي.

من الممكن برأي مراد أن يكون هذان السببان قد دفعاه (أي ج. ميرانت) لتشجيع، أو على الأقل عدم تثبيط المشروع الإصلاحي منذ البداية.

نخلص من التحليل السابق إلى إنّ ميلاد الجمعية كان من الناحية الرمزية ردًّا على الاحتفالات المئوية لدخول الاستعمار الفرنسي، فكان تأسيسها الذي يوازي هذا الحدث لفتة رمزية في معركة الصراع الحضاري والفكري بين مجتمع وحضارة تتلذذ نشوة الانتصار، ومجتمع مقهور لم تقضِ سياط العذاب على روحه المتوثبة للنهضة، والعودة إلى ساحة الفعل التاريخي عندما تحين الفرصة.

3.1- تأمين شروط نجاح الفعل التأسيسي: يبدو أنّ الشيخ ابن باديس وبعض قادة الصف الأول في الحركة الإصلاحية، كانوا على وعي كبير بالمعادلة الاستعمارية وبمكائدها التي قد تجهض كل فعل إيجابي وتقبره منذ البداية؛ لذا فإن النقاش الذي دار على صفحات الشهاب منتصف العشرينات، والمتعلّق بالدعوة لتأسيس حزب إصلاحي يجمع العلماء المفترقين، توّج بالاتفاق على أن يتداعى للاجتماع التأسيسي بنادي الترقي كل من بإمكانه الإسهام في هذا المسعى.

وتفيد بعض الروايات الشفوية إلى أيّ حدّ كان ابن باديس واعيًا بمعادلة الصراع الفكري في هذا الصدد؛ حيث يذكر الشيخ خير الدين قائلًا: «كنت أنا والشيخ مبارك الميلي بمكتب الإمام ابن باديس بقسنطينة يوم دعا الشيخ محمد عبابسة... وطلب إليه أن يقوم بالدعوة إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العاصمة، وكلّفه أن يختار جماعة من الذين لا يُثير ذكر أسمائهم شكوك الحكومة أو مخاوف أصحاب الزوايا. وتتولى هذه الجماعة توجيه الدعوة إلى العلماء لتأسيس الجمعية بنادي الترقي.. حتى يتمّ الاجتماع في سلام وهدوء، وتتحقّق الغاية المرجوة من نجاح التأسيس»[27].

ثم يؤكّد الشيخ خير الدين أنّ ابن باديس أسرّ إليه وإلى الشيخ مبارك الميلي بأنه «لن يلبّي دعوة الاجتماع ولن يحضره في يومه الأول حتى يقرّر المجتمعون استدعاءه بصفة رسمية لحضور الاجتماع العام، فيكون بذلك مدعوًّا لا داعيًا وبذلك يتجنّب ما عسى أن يكون من ردود فعل تقوم بها السلطة الفرنسية وأصحاب الزوايا..»[28].

وبالفعل تمَّ الأمر كما خطّط له، وانتخب ابن باديس رئيسًا للجمعية التي كانت من حيث تركيبتها في عامها الأول مزيجًا من دعاة الإصلاح والمرابطين والحكوميين (أي رجال الدين المشتغلين في السلك الديني الرسمي الذي تشرف عليه الإدارة الفرنسية) الذين شكّلوا ثلث (1/3) أعضاء الجمعية.

4.1- تحدي المحافظة على المنجزات في ظل التربص الفرنسي والخيانة الداخلية: هو أول تحدٍّ واجه الجمعية بعد انقضاء عامها الأول؛ حيث دفعت إدارة الشؤون الأهلية بإيعاز منها، وبالتعاون مع بعض شيوخ الطرقية عمر بن أسماعيل مُحسنُ الجمعيةِ وممولها ورئيس لجنة العمل الدائمة فيها، إلى محاولة ضرب الجمعية من الداخل لفتح المجال إلى توسيع اختراقها بأنصار التيار المناوئ، وبالتالي الاستيلاء على جهازها الإداري بمناسبة تجديده الأول، بتوزيع بطاقات العضوية على بعض الأتباع غير المتفقين مع خط الجمعية ومذهبها الإصلاحي وقيادتها الأولى.

وهكذا كادت الجمعية أن تُسرق أو تُخترق لولا حنكة ابن باديس الذي لجأ إلى تأجيل انعقاد الجمعية العامة مستخدمًا المادة السابعة من قانونها الداخلي الذي ينص على أنّ الأعضاء العاملين ممّن نال إجازات بالمدارس الرسمية الجزائرية أو بالمعاهد العلمية الإسلامية هم الذين يصح أن يطلق عليهم لقب عالم بالقطر الجزائري، وهم وحدهم من يحق لهم الانتخاب والتصويت.

وليتم الأمر في جو من الأمان استدعى ابن باديس الشرطة، وهو ما جعل الكثيرين ينفضّون عن الاجتماع عندما تقرّر ألّا يمارس حق التصويت إلّا من تثبت اسمه لجنة إثبات العضوية ممن تتوفر فيه شروط المادة السابعة. وبهذه الحنكة التنظيمية والقدرة على المناورة تم تجديد الهيئة الإدارية المسيّرة للجمعية وانتصر الخط الإصلاحي على الخط الطرقي.

5.1- تحديد مجال الاختصاص والمرابطة فيه ولو في شكل المناورة الظرفية: لقد أبدى مؤسسو الجمعية -مثلما يؤكّد ذلك عديد الباحثين وعلى رأسهم علي مراد- مهارة لا تُنكر بسعيهم إلى جلب الإدارة الفرنسية لصالحهم قبل التماس الرخص الضرورية لوضع تنظيمهم، بخاصة أنهم أعلنوا منذ البداية نظريتهم في العمل التي تقوم على الابتعاد عن العمل السياسي[29]؛ حيث نصّ ميثاقهم التأسيسي على أنه «لا يسوّغ لهذه الجمعية بأي حال من الأحوال أن تخوض أو تتدخل في المسائل السياسية»[30].

إذ لم يشأ العلماء لاعتبارات عديدة ومنها تأمين الحصول على اعتمادهم، أن يكونوا رقمًا جديدًا ينضاف إلى قائمة الفعاليات السياسية المتواجدة على الساحة السياسية، وهو ما يؤكد من جهة ثانية إيمانهم بمعادلة التكاملية النوعية في الجهد التغييري[31] التي تقتضي الابتعاد عن النزعة الضرارية، وأن يتوزّع الفاعلون الاجتماعيون على جبهات العمل المجتمعي المتعدّدة، بدل التنافس على الجبهة الواحدة الذي يؤدّي إلى التنافرية والصراع المفضي للتلاشي، وهو قانون على الفعاليات النهضوية المعاصرة أن تعيه بعمق {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم} كما جاء في البيان القرآني.

إلى جانب هذه النماذج تمدّنا الخبرة العلمائية في الجزائر بنماذج أخرى عديدة من هذا الوعي المتقدّم بمعادلة الصراع الفكري؛ وبما مارسته إدارة ومخابر الصراع الفكري الفرنسية التي كانت مزودة بخبراء واختصاصيين في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الاستعمارية، وفي الشؤون الأهلية الجزائرية من أمثال: أوغسطين بيرك، وجاك بيرك.. وغيرهم، ممّن كانوا يحوزون على خبرة نظرية وعملية واسعة، هيّأتها لهم دراساتهم حول الخصائص السلالية للسكان، وظروف حياتهم، وعوائدهم، وتقاليدهم، وعقائدهم الدينية، وخصائصهم الحربية[32]؛ حيث وظّفوها لجهة التعامل بفعالية وكفاءة بما يخدم الوضع الاستعماري ويثبّته.

2- الجمعية تحت طائلة الصراع الفكري: نماذج واقعية

إذا كانت عديد تحركات ومواقف نخبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد أبانت عن وعي ملحوظ بمعادلة الصراع الفكري وأحابيلها كما لاحظنا ذلك في النماذج الآنفة، فإنّ هذا لا يعني بحال أنها كانت الجهة المنتصرة في ساحة النزال الفكري على الدوام، فالمعركة هي مواجهة تقتضي الربح كما تقتضي الخسارة.

وهكذا، فنحن واجدون في تتبعنا لجهد العلماء، وجهد جمعيتهم، مواقف ومشاهد أخرى تُبِينُ عن ضعف وقلة تقدير كانت كلفتها وتبعاتها عليهم وعلى جمعيتهم كبيرة.

بعض هذه القضايا أشار إليها عديد الكتّاب، وإن اختلفوا بين مؤيّد يبرّر سلوك الجمعية وسلوك نخبتها اتّجاه هذه القضية أو تلك، وبين من معارض منتقد، ومن بين أبرز ساحات الصراع الفكري والسياسي التي كلّفت الجمعية غاليًا يمكن أن نذكر:

1.2- المؤتمر الإسلامي: نتائج وانعكاسات: على رغم طابعها الإصلاحي ذي المنزع الثقافي الذي نصّت عليه نظريتها في العمل والتغيير، إلَّا أنّ جمعية العلماء أبدت في بعض محطاتها التاريخية انزلاقًا نحو العمل السياسي، وهو ما كانت له كلفته الضخمة على استقرارها المؤسسي وتوازنها التنظيمي.

يمكن في هذا الصدد أن نتحدّث عن مآل العمل الإصلاحي، والأزمات والصعوبات التي باتت تعترضه[33]، ومآل بعض رموزه، وعلى رأسهم الشيخ الطيب العقبي الذي فقده هذا العمل إلى الأبد، فقد تأزّمت علاقاته مع الزعماء الإصلاحيين، وبخاصة بعد الحملة الدعائية التي مسّت شخصه، ومن ورائه الحركة الإصلاحية، إثر حادثة اغتيال المفتي كحّول[34]؛ حينما اتهمته الإدارة الفرنسية بالوقوف وراء الحادثة بالتحريض؛ حيث سجن وقدّم للمحاكمة، قبل أن يطلق سراحه بعد اعتراف الجاني بعدم صلة الشيخ العقبي بالقضية، لتحكم المحكمة ببراءته في 28 جوان 1939.

لقد أخمدت هذه الحادثة إلى الأبد حماسة الشيخ للعمل الإصلاحي، وعندما خرج من محنته خرج محبطًا للغاية كما يقول علي مراد[35]، وسيتعزّز هذا الإحباط عندما يعلن الشيخ القطيعة التنظيمية التامّة عن زملائه في الجمعية في خريف 1938؛ حيث قدّم استقالته بعدما رفض ابن باديس، ومن ورائه المجلس الإداري للجمعية طلبه بخصوص توجيه برقية ولاء وتأييد لفرنسا ضد ألمانيا[36].

لا يمكننا تفسير هذه الحادثة إلّا بالقول: إنّ مراصد الصراع الفكري قد فعلت فعلها لتضرب وحدة الكفاح الكلّية التي تشكّلت بانعقاد المؤتمر الإسلامي سنة 1936؛ حيث وحّد هذا التجمع السياسي غالبية أطياف العمل السياسي في الجزائر[37]، وتشكّل على إثره وفد كلّف بتقديم أرضية مطالب الأمة الجزائرية إلى الحكومة الفرنسية في المتروبول في سابقة لم تشهدها الجزائر قبل هذا التاريخ.

ولا يخفى ما كان لابن باديس ونخبة جمعية العلماء من دور بارز في التئام هذا التجمع السياسي؛ حيث يقول الإبراهيمي: «.. ثم كانت حركة المؤتمر الإسلامي الجزائري في هذه السنة، فضربت الجمعية في الدعوة إليه بسهم [..] وشاركت في تكوينه والحضور فيه [..] وأدمجت مطالبها الدينية في مطالبه على أنها جزء من مطالب الأمة الجزائرية مكمّل لها، بل هو الجزء الذي لا حياة لها بدونه، جمعًا للجهود، وحصرًا للعمل، وتوحيدًا للصفوف»[38].

لكن هذا الحدث الكبير في تاريخ العمل السياسي الوطني الجزائري الموحّد، وصل إلى ضد مقصوده كما يقال، فما كاد الوفد العائد من باريس يقدّم تقريره أمام الشعب، وينصرف الساسة والزعماء، حتى انفجرت حادثة الاغتيال المشؤومة لتضع هذه الوحدة أمام تحدّ الاستمرار. تحدّ جعل بعض القادة السياسيين -وعلى رأسهم ابن جلول الذي كان العلماء أنفسهم قد سلموه رئاسة الوفد- يلقي بتبعات الاغتيال عليهم[39].

وبهذا تمكّنت مراصد الصراع الفكري من ضرب عصفورين بحجر واحد كما يقال؛ فمن جهة سيجري إضعاف المؤتمر الإسلامي وتشتيته حال نشوب أزمة بين النواب والعلماء، ومن جهة أخرى سيواجه العلماء -أنفسهم- أزمة حادّة على مستوى قيادتهم، كادت تحطّم جمعيتهم جرّاء اتّهام الشيخ العقبي بتدبير الاغتيال، ثم جرّاء الخلاف الذي تعمّق على مستوى المجلس الإداري للجمعية حول الموقف من فرنسا عشيّة الحرب العالمية الثانية.

طبقًا لمبدأي الغموض والفعالية، فقد نجحت مراصد الصراع الفكري في تنفير الرأي العام من الفكرة الإصلاحية ولو بشكل جزئي من خلال تشويه صورة الشيخ العقبي، فهذا الرجل الذي استطاع أن يروّض مدينة الجزائر، ويجعلها معقلًا للفكر الإصلاحي بعدما كانت مركزًا للمعمرين وأنصار الإدارة الفرنسية من الجزائريين كما يقول سعد الله[40]، سينفر هو نفسه من القضية التي عاش يناضل لأجلها، وتلك حالة موجبة للعبرة حقًّا.

حالة، أحسن علي مراد وصفها حينما كتب يصف ما آل إليه وضع الشيخ العقبي النفسي والاجتماعي قائلًا: «شهد أسد الحركة الإصلاحية الجزائرية عزلة حالكة في أواخر أيامه، عاش بقية حياته نهب هوس مرضي جعل كل صلة إنسانية معه صعبة للغاية، وهذا بعد أن أرهقه الشعور بالفشل [...] واستبدّت به فكرة أن يظل الناس يعتقدون أنه قاتل كحّول، إضافة إلى قلقه من أن يكون عرضة للتجسس على حياته الخاصة، وأن يبقى فريسة الشك في وطنيته [...] توفي الشيخ العقبي وسط اللامبالاة العامة في 21 ماي 1960»[41].

إنّ المأزق الذي آل إليه العمل الإصلاحي في هذه الفترة جعل مراقبًا مثل مالك بن نبي ينعى -في جهده النقدي- على سيرة العلماء في بعض المسالك التي أدّت إلى انهيار هذا البناء الذي يعتبره تتويجًا لجهد ربع قرن من الحركية والعمل الوطني. وعلى رأس هذه الانتقادات[42]:

- إنّ المشاركة في المؤتمر الإسلامي هي انحراف عن نظرية العمل والتغيير، وعن المسار التربوي والفكري للجمعية؛ حيث اتّجه العمل الإصلاحي بعدها إلى مغامرات السياسة والبوليتيك، ومقامراتهما الانتخابية، التي تبشّر بالحقوق وتضعف الوعي بالواجبات.

- إنّ المؤتمر الإسلامي كان من وجهة نظر ابن نبي أكبر انتصار حقّقه الشعب الجزائري على نفسه، وعلى القوى التي تسعى لإبقائه في حالة قصور، لكنه ينقم على العلماء أنهم سلّموا رئاسته لابن جلول؛ أي لمن يجعلها سلّمًا يصعد عليه للمناصب السياسية. وقد أثبتت الأيام انتهازية وبراغماتية ابن جلول الذي كان أول من تخلّى عن المؤتمر بعد مقتل المفتي كحّول، وتبرّأ من العلماء عندما سألته الصحافة الفرنسية عن موقفه منهم متّهمًا إياهم بالوقوف وراء حادثة الاغتيال[43].

بعيدًا عن الشخصنة فإن ابن نبي يضع إطارًا حضاريًّا لمنهجيته في النقد؛ حيث يفسر هذا الموقف من العلماء، بل وبعض مواقفهم الأخرى، بأنّ العلماء من الزاوية الأخلاقية كانوا يصدرون عن جانب خلقي رفيع، ولكنهم لم يكونوا على جانب من الخبرة بوسائل الاستعمار في مجال الصراع الفكري، ولم يكونوا على جانب من الخبرة بآلياته وأساليبه[44]، ومن هنا يتأتَّى شعورهم بمركب النقص إزاء قادة السياسة ظنًّا منهم أنّ هؤلاء سيذودون عنهم نوائب الحكومة[45].

جانب من هذا النقد يؤيّده محمد العبدة الذي يؤكّد أنّ هناك حوادث «تدل على مركّب النقص هذا؛ فالعلماء هم الذين نصّبوا محمد علي باشا في مصر حاكمًا رغم أنه أمي، بحجة أنهم لا يفقهون في السياسة، ونحن نرى في واقعنا اليوم كيف تستغلّ الأحزاب السياسية العلماء للحصول على أصوات الناخبين، ثم لا تقدّم هذه الأحزاب للإسلام أي خدمة»[46].

في مقابل هذا الرأي، هناك من يرى أنّ النظر إلى حدث المؤتمر الإسلامي من زوايا أخرى سيكشف عن عمق نظرة العلماء، ورسوخ قدمهم في الوعي الاستراتيجي، لأنهم -تبعًا لهذا الرأي دائمًا- تمكّنوا من تعزيز انفتاحهم على هموم المجتمع، وأكدوا حضورهم المحوري فيه، وتمكّنوا من المحافظة على مصالحه الاستراتيجية.

أما نقد ابن نبي فهو نوع من النقد الوقائي الاستراتيجي الذي ينبّه إلى المآلات السلبية المحتملة لبعض المبادرات والسياسات تأمينًا لمسيرة الحركة الإصلاحية وحفاظًا على منجزاتها[47]، حتى لا تضل طريقها.

ذلك ربما ما لم يفهمه بعض الذين كتبوا دفاعًا عن شيوخ الجمعية ودفاعًا عن بعض مواقفهم[48]، ظنًّا منهم أنّ ابن نبي يعرّض بهم.

مهما يكن الأمر فإنّ مشاركة العلماء وإن يكن لها مسوغاتها وظروفها، لم تأتِ بنتائج كبيرة سوى أنه كان لها بعض انعكاسات سلبية على جمعيتهم، حتى إن بعض النقاد اعتبروا أنّ سنة 1936 كانت سنة الذروة في العمل الإصلاحي منذ تأسيسه.

لقد كانت سنة 1936 بالنسبة للحركة الإصلاحية الباديسية كما يقول علي مراد: «السنة الأكثر ثراء في تاريخها من حيث انتصاراتها الباهرة ومن حيث انكساراتها المؤلمة [...] فبقدر ما كان الحدث الأول [انعقاد المؤتمر] مواتيًا لبعض الوقت بالنسبة للحركة الإصلاحية من حيث تمكينها من التحكم في الرأي العام الإسلامي وجعل ابن باديس يبلغ الذروة، كان الحدث الثاني [اغتيال المفتي] سببًا للفرقة في صلب الحركة الإصلاحية كما في صلب الجماعة الإسلامية»[49].

2.2- تفويت الحركة الإصلاحية لفرص الاستفادة من الطاقات الفكرية والإدارية التي لا تنتمي إليها عضويًّا: تميّزت العضوية في الجمعية باقتصارها على الفقهاء والشيوخ والأئمة[50]، وعدم استيعابها للمفكرين والباحثين المتخصصين في العلوم الأخرى. وقد كان لهذا العامل أثره المباشر في طبيعة إنتاجها العلمي ومخرجاتها الثقافية الذَين اقتصرا على التفسير واللغة العربية والآداب والتاريخ والوعي السياسي الوطني والقومي[51].

ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك موقف العلماء من مالك بن نبي، وبعض عناصر النخبة الإسلامية المتكونة تكوينًا غربيًّا وباللسان الفرنسي، أمثال حمودة بن الساعي وأخوه صالح، وغيرهم على قلّتهم في تلك الفترة؛ فعلى الرغم من اعتراف مالك بن نبي -مثلًا- بانتمائه مذهبيًّا لتيار الإصلاح، وأنه يرى نفسه أقرب إليهم؛ وبالرغم من تعاونه معهم في عديد المناسبات كتابةً في صحافة الجمعية أو محاضرةً في نواديها، إلَّا أنّ ذلك لم يتطوّر إلى مستوى التعاون العضوي[52].

وفي هذا الصدد يقول محمد العبدة معقّبًا على موقف الجمعية: «ولكن في أجواء المجتمعات الإسلامية لا نستبعد صدور خطأ مثل هذا، وكان بإمكان الجمعية أن تستفيد من مالك بن نبي في أمور يتقنها، وهو سيستفيد من الجمعية وعلمائها ونظرتهم الشرعية إلى كثير من القضايا. وإذا أردنا القياس مع الجماعات الإسلامية اليوم -رغم الفروق بينهم وبين الجمعية- فإنه من غير المستغرب أن يوجد أناس في هذه الجماعات لا يرغبون في أهل الفكر وأهل النظر والتمحيص، ولا يرغبون فيمن ينتقد أو يقترح حلولًا لا تعجبهم»[53].

في مقابل ذلك نجد ترحيبًا واحتضانًا لبعض الأسماء الأخرى في موقف يدعو إلى التأمّل، فقد كان محمد الصالح بن جلول مثلًا شخصًا مقرّبًا من ابن باديس، ورغم عديد مواقفه السلبية من الحركة الإصلاحية لم يمنعها ذلك من دفعه ليصبح رئيس وفد المؤتمر الإسلامي، وكان ابن باديس نفسه هو من اقترح اسمه ليحظى بقيادة الأمة الجزائرية لتبليغ مطالبها إلى الحكومة الفرنسية كما بيّناه فيما سبق.

هل طبيعة التكوين وطبيعة الخلفية الفكرية والمعرفية هي من وقف حائلًا دون تحقيق هذا الاندماج العضوي؟، هل هي طبيعة اللغة؛ إذ كان مالك وبعض زملائه قد استكملوا دراساتهم التخصصية بفرنسا وبلغتها الفرنسية؟

بينما درس وتشكّل كل أعضاء الفريق الباديسي تقريبًا في مدارس عربية، إما داخل الجزائر أو خارجها، وكانت لغة تكوينهم هي اللغة العربية؟، وبالتالي كانت هذه الخلفيات أسيجة تصنع بعض التمايز، وتمنع على المنظمة العلمائية الانفتاح على هؤلاء للاستفادة من طاقاتهم وخبراتهم؟ تلك أسئلة تحتاج إلى تأمّل وبحث.

3.2- مسألة الثورة التحريرية وضعف التموقع العلمائي: ليس من شأننا الحديث عن موقف الجمعية من الثورة، فهذه المسألة وإن حصل حولها جدل كبير؛ حيث يؤكد البعض سبقها في الاعتراف بها، وينفي عنها البعض ذلك. إلَّا أنّ الثابت هو أنّ الجمعية انخرطت عضويًّا في الثورة التحريرية منذ ربيع 1956.

بيد أنّ الملاحظ في هذا الصدد هو ضعف التموقع العلمائي في مجمل الهيكل التنظيمي والقيادي للثورة، وهو ما يجعلنا نتساءل عن سبب ذلك؛ ففي الوقت الذي استطاعت فيه عديد العناصر والحساسيات السياسية والتنظيمية والأيديولوجية الأخرى -والتي دخلت على خط الثورة في الفترة نفسها التي دخلت فيها الجمعية تقريبًا- الوصول إلى أعلى الهرم القيادي للثورة، مثلما كان حال بعض المركزيين والاندماجيين وحتى الشيوعيين، وجدنا العلماء في مؤخرة الركب؟

لم تبرز الشخصيات القيادية في الجمعية كالإبراهيمي والفضيل الورتيلاني المقيمَين في القاهرة منذ 1952، كجزء من قيادة الخارج[54]، أما العناصر القيادية الأخرى ممن بقيت في الداخل وانضمت هي الأخرى للثورة فلم يرتقِ إلَّا قليل منها بعض المراتب القيادية الميدانية[55].

وإذا كانت القيادات والعناصر المحسوبة على التيارات الأخرى (مركزيين، جماعة أحباب البيان، بعض العناصر اليسارية، لا حزبيين) قد التحقت بالثورة ثم دخلت بعدها في مسارات من الصراع والتدافع لتحسّن من مواقعها، ومن مواردها الرمزية والمادية، ومن مصادر الوجاهة والتأثير، وصناعة القرار في مؤسسات الثورة وهيئاتها القيادية، فقد بقيت عديد العناصر القيادية المحسوبة على جمعية العلماء على هامش الحدث.

هل هو نوع من الزهد الثوري؟، أو التعفّف الأخلاقي؟ هل هو هروب من الولوج في مسارب المكر والخديعة التي عادة ما تميّز العمل السياسي، والتي تعجز «النزعة التطهرية للعلماء» عن مجاراتها؟[56]، أم هي قلّة دربة، ونقص إعداد وتكوين، وضعف وعي بمعادلات الصراع وأبجدياته؟ أم هو دليل آخر على شعور متجدّد لدى العلماء بمركب النقص إزاء القادة السياسيين، تمامًا مثلما كان حالهم منذ المؤتمر الإسلامي لسنة 1936؟

ذلك ما يمكن ترجيحه في هكذا وضع، ولا يمكن أن ننكر أنّ بعض نخبة العلماء كانوا دون السوية المطلوبة إزاء معطى التموقع، وضعف استيفاء شروطه الواقعية، مقارنة إلى نظرائهم من التيارات والحساسيات الأخرى.

هذا الموقف الضعيف على الصعيد الاستراتيجي ستكون كلفته كبيرة إزاء عمليات التموقع والنفاذ في مؤسسات الدولة الوليدة وفي مفاصل القرار فيها؛ ففي الوقت الذي حافظت فيه عناصر من مختلف التيارات على موطئ قدم، خرج العلماء صفر اليدين، سوى من بعض المناصب والمسؤوليات المحدودة والبسيطة في وزارات الأوقاف والعدل والتربية.

3- في محاولة تفسير الظاهرة

أكدنا فيما سبق على ثنائية حضور- غياب الوعي بمسألة الصراع الفكري في مجمل جهد الجمعية؛ وعلى أنّ هذا الوعي الذي كان حاضرًا لدى ثلة من نخبتها القيادية لم يؤل إلى تيار عام داخل المدرسة الإصلاحية العلمائية، بل إنّ تمثّل هذا الوعي في بعض المحطات التاريخية لدى هذه النخبة القيادية نفسها كان دون السوية المطلوبة في بعض الأحيان، ممَّا انجرّ عنه نتائج سلبية على واقع الجمعية، وعلى حضورها النوعي، سواء في مرحلة الثورة، أو في المرحلة التي أعقبتها.

فلئن كان العلماء قد انضموا رسميًّا إلى جبهة التحرير الوطني أثناء الثورة التحريرية، فقد كان من سوء حضهم كما يقول علي مراد «أنه لم ينظر إليهم بوضوح بوصفهم بناة الاستقلال»[57]، وفي الوقت الذي تأكّد فيه تمجيد اتجاه دعاة الاستقلال، وورثتهم في جبهة التحرير الوطني كسنان الرمح في الكفاح التحرري الوطني، كان الإصلاحيون يتراءون كورثة لحركة جعلت من الإحياء الثقافي والوطني للشعب الجزائري أولوية، ومن هذا المنطلق لم يكن العلماء في وضع يسمح لهم بالمطالبة بأي نفوذ[58].

إنّ هذا الوضع الذي بات عليه العلماء تجاه معارك الأفكار وحرب المفاهيم؛ أي اتجاه الصراع الفكري والسياسي بكلمة مختصرة؛ حيث لم يؤل وعيهم به إلى تيار عام في صفوف محازبيهم (Les militants) ومشايعيهم، بله حتى لدى بعض قيادييهم، يمكن تفسيره بما يأتي:

1.3- محدودية السقف العلمي للجمعية: إنّ المتفحّص للبرنامج التكويني للجمعية -مثلما يقول الباحث ابن حموش- يجد أنه كان في معظمه مقتصرًا على اللغة العربية وآدابها وعلى العلوم الشرعية والتاريخ، في حين لم تجد العلوم العصرية الأخرى التي كانت تعجّ بها في تلك الفترة أوروبا، بله حتى المدارس الفرنسية في الجزائر طريقها إلى ذلك المنهاج[59].

إنه تكوين تراثي يعتمد على أحادية لغوية، وعلى مبدأ العلم المفيد المقلّ، ويحصر نفسه في مجال معرفي عتيق؛ فقهي وثيولوجي وأدبي وعلمي ماضي يجعل أفق الطالب والمناضل أفقًا محدودًا، تبعًا لما تتيحه هذه العلوم من رؤية للوجود والواقع.

إلى جانب ذلك، فإنّ تكوين المناضل هو تكوين بعيد الصلة عن الاشتغال بالتنظير والتخطيط الاستراتيجي، وعن الإلمام بآليات الصراع الفكري التي تتقنها الحساسيات والفعاليات التنظيمية والحزبية المنفتحة على التيارات والخبرات الإنسانية في مجال إدارة شؤون وعمليات الصراع الفكري والسياسي[60].

يقول علي مراد بخصوص هذه المسألة: «أما السياسة والتحليل الصارم للحقائق الاقتصادية والاجتماعية فلم تكن مجالاتهم المفضلة (أي العلماء). ورغم أنهم سعوا بناءً على مبادئ سلفيتهم إلى إصلاح جميع أوجه الحياة الإسلامية حولهم، فإنهم لم يقوموا بعمل أصيل، ولم يصلوا إلى نتائج محمودة خارج مجالات العبادة والتعليم التي كانت من الوجهة التقليدية من مهام رجال الدين في ديار الإسلام»[61].

رأي يوافقه فيه المؤرخ أبو القاسم سعد الله رغم أنه خريج مدارس الجمعية؛ حيث أكّد في معرض تعليقه على اختيار العلماء تأسيس جمعية تشتغل على الشأن الثقافي والديني، أنّ الإدارة الفرنسية ما كانت لتوافق على طلبهم لو نصّوا في قانونهم على أنها جمعية تشتغل بالسياسة أو تدعو للاستقلال. ولو فعلوا ذلك لكان مصيرها الحل ومصيرهم السجن، وبذلك يمكن أن يتحوّلوا إلى حزب سياسي يعمل في الخفاء والمنافي، ثم يعلّق قائلًا: «ونحن لا نظن أن التكوين الاجتماعي والثقافي للعلماء يؤهلهم لهذا الدور»[62].

إنّ بعض هذه المسائل تبقى إلى اليوم أحد المثالب التي تميّز برامج عديد التيارات والحركات الإسلامية، وتنعكس في مستوى قياداتها وأتباعها، فضعف الخلفية الفكرية والفلسفية، وضعف الاتصال بالعلوم الإنسانية بما هي علوم للروح، وبدورها المخصوص في تكوين العقل النقدي، وضعف جهدهم في محاولة افتكاكها هو ملمح يمكن للجميع ملاحظته.

وعندما تقع هذه الحركات في مطبّات العطب، ومزالق سوء تقديرها للواقع، تستنجد قياداتها بتراث تاريخي ضخم يجري استدعاؤه من مدونات سِيَر الأنبياء والرسل والصالحين.. لتبرير الفشل والإخفاق ومخالفة سنن الواقع الغلّابة، تحت مسمى المحنة والابتلاء والمظلومية، ويغيب منطق النقد الذاتي ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُم﴾[63]، ﴿فَأَقبَلَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ﴾[64] الذي يكشف العيوب ويُعرّي النواقص، ويفتح مساحة للمصارحة مع الذات لأجل الاستدراك والتصحيح.

2.3- طبيعة العقل الإصلاحي بما هو عقل بياني: وهي ميزة ناجمة عن طبيعة التكوين الذي يتلقّاه الفرد المنخرط في سلك التعليم العلمائي، وإن كنا لا نطالب الجمعية بتخريج جيل من الفلاسفة اعتبارًا بالظرفية التي اشتغلت فيها وهي ظرفية صعبة من دون شك، إلَّا أنّ هذا لا يمنعنا من توجيه بعض الملاحظات بخصوص نوعية ما كان يتلقّاه الملتحقون بمدارسها ومعهدها التعليمي.

ومع تقدير الجهد التعليمي الذي بذلته الجمعية في تلك الظروف الخاصة؛ حيث كان التعليم حظوة اجتماعية لا يبلغها إلَّا قلّة من المحظوظين والميسورين، فإنّ الخطة التعليمية المتّبعة كانت مفرداتها تنهل من التراث ومن علوم السلف أكثر مما تنهل من علوم العصر، وهكذا وجدنا احتفاء بعلوم اللغة والبيان، وعقلًا يتذوّق الشعر، ولسانًا يقرضه، ونفسًا تطرب له، أكثر مما وجدنا احتفاء بالعلوم والمساقات التي تفتح العقل على التفكير العقلاني، وتكوّن العقل النقدي، والحسّ الواقعي، لتُستَدخَلَ هذه القيم الحيّة وتتوطن ضمن منظومة عاداتنا الفكرية ومناخنا الثقافي.

ولعلنا نعود من جديد لمالك بن نبي الذي لم ينسَ أن يسجّل ملاحظاته على هذا المناخ الثقافي الذي كانت تصنعه الحلقات الفكرية المنتظمة في نوادي ومؤسسات التعليم والتثقيف العلمائية؛ حيث كتب يقول تعليقًا على ما لاحظه في إحدى زياراته لنادي الترقي: «وأنا اليوم أدرك ما تعانيه هذه العقول المحبة للبلاغة الأدبية كما كانت (ولا تزال) عقول الكثير من الجزائريين، بحضور شاب جزائري [يقصد مفدي زكريا] يمكنه أن يُثير انتباههم بفضل الشكل اللبق والسهل لتعبيره، وبفضل ما ضمّنه من محتوى. فبالفعل ومنذ وجودي بباريس أحسست بأني مختلف عن إخواني المسلمين حتى في المجال الديني؛ حيث لم يكن إيماني تأمليًّا وحسب بل عمليًّا. فقد أصبحت ذلك العقل البراغماتي والعملي الذي لا يمكن لواقعيته ودقته إلَّا أن تفاجئ عقولًا تعوّدت عدم الدقة وغياب الواقعية»[65].

إنّ الروح الديكارتية التي كانت تتشرّبها عقول النخبة الجزائرية الملتحقة بالمدارس والمعاهد الفرنسية يبدو أن مدارس الجمعية لم تكن قادرة على توصيلها، وعلى هذا بقي تعليم كثير من الجزائريين مستقطبًا بين منظومتين متوازيتين تكرستا بعد الاستقلال، منظومة متأثرة بالحداثة الغربية ومفتتنة بها، ومنظومة تراثية مكتفية بذاتها، فوّتت على المجتمع فرصة إحداث التركيب الإبداعي الذي يصنع الفرد المتشبع بتراثه والمنفتح على عصره.

لهذا ليس من المستغرب أن يحمل ابن نبي على الجمعية في عديد المرّات مفسرًا بعض سلوكها بطبيعة التكوين الذي تلقّته نخبتها، فقد قال معقّبًا بعد ثلث قرن من انعقاد المؤتمر الإسلامي: «إنّ الظروف السانحة وضعت العلماء أمناء على مصلحة الشعب فسلموا الأمانة لغيرهم [..] ولا مجال هنا لبحث القضية في جوهرها الحضاري، لفحص الأسباب التي جعلت العلماء -أي الطائفة المتكونة من بوتقة ما نسميه الثقافة التقليدية- لا يستطيعون القيام بالمهام الكبرى»[66].

3.3- ضعف التكوين والتدريب الميداني: في مجال العمل السياسي والنقابي الذي يتيح للفرد الاحتكاك بالواقع الميداني في تفاصيله وحيثياته، فيَخبَرَ أساليب المناورة والصراع، ويتدرّب على مهارات التسيير والتدبير، وتحصل له الدربة والفهم والتواصل مع مفردات المجتمع الأخرى، وهو مجال يمكن القول بأنه لم يحضَ بأولوية في سلّم اجتهاد الجمعية، وإن كانت لها بعض المحاولات في تشجيع إنشاء بعض الفرق الكشفية والرياضية.

ويبدو أنّ هذا ملمح تشترك فيه الحركة الإصلاحية في الجزائر مع عديد الحركات الإسلامية الأخرى، فإذا كان التيار القومي قد ركز على مؤسسة الجيش معتبرًا إياها أداة تحقيق التغيير، وحثّ مشايعيه على النفاذ في أجهزتها وانتزاع مراكز القيادة فيها؛ وإذا كانت التيارات اليسارية قد اختارت العمل النقابي لتجنيد الشرائح والطبقات العمالية، ووظفتها كقوة ضغط لتحقيق أهدافها، فإنّ التيارات ذات المنزع الإسلامي اكتفت في الغالب بالفضاء التعليمي وبقيت حبيسة فيه.

وفي الوقت الذي أصبح فيه للنقابات والأحزاب شأن خاص بما هي محاضن للتدريب، ومصانع لتخريج الكفاءات القيادية التي تتقن فن الصراع والمناورة، بقيت الحركات الإسلامية حبيسة الفضاء الطالبي الذي فوّت عليها تحصيل الكثير من الخبرات التي كان من الممكن أن تطوّر أداءها، وتحقّق لنفسها الانغراس اللازم، والتأمين الاستراتيجي من الاقتلاع، في حالة تعرّضها لضربات الخصم سواء كان هذا الخصم سلطة استعمارية أو بطش دولة الاستقلال.

على سبيل الختم

إن ثقافة الفخر والمديح لا تبني بل تهدم، لذلك آثرنا في هذه الدراسة التوجه نحو محاولة نقد تجربة من التجارب المهمة في الإصلاح والتجديد في القطر الجزائري، وهي تجربة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، دون أن يعني هذا النقد انتقاصًا من مقامات رجالها وأفضالهم على الأمة الجزائرية ودورهم الخطير الذي نهضوا فيه بواجب إحياء اللغة والدين، وإعادة بعث مكونات الثقافة والهوية الجزائرية التي كادت تندرس تحت معاول مشروع وسياسات التفكيك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الاستعماري الممنهجة.

غالبًا ما تنحو الدراسات المهتمة بتاريخ الجمعية، وبخاصة تلك الدراسات التي تنطلق من الأوساط القريبة من فكرها، أو المحسوبة على تيارها، إلى تعداد مناقبها، وإبراز إنجازاتها ودورها الاستراتيجي في المحافظة على هوية الأمة الجزائرية ووجودها الثقافي، وهو ما ألمحنا إليه في المفتتح الإشكالي لهذه الدراسة.

بيد أنّ الدراسات التي تأخذ هذه التجربة بميزان النقد ربما لا تزال شحيحة، رغم أهميتها في الوقوف على مكامن الخلل لأجل تحقيق مفهوم «العبرة» كما نصّ عليه البيان القرآني «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ»[67].

والتواصل التجديدي مع هذه التجربة، ومحاولة الاستفادة منها في تجارب ومحاولات التغيير المعاصرة، وبخاصة تلك التي لا تزال تعتبر تجربة العلماء جذرًا فكريًّا وتنظيميًّا جديرًا بالاقتداء والمتابعة[68].

إنّ الزاوية النقدية التي حاولنا جهد الاستطاعة استبانتها عبر هذه الدراسة، وهي تلك المتعلقة بمعطى الصراع الفكري وفقه الواقع، بما هو محل التحرّك والعمل، بالاستناد إلى التجربة التاريخية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، تبرز أنّ بعض المآلات السلبية لعمل هذه الجمعية كان ناجمًا في بعض جوانبه من قلّة تحقّق بالشروط الموضوعية التي يتطلبها التحرك في نطاق المجتمع، وبخاصة في تلك الظروف الاستثنائية بما هي ظروف مشروطة بالحالة الاستعمارية.

ويبدو من المُشَاهَدِ والمعيش ما هو عليه حال عديد الحركات والتيارات الإسلامية وفعاليات المجتمع المدني في البلاد العربية والإسلامية اليوم من ضعف شديد في فهم واستيعاب معادلات الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي الذي تتحرّك فيه، وهو ما يجعل تجاربها ومحاولاتها التغييرية أشبه بالمحاولات الصفرية التي ما تكاد تنهض حتى تسقط من جديد.

ولعلّ مآلات تجارب بعض هذه الحركات في مرحلة ما بعد الربيع العربي تدعونا حقًّا للتأمّل؛ إذ أثبتت مرة أخرى أنها تحوز على توتّر الروح وحماسة القلب، ولكنها قليلة التحقّق بشروط الصواب الذي ينبني على فهم سديد بحيثيات الواقع وإدراك مكوناته وعناصر التأثير فيه، والقوى التي تتنازعه والإكراهات التي تميزه.

لذا فإنّ أي نجاح مشروط بالتحقق بأقصى درجات الوعي بهذا الواقع والفهم المكين لمساربه ودروبه، ولعلّ مراجعة تجارب سابقة في الزمن، ومنها تجربة جمعية العلماء الجزائرين يكشف عن جوانب مشرقة من القدرة على مغالبة هذا الواقع وتحقيق الانتصارات الميدانية فيه رغم قتامة الظرف التاريخي وإكراهاته، وهي جوانب جديرة بالتأسي من دون شك.

كما أنّ هناك سقطات وعثرات تكشف هي الأخرى عن قصور ينبغي استدراكه، وبهذا تتفاعل الأجيال، ويستفيد اللاحق منها من تجارب السابق، سواء تلك الناجحة منها أم الفاشلة.

 

 



[1] يقول مالك بن نبي: «.. وتغيير النفس معناه إقدارها على أن تتجاوز وضعها المألوف، وليس هذا من شأن علم الكلام، بل هو من شأن منهاج التصوّف، أو بعبارة أدق: من شأن علم لم يُوضع له اسم بعدُ، ويمكن أن نسميه تجديد الصلة بالله». وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، إشراف ندوة مالك بن نبي، ط 5 (دمشق: دار الفكر، 1986) ص 54.

[2]نقصد بهذه الفعاليات الحركات والاتجاهات ذات الخلفيات الفكرية والأيديولوجية والتنظيمية المتعدّدة، كالاتّجاه اليساري، والوطني، والليبرالي والتي تشكّل في مجموعها ما يصطلح عليه الخطاب التاريخي الجزائري بالحركة الوطنية.

[3] انظر: مايكل ويليس، التحدي الإسلامي في الجزائر: الجذور التاريخية والسياسية لصعود الحركة الإسلامية، ترجمة: عادل خير الله، ط1، (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر،1999)، ص 52، ص ص 55-56.

[4] بعض المفردات التي سترد في هذا المبحث المتعلّق بمفهوم الصراع الفكري ناقشناها في دراسة سابقة لنا انظر: الطاهر سعود، «الظاهرة الاستعمارية من منظور مالك بن نبي»، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، مجلة الآداب والعلوم الإنسانية، العدد 6 (أكتوبر 2005).

[5] عبد اللطيف عبادة، صفحات مشرقة من فكر مالك بن نبي، ط1 (باتنة: دار الشهاب للطباعة والنشر، 1984)، ص66.

[6] مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، إشراف ندوة مالك بن نبي، ط 3 (الجزائر ودمشق: دار الفكر 1988)، ص16.

[7] مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ص 34.

[8] المرجع نفسه، ص ص 34-35.

[9] عبد الباقي صلاي، «مالك بن نبي وصراع الفكرة»، متوفر على الموقع الإلكتروني: http://www.hoggar.org.

[10] انظر الفصل الثامن والخاتمة في: الطاهر سعود، أبحاث وآراء في الفكر والثقافة والاجتماع، ط1 (عمان: دار الأيام للطباعة والنشر والتوزيع، 2014).

[11] على الرغم من أهمية هذا الكتاب واشتغاله على موضوع خطير فإن هجر بعض ردود الأفعال المثيرة للانتباه، وقد وصل الحدّ بالبعض إلى رمي صاحبه بأنه شخص يعاني من هواجس مرضية وأعراض سيكولوجية غير سوية.

[12] مولاي خليفة لمشيشي، مالك بن نبي: دراسة استقرائية مقارنة، معالم المنهج في تأصيل العلوم الإنسانية لمشروع مشكلات الحضارة، ط1 (دمشق: دار النايا ودار محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، 2012)، ص96.

[13] مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ص51.

[14] المرجع نفسه، ص38.

[15] لعل هذا هو ما تبرزه نظرية تعبئة الموارد (Resource Mobilization Theory) في الأدب السوسيولوجي المهتم بالحركات الاجتماعية، وإن بطريقة مقلوبة؛ أي إنّ الحركات الاجتماعية تسعى في صراعها مع مالكي وسائل الإنتاج والإكراه إلى تعبئة المتاح لها من الموارد الرمزية والمادية لتحسين قدرتها التفاوضية وتحقيق أهدافها.

[16] مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ص41.

[17] المرجع نفسه، ص45.

[18] المرجع نفسه، ص45.

[19] المرجع نفسه، ص ص 76-77، ولعلّ هذا هو ما أشار إليه البيان القرآني في قصة النبي موسى (عليه السلام) في دعوته لفرعون؛ حيث بمجرّد أن دعاه استدعى فرعون الملف التاريخي ودائرة العلاقات الشخصية لموسى لتشويه دعوته وفكرته قال: ﴿أَلَم نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكَافِرِينَ﴾ الشعراء، الآية: 18-19 ﴿إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُم المُثلَى﴾ طه، الآية: 63.

[20] انظر: مالك بن نبي، المرجع السابق، ص ص 129-132.

[21] يذكر الجميع الصورة الجميلة التي تركتها جنازة الملاكم الأمريكي المسلم محمد علي كلاي صيف 2016، والتعاطف الشديد الذي حظي به لدى الرأي العام الأمريكي، لكن مراصد الإسلاموفوبيا التي تقلقها هذه الصورة الإيجابية عن الإسلام، سرعان ما حركت أدواتها الجهنمية لتمحو هذه الصورة في أسرع وقت؛ حيث أعقبها بعد أيام قليلة تفجير ملهى ليلي نسب مرتكبوه إلى جماعات إسلامية؛ أي بمعنى آخر إلى الإسلام.

[22] حمودة سعيدي، الصراع الفكري وأشكاله الحديثة من منظور مالك بن نبي، في: مالك بن نبي المشروع البديل من أجل تغيير الجزائر (عدد خاص رقم: 15)، الجزائر: جريدة الشروق الثقافي، (من 4-11 نوفمبر 1993)، ص 8، العمود الثالث.

[23] من العوامل التي جعلت عبدالحميد بن باديس وبعض زملائه يقتنعون بجدوى تأسيس عمل جماعي ينشر ويطوّر طروحات الحركة الإصلاحية، وينهض بالتعليم الديني في القطر الجزائري، تأثرهم بتنظيم وفاعلية الكنيسة الكاثوليكية في الجزائر، وبتكوين أحزاب وجمعيات على غرار الأحزاب والجمعيات الفرنسية والأوربية. انظر:

Ali MERAD, Le réformisme musulman en Algérie, De 1925 - 1940 Essai d’histoire religieuse et sociale, 2 éme édition, (Algérie: édition El hikma, 1999),  pp110 - 112.

 

[24] يرى المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله أنّ عوامل ظهور جمعية العلماء ما تزال غير مدروسة، وأنّ معظم الباحثين يستندون إلى المقولة التي نفسّر ظهورها كرد فعل على الاحتفالات المئوية بالاحتلال، ولكنه يقرّ بأن هذا التفسير غير كافٍ. انظر: أبو القاسم سعد الله، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ط1 (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1996)، ج 4، ص 143.

[25] علي مراد، الحركة الإصلاحية الإسلامية في الجزائر من 1925 إلى 1940: بحث في التاريخ الديني والاجتماعي، ترجمة: محمد يحياتن (الجزائر: دار الحكمة، 2007)، ص 155.

[26] المرجع والصفحة نفسهما.

[27] الشيخ محمد خير الدين، مذكرات، جزآن (الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، د.ت)، ج1، ص 105.

[28] المرجع والصفحة نفسهما.

[29] المرجع والصفحة نفسهما.

[30] المرجع نفسه، ص 123.

[31] انظر: الطيب برغوث، التغيير الحضاري وقانون الاستقلالية النوعية التكاملية، ط1 (الجزائر: دار قرطبة للنشر والتوزيع، 2004)، ص ص35-44، (سلسلة آفاق في الوعي السنني؛ 6).

[32] انظر: محمد محمد أمزيان، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، ط1 (الولايات المتحدة الأمريكية: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991)، ص ص 142-150.

[33] عرفت جمعية العلماء منذ نهاية سنة 1936 تقلّصًا في نفوذها السياسي، وتعرّضها لأزمات داخلية، ومواجهات عديدة مع الإدارة الفرنسية؛ حيث صدرت عديد القرارات والمراسيم الإدارية لتعيق عملها، كقرار 13 يناير 1938 الذي قضى بفرض الرقابة على نواديها ومنعها من القيام بأي نشاط قبل الحصول على ترخيص؛ ومرسوم 8 مارس 1938 القاضي بمنع أي معلم من فتح مدرسة إلَّا بإذن من الإدارة؛ ومرسوم أوت 1939الذي يقضي بمصادرة جميع الجرائد التي تتعرض لمسائل الأمن الوطني، كما تأكّد الانفصال النهائي بين الجمعية والقادة السياسيين الذين تحالفت معهم؛ حيث أسس ابن جلول وفرحات عباس تجمعاتهما السياسية الخاصة. انظر: عمار بوحوش، التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية 1962، ط 1 (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997)، ص 264؛ وأيضًا: أبو القاسم سعد الله، الحركة الوطنية الجزائرية 1930 - 1945، ط 4 (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1992)، ج3، ص ص 100-103.

[34] اغتيل المفتي محمود كحّول المدعو بابن دالي على إثر فتوى كان قد أصدرها تحت ضغط من الحاكم العام للجزائر وأرسلها في برقية إلى الحكومة الفرنسية؛ حيث يتبرأ فيها من جماعة المؤتمر ومن زعماء الجمعية، وينكر عليهم فيها تمثيلهم للأمة الجزائرية. وهو ما تمَّ توظيفه من طرف الإدارة الفرنسية لنزع طابع الإجماع عن المؤتمر الإسلامي من جهة، ثم توظيف مؤامرة اغتيال المفتي لتبرير الهجوم على قيادات المؤتمر، وعلى رأسها قيادة الجمعية التي كان لها دور فاعل في تحفيز انعقاد هذا التجمع السياسي العريض، وتوفير شروط نجاحه. انظر تفاصيل القضية في: محمد البشير الإبراهيمي، آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، جمع وتقديم: أحمد طالب الإبراهيمي، ط 1، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997)، الجزء الأول (1929 - 1940)، ص ص261-280.

[35] انظر: آليات الصراع الفكري في العناصر السابقة، وكيف تُفتّت مراصد الصراع وحدة الكفاح الكلية إلى وحدات جزئية، وكيف يتم عزل المكافح في هذه الجبهة ليصل إلى حد الاقتناع بعدم جدوى الفكرة التي يشتغل لها، ولعل تجربة العقبي مثال واقعي على ذلك.

[36] أبو القاسم سعد الله، الحركة الوطنية الجزائرية 1930 - 1945، ص ص 102-103. ومع ذلك يصر سعد الله على أنّ الوثائق لا تزال تعوزنا حول حيثيات استقالة العقبي من الجمعية.

[37] بغض النظر عن طبيعة المطالب التي توفّق إليها المؤتمر والتي قد يقبلها البعض ويرفضها البعض الآخر، فإنه يمكننا القول: إنّ هذا اللقاء السياسي الوطني العريض كان تجربة فريدة في تاريخ الجزائر، لأنه استطاع أن يجمع جنبًا إلى جنب معظم قيادات الحركة الوطنية الجزائرية بمختلف مشاربها ومواقفها الأيديولوجية وعناوينها الحزبية؛ حيث التقى رجال الإصلاح مع الشيوعيين والاندماجيين والوطنيين دون أن تمنعهم اختلافاتهم الأيديولوجية وبرامجهم الحزبية وربما نزعاتهم الزعامية على أرضية مطالب واحدة.

[38] محمد البشير الإبراهيمي، آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، ص263.

[39] أبو القاسم سعد الله، الحركة الوطنية الجزائرية 1930 - 1945، ص 160.

[40] أبو القاسم سعد الله، الحركة الوطنية الجزائرية 1930 - 1945، ص 101.

[41] علي مراد، الحركة الإصلاحية الإسلامية في الجزائر، ص ص 118-119. ويبدو أنّ علاقة بعض قياديي الجمعية مع الشيخ العقبي قد بقيت على غير وفاق حتى بعد وفاة ابن باديس، واستمرت كذلك مع خلفه البشير الإبراهيمي، وقد ذكر الهاشمي التيجاني محاولته في سنة 1949 للإصلاح بينهما (أي الإبراهيمي والعقبي)، لكنها باءت بالفشل؛ حيث بيّن كيف كان رد فعل العقبي منفعلًا وصاخبًا، معلنًا رفضه التام لكل مصالحة مع الإبراهيمي بعدما وصفه بأرذل الصفات. انظر: الهاشمي التيجاني، «الإصلاح وجمعية القيم»، الجزائر: المعهد العالي لأصول الدين، مجلة الموافقات، العدد 2 (جوان 1993)، ص ص 182-183.

[42] راجع في هذا الصدد كتبه: شروط النهضة، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، العفن،.. وغيرها.

[43] مالك بن نبي، مذكرات شاهد للقرن، إشراف ندوة مالك بن نبي، ط2 (دمشق: دار الفكر، 1984)، ص ص 364-368.

[44] مالك بن نبي، مذكرات شاهد للقرن، ص 319.

[45] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، إشراف ندوة مالك بن نبي، إعادة ط 4 (دمشق: دار الفكر، 2000)، ص31.

[46] محمد العبدة، مالك بن نبي وجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين، متوفر على الموقع الإلكتروني:

www.islamtoday.net

 

[47] انظر: الطيب برغوث، التغيير الحضاري وقانون الاستقلالية النوعية التكاملية، ص ص42-43.

[48] انظر مثلًا :محمد الهادي الحسني، مالك بن نبي وجمعية العلماء، متوفر على الموقع الإلكتروني:

http://assala-dz.net/ar

 

[49]علي مراد، الحركة الإصلاحية الإسلامية في الجزائر، ص 222.

[50] بموجب الفصل السابع من القانون الأساسي للجمعية فإنّ أعضاءها يتشكلون من ثلاث طبقات: مؤيدون وعاملون ومساعدون، وبموجب الفصل الثاني عشر فإنّ الأعضاء «العاملون» هم الذين يصح أن يطلق عليهم لقب عالم بالقطر الجزائري، دون تفريق بين من تعلّم ونال منهم إجازة في المدارس الرسمية الجزائرية أو الذين تعلّموا بالمعاهد الإسلامية الأخرى، أما المؤيدون والمساعدون فيشملون كل من يتفق مع مشروع الجمعية -من غير طبقة العاملين- ويريد دعمها بماله وجهده في نشر دعوتها الإصلاحية. انظر: محمد خير الدين، مرجع سابق، ص 124.

[51] مصطفى بن حموش، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: هل كان مشروعًا ناقصًا؟، متوفر على الموقع الإلكتروني: http://www.binbadis.net/

[52] صرح ابن نبي قائلًا: «لقد بذلت شطرًا من حياتي في سبيل الحركة الإصلاحية، وشهدت في مناسبات مختلفة بالفضل لجمعية العلماء التي قامت في الجزائر بنشر العلم والدين، وتكلّمت مرات في معاهدها دون أن أكون عضوًا من أعضائها»، وأردف في هامش الصفحة نفسها معلّقا: «وعلى الأصح دون أن تدعوني هذه الجمعية للمساهمة في شؤونها الإدارية حتى ولو قدمت الطلب من أجل ذلك في بعض الظروف القاسية في حلبة الصراع الفكري». انظر كتابه: في مهب المعركة: إرهاصات الثورة، ط3 (دمشق: دار الفكر، 2000)، ص 140.

[53] محمد العبدة، مالك بن نبي وجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين، متوفر على الموقع الإلكتروني:

www.islamtoday.net

[54] انظر للتوسع أكثر: الطاهر سعود، الحركات الإسلامية في الجزائر: الجذور التاريخية والفكرية، ط 1 (دبي، الإمارات العربية المتحدة: مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2012)، ص 321 وما بعدها. وإنه لمن المثير للانتباه حقًّا أنّ شخصية كبيرة وفاعلة مثل الفضيل الورتيلاني التي أبانت عن نشاطية منقطعة النظير منذ استقرارها في فرنسا ثم في المشرق، لم تستطع أن تجد لها موطئ قدم مع قيادة الجبهة في القاهرة!

[55] تعدّ الجداول الوصفية التي أعدها محمد حربي حول الأصول الاجتماعية والثقافية والحزبية والمهنية للقيادات السياسية والميدانية للثورة موجبة للملاحظة؛ فمن ضمن 29 اسمًا لمسؤولي الولايات وأعضاء هيئة الأركان العامة بين سنوات 1956 - 1962 لا نعثر إلَّا على اسم واحد منحدر من تيار العلماء هو العقيد محمد شعباني. ومن مجموع 21 اسمًا ممن شكّلوا أعضاء فدرالية جبهة التحرير في فرنسا لا نعثر أيضًا إلَّا على اسم واحد محسوب على العلماء هو أحمد طالب نجل الشيخ الإبراهيمي؛ أما الجدول المخصص لمديري الديوان والمستشارين السياسيين للوزراء والمنظرين في الحكومة المؤقتة، فلا نعثر على أي اسم منهم. وفي الجدول الذي يتضمن أعضاء مجالس الولايات عشية وقف إطلاق النار والمتكون من 30 اسمًا، لا نعثر إلَّا على 3 أسماء متحدرة من تيار العلماء وهم: محمد الصالح يحياوي، عمار ملاح والعقيد شعباني. انظر: محمد حربي، جبهة التحرير الأسطورة والواقع، ترجمة: كميل قيصر داغر، ط 1 (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية ودار الكلمة للنشر، 1983)، ص ص320-324.

[56] يعد كتاب محمد حربي، جبهة التحرير الأسطورة والواقع، واحدًا من الكتب التاريخية المهمة التي أبرزت مشاهد عديدة من هذه الصراعات داخل جسم الثورة ومؤسساتها ؛ حيث وصل بعضها إلى حد التصفية الجسدية.

[57] علي مراد، الحركة الإصلاحية الإسلامية في الجزائر، ص 8.

[58] علي مراد، الحركة الإصلاحية الإسلامية في الجزائر، ص 368.

[59] مصطفى بن حموش، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: هل كان مشروعًا ناقصًا؟،متوفر على الموقع الإلكتروني: http://www.binbadis.net/

[60] الطاهر سعود، الحركات الإسلامية في الجزائر: الجذور التاريخية والفكرية، ص 324.

[61] علي مراد، الحركة الإصلاحية الإسلامية في الجزائر، ص 368.

[62] أبو القاسم سعد الله، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ج4، ص ص145-144.

[63] آل عمران، الآية: 165.

[64] القلم، الآية: 30.

[65] مالك بن نبي، العفن (مذكرات)، 1932 - 1940، ترجمة: نور الدين خندودي، الجزء الأول، ط 1 (الجزائر: دار الأمة، 2007)، ص43.

[66] مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن، ص 368.

[67] يوسف، الآية: 111.

[68] ذلك ما تجسّده جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الحالية بعد إعادة إحيائها كتنظيم جمعوي بموجب قانون الجمعيات الوطنية في الجزائر، أو ما تُعلنه بعض حساسيات الحركة الإسلامية في الجزائر التي تعتبر نفسها قريبة من تجربة جمعية العلماء. وللإشارة فإن غالبية هذه الحركات تحيل في نصوصها المرجعية على جمعية العلماء كتجربة يجري الاستلهام منها.