شعار الموقع

من جهود الدكتور الفضلي في تحديث الخطاب الديني ومعالجة إشكاليات المعاصر

حسين منصور الشيخ 2019-06-06
عدد القراءات « 722 »

من جهود الدكتور الفضلي في تحديث الخطاب الديني ومعالجة إشكاليات المعاصرة

حسين منصور الشيخ*

 

*         كاتب من السعودية.

 

 

مقدّمة

بعد تمدُّن العديد من الحواضر الإسلامية أيام الدولة العباسية، وما صاحب ذلك من حركة علمية واسعة في عدد من الفروع المعرفية، رافق ذلك حركة نشطة للترجمة إلى اللغتين العربية والفارسية عن العلوم اليونانية التي كان عمادها الفلسفة والمنطق، ما أحدث في حينها «نقلة نوعية في المجتمع الإسلامي، ذلك أنها مثّلت انفتاحًا فكريًّا على عالم واسع من المعرفة المبنية على أسس وخلفيات ثقافية مغايرة لطبيعة المجتمع العربي الإسلامي في ذلكم الوقت»[1]، ولكن هذا الانفتاح، مثّل من جهة أخرى «تحدّيًا كبيرًا للمجتمع المسلم؛ ذلك أن هذه الفلسفة تشكّل منظومة فكرية متناغمة في أدبياتها ونظرتها إلى كثير من الظواهر العلمية أو الاجتماعية، وقد كان بعض هذه التحليلات يلتقي مع النظرة الإسلامية، فيما كان البعض منها يحتوي على مغالطات مخالفة للفكر الإسلامي الذي نعني به الخطوط العامة التي رسمتها نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف»[2].

ويعدّ ذلك أمرًا طبيعيًّا في كل مرحلة تنفتح فيها المجتمعات الإنسانية على بعضها؛ إذ تتقارض فيما بينها ما تنتجه من ثقافات وعادات وتقاليد وعلوم ومعارف. وهو ما يمكن ملاحظته اليوم فيما نشهده من ثورة كبيرة في عالم الاتصالات الحديثة، حيث تقاربت المجتمعات بصورة غير مسبوقة، وهي حال من التلاقي والتلاقح الثقافي والاجتماعي من شأنها توسّع مجال التساؤلات الكبرى لدى هذه المجتمعات المتفاعلة، لعل من أبرزها - فيما يخصّ المجتمعات المسلمة – هو التساؤل حول الإمكانية الفعلية لأن يمثّل الإسلام نظامًا صالحًا لإدارة المجتمعات الإنسانية ليصل بها إلى المستوى الذي بلغته الحضارة الغربية اليوم وما حقّقته من تقدّم على مختلف الأصعدة، وكذلك حول أهلية الإسلام اليوم في تأسيس حضارة يمكنها منافسة الحضارة الغربية أو التفوُّق عليها.

وهو من التساؤلات المشروعة في ظل ما تعيشه المجتمعات الإسلامية من انبهار وإكبار للمنجزات الغربية الهائلة التي أهَّلتها اليوم - وبكل جدارة - لقيادة المجتمعات البشرية. وقد انبرى للإجابة عنه مجموعة من المفكرين المعاصرين، من أبرزهم الشهيد السيد محمد باقر الصدر F ومجموعة من رفقاء الدرب والمسيرة، يقع في مقدّمتهم العلّامة الشيخ عبد الهادي الفضلي الذي ساهمت مؤلفاته ومجمل عطائه الفكري في طرح الإسلام بديلًا حضاريًّا له القدرة على منافسة النموذج الغربي والتفوُّق عليه.

وحين يعالج الدكتور الفضلي هذا النوع من التساؤلات، يضع مجموعة من موانع تسنّم الحضارة الإسلامية المكانة التي هي حقيق بها، من بينها: عدم مواءمة الخطاب الديني مع مقتضيات المعاصرة، إذ يحتاج الفكر الديني إلى بيانٍ وعرْضٍ معاصرَين، وإلى جانب ذلك: عدم المشاركة الإسلامية في معالجة الإشكاليات الحديثة في التأصيل والتقنين والمبادرات العملية.

وهما النقطتان اللتان عالجهما الدكتور الفضلي في أكثر من مناسبة، وتطرّق إليهما في أكثر من مسار، وقد عالجت الورقة هاتين النقطتين من خلال عرض جهود العلّامة الفضلي في مسارات ثلاثة، هي: الأصالة، والمعاصرة، والمبادرات العملية، ممهِّدة لذلك بالإشارة إلى الانطلاقة النجفية للدكتور الفضلي وأثرها على مجمل عطائه العلمي اللاحق.

تمهيد: التجربة النجفية وحُسْنُ الانطلاقة

بعد أن درس شطرًا من المقدِّمات على يد والده في مدينة البصرة، انتقل الشيخ الفضلي -وهو في منتصف عقده الثاني- إلى النجف الأشرف متشرِّفًا بمجاورة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومتطلّعًا للنهل من العطاء العلمي والفكري للجامعة الدينية الإمامية الأعرق[3]. وهي المدينة العراقية التي شهدت في منتصف القرن العشرين حركة ونهضة إصلاحية واسعة في العديد من الأصعدة: العلمية والثقافية والاجتماعية والأدبية والمؤسساتية، ومعها أيضًا حراكًا على الصعيد السياسي. كما أنّ العراق بعامّة كانت تجتاحه التيّارات اليسارية ذات الصبغة الاشتراكية والشيوعية. وهي الحركة التي مثّلت حينها نوعًا من التحدّي للعطاء والفكر الدينيين، وبخاصّة إلى المدرسة النجفية ذات الثقل الديني الأبرز.

وقد أشار الدكتور الفضلي في مقدّمة كتابه القيّم (مشكلة الفقر) إلى هذا النوع من الصراع والتحدّي، إذ يقول فيها: «بين يدي القارئ الكريم دراسة مختصرة لمشكلة الفقر، تَوَفَّرْتُ على إعدادها في أوائل الستينيات يوم كنت أواصل دراسة بكالوريوس اللغة العربية والعلوم الإسلامية بكلية الفقه في العراق، وكنا -نحن المسلمين- نعاني آنذاك من مضاعفات الغزو الشيوعي الفكري.

وأردت بها أن أساهم في ملء الفراغ العقائدي الذي كانت تعيشه ذهنيات أكثرنا، مما هيَّأ للأفكار الدخيلة أن تحاول دخول معترك الصراع مع حضارتنا الإسلامية، ولكنها باءت بالفشل -والحمد لله- وذلك بفضل جهود الدعاة المخلصين من حملة الأقلام المسلمة المجاهدة»[4].

وكان من أبرز إيجابيات ما ولّدته حالة الصراع تلك ما ظهر من دراسات ونتاج علمي اتّسم بالمعاصرة ومعالجة إشكاليات المرحلة من وجهة نظر دينية، ويكفي أن نطل على بعض إصدارات إحدى السلسلات الثقافية في حينها، وهي سلسلة «مختارات إسلامية» التي كان يشرف عليها السيد عبد الكريم القزويني، حفظه الله، إذ صدر منها العناوين التالية:

1. من حديث الدعوة والدعاة، للشيخ محمد مهدي الآصفي.

2. من البعثة إلى الدولة، للشيخ الدكتور الفضلي.

3. الأسرة المسلمة، للسيد عدنان البكاء.

4. أضواء على قانون الأحوال الشخصية، للسيد محمد بحر العلوم، القسم الأول.

5. أضواء على قانون الأحوال الشخصية، للسيد محمد بحر العلوم، القسم الثاني.

6. أسلوب الدعوة في القرآن، للسيد محمد حسين فضل الله، القسم الأول.

7. بين الجاهلية والإسلام، للشيخ محمد مهدي شمس الدين.

8. أسلوب الدعوة في القرآن، للسيد محمد حسين فضل الله، القسم الثاني.

9. نظرية السياسة والحكم في الإسلام، للسيد محمد حسين الطباطبائي.

10. تحديد النسل من وجهة نظر إسلامية، لعبد الرسول علي خان.

11. الصوم: تاريخه، تشريعه، أحكامه، للسيد عبد الكريم القزويني.

وإلى جانبها العديد من العناوين الحركية والتأسيسية، كما هي الحال مع مؤلّفات الشهيد الصدر F: فلسفتنا، واقتصادنا، والأسس المنطقية للاستقراء، والبنك اللاربوي في الإسلام، والإسلام يقود الحياة، والمدرسة الإسلامية، وغيرها من المؤلّفات والدراسات التنويرية في حينها.

تجربة الدكتور الفضلي المبكّرة

وفي خِضَمّ تلك الحركة، ارتبط الدكتور الفضلي بالمؤسسات والجمعيات الثقافية النجفية في وقت مبكّر، وكان له نشاط ثقافي وعملي بارز، ويشهد لذلك ما نشره على صفحات مجلّاتها الثقافية، وما شارك به من محاضرات ضمن برامجها، وما وضعه من مؤلّفات لمقرّراتها الدراسية. يقول واصفًا تلك المرحلة: «كنتُ عضوًا في أكثر من جمعية أدبية في العراق ونشرتُ إنتاجي في أكثر من مجلة وجريدة مساهمًا في كثير من الندوات والاحتفالات الأدبية، ويعود هذا إلى توافر الموجبات الأدبية في العراق كثيرًا.. أما هنا [في جدّة] فدوري الاجتماعي مقصور على الجامعة حاليًّا، إلَّا فيما أنشره بين الفينة والأخرى في بعض المحبّرات والجرائد في الداخل والخارج»[5].

وقد تميّزت تجربته تلك – إضافة إلى غزارة الإنتاج وتعدّد مواقع العمل – أنها اعتمدت في معالجة الموضوعات على التأصيل العلمي والتاريخي، ونقصد بها البحث عميقًا في تأصيل المبادئ التي تبنّتها الحركة الإسلامية في حينها، مع إضفاء عنصر الحداثة في لغة الخطاب ومنهج المعالجة، وذلك من خلال اعتماده المنهج العلمي الحديث في تبويب مسائل الموضوع وآلية مناقشة الآراء وعرضها. ومعهما: السعي إلى تطبيق الفكرة وتحويلها إلى واقع عملي، تنمو من خلاله الفكرة وتتقدّم.

ففي الأصالة، مثلاً، يُرْجِع الدكتور الفضلي مشكلة الفقر إلى سببين رئيسين، هما: قلّة الإنتاج، وسوء التوزيع. وفي بحثه للحلول المقترحة لكلا العاملَين يؤصّل لمجموعة منها، ومثالاً على ذلك، يذكر بأنّ من أسباب قلّة الإنتاج عدم وجود همّة عالية نحو العمل، ليشير إلى أنّ من أساليب الحل التي وظّفتها النصوص الدينية استعراضها لمجموعة من الأنبياء الذين عرفوا ببعض المهن، كما هي الحال مع الأنبياء: نوح وموسى وداوود (عليهم السلام). وأثناء حديثه عن عوامل سوء التوزيع يذكر أن من بينها: ظاهرة الفساد المالي والإداري في الدولة، حيث يضرب أمثلة للجهود التي قام بها الإمام علي (عليه السلام) تجاه ولاته لمحاربة هذا النوع من العوامل.

ومن نماذج تسلّح الدكتور الفضلي بالحداثة في معالجة بعض الإشكاليات المعاصرة، ما أشار إليه في معرض حديثه عن أهمية بناء العلاقات الاجتماعية في المجتمع المسلم على الأسس والمنطلقات الدينية، وأن ذلك لا يجب الوقوف فيه أمام مقاطعة الحلول والنماذج الغربية، وإنما يجب المبادرة بمجموعة من الحلول، حيث اتّسمت الحلول التي اقترحها بذلكم النوع من النمط الحديث بما يتلاءم وتحديات المرحلة، منها:

1. فتح المدارس في مختلف مراحلها: الروضة والابتدائية والثانوية والعالية، وللجنسين شريطة أن تكون مناهجها وكتبها إسلامية خالصة، تُستمد من حضارتنا الأصيلة النقية.

2. إصدار المجلات والصحف بمختلف ألوانها: يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية، شعبية وخاصة، شريطة أن تُموَّن بالفكر الإسلامي الخلّاق الهادف.

3. نشر الكتب مفردة ومتسلسلة، شعبية وخاصة، ناشدين من ورائها تعميم الثقافة الإسلامية المبدعة الهادفة.

4. إيجاد المكتبات بأقسامها المختلفة: المتجولة والثابتة، والريفية والمدنية، مزودة بجميع ما تتطلبه مستوياتها ومجالاتها من الكتب والمؤلفات الإسلامية.

5. تأسيس النوادي: ثقافية ورياضية، شريطة أن تكون جادة، وفي صدد غرس الروح الإسلامية وتنميتها وإثمارها.

6. تكوين الجمعيات للخدمات الاجتماعية على ضوء ما يأمر به الإسلام من أعمال البر والإحسان والتكافل وما شاكلها[6].

ومن نماذج السعي إلى تطبيق ما كان ينادي به من رؤى ومبادئ، مساهمته المتميّزة في كلية الفقه، وهي النموذج الحديث الذي سعى من خلاله مؤسسها الشيخ محمد رضا المظفّر F إلى تطوير الدرس الشرعي ليتناسب ومتطلّبات المرحلة مع المحافظة على الخصوصيات العلمية والطابع الديني الذي يتميّز به الدرس الشرعي عن بقية الحقول المعرفية الأخرى. وقد كانت مشاركة العلّامة الفضلي من خلال انتظامه في قاعاتها الدراسية أولًا، ولاحقًا مشاركته في وضع مقرّراتها الدراسية، وكذلك كونه أحد كادرها الإداري.

وإلى جانب الكلية، شارك الشيخ في تأسيس حزب الدعوة الذي مثّل أعضاؤه حينها عِمَاد الحركة الإسلامية في النجف الأشرف، إذ يذكر الفضلي مؤرِّخًا تلك المرحلة أن «الحركة كانت تُعِدّ الكوادر المثقفة التي تحمل الفكر الإسلامي لتقود الجماهير إلى تسلّم السلطة، ومن ثمّ يأتي دور التغيير الشامل، وهذا لا يعني عدم وجود محاولات ونشاطات للإصلاح، إلا أنها هي الأساس»[7].

والمتابع للنتاج العلمي للعلّامة الفضلي يجده ملتزمًا هذه الخطوط العامّة فيما طرحه من موضوعات، وفيما تناوله من قضايا. ومن أبرز الموضوعات التي طرقها في حضوره الاجتماعي والثقافي هو تبنّيه لفاعلية المشروع الإسلامي بين بقية المشاريع والرؤى المغايرة ووفائه بمتطلّبات العصر، وهو موضوع الورقة التي تتناوله في محورين رئيسين، هما:

* تحديث الخطاب الديني.

* ومعالجة إشكاليات المعاصرة من خلال النظرة الدينية.

ونظرًا لتشعّب هذين المحورين، وتعدّد الأمثلة التي تناولها العلّامة الفضلي في معالجتهما، وكذلك لضيق مجال الورقة، سأكتفي بالإشارة إلى مثال واحد أو اثنين لكلٍّ منهما، وذلك انطلاقًا من السمات الثلاث التي طبعت تجربته F خلال أكثر من 60 عامًا من النضال الحركي والعطاء العلمي.

أولاً: تحديث الخطاب الديني

يشير الدكتور الفضلي إلى أنّ من أبرز المؤسسات التي من شأنها تغيير الرأي العام بين الأجيال هما: المؤسسات الإعلامية، ونظيرتها التربوية؛ وذلك نظرًا لما تتّسم به هاتان المؤسستان من مساس مباشر مع الشريحة الاجتماعية الأوسع، إذ يبقى الطالب أو الطالبة ساعات طويلة بين مقاعد الدراسة منذ أن يبلغ السادسة من عمره وحتى يتمّ عقده الثاني بين مقاعد الجامعة. كما أنه يتسمّر أمام شاشات التلفزة متلقيًا ما تبثّه من أفكار وما تنشره من توجّهات، وتماثل هذه الشاشات الوسائل الأخرى، من قبيل الصحف والمجلّات والإذاعات، ووسائل التواصل الاجتماعي اليوم، حيث تعرض أمام الإنسان العديد من الرؤى والأفكار التي تنمو تدريجيًّا لدى المتلقّي وبصورة شبه لحظية[8].

ولانطباع هذه المؤسسات بلغة وثقافة خاصّتين هما أبعد ما تكونان عن اللغة والثقافة الدينية التقليدية، فإنّ ذلك يساعد على وجود هُوّة بين الخطاب المعاصر واليومي وبين ما الموروث الثقافي الديني، بحيث يغدو الدين بعد ذلك مجرّد موروث لا صلة فاعلة له بالحياة.

كما أنه، وبعيدًا عن حصر ذلك في آثار المؤسسات التعليمية أو الإعلامية، لا يخفى أن تبدُّل أنماط الحياة اليومية للإنسان المعاصر وحداثة ما يتلقّاه بصورة شبه لحظية، مع بقاء وهيمنة اللغة والخطاب التقليديين على المؤسسات الدينية، من شأنه إيجاد هذا النوع من الهوّة بين المؤسسة الدينية وتطلّعات المجتمعات المعاصرة.

ولذلك يطالب العلّامة الفضلي، ومعه العديد من المخلصين، بتطوير الخطاب الديني بما يعالج تفاصيل الحياة اليومية بأدبياتها الحديثة. لدرجة أن تركيز العلّامة الفضلي - في تناوله لمسألة تحديث الخطاب الديني - على تحميل المسؤولية للداخل الإسلامي أكثر منه للعوامل الخارجية، ولعلّ ذلك ينطلق من فكرة تعرّض لها في إحدى محاضراته أثناء تعرُّضه لمعنى شهادة الأمة الإسلامية على بقية الأمم، إذ يشير هناك بأن «الشرع الإسلامي كما يَشْتَرِطُ في الشاهد في المسألة القضائية أن يكون عادلًا، بمعنى أن يكون ملتزمًا بالضوابط الشرعية، فإن الأمة لكي تكون شاهدة على بقية الأمم، عليها أن تكون ملتزمة بمعيار العدالة والتحلّي بالضوابط والخصائص التي تؤهلها لأن تكون في موضع الشهادة على الأمم الأخرى، وهي مطالبة هنا بأن تكون منصفة تجاه ذاتها قبل أن تكون منصفة تجاه الآخرين، وإلَّا لن تكون أمةً وسطًا، ولن تكون مستحقّة لمنزلة الشهادة»[9].

ولذلك يتركّز خطابه على تحمّل المسؤولية من قبل الذات قبل إلقاء اللوم على الآخر. يقول F حول هذه النقطة: «إننا في عصر المعلومات نعيش تحديًا حضاريًّا يتسابق فيه الجميع اليوم من أجل عرض حضارته، فكل أمة وكل أصحاب مبدأ ومذهب يريدون أن يعرضوا فيه حضارتهم مستفيدين من الإمكانيات التي أتاحتها التقنية الحديثة. والعالم اليوم يترقّب ذلك الانقلاب الذي سيغيّر العالم بسبب هذا التسابق المحموم بين الأمم في عرض فكرها ونتاجها المعرفي الذي تحاول أن تضاهي به بعضها»[10].

ولأنّ الدكتور الفضلي لم يكن يطالب بما لا يقوم به، التزم F – في عرضه للمبادئ الدينية – حداثة اللغة والمنهج، سواء في بيانه للمنطلقات التأسيسية للدين، أو في معالجة المفاهيم والإشكاليات المعاصرة، أو من خلال انخراطه في البرامج والمشروعات النهضوية.

وتمثيلًا للجهود التي بذلها الدكتور الفضلي في عرض المسألة الدينية بلغة معاصرة، يمكن الإشارة إلى أمثلة أربعة، يتعلّق الأولان منها بالتأصيل لفكرة الدين، والثالث بمعالجة بعض الموضوعات المعاصرة، والرابع بسعيه إلى التطبيق العملي، وذلك كالتالي:

أ) العودة بالإنسان إلى الفطرة الواعية

أودع الله تعالى في الإنسان نوازع الخير في نفسه، كما أودع نوازع الشرّ. ومع نموّ المواهب والقابليات وبروز الإمكانات المتفاوتة واتّساع آفاق النظر وتنوّع التطلّعات وتعقّد الحاجات، نشأ الاختلاف، وبدأ التناقض بين القوي والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعية بحاجة إلى موازين تحدّد الحق وتجسّد العدل، وتضمن استمرار وحدة الناس في إطارٍ سليم، وتصبّ كل تلك القابليات والإمكانات التي نمّتها التجربة الاجتماعية في محور إيجابي يعود على الجميع بالخير والرخاء والاستقرار، بدلًا عن أن يكون مصدرًا للتناقض وأساسًا للصراع والاستغلال.

في هذه اللحظات برزت الحاجة إلى بعثة الأنبياء من أجل توحيد المجتمعات تحت راية الدين الواحد الذي يُعيد إلى أفراده قيم ومبادئ الفطرة الإنسانية السليمة. ولكنّ الفطرة التي تتحدّث عنها الرسالات الإلهية لا تمثّل تلكم الحالة السابقة الساذجة، وإنما هي حالة من الفطرية الإنسانية الواعية، وبخاصّة بعد تلكم التجارب الإنسانية التاريخية الطويلة. يقول الدكتور الفضلي حول هذه الفكرة: «في هذه الحال [بعد ظهور الرسالات الإلهية] لن ترجع المجتمعات الإنسانية إلى الفطريّة التي تعيش فيها حالًا من السذاجة والبساطة في فهم الأمور، وإنما ترجع إلى قيم الفطرة الإنسانية على بصيرة ووعي عميق لموقعية الإنسان في هذه الحياة، ذلك أن هذه الديانات والرسالات التي تعاقبت على مجتمعات عدّة وأزمنة متباعدة وصل معها الإنسان إلى مرحلة من النضج ووعي الذات بدرجة أعلى من تلكم الحال الأولى التي كانوا فيها للتوّ قد سلكوا الطريق على هذه البسيطة دونما تجربة سابقة كافية»[11]. والفضلي يستقي هذه الفكرة من الآية الكريمة: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[12].

ب) الانسجام بين التشريع والتقدّم الإنساني

وفيما يخصّ تعدّد الرسالات الإلهية، يشير العلّامة الفضلي إلى أنه «رُوعي في وضعها -كما يؤمن به المسلمون- المرحلية والتدرّج في بيان الأحكام، فالأديان السابقة على الإسلام كانت تشريعات مرحلية معدّة لمرحلة معينة من الزمن، فلكلّ تشريع دواعيه المرحلية التي تنتهي بانتهاء المرحلة الزمنية المخصصة له.

وهذه المرحلية نابعة من طبيعة الإنسان. ذلك أنه (أي الإنسان) يمرّ بمراحل يتطوّر فيها إدراكه ووضعه الإنساني والحياتي الاجتماعي بصورة عامّة، إلى أن يصل إلى مرحلة الكمال والرشد الإنسانيين اللذين لا يكون الإنسان - معهما - بحاجة إلى تطوير في التشريع، ويمكننا أن نفهم أن المرحلة الحالية التي خُتمت بها الأديان بالدين الإسلامي هي المرحلة التي وصل فيها الإنسان إلى الاستقرار في النضج الفكري والإنساني، فلم يعد هناك حاجة لدين جديد يحمل تشريعًا جديدًا.

إن الشرائع السابقة - كشريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) - كانت شرائع مرحلية متمشِّية مع المرحلة الإنسانية التي وصل بها المجتمع إلى مرحلة معينة من النضج الفكري والاجتماعي والثقافي والعلمي والحضاري. وهذا ما نفهمه من حركة تعدّد الأديان وتعاقبها، حيث يكون نسخ الدين اللاحق للدين السابق نوعًا من التدرّج في التشريع، كما هي الحال بصورة مصغّرة لظاهرة نسخ الأحكام في الشريعة الإسلامية التي تعدّ نوعًا من التدرُّج في إعطاء الأحكام الشرعية للمجتمع الإسلامي الوليد»[13].

إن تعدّد الرسالات - بهذا المفهوم - يراعي تقدّم الحالة الإنسانية من جهة، ويعطي للدين حركيته المواكبة لهذا التقدّم من جهة أخرى. كما أن المتديّن يجد في الرسالة الإلهية - من جهة ثالثة - الخارطة المرسومة لإخراج الإنسان مما وقع فيه من زلّات وانحرافات عصفت بواقعه وجرّته إلى تلكم المنزلقات التي يعاني منها إلى اليوم الحاضر، وأن في تعدّد الرسالات وفاءً إلهيًّا لهذا الإنسان الذي كلما أنزل الله عليه من شرائع، تتوالى عليها المؤامرات الشيطانية لتبديلها وتحريف أحكامها وتعاليمها، ومع كل هذا التقصير الإنساني، تبقى العناية الإلهية إلى جانبه مريدةً لصلاحه وهدايته، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

في هذين المثالين، يراعي الدكتور الفضلي طرح المسألة الدينية بأنها في خطّ ومسار العقلانية والإيمان الواعي والمتبصِّر في مقابل العرض النمطي للدين بأنه يعزّز السطحية والإيمان الساذج، كما أنه يصوّر في المثال الثاني أن تتابع الرسالات الإلهية يُراعى فيه التدرّج مع مسيرة الإنسان التكاملية في وعيه بما حوله، ومن جهة ثانية يمثّل وفاءً إلهيًّا بعدم ترك الإنسان يهوي بضلالات بعض أفراده، وذلك في مقابل عرض تنوّع الأديان بأنه ممهّد للفتنة والاقتتال والصراعات الإنسانية البينية.

ج) الوحدة الإسلامية خيار تقدمي

لا تمانع كثير من القوى الخارجية من ممارسة المسلمين لشعائرهم وطقوسهم العبادية، من الصلاة والصوم والحج والأدعية والزيارات، ما دامت ستبقى في إطار الطقوس والشعائر. ولكن ما يثير حفيظة تلكم القوى أن تتحوّل الرابطة الدينية إلى وحدة اجتماعية تطالب بتحويل هذه الرابطة إلى كيان إسلامي يقوم على أسس العقيدة الإسلامية. إنها في تلكم الحال تتحوّل - فيما تطرحه وسائل إعلام تلكم القوى - إلى دعاوى رجعية وأصولية دينية متشدّدة.

وهو تصوير مشوّه للحالة الإسلامية، يستعرضها الدكتور الفضلي في أحد عناوين محاضراته، إذ يشير هناك إلى أن إلصاق أوصاف الرجعية والتشدّد والأصولية لم يكن أمرًا عشوائيًّا أو سوء فهم، وإنما كان بغرض إبعاد المسلمين عن الدعوة إلى تسلم المكانة التي أعطاها الله تعالى للأمة الإسلامية، و«أن هذه الدعوات تقابلها النظرة القرآنية التي تصوّر الأمة الإسلامية - بما تحمله من فكر وقيم وتشريع وأخلاقية وانسجام مع الفطرة - دعوةَ خيرٍ للإنسانية، بما تشتمل عليه هذه الخيرية من مفاهيم تقدّمية للحياة الاجتماعية، يعيش فيها الإنسان أخًا للإنسان ونصيرًا له، وعامرًا لهذه الأرض ومستثمرًا لمقدراتها بما يحفظ المصالح العامّة للجميع، ويحقّق أكبر مساحة من العدالة الاجتماعية بينهم، دون فارق طبقي أو اجتماعي أو ديني أو عرقي أو مناطقي أو فئوي. وهي جميعها مبادئ وأساسيات للخطاب التقدّمي الإنساني العامّ»[14].

وما يجعل خيار الوحدة الإسلامية خيارًا تقدّميًّا أنها تعتمد صيغةً هي أقرب إلى ما تدعو إليه اليوم منظومة حقوق الإنسان. ذلك أن أساس الوحدة - في المنظور القرآني - الإيمان بالمبدأ، إذ يصنّف الناس - وفق هذه النظرة - إلى مؤمنين بالمبدأ وغير مؤمنين به. وهو بخلاف التصنيف الطبقي الذي تتبنّاه النظرية الماركسية في تصنيفها المجتمع الإنساني إلى طبقة العمّال والطبقة الرأسمالية. كما أنه بخلاف التقسيم الذي تتبنّاه الحضارة الغربية اليوم في تصنيف المجتمعات إلى: متحضّرة وأخرى متأخّرة (دول العالم الثالث).

إننا حينما نمعن النظر في الأساس الذي تتبنّاه النظرة الإسلامية القائم على الولاء وعدم الولاء له، نجده «مراعًى فيه جانب العدالة وإنصاف الإنسان لنفسه وللآخرين. وهي نقطة من المهمّ مراعاتها في تصنيف المجتمعات، إذ إن التصنيف واقعٌ لا محالة، وما دام الأمر كذلك، فعلينا أن نتّخذ تصنيفًا ذا دلالة منصفة وعادلة وواقعية. ذلك أن مثل هذا النوع من التصنيفات لا بدّ وأن يحتوي على قدر من الدلالة ذات العلاقة بالنظرة الشاملة للإنسان والكون والحياة والمجتمع، وبمعنى آخر: لا بدَّ وأن ينسجم والنظرة الشاملة لهذا المبدأ في فلسفته الخاصة في النظرة إلى الحياة. وعند الموازنة مع الأسس غير الإسلامية، نجد أن الأساس الإسلامي في التقسيم يحمل درجة أعلى من الإنصاف وتحقيق العدالة للمجتمع الإنساني، وهو الأساس الذي يلتقي ومنظومة حقوق الإنسان التي هي من أبرز شعارات المرحلة المعاصرة اليوم»[15].

ويضاف إلى هذه النقطة أن المسيرة الإنسانية اليوم آخذة في التطوّر والتقدّم، ومن أبرز مظاهر ذلكم التطوّر ما ظهر من دعوات التحوُّل الاجتماعي إلى ما يعرف باتجاه العولمة، وهو ما يعني تحوُّل المجتمع الإنساني إلى مجتمع متقارب في صوره الثقافية والاقتصادية والمعرفية. وهو الاتجاه الذي يعزّز النظرة الإسلامية في علاقة الإنسان مع أخيه فيما يتخطّى الحواجز الجغرافية والإقليمية والثقافية واللغوية.

وهو أمرٌ كانت قد دعت إليه المنظومة الاشتراكية فيما عُرِف حينها ﺑ(وحدة القوى الثورية في العالم)، التجمّع الدولي الذي كان يضم اتحادات وفعاليات القوى اليسارية في العالم. وقد سبقت هذه الدعوة الرؤيةُ الإسلامية في رسم العلاقة الإنسانية القائمة على المبدأ، بحيث يتوحّد الإنسان مع نظيره من بني نوعه دون فارق مناطقي أو لغوي أو عرقي. وهو أمرٌ يركّز عليه الدكتور الفضلي في أكثر من موضع، يقول في أحدها: «يرفض الإسلام تمييز الناس أو تصنيفهم إلا على أساس الانتماء المبدئي والعقائدي، فمهما تنوّع الإقليم أو اللغة أو التاريخ أو الحضارة، فالإنسان أخو الإنسان، لا فارق ولا مايز بينه وبين أخيه سوى ما يؤمن به من مبدأ ويعتقده من عقيدة. فالجميع لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات بمستوًى واحد دون أي فارق أو تميّز أو تغاير، ويشكلون الوحدة الإسلامية الواحدة المتضامنة والمتكافلة. وهي الرؤية التي تمهّد للدولة العالمية التي يندمج فيها جميع البشر تحت لواء الإسلام ونظامه العام.

وهي رؤية بدأت تبشّر بها الحضارة الغربية، حيث يذهب الغربيون إلى الدعوة إلى ما هو أبعد من الوحدة الاقتصادية التي بدأت بعض مظاهرها في التحقّق، إنهم ينادون اليوم بنشر قيم الحضارة الغربية، وفي مقدّمتها قيم حقوق الإنسان والحريات والمساواة والنظام الديموقراطي في ممارسة السلطة. وهو ما يعرف اليوم باتجاه العولمة (Globalization)»[16].

د) مشروع تحديث المناهج

التزم الدكتور الفضلي بدءًا من مقرّره الدراسيّ الأول أن يسلك في تدوينه المنهج العلمي الحديث في دراسة ومعالجة مسائل الدرس الشرعي، وهي المنهجية التي عالج من خلالها الدراسات الفقهية التي ركّز فيها على مجموعة من المعاملات الحديثة. وتمثيلًا لذلك يمكن الإشارة إلى بحثه حول مفهوم الربا المحرّم إسلاميًّا ومدى انطباقه على مفهوم الفائدة البنكية في المعاملات الحديثة. حيث بدأ بتحديد المفهوم عصرَ صدور النصّ الشرعي، ومن ثَمَّ بحثه في المتون الفقهية القديمة وصولًا إلى المعاصرة، وذلك سعيًا لتبيُّن مفهوم الربا المحرّم من خلال البحث التاريخي والاجتماعي. لينتقل بعدها إلى دراسة نشأة البنوك وتطوّرها، حيث تمثّل البيئة الاقتصادية التي ظهرت فيها الفائدة، وكذلك دراسة الأساس النظري لأخذ الفائدة وطبيعة العقود بين البنك وعملائه المقترضين، وذلك سعيًا لفهم واقع المعاملة انطلاقًا من الواقع العملي.

وهي منهجية حديثة أفادها الشيخ من المنهج العلمي الحديث، واتّخذها منهجًا في مجموعة كبيرة من الدراسات الفقهية المجموعة في كتابه (دروس في فقه الإمامية) بأجزائه الخمسة، وكذلك في كتابه (بحوث فقهية معاصرة).

ويضاف إلى المنهج الحديث في تبويب وتقسيم العلوم، وكذلك في معالجة الموضوعات الدينية: الحداثة في لغة العرض، فبدلاً من التعبير بـ(العدالة) شرطًا من شروط مرجع التقليد، يستعمل الدكتور الفضلي عبارة: «مستوى التديُّن»، وبدلًا من التعبير بـ«دليل السببية» في الاستدلال على وجود الخالق جلّ شأنه، يستعمل الدكتور الفضلي: «الشعور بالسببية»، وبدلًا من «دليل النظام»، يستعمل: «استقامة النظام الكوني»، وغيرها من التعبيرات.

ثانيًا: معالجة إشكاليات المعاصرة من خلال النظرة الدينية

لا تنحصر مشكلة تحديث المجتمعات الإسلامية في تقليدية الخطاب الديني، ذلك أن جزءًا كبيرًا من المشكلة يتعلّق بوفاء التشريعات والأنظمة بمتطلّبات الحياة المعاصرة. ولذلك يدعو الدكتور الفضلي، كما العديد من المخلصين على مستوى الساحة الإسلامية، إلى مجموعة من الخطوات التي من شأنها تقديم النموذج الإسلامي على أنه النموذج الأعلى بين بقية المنظومات الفكرية الأخرى. ويمكن إبراز أمثلة ثلاثة، تبيّن مساهمة الدكتور الفضلي في هذا المجال. يتعلّق أولها بالتأصيل لفكرة الدين، والثالث بمعالجة بعض الموضوعات المعاصرة، والرابع بسعيه إلى التطبيق العملي، وذلك على النحو التالي:

أ) التعريف الواقعي لمفهوم الدين:

في ظلّ ما كانت تعيشه الحركة الإسلامية العراقية من صراعٍ فكريٍّ مع الفكر الماركسي، وكذلك في ظلّ ما كانت تسعى إليه تلكم الحركة حينها من إحداث نقلة «ثوريّة تهدف إلى تسلّم السلطة، ومن ثمّ يأتي دور التغيير الشامل»[17]، في ظلّ هذه التحدّيات كان يستدعي ذلك إيجاد مفهوم واضح وبيّن حول مفهوم الدين، وبخاصّة ما يرتبط بمسألة شموليته لمسألة النظام وحاكميته في المجتمع. ولذلك، فإن الشيخ الفضلي، وخدمةً لهذا المشروع الفكري الواسع، أصدر دراسته القيّمة (الإسلام مبدأً)، حيث قارن فيها بين مفهوم الدين فيما يؤدّيه من معنى لغوي، وبين المفهوم الذي يعرضه القرآن حول الدين، وكذلك حول مفهوم الإسلام، ليخرج بنتيجة مفادها بأن «الإسلام هو الدين الذي بعث به نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البشرية كافّة. وهذا التعريف للإسلام - بانطوائه على كلمة (الدين) - يعطينا بأن الإسلام مبدأ، أي: عقيدة، ونظام، ومنهج. وذلك على أساسٍ من تعريف الدين بأنه: عقيدة إلهية ينبثق عنها نظام كامل للحياة»[18].

ويشير العلّامة الفضلي في موضع آخر بأنّ «ما كان مطروحًا سابقًا قبل السيد الصدر هو أن الإسلام: عقيدة وعمل، وكان السيد الصدر هو أول من أشار إلى أنّ الإسلام عقيدة ونظام». وأنهم كطلّاب عندما كانوا يحضرون «عند الشيخ محمد أمين زين الدين، كانت تردّد عبارة: «إن الإسلام عقيدة وعمل». العقيدة هي أصول الدين، والعمل هو فروع الدين. ولم يلمسوا هذا حتّى في فكر الإخوان المسلمين، فالسيد الصدر لعلّه أول من طرح فكرة أن الإسلام نظام للحياة ينظّم كل شؤونها»[19].

ب) مواد الاجتهاد الفقهي

يشير الشيخ الفضلي في كتابه الاجتهاد والتقليد إلى أن ما غطّته مجاميع الفتاوى الفقهية القديمة «كان مقتصراً على الفقه الفردي، وأعني به الفقه الذي يرتبط بأفعال المكلف باعتباره فرداً، لا مجتمعاً ودولة، ذلك أن الأحكام المذكورة تهتم بتنظيم علاقة الفرد بالله تعالى كما في الصلاة والصوم والحج، وعلاقة الفرد بنظيره الإنسان الآخر كما في المعاملات أمثال البيع والإجارة، وكما في الأحوال الشخصية أمثال النكاح والطلاق والمواريث، وعلاقة الفرد بالله تعالى من جانب وعلاقته بنظيره الإنسان من جانب آخر كما في الزكاة والخمس»[20].

وهو الواقع الذي يرجعه الدكتور الفضلي إلى الأسباب السياسية، وبخاصّة أنّ معظم المتون والعلوم نشأت في ظل الدولتين الأموية والعباسية، حيث الاضطهاد السياسي من قبل السلطات، و«سار الخلف من الفقهاء على خط السلف للسبب ذاته حتى أصبح هذا الخط - خط الفقه الفردي - هو الخط المألوف والمعروف حتى مع غيبة أسبابه»[21].

مع أن عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة قد خلّفا «وثائق مهمة وذات شأن كبير في الإدارة الإسلامية، منها في الجوانب العسكرية، وأخرى في الجوانب الاقتصادية والمالية، وثالثة في الجوانب الإدارية المحلية، والإدارية العامة، ورابعة في مهام التعليم والتبليغ.. وإلخ، وهي أمثال:

* كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المهاجرين والأنصار واليهود، وهو من دستور الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة، ويعرف بوثيقة المدينة.

* وثيقة تحريم المدينة المنورة وتحديدها، وهي تخطيط حدود عاصمة الدولة الإسلامية.

* عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر لمّا ولَّاه مصر، وهو وثيقة تنظيم الإدارة المحلية.

وغير هذه كثير.

وكان المفروض أن تأخذ هذه الوثائق وأمثالها مكانها ومكانتها في الدرس الفقهي الإسلامي، ولكن شيئاً من هذا لم يتحقق، وذلك للسبب الذي ذكرته آنفًا»[22].

ولذلك، فإنّ الدكتور الفضلي يثمّن الجهد الذي بذله الشهيد السيد محمد باقر الصدر في وضع أسس النظام الإسلامي لتكون المنطلق لصياغة مواد الدستور ذي الخلفية الإسلامية، ويدعو في الوقت نفسه إلى مراكمة هذه الجهود، وذلك لتلبية احتياجات المجتمعات الإسلامية لتكون بمستوى المرحلة مرتكزة في توفير احتياجاتها التنظيمية على ما لديها من إرث فقهي إسلامي يفي بمتطلّبات الحياة المعاصرة[23].

ج) تحديث نوعية المقرّرات الدراسية

يشير العلّامة الفضلي إلى أنّ تغيُّر أنماط الحياة عمّا كان يعيشها المعصوم الذي نتعبّد بما صدر عنه من النصوص التشريعية في زمنه فرض تبدُّلًا واستحداثًا لكثير من الأحكام الفقهية، وبخاصّة ما يرتبط بالمعاملات، وذلك بفعل تطوّر الوسائل الحديثة وظهور عناوين جديدة لم تكن أيام المعصوم، وما يبذله الفقهاء من إدراج بعضها ضمن المعاملات القديمة، كالمضاربة أو البيع والشراء التقليديين أو الجعالة أو الدَّيْن، وهو ما قد لا يتناسب وطبيعة المعاملة الحديثة.

وما يقترحه الدكتور الفضلي في سبيل إعطاء حكم فقهي يتناسب وطبيعة المعاملة هو دراسة المعاملات الحديثة ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي والاقتصادي الحديث الذي ظهرت ونمت فيه؛ وذلك من أجل فهم أجلى لطبيعة المعاملة، ومن ثمّ إصدار الحكم الفقهي انطلاقًا من ذلكم الفهم. يقول في هذا السياق: «إنّ المعاملات المالية المتعدّدة حينما ترد إلى البيئة الإسلامية يجب دراستها من الناحية الفقهية دراسة متأنّية؛ لأنها لم تكن معهودةً عصرَ صدور النصّ الشرعي، فلا هي مضاربة ولا جعالة ولا استدانة أو غيرها من المعاملات التقليدية، فهي تختلف عنها جميعًا. نعم، قد تقترب من هذه أو تلك، ولكن لكلٍّ من هذه المعاملات الحديثة طبيعتها الخاصّة التي لا تشبه أيًّا من تلك المعاملات التقليدية السابقة. كما أنها معاملاتٌ نشأت في البيئة الرأسمالية، وهي بيئة اقتصادية بالدرجة الأولى، تراعي المصلحة على حساب أي أمر آخر. ولهذا لا يمكن القبول بتلك المعاملات على صيغتها وطبيعتها الحالية ما لم تهذّب وتشذّب بما يتوافق والروح الإسلامية في التشريع»[24].

ولولوج هذه الدراسات الدرس الشرعي الإمامي وبلورة أحكام فقهية مبنية على فهم واقعي لطبيعتها، يقترح العلّامة الفضلي «أن يدخل هذا النوع من المعاملات الحديثة الدرس الفقهي المعاصر، ويجب على الحوزات العلمية أن تقتحم موادُّها الدراسية هذه المعاملات، لتكون مجالًا خصبًا للبحث والدرس والمقارنة والموازنة. وبدون ذلك لا نستطيع أن نلبي متطلّبات العصر التشريعية»[25].

كما يقترح إضافة مجموعة من المواد الدراسية، من قبيل:

* «أصول الحديث.

* أصول علم الرجال.

* الأديان والمذاهب المعاصرة.

* الفقه المقارن.

* القانون والنظم المعاصرة.

* تاريخ التشريع الإسلامي»[26].

النتائج والتوصيات

النتائج

1. مثّلت المرحلة النجفية الانطلاقة المؤسِّسة للدكتور الفضلي فيما يتناوله من موضوعات تقوم على مجموعة من السمات، تتقدّمها: الأصالة من خلال الإفادة من التجربة النبوية والعلوية، وعلى المعاصرة من خلال مواكبة المشاريع الحركية الحديثة، وعلى المساهمة في المشاريع النهضوية ذات الصبغة الدينية.

2. يعاني الخطاب الديني من التقليدية في عرض مفاهيمه ورؤاه، وهو ما يوسّع الهوة مع الخطاب الثقافي المعاصر، وكذلك يجعله غير قادر على استيعاب المعطيات الحضارية المعاصرة بصورة دقيقة وملائمة.

3. ساهم الدكتور الفضلي في تحديث الخطاب الديني من خلال استعراضه لدور الدين في ترسيخ القيم الإنسانية السليمة عن وعي وبصيرة، وكذلك في بيانه لمسألة تعدد الرسالات الإلهية بأنها تَدَرُّجٌ مع نمو الوعي الإنساني وكذلك لتقويم ما يقع من ضلالات عن الشرائع السابقة. كما أنّ مشروع العلامة الفضلي تمثّل في تحديث مقررات الدرس الشرعي، في المنهج ولغة العرض، حيث وضع في ذلك أكثر من 20 مقرّرًا.

4. لم يكتفِ الشيخ الفضلي بتحديث لغة العرض في دراساته الشرعية، وإنما ساهم في دراسة بعض الإشكاليات المعاصرة ذات الصلة بالمشروع النهضوي الإسلامي، وذلك بدءًا من تحديد مفهوم الدين، إذ عرفه بأنه: «عقيدة إلهية ينبثق منها نظام كامل للحياة»، مغيّرًا الفهم المعاصر له في قصره على العلاقة الروحية بين الإنسان وخالقه. ومرورًا بطبيعة مواد الاجتهاد الفقهي، حيث يقترح شمولها لجميع مناحي الحياة، بما في ذلك النظام السياسي ومتفرّعاته، وهو ما طبّقه من خلال طبيعة العناوين التي تناولها في دراساته الفقهية.

التوصيات

1. قامت تجربة الدكتور الفضلي - في ارتباطه بالحركة الإسلامية – على دراسة التاريخ الإسلامي، وبخاصّة ما يرتبط بالتجربة النبوية بدءًا من الدعوة في مكة المكرّمة وحتى اكتمالها دولةً مكتملةَ التفاصيل في المدينة المنوّرة. وقد مثّلت دراساته تلك تأصيلًا فكريًّا لانطلاقة الحركة في واقعها المعاصر. ولذلك فإنّ تكثيف هذا النوع من الدراسات بغية ربط الواقع بجذور وأصول المبدأ الذي يتوحّد حوله مجتمع الحركة أمر في غاية الأهمّية.

2. يمكن الخروج من هذه الدراسات بمجموعة من القواعد العامّة التي من شأنها ضبط انطلاقة الحركة في تعاملها مع العديد من العناوين والممارسات في الواقع المعاصر.

3. إلى جانب التأصيل الفكري، يجب الإفادة من البرامج والأنشطة والفاعليات المعاصرة فيما لا يتعارض مع المبادئ والقيم الدينية العامّة، وبخاصّة فيما يتعلّق بالتنمية الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات المسلمة.

4. لا بدّ من تطوير الدرس الشرعي من خلال تحديث مقرّراته وبرامجه ومناهجه البحثية، وكذلك في نوعية الموضوعات التي يتناولها؛ وذلك سعيًا إلى دمج الطالب في بدايات تلقّيه لمفردات الدرس الشرعي مع المتطلّبات والعناوين الملحّة، وهو ما ينعكس إيجابًا على قدرة تعاطيه مستقبلاً مع الموضوعات الحديثة بروحية منفتحة، وليست متردّدة.

5. من الدراسات والموضوعات المهمّة التي تحتاجها معاهد الدرس الشرعي: الدراسات المقارنة، وبخاصّة بين المفردات الإسلامية ومثيلاتها في الفكر الغربي، وذلك سعيًا لفهم أعمق لهذه العناوين ومقاربتها مع الحل الإسلامي.

 

 



[1] الدكتور عبد الهادي الفضلي، الحضارة الإسلامية بين دواعي النهوض وموانع التقدّم، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، 2013م، ص 55.

[2] المصدر السابق نفسه.

[3] انظر: فؤاد عبد الهادي الفضلي - إعداد، قراءات في فكر العلاّمة الفضلي، بيروت: مركز الغدير، ط2، 1432ﻫ - 2011م، ص 27.

[4] الدكتور عبد الهادي الفضلي، مشكلة الفقر: دراسة مختصر لمشكلة الفقر وفق الرؤية الإسلامية، بيروت: دار الرافدين، ط5، 1431ﻫ - 2010م، ص 13.

[5] حوارات في الدين والفكر واللغة مع الدكتور عبد الهادي الفضلي، القطيف: منشورات لجنة مؤلّفات العلاّمة الفضلي، ط1، 1434ﻫ - 2013م، ص 19.

[6] انظر: الحضارة الإسلامية، مصدر سابق، ص 260 – 261.

[7] الدكتور عبد الهادي الفضلي، الحركة الإسلامية في العراق، القطيف: منشورات لجنة مؤلّفات العلاّمة الفضلي، ط1، 1435ﻫ - 2014م، ص 67.

[8] انظر: الحضارة الإسلامية، مصدر سابق، ص 42 – 43.

[9] الدكتور عبد الهادي الفضلي، الوحدة الإسلامية أسس البناء ومفاعيل الهدم في المجتمع المسلم، مخطوط، ص 116.

[10] الحضارة الإسلامية، مصدر سابق، ص 187.

[11] الدكتور عبد الهادي الفضلي، الإسلام وبصائر الوعي: الدين في دعوته الإنسان إلى تبصّر قيم ومبادئ الفطرة، مجلة الكلمة العدد 78، السنة 20، شتاء 1434هـ – 2013م.

[12] سورة يوسف، الآية: 108.

[13] الوحدة الإسلامية، مصدر سابق، ص 30.

[14] الوحدة الإسلامية، مصدر سابق، 83.

[15] المصدر السابق، ص 112.

[16] المصدر السابق، ص 107.

[17] الحركة الإسلامية في العراق، مصدر سابق، ص 67.

[18] الدكتور عبد الهادي الفضلي، الإسلام مبدأً .. دراسة لغوية قرآنية لمفهومي الدين والإسلام، بيروت: دار الرافدين، ط2، 1431ﻫ - 2010م، ص 39.

[19] الحركة الإسلامية في العراق، مصدر سابق، ص 56 – 57.

[20] الدكتور عبد الهادي الفضلي، التقليد والاجتهاد: دراسة فقهية لظاهرتي التقليد والاجتهاد الشرعيتين، بيروت: مركز الغدير، ط2، 1427ﻫ - 2006م، ص 260.

[21] المصدر السابق، ص 261.

[22] المصدر السابق، ص 261 – 262.

[23] الدكتور عبد الهادي الفضلي، انظر: الأسس الإسلامية: عرض وبيان لما وضعه الشهيد الصدر من أصول للدستور الإسلامي، بيروت: مجلة المنهاج، العدد 17، السنة 5، ربيع 2000م.

[24] الحضارة الإسلامية مصدر سابق، ص 219.

[25] المصدر السابق، ص 192.

[26] الدكتور عبد الهادي الفضلي، تجربتي مع التعليم الحوزوي، القطيف: منشورات لجنة مؤلّفات العلاّمة الفضلي، ط2، 1436ﻫ - 2015م، ص 36 – 37.