شعار الموقع

الغيرية كرهان لتأسيس الإنسان

العربي ميلود 2019-06-07
عدد القراءات « 1408 »

الغيرية كرهان لتأسيس الإنسان

 

الدكتور العربي ميلود*

 

 

*       جامعة عبدالحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر.

 

 

 

إن مجرّد التفكير في سؤال الغيرية يعود بنا للحديث عن الذات، أو بتعبير أكثر دقة إعادة التفكير في سلطة الذات الأنطولوجية والأكسيولوجية، وهذه العودة إلى الذات هي عودة لأجل التحديد الماهوي للإنسان ككل، الذي جعل منه يقين الذات متمركزًا حول بعد واحد تمثّله ذات ثابتة ومتعالية، فتحوّل الإنسان داخل حدود هذه الرؤية الأنطولوجية إلى مطلق وثابت، والمقصود بالإنسان هنا هي أناه.

غير أن مجرّد التفكير في الإنسان وفق هذه المقتضيات يمثل إقصاءً أنطولوجيًّا للآخر، لذا سنجد أن الفلسفة المعاصرة حاولت زحزحة مفهوم الإنسان من الأنطولوجيا إلى الأنثروبولوجيا إلى الهرمونيطيقا لاحقًا، فسعت لأن تغيّر سؤال ما هو الإنسان؟ إلى من هو الإنسان؟، وهي بهذا تبحث في التاريخي والمحايث، واضعة المفاهيم الميتافزيقية بين قوسين.

ومن خلال السؤال من؟ بات الفهم الأنطولوجي للإنسان متمخّض من مجموعة العلائق المنضوية في إطار سؤال الغيرية، أي في مجموع الحيثيات والعلاقات التي تعقدها الأنا مع كل ما هو مختلف وآخر، البحث في صورة الأنا من خلال الآخر.

لكن لم تتمكّن الفلسفة المعاصرة من تفعيل هذه الصور الوجودية إلَّا بعد أن سلّمت بضرورة تجاوز ميتافيزيقا الذات، والتأكيد بأن التفريق بين الوعي والوهم لا يتم إلَّا بفعل انفتاح الذات على كل ما هو مختلف وخارج عنها، أي بفعل التزاوج والاختلاط مع كل من ليس «أنا» وليس «نحن».

ويكفي الحفر في هذا العمق الدفين للوجود الإنساني لنستذكر أن ميتافيزيقا الذات وتمركز الذات حول نفسها كان دومًا إغفال ونسيان لها، فمركزية الذات يجعلها لا تفكر في تعدّد الذوات بل تفكر فيما هو ثابت ومطلق فقط.

وهذا التمركز هو نسيان مرضيّ للاختلاف، فهي إذن نسيان للآخر، وبذلك سيمثل هدم مركزية الذات استردادًا لوجود الآخر من حيث هو مغاير للذات، من حيث هو اختلاف منسي؛ لأننا لا نبحث عمَّا فكّرت فيه الذات بل ما فكر فيه الآخر لنقله إلى ساحة الشعور والاعتراف بوجوده وأحقيته في الوجود، بمعنى نقله من اللامفكر فيه إلى ساحة الشعور، ليس إذن هذا الآخر اللامفكر فيه شيئًا خارجًا عنا بل هو مؤسس لوجودنا.

فمن هو الآخر؟ وما علاقته بالذات؟ هل يمكن أن تتحوّل الذات إلى آخر؟ ويتحوّل الآخر إلى ذات؟ كيف ستطرح الذات ذاتها إن لم تكن مجرّد آخر؟ هل ستتواصل الذات مع هذا الآخر عن طريق الفعل أم عن طريق التأويل؟.

إن كانت هذه الذات هي الآخر، فلم الحديث عن العداوة والصداقة والتواصل وغيرها من المفاهيم التي تُثبت اختلاف الذات عن الذوات الأخرى؟.

ما هو الآخر؟ أهو المشابه أم المختلف أم المتناقض عني؟ كيف تتحدّد صور الآخر لدى الذات، عن طريق الوعي أم الإرادة؟ هل الآخر هو من يحتوي الذات؟ أم أن الذات هي من يجب أن تنفتح على العالم لتجد الآخر؟.

ما هي الغيرية؟ هل هي مقولة وجودية أم مقولة أخلاقية؟ هل يمكن اختزال مقولة الغيرية في الآخرية؟ أم أنها النسق المحدّد لعلاقة الذات والآخر؟.

إذا كانت الغيرية نسق أو نظام فهل ستكون هناك جدلية بينها وبين الهوية؟ ولماذا يطرح سؤال الهوية في مقابل سؤال الغيرية؟.

هل الغيرية هي علاقة زمنية بين الذات والآخر؟ وهل زمنية اللقاء والاعتراف والمماثلة والاغتراب هي الأوجه الفعلية المحدّدة لهوية الأنا؟.

قد لا نتوقّف عن التساؤل عند هذا الحد؛ لأن التفكير في الغيرية يجعلنا نحمل استفهامات عدة وهواجس فعلية مختلطة بين ما هو تجريدي وما هو واقعي.

ولنجعل منطلق محاولة تعقُّب هذه الهواجس، سؤال ريتشارد رورتي الذي لخَّص لنا سؤال الغيرية، باعتباره سؤالًا أخلاقيًّا كما يلي: ما هو الموحد المثالي الذي يمكن البحث عنه، لتصبح مجموعتنا أقل من جماعة وأكثر من جيش؟.

«الحل الذي نادى به رورتي يكمن ببساطة في التخلّي عن سؤال: من نحن؟ والاستعاضة عنه بسؤال: «?Que sommes nous» ماذا نحن؟ (..) تحدّد النحن بالنظر إلى باقي الأنواع بالتركيز على ما يشكّل جوهر الإنسان. هناك إذن عودة إلى السؤال الكانطي: ما هو الإنسان؟ وراء ما هو إيديولوجي وسياسي، وفي هذه الحالة فإن إطار الهوية يترك المكان للإطار الإنساني كما تأخذ إشكالية الغيرية مظهرًا ميتافزيقيًّا»[1].

الغيرية.. مقاربة في المفهوم

لم تكن الغيرية مجرّد مفهوم تستدعيه الفلسفة كلّما واكبت الإنسان أزمة في القيم المنبثقة عنه أو الوافدة إليه، بل كانت بمثابة مقدمة ضرورية لتبلور فكر تاريخي زمني يحفظ للذات دورها في الحياة، فقد انعكفت الفلسفة من خلال مبحث الغيرية لتحقّق الإنسجام والوفاق بين حضور الذات الذي يمثّله الوعي، وحضور الآخر المتمثّل في أشياء العالم.

وعليه -ونظرًا لما احتلته الغيرية داخل مسار الفكر الفلسفي- اعتبرت على أنها تنتمي «منذ الحوارات الأفلاطونية -برمينيدس وثائيتاتوس وفيلابوس والسوفسطائي- إلى كبرى الميتامقولات التي ساهمت في بناء الخطاب الفلسفي كما يبدو عليه اليوم»[2].

فالغيرية مثلت في الفلسفة استراتيجية تأمّلية تتّجه صوب قولبة أشكال الوجود بما يضمن تفكيك رموزه المفهومية قبل انبعاثها كصور ومقولات وجودية تبحث في الإنسان بما هو ذات واعية وآخر متميّز ومختلف، بإمكانه أن يحدّد طبيعة الحركة الزمنية للذات، وما يترتّب عنها من مقاربة لمقولات الوعي والإرادة والحرية.

وهكذا أسست لاحتضان مفهوم الغيرية كسبيل إلى تخليص الإنسان من نزعة التمركز حول الذات، والوثوب بالحياة الإنسانية إلى أقصى صور التحضّر على الصعيد الخلقي -خصوصًا- باعتباره الحامل لكل أبعاد تحرّر الذات من شتى أشكال الوعي الزائف، وتحقيق قانون أخلاقي يضمن لنسق الغيرية أن يساير ديناميكية الوجود؛ لأن استيعاب الذات لهذا النسق ينطوي على «تقدير الذات في ظل قانون أخلاق الواجب»[3].

ومن ضمن ما يفرضه علينا قانون أخلاق الواجب هذا، أن وجود الذات منوط بوجود الآخر، فلا يبدو هذا الآخر شبحًا مخيفًا أمام الذات بقدر ما يظهر على أنه أنا آخر، وليس غير للذات؛ لأنه يجعل من وجوده محور تفكير الذات، ما يمكنها من استيعاب جذورها والحقائق المتلازمة مع هذا الوجود.

وانطلاقًا من هذا التداخل المفاهيمي على المستوى النظري كما على المستوى الوظيفي، سنحاول ابتداء إيجاد توضيحات لجملة المفاهيم المركزية، من حيث تأصيلاتها اللغوية والاشتقاقية، ومدلولاتها الإصطلاحية والفلسفية، مع إبراز النقاط التي تشترك فيها بعض المفاهيم المتقاربة وظيفيًّا.

1- الغيرية: Altérité

يعرّفها جميل صليبا في معجمه فيقول: «الغيرية في الفكر الأوروبي مقولة أساسية مثل مقولات الهوية، وممّا له دلالة في هذا الصدد أن كلمة Altérité أي الغيرية ذات علاقة اشتقاقية بالفعل Altérer والاسم Altération وتعنيان تغيّر الشيء وتحوّله للأسود (تعكّر، فساد، استحالة)، كما ترتبط اشتقاقًا بكلمة Alterance التي تفيد التعاقب والتداول، ومعنى ذلك أن مفهوم الغيرية في الفكر الأوروبي ينطوي على السلب والنفي (..) فما يؤسس مفهوم الغيرية في الفكر الأوروبي ليس مفهوم الاختلاف كما هو الحال في الفكر العربي، بل الغيرية في الفكر الأوروبي مقولة تؤسسها فكرة السلب أو النفي، فالأنا لا يفهم إلَّا بوصفه سلبًا أو نفيًا للغير»[4].

ويرى أندريه لالاند أن مصطلح الغيرية ابتكره أوغست كونت، وتبنّاه سبنسر، وصار متداولًا في اللغة الفلسفية[5].

وتعني في علم النفس الشعور بالحب تجاه الآخر، الشعور الذي ينجم غريزيًّا عن الأوامر القائمة بين الأفراد، أو ذلك الذي ينجم عن الرويّة والإيثار الفردي (إنكار الذات)، وتشمل على التعلّق والتبجيل والطيبة.. وفي الأخلاق هي عقيدة أخلاقية معاكسة للإمتاعية Hédonisme والأنانية وإلى حدٍّ ما للنفعية[6].

فالغيرية تأخذ في معناها معنى الخير والفضيلة وتغليب مصلحة الآخر كهدف أخلاقي سامٍّ، وهذا ما عبّر عنه كونت بمبدأ «العيش لأجل الغير»[7].

وفي المعنى الفلسفي الغالب على مفهوم الغيرية نجدها تنحو نحو الاختلاف فـ«مفهوم الغيرية يعني في المقام الأول ذاك الاختلاف البسيط بين التحديدات المعروضة من خلال ما هو مختلف، وما هو خارج عنها ويحظى بتبادل مستقل. وبهذا المعنى ستكون الغيرية هي كل اختلاف ظاهري غير مبالٍ بمفهوم المميّز»[8].

لكن إذا ألغينا هذا التميّز الأنطولوجي لن يكون الغير هو صورة الأنا بل هو الأنا ذاته، وهنا سنبلغ درجة المماثلة بين الأنا والغير.

وعليه نتساءل: من هو الغير؟ وهل الغير هو الآخر؟

2- الآخر والغير: Autre- Autrui

سنتعرّض للمفهومين معًا باعتبار أن بينهما الكثير من التداخل والتباعد، ولأجل ضبط مفهوم كل منهما ضبطًا فلسفيًّا واضحًا، سنعرضهما متقابلين كي ندرك المسافة المفهومية بينهما.

في الدلالة المعجمية الفرنسية نجد بعض التمييز بين المفهومين، حيث يتّخذ مفهوم الآخر معنى أوسع عن الغير؛ إذ إنه يعني كل ما هو مختلف عن الذات والموضوع، وكل ما هو مختلف بين مستويات الأشياء[9].

وفي المعجم العربي: فالآخر -بالمد وفتح الخاء- اسم خاص لمغاير شخص، أو بعبارة أخرى لمغاير بالعدد، وقد يُطلق على المغاير في الماهية (...) والآخر بمعنى الغير: كقولك رجل آخر وثوب آخر[10].

وكلمة الغير في اللغة العربية غالبًا ما تُستعمل بمعنى الاستثناء، كقولنا: غير هذا؛ أي سوى هذا، «فيراد بالغير ما سوى الشيء مما هو مختلف أو متغيّر منه، ويقابل الأنا، ومعرفة الغير تعين على معرفة النفس»[11].

وفي المعنى الفلسفي: «غير الأنا لا يتمثّل كموضوع، لكن كأنا، أو كذات أخرى»[12].

أي إن الفلسفة سعت لأن تجعل من الغير والآخر هو المقابل مفهوميًّا للأنا.

الغيرية: من براديغم[13] الوجود إلى براديغم الوعي

عرّف أرسطو الإنسان انطلاقًا من خاصية جوهرية تقع في مكان خارج حدود الذات، فنعته بالحيوان المدني، أي يمكن التعرف عليه من خلال نظرائه المشاركين له في هذا الوجود، وهنا سيمثل براديغم الوجود مدخلًا ضروريًّا لتحديد شتى أشكال الغيرية، مع اضمحلال تام للمسافة القائمة بين الأنا والآخر.

وهنا سننتقل إلى البحث عن الغير داخل الفضاء الداخلي للذات، لتتولد علاقة أصلية بين الأنا والآخر تبلغ درجة التذاوتية المتعالية[14] في ثنايا فضاء متجانس يُدعى الغيرية، تستشعر من خلاله الأنا وحدتها وتمايزها أمام كثافة وتنوّع حضور أشياء العالم، وفي الآن ذاته تستشعر هذه الأنا الوثاق الشديد الذي يصلها بالآخر ليتحدّد وجودها داخل هذا العالم في الإطار الذي يرسمه له الآخر.

وعليه ستكون «الغيرية هي الآخر، هذا الآخر الذي لست(ه)، (..) هو يؤسس هويتي، فرادتي، ما هو خاص بي وما نملكه معًا لأن آخر الـ«أنا» في الـ«نحن» يملك من هويته نفسه، فرادتها، فالغيرية في هذا هي مولدة للعلاقة»[15].

علاقة ستتجلى من خلالها الذات كحقيقة وجودية تحوي العالم ويحتويها العالم، فتستعين في إثبات وجودها إلى غيرها، أي الذات الأخرى التي تمثّل الجسر الذي يصلها بالعالم، لتتداخل مفاهيم الآخر والجسد والغريب وأشياء العالم داخل فضاء الغيرية الحامل للوجود الفعلي للإنسان، والمنتج الحقيقي لآليات إدراك الذات للعالم، وهذا ما يُشبّهه بول ريكور بلحظات التعاقب الزمني، كما «نفعل نحن مع صورتنا عن أنفسنا في أعمار متعاقبة من حياتنا، وكما نرى فإن الزمن هنا هو عامل عدم تشابه وابتعاد واختلاف»[16].

غير أن تقوقع وقبوع الذات في المجال الأنطولوجي، وفي نطاق الوعاء الذي يفرضه الآخر يمثل انتقاصًا لهذه الذات التي ستعايش صراعًا أنطولوجيًّا مستمرًا مع هذا الآخر لأجل انتزاع اعتراف بوجودها الحامل لشتى أشكال الوعي، وهذا ما يرفضه كانط في نصه الشهير «ما هي الأنوار؟»

يجيب كانط عن سؤال طرحه القس paster Zoller حول الأوفكلارونغ l’Aufklarung، طرح في مقال ظهر في يناير 83 في نفس المجلة Berlinische Monatsschrift «إن مفهوم «l’Aufklarung» يترجم بالأنوار lumières (بالجمع) ولو أن كلمة الأنوار بالألمانية تقابلها licht لهذا فإن ترجمته بالأنوار هي أقرب ما تكون ترجمة أدبية، وأن المصطلح l’Aufklarung هو استبدالي (substitutif) مركب من (auflaren) الذي يعني (éclairer) أنير، والإضافة الألمانية (ung) تعني حضور الفعل أثناء الحدوث أو نتيجة لهذا الفعل، كحالة أو كموضوع (objet)»[17].

في نصه: ما هي الأنوار؟ يعتقد كانط «أن الكسل والجبن هما السببان اللذان يفسران بقاء السواد الأعظم من الناس، برغبة منهم، قاصرين على الرغم من أن الطبيعة قد حرّرتهم، منذ زمن بعيد، من كل توجيه خارجي مما يسهّل على البعض فرض ذواتهم عليهم كأوصياء»[18].

وهذا مردّه بالدرجة الأولى إلى عدم استعمال العقل وتوظيفه بشكل يجعل الذات أكثر دينامية في اقتحام العالم، ممّا سيفسح المجال للآخر لفرض وصايته المطلقة على هذه الذات وجعلها منغلقة على نفسها، ولا يمكن لها أن تفكر إلَّا من خلال الآخر الذي عرف معنى الاستنارة.

وإذا ما قاربنا مفهوم الأنوار على الشاكلة التي يطرحها كانط نجد أنه دعوة للفرد إلى «التفكير بالاعتماد على ذاته «penser par soi- même»، وهو المعنى الراجح دلاليًّا عبرها، ويبقى في الأخير بالنسبة له المعنى الأساسي للمفهوم»[19].

استعمال العقل حسب كانط يخضع لمعيارين، الأول عمومي ويتوجب علينا جعله حرًّا وتخليصه من كل القيود، والشكل الثاني خاص يمكن الحد منه، بما تقتضيه المصلحة العامة فتفرض على الفرد الخضوع والطاعة لأوامرها كونه عضوًا في المجتمع عليه أن يلتزم بقوانينه، وفي هذا السياق يقول كانط: «ينبغي أن يكون الاستعمال العام لعقلنا حرًّا على الدوام، لأنه الوحيد القادر على نشر الأنوار بين الناس، بينما يمكن أن يحدّ الاستعمال الخاص، دون أن يمنع ذلك تقدّم الأنوار بشكل ملموس»[20].

بعد هذا التفريق يطرح كانط سؤالًا جوهريًّا هو «هل نعيش عصرًا مستنيرًا؟» فيجيب بالنفي؛ لأن الأنوار لا تعني مجرّد تغيير سوسيو ثقافي في مجتمع ولا مرحلة تاريخية نسرد أحداثها ونغلق صفحتها، بل هي -كما يفهمها كانط- «حالة خروج الإنسان من وضعية القصور Minorité التي وضع نفسه هو فيها»؛ لذا فهو يأمر هذا الإنسان القاصر فيقول: «فلتكن لك الشجاعة في استعمال ذاتك وفهمها الخاص».

هذا التحدي الكانطي سيفّعل براديغم الوعي بدلًا من براديغم الوجود الذي تتمظهر فيه الذات على أنها أسيرة لكل ما هو آخر الذات، لكن ستعلّمنا حركة الوعي الكانطي للذات كيف يجب أن تتحرّر هذه الأخيرة من سلطة الآخر، ومن كل وصاية يفرضها عليها كي تظل تابعة بشكل دائم له، فيكون هو المحدّد والمؤطّر لمختلف مظاهر وجودها.

وهنا ستفهم حداثة كانط على أنها لا تعني انغلاق الذات حول ذاتها بل هي لحظة أنوارية تنبثق عنها ذات واعية بوجودها.

وفي قراءة كذلك لميشال فوكو حول سؤال الأنوار الكانطي، نجده يقف عند اللحظة النقدية التي يدشّنها فيلسوف التنوير، فيرى أنه دشّن سؤالًا جديدًا هو السؤال عن: حاضرنا عن الراهن؟، فـ«حسب فوكو لا يعدّ سؤالًا الحاضر هذا الجديد عند كانط، بل ما يمكن اعتباره جديدًا واكتشافًا مهمًّا هو للكيفية الجديدة التي قارب بها كانط حاضره»[21].

ومن خلال هذه المقاربة المفاهيمية لسؤال الغيرية نخلص إلى أن الغيرية ليست مفهومًا بل هي نسق يتداخل فيه الوجودي والأخلاقي والنفسي والاجتماعي، ففي حدود الغيرية تتلاقى كل المفاهيم والتصّورات الحاملة لمشروع إنسان الحق والواجب.

 

 

 



[1] فتحي التريكي، بول ريكور فيلسوف الغيرية، مجلة أوراق فلسفية، العدد 8، 2003، القاهرة: مركز النيل للكمبيوتر، ص 81.

[2] جان غرايش، الغيرية: مقولة أخلاقية، ترجمة: وحيد بن بوعزيز، مجلة أيس، العدد 2، 2007، ص 28.

[3] بول ريكور، الذات عينها كآخر،  ترجمة وتعليق: جوروج زيناتي، لبنان: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2005، ص 398.

[4] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ص 131.

[5] أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ص 47.

[6] المرجع نفسه، ص ص 47 - 48.

[7] المرجع نفسه، ص 48.

[8] Encyclopédie philosophique universelle ( les notions philosophiques). Dictionnaire 2, 2 Ed, P.U.F, Paris , 1998. P66.  

[9] Dictionnaire d’éthique et de philosophie moral – sous la direction de Monique canto- sperber, P.U.F. Paris, pp 124 - 125.

[10] ابن منظور، لسان العرب، المجلد الرابع، بيروت: دار صادر، ط1، 1990، ص 15.

[11] مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الفلسفي، بيروت: عالم الكتب، 1979، ص 133.

[12] Encyclopédie philosophique universelle ( les notions philosophiques). Dictionnaire 2, op cit, p208.

[13] يشير لفظ البراديغم في اللغة اليونانية إلى معنى النموذج، لكننا نوظّفه في هذا المكان ليحمل المعنى اللاتيني ألا وهو البرهنة، أي إن الغيرية هي على محك البرهنة على وجودها وعلى مدى ارتباطها بعالم الوعي.

[14] المقصود بهذا المفهوم هو انصهار مطلق لمجموعة من الذوات المتعددة في بوتقة وجودية واحدة.

[15] كاتي لوبلان، لقاءات الغيرية عند هيدغر الثاني، مجلة أيس، العدد 2، 2007، ص 37.

[16] بول ريكور، الذات عينها كآخر، مصدر سابق، ص256.

[17] Jean Mondot (textes et choisis et traduits par), qu’ est- ce que les lumières, presses universitaires de bordeaux France, 2007, p08

[18] مجلة أيس، العدد 1، جوان 2005، (ملف العدد حول كانط)، ص 7.

[19] Jean Mondot , qu est- ce que les lumières, op.cit , p15.

[20] مجلة أيس، العدد 1، جوان 2005، (ملف العدد حول كانط - التقديم)، ص8.

[21] وحيد بوعزير، فوكو والأنوار، مجلة أيس، العدد 1، جوان 2005، ص9.