شعار الموقع

صورة الأخر .. دراسة في الدال والمدلول

مرقومة منصور 2019-06-07
عدد القراءات « 750 »

صورة الآخر..

دراسة في الدال والمدلول

الدكتور مرقومة منصور*

 

*جامعة عبدالحميد بن باديس، قسم علم الاجتماع - مستغانم، الجزائر.

 

 

تمهيد

سأحاول في هذه المقالة أن أتطرّق إلى بعض التعاريف والمفاهيم التي ارتبطت بالآخرية أو بالغيرية، خاصة ما يتعلّق بصورة الآخر أو بالآخر (الذات والآخر)، وهذا نظرًا لأهمية ضبط المصطلحات في العلوم الإنسانية والاجتماعية وأهميتها أيضًا في فهم الآخر. ثم سأردف بالتعرّض لبعض الجدليات التي صاحبت الآخرية (الآخر والذات).

هذا الآخر الذي تعرّض في كثير من الأحيان إلى الرفض والإقصاء والتهميش، وفي أحايين أخرى إلى التصفية. الآخر غالبًا ما يُوصف ولو على مستوى التعريف بأنه الغريب أو العدو أو المختلف أو الدوني وما إلى ذلك من الأوصاف المتضمنة لمعانٍ تنتقص من قيمته.

مفاهيم

الآخر أو صورة الآخر ليست هي الآخر كما يذكر ذلك الطاهر لبيب[1]، صورة الآخر هي بناء في المخيال وفي الخطاب، والصورة لست هي الواقع.

الآخر: هو كل من لا ينتمي إلى الجنس نفسه أو النوع أو العرق أو القومية أو الدين أو القبيلة أو الوطن... هو من ليس على شاكلة ومبدأ وأيديولوجية الذين ينعتونه بالآخر، حيث «يتم إقصاؤه، واستعباده، وإبادته، وإخضاعه، وأيضًا استحسانه -الإعجاب به-، ففي معارضة الآخرين يجد الشخص نفسه بكل سهولة»[2]. وقديمًا قيل: الأشياء بأضدادها تُعرف، وقيل أيضًا: خالف تُعرف.

على ذكر الأضداد فمنذ أن خلق الله الأرض ومن عليها جعل الأشياء فيها على أشكال متناظرة يجمعها إما التشابه أو الاختلاف، وإما التعارف أو التنافر. أوجد سبحانه الجنة والنار، الخير والشر، المؤمن والكافر، المقدّس والمدنّس، المتدين والفاسق، الجميل والقبيح، الكبير والصغير، الشريف وغير الشريف، الطيب والشرير، الصالح والطالح، النور والظلام، الرجل والمرأة، الذكر والأنثى، الليل والنهار، القريب والغريب، الديمقراطية والدكتاتورية، العدل والظلم.. فكانت هذه الأضداد بمثابة قوانين إلهية للبشرية عامة، يُثاب فيها من تتبع الصراط السوي، ويعاقب فيها من أساء التصرّف وسلك السبل التي تفرّق به عن سبيله.

«قد يكون لكل آخر تعريف خاص يوليه إليه من كان له به شأن، أما جُل ما عايشته وقرأته، فهو آخر ذو معالم كثيفة، حادة، عدوانية... يتحوّل غالبًا إلى مادة لقضية يستغني العديدون عن حياتهم أو عن موتهم من أجلها؛ لاتقاء شرّه، أو لتهدئة سطوته، أو للتصدي له... بل أحيانًا لإفنائه»[3].

الآخر هو ذلك المختلف إثنيًّا وعرقيًّا وحضاريًّا، والمختلف أيضًا فكريًّا وعقديًّا وجسديًّا، والمختلف أيضًا جغرافيًّا وتاريخيًّا. الآخر هذا، غالبًا ما ينتجه تمركز النزعة العرقية (l’ethnocentrisme) نزعة حب وتمجيد الذات كل شخص أو مجتمع تكون لديه نزعة الإعجاب بالذات، وبالعادات والتقاليد والأعراف الخاصة، وبالمؤسسات المختلفة التي تنظم حياته فيظهر بذلك، وكأنه مركز الكون. نزعة حب الذات وتمجيدها هي الشيء الأفضل تقاسمًا بين أفراد العالم، بما في ذلك من هم عرضة وضحية لهذه النزعة، أي إن جميع أمم وشعوب العالم، وأفراده يمارسون هذه النزعة حيال الآخر[4].

صورة الآخر عبر التاريخ

تأخذ الغيرية (الآخرية) في الدراسات الأنثروبولوجية، وفي بداياتها على وجه التحديد، بعدين أساسيين: البعد الأول تاريخي عندما اهتمت بدراسة الإنسان المسمى آنذاك بالبدائي، والثاني جغرافي لأنها اهتمت بدراسة الشعوب غير الأوروبية. وكانت هذه الدراسات تتم بشيء من السخرية في وصف هذه الشعوب: الاستبداد المشرقي، اللاعقلانية الإفريقية، التوحش الهندي...، وبتقابلية الأضداد التي اعتمدتها كثير من النظريات والدراسات رغم عدم إقرارها بأنها تعتمد نظرة استعلائية حيال الآخر: بدائي - متحضر، مجتمعات تقليدية - مجتمعات عقلانية عالمة، طائفة - مجتمع[5].

في التاريخ القديم كان الآخر بالنسبة لليونانيين (بربري)، وهو الذي لا يتكلّم لغتهم، ثم أصبح يسمى في العصور الوسطى بـ«غير المؤمن» (الكافر)، وكان يدخل تحت طائلة هذه التسميات كل من العرب والأتراك وغيرهم من الشعوب التي اعتبرت آنذاك دونية بالنسبة للغرب.

لقد كانت هذه الشعوب عبر التاريخ هي «البربرية» و«الكافرة» و«المتوحشة» و«البدائية»[6]، و«المتخلفة» و«المنحطة»... وصولاً إلى «دول العالم الثالث» أو»«النامية» أو«السائرة في طريق النمو». نظرة لا يمكن أن تخرج عن مسارها الوصفي الاستعلائي في فكر الغرب ومخيلته حيال العرب والمسلمين، فهم «الإرهابيون» و«المتخلّفون» و«المنحطون» و«من لا تاريخ لهم».

لقد كان للغزو الاستعماري في القرن التاسع عشر دور في التطور التدريجي والنسقي لملاحظة الأجناس البشرية والطوائف (les ethnies)، ووصف عادات وتقاليد الشعوب من طرف الإداريين والعسكريين، على اعتبار أنهم اصطدموا بهذه الشعوب التي لا يعرفون عنها شيئًا، فكان لزامًا عليهم دراستها في أدق تفاصيل حياتها، وهذا بقصد السيطرة عليها.

واعتُبر الإنسان «المتوحش»، إنسانًا بدائيًّا يجب أن يُقاد إلى الحضارة (un primitif à civiliser) كما جاء في السياسة التبريرية لغزو الشعوب، ثم ظهر مصطلح «المتوحش الطيب» (le bon sauvage) خاصة في الفترة التي عُرفت بعصر الأنوار على اعتبار تغيّر نظرة الغرب للإنسان البدائي أو البعيد.

لقد كان وصف المواطن الجزائري وتسميته في الخطاب الكولونيالي الاستعماري على سبيل المثال لا الحصر، يحمل كثيرًا من المعاني الإضافية (connotations)، أو ما يسمى بـ«تضمين المعاني» والتي جاءت لتلتصق بالمعنى الذي يريد أن يطلقه المستعمر على الجزائري، فهو «العربي»، و«الساكن الأصلي» arabe, indigène, autochtone, aborigène، ولكن بشيء من التحميل العنصري وبنوع من السخرية والاستهزاء، مما يدل على الانتقاص من القيمة الاجتماعية والثقافية لهذا العربي[7].

جدل الآخر بين الرفض والقبول

إن الجدل الذي يدور حول الآخر ليس وليد الوقت الراهن، فلقد كان الآخر في الفكر اليوناني خاصة في أعمال هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد هو ذلك الشخص أو المجتمع الذي لا يحسن استعمال اللغة اليونانية فكان بذلك بربري.

و«بالنسبة إلى أرسطو فإن الآخر المستبعد هو الغريب، الذي لم يتمكن من استخدام وفهم اللغة المشتركة –اليونانية-، ونتيجة لذلك أصبح البربري هدفًا للمطاردة، أي أصبح عدوًّا»[8].

إن صورة الآخر غالبًا ما تكون مستوحاة من الخيال، ولا تمتثل للحقائق القائمة، «إن النظرة التي ألقاها روّاد أدب العجائب في القرن السادس عشر أو الرومنطيقيون في القرن التاسع عشر، أو التي يُلقيها اليوم الأنثروبولوجيون في القرن العشرين على مكان الآخر، تحوي بكل تأكيد طابعًا ثقافيًّا... فدائمًا ما يكون هذا الإدراك بواسطة الصورة التي تحملها الثقافة. إن الرحالة أو الأنثروبولوجي لا يلقي بنظرة جديدة على الوقائع التي تمثل أمام أنظاره، إن رؤيته للجديد يقودها دائمًا نموذج يكون وجوده سابقًا لوجودها»[9].

«فلئن أنشأ كولومبس خطابًا عامًّا حول الآخر من دون أن يكون قد رآه بعد حق الرؤية، فلأنه لن يفلح في رؤيته إيّاه إلَّا عبر خطاب سابق على الاتصال... لقد كان منذ البدء تحت تأثير الهدف الذي ترمي إليه سفرته، وتحت تأثير الأسطورة التي كانت في أصلها البحث عن جنة عدن، كان ينتظر أن يرى سكّانًا عرايا ما داموا على الحالة الأصلية. لم يصف كولومبس ما شاهده، وإنما ما سيشاهده، أو بالأحرى ما كان ينتظر مشاهدته، فجاء الوصف مناسبًا لأسطورة الفردوس المفقود»[10].

يقول الدكتور محمد عابد الجابري في هذا السياق، وبعد عرض مطول لصورة الآخر خاصة الآخر العربي المسلم في قضية الهوية: «وهل الهوية شيء آخر غير رد الفعل ضد الآخر، ونزوع حالم لتأكيد الأنا بصورة أقوى وأرحب»[11].

خاصّة إذا كانت هذه الصورة نمطية أوجدها الآخر من مخيلته كما يفعل كثير من الغربيين حيال المجتمعات الشرقية. فغالبًا ما يستدعى التاريخ والجغرافيا أيضًا لتكوين هذه الصورة عن الآخر، وكثيرًا ما تستعمل الصور المستوحاة من الماضي للحكم على الحاضر وتقدير المستقبل.

«الأنا إنّما تتحدّد عبر الآخر، ولنضف: في الحاضر كما في المستقبل كما في الماضي، أعني بذلك أن عملية التحديد التي يقوم بها «الأنا» لنفسه، فردًا كان أو جماعة، لا يعتمد فيها على معطيات الحاضر وحدها بل يوظف فيها أيضًا، بهذه الدرجة أو تلك، وبهذا الشكل أو ذاك، عناصر كانت حاضرة في ماضيه أو يعتبرها كذلك، وأخرى يراها حاضرة في مستقبله، أو يعتقد في إمكانية حضورها فيه، عناصر هي في جميع الأحوال تنتمي إلى دائرة الآخر، ماضيه وحاضره ومستقبله، نوعا من الانتماء»[12].

خلاصة

يمكننا القول في نهاية هذا العمل: إن صورة الآخر تأخذ أبعادًا متعدّدة، وأشكالًا متباينة، لم نشأ أن نحصرها في صورة واحدة، كما أنه لا يمكننا أن نتعرّض لكل الصور التي نصادفها، غير أن هذه الصورة غالبًا ما تكون نمطية نتيجة لمعلوماتنا المغلوطة حول الآخر، ونتيجة لجهلنا بحقائق الواقع، وخصوصيات من ينعت بالآخر.

 

 



[1] صورة الآخر العربي ناظرًا ومنظورًا إليه، تحرير: الطاهر لبيب، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الجمعية العربية لعلم الاجتماع، 1999.

[2] Catherine Golliau, Nous et Eux, in Le Point références «Comprendre l’autre». L’hebdomadaire Le Point-sebdo. Paris. Mai- juin 2011. p.3.

[3] دلال البزري، الآخر: المفارقة الضرورية، صورة الآخر، سبق ذكره، ص 99.

[4] لمزيد من المعلومات انظر:

Le point, Comprendre l’autre, op. cit. p.9.

[5] لمزيد من المعلومات انظر:

CLAUDE Rivière, introduction à l’anthropologie, 2eme édition, Hachette,Paris, 1995, 1999. P. 12.

[6] TESTAR Alain, De moi à Eux, Les affres de l’anthropologue, in Le Point, op. cit. p. 7.

[7] انظر في هذا الصدد:

BOUGUERRA Tayeb, Le dit et le non dit à propos de l’Algérie et de l’algérien chez Albert Camus, OPU, ENAL, Alger, PP. 30 - 33.

[8] فيلهو هارلي، مفهوم ومواريث العدو في ضوء عملية التوحيد والسياسات الأوروبية، ضمن كتاب صورة الآخر، سبق ذكره، ص 54.

[9] منذر الكيلاني، الاستشراق والاستغراب، في كتاب صورة الآخر، ص78.

[10] المصدر نفسه، ص 76.

[11] محمد عابد الجابري، مسألة الهوية.. العروبة والإسلام والغرب، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1999، ص 8.

[12] المرجع نفسه، ص91.