الكلمة بعد ربع قرن..
تأملات في التجربة
الدكتور الطاهر سعود*
* أستاذ علم الاجتماع ومدير مخبر البحث المجتمع الجزائري المعاصر في جامعة محمد لمين دباغين، سطيف، الجزائر. البريد الإلكتروني: tahar.saoud73@yahoo.fr
تعرّفت على الأستاذ زكي الميلاد «الكاتب والمفكّر» من خلال كتابه «مالك بن نبي ومشكلات الحضارة.. دراسة تحليلية ونقدية»، الذي صدر عن دار الفكر المعاصر في دمشق وبيروت، بتقديم من الأستاذ جودت سعيد، وحينذاك -أي في حدود سنة 2000م- كنت أعدّ رسالة ماجستير حول موضوعة «التخلّف والتنمية في فكر مالك بن نبي».
لم أكن أدرك أنّ هذا الكتاب الذي وقع بين يديّ ذات يوم بواسطة أحد الزملاء سيكون فاتحة عهد لي بصاحبه، ثم بالمجلة الرائدة التي يشرف على رئاسة تحريرها، وهي مجلة (الكلمة). استفدت من كتابه الذي حاول فيه تجاوز مرحلة التعريف بفكر مالك بن نبي إلى التفكير معه، وكنت حينها لا أزال في بداية الطريق شغوفًا بفكر مالك ومتابعًا لما يصدر حوله، ولمَّا يكون قريبًا من روح فكره الحضاري ذي الأفق السُّنني، وكانت مجلة الكلمة واحدة من تلك المصادر التي تنهل من هذا الأفق؛ إذ يجد فيها كل متابع شيئًا من هذه الروح الحضارية والسُّننية.
بعد إنهائي لرسالة الماجستير بدأت أتدرّج في محاولاتي الأولى للكتابة خارج السقف الأكاديمي الرسمي، وكان أول مقال صدر لي في هذا الصدد بعنوان: «مشكلة الثقافة والحضارة في فكر مالك بن نبي»، وقد احتضنته المجلة مشكورة ليصدر في عددها الثاني والأربعين شتاء سنة 2004م.
أما المناسبة الثانية التي دشّنت تواصلي مع الأستاذ زكي (عبر عالم الشبكة الإلكترونية) فكانت عندما قَبِل التقديم لكتابي حول مالك بن نبي، وتفضّل مشكورًا زيادة على ذلك بإحالة مسوّدته على دار الهادي في بيروت لتتبنّى طباعته ونشره.
أقول هذا الكلام لا لعرض تفاصيل شخصية قد لا تهمّ القارئ، بل لأنّ «هناك أشياء لا يجدي الحديث عنها إن لم يكن مستمدًّا برهانه من تجربة شخصية تضيء الموضوع من الداخل بضوئها الخاص»[1].
وعلى هذا فإنّ احتضان باحث شاب لم يكن محتضِنُه على سابق معرفة به، وتشجيعه ليشقَّ طريقه نحو أفق الكتابة والبحث لهو من الأعمال الحضارية التي تكشف صدق القول عبر الفعل، فالأستاذ زكي الميلاد ليس كاتب أفكار مكبًّا على أشياء خامدة من الورق والكلمات لا يجاوزها، ولكنه بهذه السابقة يدفع في اتجاه توثيق شبكة العلاقات الثقافية بين أبناء الأمة الواحدة، ويُثبت بأنه رجل الفكرة كما هو رجل العمل، وبأن الفكرة التي لا تنتهي إلى عمل هي فكرة ميّتة لا قيمة لها، وأنّ صناعة التاريخ -كما هو معروف- تبدأ من مرحلة الواجبات البسيطة، عندما يجاوز الفرد ذاته ليحقّق النفع للغير.
إذا كانت هذه بعض حال مفكّرنا الأستاذ زكي الميلاد فإنّ حال المجلة التي يُشرف عليها تكشف عن جملة من الأمور الموجبة للملاحظة والعبرة، فقليلة هي الأعمال التي يكتب لها في صفحة الواقع والتاريخ النجاح والاستدامة.
إنّ جهودنا في العالم الإسلامي منذ عصر ما بعد الموحدين هي جهود النصف؛ نصف عمل، نصف نجاح... وكثير منها يذهب في العبث والمحاولات الهازلة؛ لأنّ الذي ينقصها في كثير من الأحيان هو الرؤية الموجّهة الواضحة، والعزيمة الظافرة التي تتيح لكل جهد أن يمتدّ ويتكثّف، وينداح في الأفق.
ولعلّ ذلك هو ما جعل مفكّرًا مثل مالك بن نبي الذي كرّس جهده الفكري للحفر حول هذه الظواهر الثقافية المرضية، يكتب في عبارة فيها كثير من القسوة، ولكن فيها أيضًا كثير من الوجاهة عندما وصف الجهد الإصلاحي والتجديدي الحديث، بأنه كان على جانب كبير من حسن النية ولكن لا نجد فيه رائحة المنهج[2]، فالكثير من الجهود التي تطلق هنا وهناك في العالم الإسلامي تنطلق باندفاعة وفورة عاطفية ولكنها سرعان ما تنفسخ وتتوقّف.
إنّ مجلة «الكلمة» -التي نحتفل اليوم بيوبيلها الفضي- لهي من الأعمال القليلة التي حقّقت التواصل والاستمرارية لما يقارب الربع قرن من الزمن، فلم يُصبها ما أصاب كثيرًا من المجلات التي نشأت على طول العالم العربي والإسلامي ثم أصابها داء العطل ثم التوقّف، وهذا يدل على سداد في الرؤية التي وجّهتها منذ لحظة التأسيس، وعلى عزيمة وصبر الفريق الذي أطلقها ذات عقد من القرن الماضي.
وقد أخبرني الأستاذ زكي في آخر لقاء لي به[3] بأنّ المجلة خلال كامل هذه الفترة (أي منذ خريف 1993) انتظمت في الصدور، ولم تتخلّف عن موعد صدورها، ولم يصدر عنها أي عدد مزدوج يضم عددين في عدد واحد كما هي عادة كثير من المجالات حتى العريقة منها في عالمنا العربي، وهي بهذا تحقّق روح البيان النبوي «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»[4].
يزيدنا إكبارًا للمجلة أنّ الذين أطلقوها كرؤية ومشروع لم يكونوا من الشيوخ أو من النخب الفكرية المسنّة، بل إنهم بالبيان القرآني {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ}[5]، وشباب في عمر العشرينات[6]، وهي بذلك (أي المجلة) تُبِين عن أنموذج حيّ للتأسّي؛ أي كيف يمكن لشباب الأمة اليوم أن يتأسّوا بـ«شباب الكلمة» لينهضوا بالواجبات العينية والكفائية والدور الحضاري المنوط بهم في مرحلة حسّاسة من عمر الأمة الإسلامية، والمرابطة عليها، ولعلّ المرابطة في حقل الثقافة والفكر وعلى ثغور «الكلمة» لهي مجاهدة من مجاهدات العصر، واختيار «الكلمة» لهذا العنوان كدليل عليها يحوز من دون شك على كامل الموفقية.
وإنّ الذي يوجب الاحترام والتقدير هو أنّ هيئة تحرير المجلة قد انفتحت منذ البداية على مختلف أصقاع الأمة مشرقًا ومغربًا، بيد أنّ الفحص الإحصائي للأسماء الكاتبة من الذين تُنشر إبداعاتهم على صفحات «الكلمة» يجعلها بحق اسمًا مشرقي النشأة مغاربي الهوى والكلمة، فما أخبرنيه الأستاذ زكي الميلاد أنّ كثيرًا من المواد التي تستقبلها المجلة للنشر أو تنشر فعلًا هي أبحاث ودراسات وإسهامات مغاربية بعامة، وجزائرية على وجه الخصوص، وهو ما يشرّفنا ولكن أيضًا يضعنا أمام مسؤوليات ثقافية وأخلاقية لجهة تعميق هذا التواصل، ليكون تواصلًا ثقافيًّا نوعيًّا يغني خط الكلمة الفكري ومشروعها الثقافي، ويكون قيمة معرفية مضافة في سوق الثقافة والفكر العربيين لقرن جديد.
وأن تحظى مجلة «الكلمة» بهذه المقبولية، فهذا واحد من أدلة تُبِينُ عن مكانة هذا الرقم الفكري لدى بحّاثة المغرب العربي وأهل القراءة والكتاب فيه، وعن سمعةٍ ما انفكت المجلة تنتزعها، وتحوز عليها في سوق الكتابة الفكرية، والمنتج الفكري والثقافي النوعي مع العناوين الوازنة الأخرى التي يزدحم بها فضاء النشر والكتابة والتأليف.
وإذا كانت فكرة «المجال الحيوي»[7] هدفًا استراتيجيًّا رفعته هيئة تحرير «الكلمة» منذ استوائها مشروعًا على أرض الواقع، فإنه يمكننا القول اليوم وباطمئنان بأنها قد حقّقت جانبًا كبيرًا من هذا الهدف ليبغ إشعاعها نطاقًا يمتد على محور مصر - المغرب، بل ويتجاوزه.
لم تكن الكلمة في الأخير رقمًا ينضاف إلى سوق المجلات الرائج في العالم العربي، بل شقّت لنفسها طريقًا خاصًّا ومتميّزًا، هو طريق يروم تقديم خطاب فكري إسلامي جديد، يشتغل على قضايا الفكر الإسلامي وقضايا العصر والتجدُّد الحضاري، ونأمل لها أن تستمر «حتى تقدّم أفضل ما لديها مستقبلًا، وتحافظ على صعودها المستمر»، بخاصة في ظل الظرفية التي يخبَرها عالمنا العربي والإسلامي، الذي تمزّقه الطائفية، ويشلّه الإرهاب، ويذوي أمام أعين جماهيره الطموح نحو النهضة والتقدُّم، فما أحوجنا إلى منبر يجدّد لهذه الأمة أمرها، ولعلّ الكلمة تكون رافدًا وباعثًا لهذا الأفق الجديد، أَوَليس قد جاء على لسان الأنبياء: «إنّ الكلمة لمن روح القدس».
[1] مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، إشراف: ندوة مالك بن نبي، ط 3، دمشق: دار الفكر، 1988، ص 9.
[2] انظر كتاب: الطيب برغوث، محورية البعد الثقافي في استراتيجية التجديد الحضاري عن مالك بن نبي، ط1، جدة: المملكة العربية السعودية، مركز الراية لتنمية الفكر، 2006م، ص 142.
[3] كان ذلك بمكتبة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية بمناسبة انعقاد المؤتمر الدولي الثالث حول: «العالم ينتفض: متّحدون في مواجهة الإرهاب» المنعقد أيام 17-19 يناير 2017.
[4] أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، رقم 2818.
[5] سورة الكهف، الآية: 13.
[6] انظر: زكي الميلاد، مجلة الكلمة.. الفكرة والتجربة والتطوّر، مجلة الكلمة، عدد خاص رقم 82 (السنة الحادية والعشرون شتاء 2014)، ص5.
[7] المصدر نفسه، ص 10.