شعار الموقع

دور الحوار الفكري في الفضاءات العلمية والبيداغوجية ..

سعاد نزاري 2019-06-22
عدد القراءات « 868 »

دور الحوار الفكري في الفضاءات العلمية والبيداغوجية في ترقية المعرفة العلمية

مقاربة سوسيولوجية لمعوقات الحوار، التعصب الفكري نموذجًا

الدكتورة سعاد نزاري*

* باحثة من الجزائر، البريد الإلكتروني: snezzari@ymail.com

 

 

 

 

-  رسالة دكتوراه في علم الاجتماع

-  جامعة 8 ماي، قالمة، الجزائر، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم علم الاجتماع

-  إشراف: الدكتور نوالدين بومهرة

-  تاريخ المناقشة: 19 ديسمبر 2018م

 

مقدمــة

اتجهت العديد من الدراسات الحديثة بمختلف تخصّصاتها الاجتماعية والاقتصادية وكذلك السياسية نحو الجامعة، باعتبارها تمثّل أكثر المؤسّسات التعليمية استقطابًا للعديد من الظواهر الاجتماعية، ومع ما تعانيه الدول العربية من مشاكل في التنمية على كل المستويات، ازدادت هذه الأهمية؛ لأن الجامعة وحسب وظيفتها الأساسية، مؤسسة بحثية، تجمع فيه الطلبة والأساتذة بصورة منسّقة ومنظّمة من أجل تحقيق غرض التنمية المجتمعية.

لقد عاشت الجامعات العربية عامّة والجزائرية خاصّة، مرحلة من التراجع أثّرت بشكل سلبي في تقدّمها وتطوّرها، بالرغم من الإصلاحات الهيكلية والتنظيمية التي عرفتها خلال السنوات الأخيرة، فما يقال عنها غير أنها عبارة عن تجمّع شعبي يقدّم خدمات بالمجان للطلبة والأساتذة، فقد فقدت ذلك البريق العلمي الذي من المفروض أن ينير درب المجتمع ويخلّصه من المشاكل المتعدّدة التي يتخبّط فيها، هذا التخلّف الذي تعيشه الجامعة، يحرّك في نفسية كل باحث الغيرة على هذه المؤسسة التي ينتمي إليها، وتحرّك فيه الكثير من التساؤلات التي من المفروض أن يبحث لها عن إجابات باعتباره عضو مشارك في هذا التنظيم بأي صفة كانت.

فواقع إنتاج المعرفة بالجامعة الجزائرية، وفقًا لما أكّدته نتائج الدراسات العلمية، لا يرقى إلى مستوى الطموحات المسطّرة من طرف الهيئات الوصية، لعل من أبرز العوامل التي ساهمت في هذا الواقع بشكل مباشر إشكالية «الحوار الفكري»، لقد عولج موضوع الحوار كآلية للتواصل في مختلف أشكال العلاقات الإنسانية، لكن كآلية لتطوير البحث العلمي، لم يحظَ باهتمام واسع من قبل الباحثين والدارسين حسب علمنا، رغم اهتمام الجامعة بخلق آليات للحوار الفكري من: ملتقيات، مؤتمرات، ندوات..، وغيرها من الأنشطة الفكرية التي تعكس فلسفة الجامعة نحو تبنّي الحوار كمبدأ محوري وأساسي في العملية التعليمية والبحثية، بالإضافة إلى مخابر البحث العلمي، التي تعتبر من بين التنظيمات الحديثة على مستوى الجامعة، والتي تتكوّن من باحثين مؤهّلين يتولون مهمّة إنتاج بحوث علمية نظرية منها وتطبيقية، فقد وفّرت وزارة التعليم العالي الظروف المناسبة والملائمة التي من شأنها أن تفرز نتائج علمية مرغوبة ومسطرة حتى تضيف للرصيد المعرفي شيئًا جديدًا.

إن اعتماد الجامعة على مختلف الآليات كمدخل لتطوير البحث العلمي، لدليل على وعيها بأهمية الحوار الفكري المؤسسي ودوره في تطوير وإنتاج المعرفة العلمية، وبالتالي أصبح الموضوع يشكل بؤرة اهتمام الكثير من الباحثين في مجالات متعدّدة، التي تحاول أن تكشف عن العوامل المعيقة للحوار الفكري الأكاديمي.

وبما أن الأكاديميين هم المعنيين بالدرجة الأولى بممارسة الحوار انطلاقًا من الوظائف المتعدّدة التي يضطلعون بها كأساتذة وكباحثين، كان لا بد من توجيه البحوث والدراسات لمعرفة العوامل النفسية والاجتماعية التي تتحكّم في طريقة ممارسة هذا الأخير للحوار الفكري داخل الجماعة العلمية، وكذلك البحث عن ديناميات الجماعة العلمية ومدى تفاعلها حتى نتعرّف إلى أي حدٍّ تمارس هذه الجماعة الحوار الفكري؛ لأن هذه التنظيمات والمؤسّسات البحثية فكرة وجودها مرتبط بتطوير العمل البحثي الجماعي.

ولمعرفة طبيعة الحوار الفكري داخل هذه الجماعات، لا بد من الوقوف على طبيعة المنتوج الفكري وما قدّمته هذه الأعمال من إضافة علمية حقيقية، لقد كشفت لنا التقارير الدولية والعربية أن المعرفة العلمية والسوسيولوجية على وجه التحديد بالعالم العربي، لا تعكس حجم الموارد المخصصة للبحث العلمي.

كنتيجة لعجز المؤسّسة البحثية الأكاديمية من تحقيق إضافة للمعرفة العلمية في الميدان السوسيولوجي، مقارنة ما وصلت إليه السوسيولوجيا الغربية، جاءت هذه الدراسة كمحاولة للتعرّف إلى معوّقات الحوار الفكري، بالتركيز على التعصّب كظاهرة أصبحت تشكّل خطرًا حقيقيًّا، ليس على مستوى الفضاء الجامعي فقط، بل تشكّل خطرًا على استقرار وأمن المجتمعات بصورة عامة.

ولأهمية الموضوع، ركّزنا في دراستنا على التعصّب الفكري عند الباحث الأكاديمي، باعتباره أساس العملية البحثية. ولإنجاز هذا البحث قمنا بتقسيمه إلى خمسة فصول هي:

الفصل الأول: حاولنا أن نضع القواعد الأساسية للعمل، وهي إشكالية الدراسة بما تتضمّنه من سؤال رئيسي وأسئلة فرعية، وقد حدّدنا مسار البحث وتوجّهاته من خلال تحديد: الأسباب الذاتية والموضوعية لاختيارنا للموضوع، والاعتبارات التي تنبع منها أهمية الدراسة والأهداف المرجوّة منها، ثم عرض مفاهيم الدراسة الأساسية وبعض المفاهيم ذات العلاقة من الناحية اللغوية، الاصطلاحية والإجرائية، ومقاربة منهجية تمثّلت في المنهج التحليلي النقدي، والمنهج الإحصائي.

الفصل الثاني: نحاول من خلال هذا الفصل، الكشف عن قيمة الحوار إنسانيًّا وحضاريًّا من خلال العناصر التالية: تضمن الجزء الأول من الفصل، البحث عن الحوار الفكري والعلاقة بين الأنا والآخر، ولتجسيد هذه الفكرة، تطرّقنا إلى الحوار من حيث، أهميته، أهدافه، أنواعه، آداب وأخلاقيات الحوار، معوّقاته، وظّفنا بعضًا من الدراسات التي اهتمت بموضوع الحوار ومناقشتها، وفي ختام هذا الجزء طرحنا إشكالية من بين الإشكالات التي يطرحها البحث حول العلاقة بين الأنا والآخر، وهي طبيعة العلاقة بين الحضارات من خلال طرح التساؤل التالي: هل هي علاقة صراع؟ أم حوار؟ أم تعارف؟

أما الجزء الثاني فيبحث عن ثقافة الحوار في الفضاء الجامعي، وقبل ذلك نرجع إلى ثقافة الحوار في التراث العربي الإسلامي، ثم التعرّف إلى مصادر ثقافة الحوار، لكن الأهم معرفة مظاهر ثقافة الحوار لدى النخب العربية بمختلف الفضاءات العلمية، ثم التعرّف إلى أهمية تعزيز ثقافة الحوار بالفضاء الجامعي.

الفصل الثالث: حاولنا معالجة موضوع الجامعة العربية وإشكالية بناء المعرفة السوسيولوجية، من منظور إبستيمولوجي؛ لأن موضوع المعرفة العلمية من ضمن المباحث الأساسية في فلسفة العلوم الاجتماعية، بحثنا في الجزء الأول من هذا الفصل: المعرفة العلمية الأكاديمية (مفاهيم ونظريات)، من خلال ماهية المعرفة العلمية، أنواعها وطرق الحصول عليها، أهم الدراسات التي اهتمت بالمعرفة العلمية الجامعية، وفي الجزء الثاني منه حاولنا أن نتطرّق لأبعاد أزمة المعرفة العلمية السوسيولوجية، والتي ترجع في أساسها إلى أزمة في الفكر العربي، والذي انعكس من حيث التطبيق على البحث السوسيولوجي بالعالم العربي، ومعالجة الموضوع سيكون على مستوى الجامعة الجزائرية، بتتبع مسار تطوّر البحث العلمي، ومن خلال دراسة وأبحاث حول مستوى تطوّر المعرفة السوسيولوجية بالجامعة الجزائرية، يلاحظ أن هناك إشكالات عديدة تعترض مسار هذا التطوّر.

الفصل الرابع: ركّزنا في هذا الفصل على معوّقات تطوّر المعرفة السوسيولوجية -التعصّب الفكري نموذجًا-، وللبحث في خبايا هذه الظاهرة، وظّفنا العناصر التي يمكنها أن توضّح لنا بشكل أدق ماهية التعصّب الفكري، خصائص وسمات الفرد المتعصّب فكريًّا، طرق مواجهة التعصّب الفكري، دراسات حول التعصّب الفكري، البحث عن عوامل انتشار ظاهرة التعصّب في الوطن العربي، وفي الجزء الثاني من هذا الفصل تعرضنا لأهم النظريات المفسرّة للتعصّب الفكري.

الفصل الخامس: لإبراز أهمية الحوار الفكري في ترقية المعرفة العلمية، وظّفنا نماذج لأنشطة بحثية، دولية، عربية، تتمثّل في: المؤتمرات والملتقيات، مدرسة شيكاغو، مدرسة فرانكفورت، مركز دراسات الوحدة العربية، المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، نظرًا لما حقّقته هذه المؤسّسات من نتائج إيجابية، خاصّة فيما يتعلّق الأمر بمدرسة شيكاغو ومدرسة فرانكفورت.

وفيما يخصّ الحوار الفكري الأكاديمي، فقد ارتأينا أنَّ أحسن نموذج يمكن الاستشهاد به هو المؤسسة الجامعية من خلال الإنتاج العلمي لأفضل عشر جامعات وطنية، ثم قدّمنا نظرة حول أداء مخابر البحث في ضوء الدراسات الميدانية، باعتبارها من أهم الآليات التي أنشأتها الوزارة لتفعيل وتطوير البحث العلمي الأكاديمي، وفي الأخير مناقشة عامة لنتائج الدراسة.

أولًا: إشكالية الدراسة

يعدّ الحوار إحدى أبرز السِّمات الحضارية للإنسان المعاصر، بل يعتبر من أهم وسائل التواصل الفكري والثقافي والاجتماعي التي تتطلّبها الحياة المعاصرة، نظرًا لما يشكّله من أثر في تنمية قدرة الأفراد على التفكير المشترك من خلال تبادل الأفكار ونقل الخبرات والإبداع والتواصل مع الآخرين والتفاعل معهم.

ومن هذا المنظور يشكّل الحوار ظاهرة صحية في المجتمع وركيزة فكرية وثقافية، يستطيع بها الفرد أن يوصل أفكاره إلى الآخرين بالحجة والبرهان، وعند النظر إلى أصول الحوار، نجد أنه وجد مع الإنسان بل وجد قبل وجود الإنسان وذلك ما جاء في القرآن الكريم من حوار المولى عز وجل مع إبليس لعنة الله عليه عند خلق آدم (عليه السلام) {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[1].

وجاء أيضًا في الحضارات اليونانية القديمة بملامح متميّزة كما عند سقراط، الذي اعتمد في طريقته على طرح الأسئلة والأجوبة ومناقشة الإجابات عن طريق الأسئلة أيضًا، وحينما جاء الإسلام سعى إلى تحرير العقول من الوثنية وكان الهدف الرئيسي في الإسلام وصول الناس إلى الحقيقة بالطريقة التي تعمّق الإيمان في نفوسهم وشرح صدورهم.

لقد أدّى تطوّر المجتمعات البشرية في جوانبها الاقتصادية، الثقافية، السياسية... إلخ إلى تعقّد الحياة الإنسانية، وإلى ظهور أزمات دولية مختلفة، الأمر الذي أصبح فيه الحوار ضرورة ملحّة تفرضها الصراعات الحضارية القائمة، التي أفضت إلى ظهور أصناف مختلفة من الحوار بتنوّع أطرافها، أهدافها ووسائلها والجهات المشرفة عليها مثل: (حوار الأديان، الحوار المسيحي الإسلامي، حوار الحضارات، حوار الثقافات، حوار شمال جنوب، الحوار العربي الأوروبي، الحوار الاجتماعي، الحوار الفكري... إلخ).

الأمر الذي أدّى بالكثير من الباحثين إلى دعوة تقتضي ترقية الحوار باعتباره فلسفة في التفكير وأسلوبًا في التعامل مع الآخرين في كل المجالات خاصة المؤسسات التعليمية، وفي صدارتها الجامعة؛ لأن وجود الجامعة مقترن أساسًا بالتنمية، لأنها منتجة للعلم والفكر ومؤسسة للحضارة الإنسانية، وقد حدّدت القوانين الدولية رسالة الجامعة في التدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع، فهي مركز لتوليد المعرفة العلمية، ومركز للإشعاع الحضاري.

عملت المؤسّسة الجامعية الجزائرية على خلق آليات لتفعيل حركة البحث العلمي، كالملتقيات والندوات والمؤتمرات، ومخابر للبحث العلمي، بهدف ترقية ثقافة الحوار الفكري الأكاديمي، التي أثبتت فعاليتها على مستوى الجامعات الغربية.

لكن هناك من الباحثين في طبيعة معوّقات البحث العلمي، يرى أن هذه القنوات الحوارية التي يطلق عليها فضاءات للحوار الفكري والنقاش العلمي الجاد والهادف، تحوّلت هي كذلك إلى فضاءات للصراع وإلى ساحة للمصارعة.

يصدر هذا السلوك من فئة يقدّمون أنفسهم على أنهم مثقفو الأمة، بدليل طبيعة المنتوج الفكري الهابط الذي تنتجه الجامعة الجزائرية، وهذا ما حدّدته بعض المؤشّرات، منها ما تقدّمه التقارير العالمية وحتى العربية التي تصنّف الجامعات وفقًا لمنتوجها البحثي النوعي وليس الكمي، بالإضافة إلى حالة المجتمع الذي يتخبّط في الكثير من المشاكل، الأمر الذي استدعى من الباحثين والدارسين للشأن الجامعي، إلى البحث عن العوامل التي تحدّ من إنتاج معرفة علمية متطوّرة يمكن أن تكون منافسًا للمنتوج العلمي العربي والغربي.

لقد أشارت الأدبيات التاريخية إلى أن الحوار الفكري تعترضه جملة من المعوّقات من بينها ظاهرة التعصّب الذي عرفته البشرية خلال تاريخها الطويل، فقد حفظ لنا الشعر العربي معلومات عن التعصّب القبلي والديني والطائفي، وسجّل التاريخ حالات لا حصر لها من التعصّب، وفي كل مرة تطل برأسها بأسماء وأهداف ورؤى جديدة تتناسب مع واقع المرحلة التاريخية التي تمرّ بها المجتمعات.

ففي التاريخ المعاصر برزت حركات تعصّب وعنف وإرهاب، اصطبغت تارة بالفكر الاشتراكي أو الشيوعي، وتارة بالقومية والعنصرية، وتارة بالصبغة الدينية إذ لم يعد بالإمكان أن يتجاهل دعوات وحركات عنف مثل الألوية الحمراء في إيطاليا، وبادر ماينهوف في ألمانيا، وحركة أوم في اليابان، الجيش الجمهوري في إيرلندا الشمالية، منظمة إيتا في منطقة الباسك الإسبانية، حركة 17 نوفمبر في اليونان، الحركات الهندوسية المتطرّفة في الهند، وبعض الحركات الثورية اليسارية في أمريكا الجنوبية، ظهور العبودية في أمريكا منذ نُقل الإفريقيون إلى فرجينيا وتحوّلوا إلى عبيد، وشجّع الإنجليز حركة التمييز العنصري المماثلة في إفريقيا، أما في ألمانيا فقد ظهرت النازية وهي التي تدعو إلى احتقار أي جنس غير آري.

وهناك أمثلة أخرى لا بد من الإشارة إليها منها على سبيل المثال: في سنة 1995 شهدت بورندي ورواندا نزاعًا أخذت شكل الإبادة البشرية بين جماعتين هما التوستي والهوتو. وفي 1975م شهدت لبنان حربًا أهلية بسبب التعصّب الديني والطائفي، وما تعيشه الكثير من الدول العربية منذ سنوات من صراعات مختلفة بسبب الفكر التعصّبي، مثلما يحدث في كل من اليمن، ليبيا، سوريا، العراق... إلخ من مظاهر العنف والتطرّف نتيجة لانتشار التعصّب.

وقد ظهر التعصّب باعتباره مشكلة بحثية تستحق الدراسة من قبل علماء الاجتماع وعلماء النفس في العشرينات من القرن الماضي، وتدرج تيار البحوث منذ الثلاثينات إلى غاية بداية الأربعينات، ثم عرف عدد البحوث منحى تصاعديًّا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ حاولت هذه البحوث الكشف عن أسرار ظاهرة التعصّب، ومعرفة أشكاله وأسبابه ونتائجه، التي تشمل مختلف جوانب المجتمع وتؤثّر في كافة أفراده، عندما يصل التعصّب إلى درجات عالية يكون العنف والتدمير والخراب هو هدفها ومرادها الأسمى.

ومن هذه الدراسات على المستوى العربي، والتي اهتمت بالجامعة كميدان للدراسة وتشكّلت عيّنة الدراسة من الطلبة والأساتذة مثل دراسة: يوسف زكريا إبراهيم الداعور «الدور التربوي للجامعات الفلسطينية في مواجهة التعصّب الحزبي لدى طلبتها.. من وجهة نظر أعضاء الهيئة التدريسية»، ودراسة عيسى محمد الأنصاري التي عالجت موضوع: «التعصّب القبلي والطائفي في جامعة الكويت»، ودراسة حسين سرمك ومفيد عبد الرؤوف، إذ هدف الباحثان إلى دراسة مظاهر التعصّب لدى طلبة جامعة القاهرة»... إلخ، وهناك دراسات عديدة اهتمت بالتعصّب بالوسط الجامعي على المستوى العربي والدولي، ولكنها شبه منعدمة على المستوى الوطني.

ومن بين هذه الجهود البحثية ما أسهم به علماء الاجتماع مثل المدرسة الاجتماعية في تفسير ظاهرة التعصّب التي ترد كل شيء إلى تأثير المجتمع وأوضاعه وتقاليده، وما المرء إلَّا دمية يحرّك خيوطها المجتمع كما يقول دوركايم، في حين أن المدرسة المادية التاريخية تضع الاعتبارات المادية كأساس لتفسير الظاهرة، فمثلًا ترى أن الدوافع الاقتصادية هي التي تصنع الأحداث وتغيّر التاريخ.

فيما يخصّ مساهمة بعض علماء علم النفس الاجتماعي ما قدّمته النظريات المعرفية، تؤكّد هذه النظريات على أهمية العمليات المعرفية التي تحدث لدى الأفراد في نشأة الاتجاهات التعصّبية ونموها، أما نظرية الصراع بين الجماعات فهي تركّز اهتمامها على معرفة متى وكيف تنشأ الاتجاهات التعصّبية في مجتمع معيّن أو ثقافة معيّنة أو جماعة معيّنة نتيجة أشكال الصراع المختلفة التي تنتج من تفاعل هذه المجتمعات.

ونظرًا لأهمية الموضوع وخطورته الذي فرض نفسه على الواقع الاجتماعي على كل المستويات و في كل المجالات، حاولنا أن نركّز في دراستنا هذه، على ظاهرة التعصّب الفكري، لأننا ونحن في مرحلة اختيار موضوع الأطروحة، لاحظنا قلّة الدراسات حول التعصّب الفكري.

وعلى العكس من ذلك اهتمّت أغلب البحوث بدراسة أشكال التعصّب الأخرى، كالديني، الحزبي، الطائفي، واستكمالًا لمجهودات الباحثين حول موضوع التعصّب، كان اهتمامنا موجّها نحو التعصّب الفكري، الذي نعتبره القضية الأساسية في دراسـة أي نوع من أنواع التعصّب، فالفكر مصدر أي توجّه سياسي، حزبي، أو ديني...إلخ، فهو مصدر الأزمات التي تتخبط فيها المجتمعات العربية، فالمجتمعات الإنسانية ارتقت وتغيّرت عندما شغّل الفكر الإنساني دواليب التفكير، فانتقلت الإنسانية بفضل عباقرة وعلماء في تخصّصات مختلفة إلى تغيير الرؤية للعالم المادي والإنساني.

أصبح التعصّب الفكري السمة المميّزة لأسلوب النقاش والحوار بين أفراد النخبة ورفض فكر الآخر وعدم قبوله الاستماع إليه، ونظرًا لمجال تخصّصنا وهو علم الاجتماع، سنحاول مقاربة الظاهرة على مستوى المعرفة السوسيولوجية وما تعيشه هذه الأخيرة من أزمات بالجامعة الجزائرية. ومنذ السنوات الأولى لميلاد علم الاجتماع بالجزائر، طرحت إشكاليات عديدة حول وضعية علم الاجتماع بالوطن العربي، التي اهتمت بها عدد من المؤتمرات العربية منها:

- مؤتمر أبو ظبي: نحو علم الاجتماع العربي، أبريل 1984.

- مؤتمر: أخلاقيات البحث العلمي الاجتماعي، القاهرة 1995؟

- ندوة: الممارسة السوسيولوجية في الجامعة الجزائرية 2011.

- أعمال المؤتمر بالجزائر الذي تم انعقاده سنة 2012 حول مستقبل العلوم الاجتماعية في الوطن العربي.

ولحد الآن لا زال الموضوع مطروحًا بحدّة، رغم أنه لم يصبح مولودًا جديدًا، بل كبر ونضج إلى مرحلة يمكن اعتبارها كافية لأن يعتمد عليه في معالجة قضايا المجتمع الشائكة والمتراكمة، هذا دليل واضح على أن أزمة علم الاجتماع لا زالت تخيّم بظلالها على الساحة الفكرية العربية، خصّصت لهذا الموضوع ملتقيات وندوات ومؤتمرات سواء على المستوى العربي والوطني، نشطها أعمدة السوسيولوجيا بالعالم العربي، للبحث في عوامل الأزمة.

ونظرًا للتأثير السلبي للتعصّب الفكري على تطوّر المعرفة السوسيولوجية، فالأمر يحتاج الكثير من البحث والتدقيق الموضوعي عن أسبابها ومظاهرها؛ لأن المجتمعات العربية لم تستطيع التخلّص أو حل مجمل الأزمات الخطيرة التي تعيشها.

ومن هذا المنظور حاولنا بلورة إشكالية بحثنا في صيغة سؤال مركزي على النحو الآتي: إلى أيّ حدّ يؤثّر التعصّب الفكري لدى الباحث الاجتماعي في ترقية المعرفة العلمية في حقل العلوم الاجتماعية؟

للإجابة عن هذا السؤال حاولنا اشتقاق أسئلة فرعية تمكّننا من الإجابة عن هذا السؤال المركزي وهي:

- ما هي البنية النفسو-اجتماعية والمعرفية للأستاذ الجامعي المحدّدة لممارساته الحوارية الفكرية في الفضاء الجامعي؟

- هل واقع الممارسة السوسيولوجية في الفضاءات الجامعية تنبئ بنمو وتطوّر روح الحوار البناء؟

- كيف يؤثّر التعصّب الفكري في ترقية البحث العلمي السوسيولوجي؟

- هل يسهم الحوار الفكري في التخفيف من حدّة التعصّب في مجال البحث السوسيولوجي؟

ثانيًا: أسباب اختيار الموضوع

يمكن اعتبار عملية اختيار موضوع بحث، وخاصة ما يتعلّق بأطروحة دكتوراه، من العمليات المعقّدة جدًّا، قد تتطلّب من الباحث وقتًا وجهدًا مكثّفًا، حتى لا يقع الباحث فيما بعد في أخطاء منهجية قد تعيده إلى نقطة البداية؛ لذلك نرى أن يأخذ الباحث الوقت الكافي ويوسّع مشاوراته مع أساتذة وباحثين، حتى يتفادى هذه الانزلاقات أو السقطات التي أوقعت الكثير من الباحثين.

منطلقنا الأولي في اختيار هذا الموضوع، هو ملاحظة في بدايتها كانت تذمّرًا وانتقادًا لسلوك الأساتذة الباحثين في مواقف مختلفة، ثم تطوّرت الفكرة إلى ملاحظة علمية، تجسّدت في طرح أسئلة عديدة بين: لماذا؟ وكيف؟

ومنه تولّدت لنا الرغبة الشديدة لدراسة هذا الموضوع انطلاقًا من الأسباب الذاتية والموضوعية التالية:

1- محاولة لتلبية الفضول العلمي، نظرًا لما يمثّله موضوع الحوار من أهمية كبيرة في الحياة الإنسانية، والذي أصبح منذ سنوات، الموضوع الأكثر تناولًا على المستوى العربي والدولي نتيجة لعدة متغيّرات أهمها قضية العولمة وما تشكّله من آثار سواء كانت إيجابية أو سلبية على الدولة القومية بكل أنساقها.

2- إن المتتبع للحوار والنقاش الفكري من خلال النشاطات والمناسبات العلمية والبيداغوجية والندوات وحتى على شاشات التلفزيون، يرى كيف تدور حلقات النقاش أو بالأحرى الجدال الذي كثيرًا ما يصل إلى مستوى السب والشتم، الأمر الذي أثار فينا الرغبة للاطلاع والتعرّف إلى العوامل الكامنة وراء هذا التعصّب للرأي حيث كل طرف متمسّك برأيه.

3- ضعف وهشاشة ومحدودية مستوى ثقافة الحوار لدى النخبة ومثقفي الأمة، خاصة على مستوى الباحثين في حقل العلم الذين لا يحتكمون للعقل والمنطق العلمي، الذي من المفروض أن يكون الحكم والفاصل في المواضيع العلمية والفكرية.

ثالثًا: أهمية الموضـوع

1- تكتسب هذه الدراسة أهميتها من طبيعة مادتها البحثية النادرة وهي مسألة الحوار الفكري والتعصّب الفكري، وأثرهما في ترقية المعرفة العلمية وتدهورها.

2- وتكمن أهمية هذا الموضوع في كون الحوار بكل أشكاله، قيمة إنسانية ومعلم مغيّب من المعالم الحضارية الدالة على رقي الإنسانية وتطوّرها.

3- نظرًا للأهمية العلمية والبحثية التي يتميّز بها الموضوع، وما يمكن أن يقدّمه من إضافة في مجال البحث، خاصة وأنه يركّز على أهم فئة مهنية التي تشتغل بالبحث العلمي، والكل يدرك قيمة البحث العلمي في تنمية المجتمع، لأن امتلاك المعرفة يعني امتلاك القوة.

4- يكتسي هذا الموضوع أيضًا أهمية على المستوى الاجتماعي، لما يقدّمه من معارف ونظريات تمكننا من ترقية الفكر الحواري داخل المجتمع حتى لا يقتصر على أفراد النخبة، فالحوار عملية مطلبية اجتماعية بدءًا من الأسرة والمؤسسات بمختلف أنواعها ونشاطاتها.

5- كما تكمن أهمية الدراسة في تأثيرات التعصّب الفكري السلبية على سير عملية البحث العلمي داخل الفضاءات العلمية والبيداغوجية، وهذا التأثير انعكس على العملية التعليمية ككل.

رابعًا: أهداف الموضوع

تسعى هذه الدراسة إلى تحقيق أهداف تم تحديدها وفقًا لما تضمّنته فصول هذا البحث، حيث خضع تقسيم فصول الموضوع إلى ما نودّ معالجته، وما هي أهداف كل فصل من الفصول، وهذه الأهداف هي:

1- التعرّف إلى قيمة الحوار إنسانيًّا وحضاريًّا، وما هي المبادئ الأخلاقية التي تحدّد طبيعة العلاقة بين الأنا والآخر.

2- التعرّف إلى طبيعة الحوار الفكري الذي يميّز النخب العربية.

3- التعرف إلى معوّقات البحث العلمي بشكل عام، والبحث السوسيولوجي بشكل خاص.

4- التعرف إلى واقع البحث السوسيولوجي بالجزائر، من خلال مختلف النشاطات التي يقوم بها الباحثون بالفضاءات الجامعية

5- الكشف عن مظاهر التعصّب الفكري ومدى انتشاره بالمؤسسة الجامعية، وما يشكّله من خطورة على النشاط الفكري للباحث السوسيولوجي.

6- توضيح علاقة التأثير والتأثّر بين التعصّب الفكري والبحث السوسيولوجي.

7- إبراز أهمية ودور الحوار الفكري في الحدّ من التعصّب الفكري.

خامسًا: منهج الدراسة

يحدّد أصحاب المنطق مفهوم المنهج في أنه «فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة، إمّا من أجل الكشف عن الحقيقة، حين نكون بها جاهلين، أو من أجل البرهنة عليها للآخرين، حين نكون بها عارفين».

والمنهج بمعناه الاصطلاحي: «هو الطريق المؤدّي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم، بواسطة طائفة من القواعد العامة تهيمن على سير العقل وتحدّد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة»[2].

اعتمدنا في معالجة هذه الدراسة على منهج التحليل النقدي، وفقًا لمبرّرات منطقية، أهمّها طبيعة الموضوع، حيث تنتمي الدراسة لحقول معرفية متنوّعة هي: علم الاجتماع، علم النفس الاجتماعي، فلسفة العلوم، نظرية المعرفة، وهذه الأخيرة تبحث في إشكالات إبستمولوجية متعدّدة؛ لأن البحث في طبيعة المعرفة، ومصدرها وطرق الحصول عليها لا زالت محل نقد إبستمولوجي مستمر من طرف المفكّرين.

لقد أخذ النقد الإبستمولوجي على عاتقه نقد الإنتاج العلمي أو تحديد وضعية أي علم، كذلك إبراز ومعرفة الأسس الإبستمولوجية التي تنطلق منها العلوم، يبحث عن العوائق التي تعترض تطوّر وتقدّم العلوم، كما يهدف أيضًا إلى نقد النظريات السائدة لفهم الواقع؛ لأنه وليس من باب المبالغة أن الفكر النقدي ظهر لإحداث القطيعة مع الفكر الدوغمائي والأيديولوجي، فمن مميّزاته أنه ينطلق دائمًا من الحاضر، وهو مستعد للتخلّي عن فرضياته إذا ما أثبت الواقع خطأها، وهو أيضًا فكر شكّاك؛ لأنه فكر يعرف جيدًا أن الواقع أكثر تعقيدًا، مملوء بالمفاجآت والانقطاعات.

انطلقنا في تحليلنا لأزمة السوسيولوجيا العربية، من إشكالية معرفية وهي أزمة الفكر العلمي الغربي والعربي، لكن الأزمة مطروحة بأكثر حدّة على الساحة العربية؛ لأنه ولحد الآن لم تتوصّل السوسيولوجيا العربية إلى إحداث ثورة معرفية حقيقية على مستوى المناهج والأدوات والنظريات، فالدراسات والبحوث بالدول العربية، لا زالت تعالج وفق أسس وقواعد علمية أسّسها الأوائل بالتحديد ما حقّقته السوسيولوجيا الغربية، الأمر الذي يستدعي توسيع عملية حوار فكري موسع بين مختلف تخصّصات العلوم الاجتماعية، لأنه بالحوار العلمي الجاد والهادف فقط يمكن أن نتعرّف إلى أسباب أزمة السوسيولوجيا العربية، التي يقرّها ويعترف بها أعمدة الفكر السوسيولوجي في الوطن العربي وحتى الغربي، والأزمة لا تخصّ السوسيولوجيا فقط، فهي تنطبق حتى على المعارف الطبيعية والتقنية.

وجّه للفكر العربي انتقادات من طرف الكثير من المفكّرين، أبرزهم: محمد عابد الجابري، محمد آركون، جورج طرابيشي، علي حرب، برهان غليون... إلخ، يُرجع كل واحد منهم أزمة الفكر العربي إلى أحد العوامل، منهم من ركّز على العوامل الثقافية، وآخرون ركّزوا على عامل التراث، ومنهم من اعتبر الدين المتسبّب الرئيسي لهذه الأزمة، وكذلك العوامل السياسية... إلخ.

ورغم هذه الانتقادات التي ترجمت في أعمال فكرية ضخمة، على غرار ما قدّمه الجابري في سلسلة مؤلّفات تمحورت حول فكرة أساسية واحدة وهي (أزمة العقل العربي)، إلَّا أن الفعل المعرفي للنخب العربية وباعتراف تقارير عربية ودولية لم يرتقِ بعدُ إلى مستوى الإنتاج المعرفي الغربي الذي يتّصف بالتجديد والإبداع.

فنتج عن أزمة الفكر العربي، أزمة الفكر السوسيولوجي، حيث حاولنا الحفر عميقًا في جذور الأزمة بالتطرّق للعديد من المساهمات العربية والوطنية، حتى نتعرّف إلى أيِّ حدٍّ استطاع العقل العلمي للباحث السوسيولوجي أن يبحث أكثر في عمق الأزمة، قليلة هي الدراسات التي حاولت أن تبحث في الجانب الإبستمولوجي للمشكلة.

إن تحليل الوضعية الحالية لعلم الاجتماع في الوطن العربي، تقودنا إلى طرحها على المستوى المؤسّسات الأكاديمية، خاصة فيما يخصّ الإنتاج العلمي للمؤسّسة الجامعية، ومقارنتها بما تنتجه مراكز بحث عربية وغربية، أين استطاعت هذه المؤسّسات أن تحقّق قفزة نوعية في البحث السوسيولوجي؟ فكثيرة هي الملتقيات والندوات التي طرحت أزمة علم الاجتماع في الوطن العربي، في محاولة لإعادة تأسيس علم الاجتماع جديد يكون قادرًا بمناهجه وأدواته ونظرياته، على حلّ مشاكل المجتمعات العربية المتراكمة.

لذلك ينطلق الباحثون في نقدهم للمعرفة السوسيولوجية، من مبرّرات وجود هذه المعرفة وشروط إنتاجها، إذا كانت المعرفة بشكل عام عبارة عن شكل من أشكال التفكير الإنساني، فإن أيَّ تأخّر أو تراجع في تطوّر المعرفة، مردُّه إلى تعطُّل هذا الفكر في إنتاجها، فلا يقتصر البحث في أزمة السوسيولوجيا على البحث في إشكالياتها المنهجية ونقد نظرياتها، بل البحث عن الشروط الإبستيمية لقيامها ومدى وعي الفكر بواقعه لإنتاجها.

لقد سبق وإن اهتم بهذا الموضوع علماء ومفكّرون في محاولةٍ لنقد المعرفة السوسيولوجية والخروج بمنهج نقدي يسمح بتفكيك هذه المعرفة ومعرفة خلفياتها النظرية وبالتالي إعادة بنائها بما يتلاءم والواقع الذي تدرسه[3].

ويضيف محمد عزت حجازي قائلًا: «إن النظرة التحليلية النقدية لواقع العلم تنتهي بنا إلى أنه يمرّ بأزمة، فقد نشأ وتطوّر، وما زال هزيلًا لا يوفّر مقولات نظرية خصبة قادرة على الإيحاء بأفكار تعين على النماء والتجدُّد، ومناهج يمكن أن تقود إلى نتائج صلبة، كان وما زال منعزلًا ومغتربًا عن الواقع الاجتماعي الحي...»[4].

لقد أرجع محمد عزت حجازي، أزمة علم الاجتماع إلى المشتغلين به، وقد نتفق مع هذه الرؤية، التي حاولنا نحن بدورنا أن نركز على المشتغلين بعلم الاجتماع بالتساؤل حول: إلى أيِّ حدٍّ ساهم الباحث في العلوم الاجتماعية في تطوّر حدّة الأزمة؟

ولفهم طبيعة الأزمة، وبالاعتماد على المنهج النقدي التحليلي، نموذجنا الذي نقتدي به حول أهمية النقد ودوره في طرح الإشكاليات الراهنة بصورة جديدة ومتجدّدة، هو المدرسة النقدية المتمثّلة في (مدرسة فرانكفورت )، أن نوجّه النقد لطبيعة المنتوج الفكري السوسيولوجي بالعالم العربي، وذلك بتتبّع المسارات التاريخية التي تطوّر فيها علم الاجتماع بالعالم العربي، وهل وفّقت المعرفة السوسيولوجية الحالية في تحقيق نظرة تكاملية للظاهرة الاجتماعية بالعالم العربي.

ثم كان لنا أن نقارن بين وضعية السوسيولوجيا العربية ذات المنشأ الغربي، بالسوسيولوجيا الغربية ذات المنشأ الأصلي، الأمر الذي أدَّى بنا إلى طرح السؤال التالي: هل أثّر منشأ السوسيولوجيا بأدواتها ونظرياتها ومنهجياتها، على السوسيولوجيا العربية نظريًّا وعمليًّا؟ وهي أحد الإشكاليات التي طرحت ولا زالت تطرح بشدة على المفكّر العربي، وهل البدائل التي بدأت تأخذ طريقها في الانتشار لحل الأزمة وجدت لنفسها مؤيدين؟ وهل استطاع أصحاب هذا الاتجاه أن يقدّموا نظرية متكاملة مستوفية كل الشروط التي تبنى عليها النظريات العلمية، أن تؤسّس فعلًا لسوسيولوجيا عربية حديثة؟

لذلك نحن نطرح الأسئلة التالية: إذا كنا نملك عقولًا فكرية منتشرة على قدر شساعة مساحة الوطن العربي، أليس باستطاعتها تشخيص الأزمة في محاولة لإيجاد حلول لها؟ أم أن هذه العقول هي الأخرى تتميّز بفكر تعصّبي لأيديولوجيات وتوجّهات فكرية معينة؟

الأمر الذي قادنا أن نبحث في موضوع التعصّب وما علاقته بتطوّر البحث العلمي، فعملية النقد توجّه أولًا للمشتغلين بالسوسيولوجيا حسب محمد عزت حجازي؛ لأنهم هم من يفكّر ويبدع، ويبرهن على أفكاره بالأدلة والبراهين، فالعملية تبدأ منه وتنتهي إليه، قبل نقد النظريات والمناهج والأدوات، فالأزمة في الأصل تعود إلى أزمة الفكر العربي ورغم ما طرح من مبادرات لفهم أزمة الفكر العربي، نحن نظن أننا ما زلنا بعيدين عن التشخيص الحقيقي للأزمة؛ لذلك فرض علينا أن نتحدّث على الحوار وكيفية إرساء ثقافة الحوار وتعزيزها بين الباحثين والمفكّرين، فاطّلاعنا على بعض الحوارات الفكرية بين قامات الفكر العربي، وجدنا أنها تنتهي بالخصام والتجريح والتشكيك في الهوية الوطنية.

لذلك لا بد من تضافر الجهود، بمعنى توحيد الرؤى والاتجاهات عن طريق عملية الحوار الفعّال والجاد بين المشتغلين في حقل السوسيولوجيا؛ لأن الاختلاف في وجهات النظر لا يمكن أن يؤسّس لعلم اجتماع قادر على معالجة مشكلات المجتمع العربي المتراكمة والتي ازدادت تراكمًا في السنوات الأخيرة.

والباحث السوسيولوجي يشاهد المنظر من بعيد كغيره من الناس العاديين، وخير دليل ما تعيشه الجامعة من مشكلات على مستوى البحث العلمي، والباحثين منقسمين إلى صنفين من هم من يندّد دون أن يقدّم حلولًا، ومنهم من يتفرّج لأن الوضع على ما هو عليه لا يشكّل له قلقًا معرفيًّا.

لذلك فمعالجة هذا الموضوع وفق المنهج النقدي التحليلي، بالاعتماد على مؤشّرات خاصة بالبحث العلمي الأكاديمي، هو الأنسب للكشف عن طبيعة الحوار الفكري بالفضاء الجامعي، وإلى أيِّ حدٍّ يؤثّر التعصّب على مسار تطوّر المعرفة السوسيولوجية؟

ونظرًا لطبيعة الموضوع تمَّ توظيف المنهج الإحصائي كمنج مساعد، باعتباره منهج كمّي، بإمكانه أن يقدّم لنا دلالة توضيحية عن بعض المؤشّرات، خاصة فيما يتعلّق بواقع البحث العلمي، خاصة على مستوى البحث السوسيولوجي بالعالم العربي والجزائري.

 

 

 



[1] سورة ص، الآيات: 75-77.

 

[2] عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، الكويت: وكالة المطبوعات، ط3، 1977، ص ص4-5.

 

[3] يوسف حنطابلي، إشكالية السؤال السوسيولوجي في الفكر العربي المعاصر الواقع العربي بين ماضي الأنا وحاضر الآخر.. دراسة تحليلية نقدية، أطروحة دكتوراه في علم الاجتماع، تخصّص ثقافي، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الجزائر 1 (يوسف بن خدة)، الجزائر، 2008، ص ص43-47.

 

[4] محمد عزت حجازي، الأزمة الراهنة لعلم الاجتماع في الوطن العربي، نحو علم اجتماع عربي: علم الاجتماع المشكلات الاجتماعية والمشكلات العربية، بيروت - لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1986، ص 13.