فكرة المساواة[1]
برنارد وليامز*
ترجمة د. توفيق السيف**
ﷺ تمهيد
مسألة المساواة موضوع ثابت في الجدالات السياسية. وهي تبرز إلى النقاش –في العادة- على نحوين: أولهما، تقرير عن حقيقة أو ما يبدو كتقرير عن حقيقة، حين يقال مثلًا: «إن الناس متساوون». أما الثاني فهو ما يُصاغ في صيغة مبدأ سياسي أو هدف سياسي، حين يقال مثلًا: إنه ينبغي للناس أن يكونوا متساوين. وهي صيغة من الكلام توحي بأن المساواة غير متحقّقة في الوقت الراهن.
يمكن بطبيعة الحال أن يجتمع المعنيان. بل إن الكلام عن المساواة يقصد في الغالب كلا المعنيين. وفي هذه الحالة فإن غرض المتكلم هو:
أ- التأكيد على أن البشر جميعًا أَكْفَاء لبعضهم، رغم أن هذا التكافؤ ليس معترفًا به في وقت الكلام.
ب- الدعوة إلى تغيير وضع اللامساواة القائم، إلى وضع يضمن المساواة، التي تعبّر عن حقيقة البشر.
أجد أن استعمال فكرة المساواة في كلا المعنيين يعاني من ضعف. فهو يظهر في أحد التفسيرات بالغ القوة، لكنه يبدو في تفسير آخر، بالغ الضعف[2]. ويظهر لي أنه من الصعوبة بمكان العثور على تفسير مقبول، يقع في وسط المسافة، بين القوة الشديدة والوهن الشديد.
دعنا نأخذ الصيغة الأولى، أي ما افترضنا أنه تقرير عن الحقيقة (الناس متساوون). لطالما أشير في النقاشات المتعلّقة بالموضوع إلى أن الادّعاء بأن الناس متساوون في كافة الخصائص، أي الخصائص التي تسمح منطقيًّا بالقول بأن التساوي حقيقي أو غير حقيقي، هذا الادّعاء زيف واضح. وحتى لو تم فرز تلك الخصائص، التي يدّعى أنها تشكّل وعاء مناسبًا لدعوى المساواة، واقتصرنا على أكثرها علاقة بالموضوع، فإن تقرير المساواة كحقيقة لن يبدو أكثر قوة.
حين يواجه القائلون بأن «التساوي بين الناس حقيقة» هذا الاعتراض الواضح، فهم على الأرجح سيعرضون استدلالًا أضعف. سيقولون مثلًا: إن التساوي المقصود ليس في المؤهلات، أو الذكاء أو القوة أو الفضائل، بمعنى أن هذه الخصائص ليست هي الوعاء الذي يحوي حقيقة التساوي بين الناس. حقيقة التساوي قائمة على كونهم بشرًا: الإنسان كفء الإنسان لأنه إنسان، وكفى. إنسانيتهم المشتركة هي الوعاء الذي يحوي حقيقة التكافؤ فيما بينهم.
في هذا الاستدلال لا نبحث عن خصائص محدّدة، كي نعتبرها وعاء لقيمة التساوي بين الناس. بل نكتفي بتذكير أنفسنا بأن الناس جميعًا بشر مثلنا، وأن كل إنسان كفء لأخيه في الإنسانية.
قد يعترض على هذا الاستدلال بأن مجرّد كون البشر بشرًا، ليس اعتبارًا كافيًا للقول –على نحو محدّد– بأنهم متساوون. لكن دعنا نترك هذا الاعتراض في الوقت الراهن. فثمّة أمامنا اعتراض آخر ينطوي على تحدٍّ أكبر. فحوى هذا الاعتراض: أنه إذا كان غاية ما يرمي إليه ذلك الاستدلال، هو تذكيرنا بإنسانية الإنسان، فإنه لا يضيف إلى النقاش فكرة جديدة. وبكلمة أكثر تحديدًا، فأنه لا يضيف سوى القليل من الدعم لدعوى المطالبين بالمساواة في النقاش السياسي، دعم يقل بوضوح عمَّا يحتاجونه. إن ما بدا في الوهلة الأولى كمفارقة جدية paradox [3]، تحوّل –في نهاية المطاف– إلى حشو مكرّر.
سأقترح لاحقًا أنه حتى مع القول بضعف ذلك التقرير/ الاستدلال، فإنه ليس فارغًا، كما يوحي به قول المعترضين. لكن ينبغي الإقرار بأنه إذا اقتصرت دعوى المساواة على مضمون هذا التقرير، ولم تتجاوزه، فإنها ستنزلق سريعًا إلى مستوى أدنى ممّا يثير الاهتمام.
ثمّة نزعة مماثلة تميل لتجاوز المبدأ العملي للمساواة[4]. وخلاصة ما ترمي إليه هذه النزعة هي أن المبدأ العملي للمساواة لا ينبغي أن ينصرف حصرًا إلى معنى واحد، هو الدعوة لتوحيد المعاملة لجميع الناس في كل الظروف، بل ولا حتى أن يعاملوا على قدم المساواة كلما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. وفقًا لهذه النزعة فإن القدر المتّفق عليه من مبدأ المساواة، هو تطبيق المبدأ على الناس الذين يوجدون في ظروف متماثلة. ويرى أهل هذه الرؤية أنه ليس ثمّة عثرة تعيق الاستدلال على وجوب المساواة في الظروف المتماثلة.
يفهم من هذه الرؤية أن «الظروف» التي يجري الحديث عنها، تتضمن بالضرورة تعريفًا لما نعنيه حين نقول: «الإنسان». كما تتضمن إشارة إلى عوامل تحدد وضعه الخارجي (مثل اللون أو المكانة أو الوظيفة). لو أردنا إعادة صياغة هذه الفكرة في إطار منطقي، فسوف نجد أنها تعني بالضرورة أن كل معاملة تنطوي على تمييز بين الناس يجب أن تقام على قاعدة عامة، أو مبدأ يسمح بالتبرير العقلاني للتمايز (مثل اختلاف الظروف كما يقول أصحاب هذه الرؤية).
مع هذا التعديل ربما نكون قد خرجنا بمبدأ هام. الحقيقة أن البعض رأى فيه، أو رأى في شيء قريب الشبه به، عنصرًا من عناصر الأخلاقية. مع ذلك، فإنه من العسير جدًّا اعتبار هذه الرؤية مساوية (من الناحية العملية) للمبدأ الذي سبق تقديمه تحت اسم المساواة.
دعنا نأخذ تطبيقات هذه الرؤية المفترضة إلى نهاياتها، كي نتبين ما الذي ستنتهي إليه. بناء على القول بإمكانية اختلاف التعامل مع الناس وفقًا لاختلافهم، واختلاف الظروف التي تجري فيها المعاملة، فإنه سيكون مقبولًا -من الناحية الأخلاقية- معاملة الشخص الأسود على نحو مختلف عن الأبيض مثلًا، فقط وفقط لأنه أسود البشرة. أو معاملة الشخص الفقير على نحو مختلف عن معاملة الغني، لا لشيء إلَّا لأنه فقير. هذه بطبيعة الحال أمثلة متطرفة، لكنها تتطابق تمامًا مع المبدأ المذكور. وهي تكشف أن تلك الفكرة لا تنسجم مع مفهوم المساواة، عند أي من المؤمنين بها أو الداعين إليها.
ﷺ ثلاثة اعتبارات تدعم المضمون السياسي للمساواة
سوف أعرض في الصفحات التالية عددًا من الاعتبارات، التي تساعدنا على صون المضمون السياسي لمبدأ المساواة، من ذلك الجنوح المتطرف للابتذال والتفاهة. هذه الاعتبارات ليست جديدة، فلطالما استعملت في المجادلات السياسية. لكنها طرحت في حزمة واحدة مع مفهوم للمساواة غير مدقق، الأمر الذي أربك الداعين إلى ذلك المثال الرفيع، بينما أسعد المشككين فيه والمعارضين له.
ليس غرضي هنا هو تقديم تقرير ثالث لمفهوم المساواة، غير ما عرضناه في أول المقالة. في الحقيقة، فإن الاعتبارات التي أعرضها هنا لا تستطيع تكوين أساس مناسب لهذا. لكنها كافية لبناء شيء ينطوي، في مستوى العمل، على قدر من الصلابة التي تنتج عادة عن الاستدلالات الصلبة. هذا سيعالج الإشكال الذي عرضناه في أول المقالة، أي ضعف التقرير القائل بأن التساوي في الإنسانية هو وعاء المساواة بين الناس.
يهمني إعادة التذكير بأننا نتحدث هنا عن تقريرين متمايزين حول المساواة: تقرير عن حقيقة، أو ما يفترض أنه حقيقة، خلاصته «أن البشر متساوون». وتقرير ثانٍ هو دعوة إلى تطبيق موجبات هذه الحقيقة، خلاصته «يجب معاملة البشر على قدم المساواة». مع استذكار هذه الملاحظة، أشير أيضًا إلى أن النقاش التالي لن يتعامل مع التقريرين، كلٍّ على حدة، رغم أهمية التمييز بينهما على نحو واضح في بعض الأحوال على الأقل. وهو تمييز قائم على أرضية منطقية متينة. لكن –على أي حال– فإن اعتبارات مشابهة لما سنعرضه، سبق أن طبقت على كلا الحالتين.
يقف كلا التقريرين جنبًا إلى جنب في النقاشات السياسية؛ ذلك أن الغاية من التقرير الأول (المساواة كحقيقة) هو إسناد التقرير الثاني، أي منظومة المثل الاجتماعية وبرامج العمل السياسي (المساواة كدعوة). من ناحية ثانية، وهذه نقطة ربما تكون أقل وضوحًا، فإن تبنّي الجماعات السياسية لمبدأ المساواة، تعزّز برامجهم وتزيدها قوة ونفوذًا، ليس لأن المساواة تضيف جمالًا إلى المشهد السياسي أو تعزّز الانضباط مثلًا. هذه أهداف لا تولّد زخمًا سياسيًّا مؤثرًا. تحصل تلك البرامج على زخمها وقوة تأثيرها، من حقيقة أنها تتحدث عن حاجة حقيقية، يعتقد الناس أنها جزء من طبيعة الحياة السليمة، لكنها –لسبب ما– حجبت أو أغفلت في ظل التنظيم الاجتماعي القائم.
أما الاعتبارات الثلاثة التي سنعرضها هنا، فأولها يتعلّق بحقيقة الاشتراك في الطبيعة الإنسانية، ويتحدّث الثاني عن القابليات الأخلاقية للبشر كوعاء للتكافؤ، أما الثالث فيعالج إشكالية المساواة في ظروف غير متساوية.
1- الإنسانية المشتركة
لاحظنا أن تفسير المساواة انطلاقًا من تقرير الحقيقة (البشر متساوون) يتراجع عند التحليل، إلى مجرد تأكيد مكرر على ما سبق قوله، أي المساواة بين البشر كبشر. وينظر إلى هذا التكرار كإضافة قليلة الأهمية؛ لأنها لا تعالج أي خلاف حول ما سبق تقريره كدعوى. من هنا قيل: إن هذا التقرير وما يتبعه من تحليل أو تفسير لا يفي بالغرض.
رغم هذا الإشكال الأساسي فإننا ندّعي أن ذلك التقرير ليس تافهًا، كما وصف في أول المقالة. قولنا بأن كل البشر ينتمون إلى الجنس الإنساني، قد يعد تكرارًا لما هو معروف، لكنه تكرار مفيد؛ لأنه يذكرنا بأن أولئك الذين ينتمون إلى جنس الإنسان، ولديهم لغة، ويستخدمون الأدوات، ويعيشون في مجتمعات، ويمكن أن يتكاثروا على الرغم من الاختلافات العرقية... إلخ. يتشابهون أيضًا في نواحٍ أخرى محددة، لعلها مغفلة. من هذه الجوانب مثلًا القابلية للتألم بسبب المؤثرات المادية المباشرة، أو المؤثرات الأخرى التي تنعكس في الذهن على شكل مدركات أو نتائج تفكير. كما يتشابه البشر في القابلية للشعور بالمودة تجاه الآخرين، إضافة لما يترتب على هذه المشاعر، من ألم الفقد والإحباط والشعور بالخسارة... إلخ.
التأكيد على أن الناس متماثلون في هذه الخصائص ليس أمرًا تافهًا، مع أنه –بذاته- حقيقة لا تقبل الجدل، وقد يكون صحيحًا بالضرورة. إن أهمية التأكيد عليه تنبع من حقيقة أنه ثمّة ترتيبات في السياسة والمجتمع، تتناسى –بشكل منتظم- هذه الخصائص التي يشترك فيها كافة الناس، حين يتعلق الأمر بطوائف محددة منهم. بينما تضعها نصب العين حين يتعلق الأمر بطوائف أخرى. بعبارة أخرى فإن النظام السياسي أو الاجتماعي يتعامل مع الشريحة الأولى من المجتمع، وكأن أفرادها لا يملكون الخصائص المذكورة. حين يغفل القائمون على النظام الاجتماعي هذه الخصائص، فإنهم –تبعًا لذلك– يغفلون الدواعي الأخلاقية المنبعثة منها، وأبرزها المعاملة المتساوية للجميع، أو ربما يقبلونها على نحو انتقائي، يعطي للبعض معاملة متساوية، بينما يعطي لغيرهم معاملة أدنى.
من ذلك مثلًا المعاملة التمييزية ضد السود. فهي لا تقوم على إنكار كونهم بشرًا، بل إنكار حيازتهم لذات المشاعر التي يملكها البيض (مثل الشعور بالألم إزاء الإذلال) الأمر الذي يترتب عليه، معاملتهم على نحو مختلف عن معاملة البيض.
إشكال منطقي
قد يعترض على هذا، بالإشارة إلى الاختلاف المنطقي بين الإقرار بالحق وتطبيق مقتضياته. شرح ذلك: أنه حين تعامل المجموعة الحاكمة في بلد بعينه فئات من مواطنيها على النحو السابق (التمييزي) فهذا –بذاته– لا يعني أن هؤلاء الحكام ينكرون اشتراك جميع الناس في تلك الخصائص. لأنه قد يقال: إن الحاكمين ربما يقرون بحيازة الخصائص من جانب الفئة التي تعامل على نحو سيّئ. لكنهم لا يرون في حيازتهم لها مبررًا كافيًا لدعم المطالبات الأخلاقية (مثل المطالبة بالمعاملة المتساوية). ربما كانت هذه الفئة المظلومة قد عزلت عن بقية شرائح المجتمع، استنادًا إلى خصائص أخرى، غير ما ذكر (كونهم سود البشرة مثلًا). هذا قد يشار إليه في تبرير المعاملة التمييزية، سواء كانوا يشعرون بالمودة والألم أم لا. بعبارة أخرى: فإن المعاملة التمييزية تنسب هنا إلى سواد البشرة، وليس إلى قابلية أو افتقار الشخص الأسود للشعور بالمودة أو الألم.
يستند هذا النوع من الاعتراضات إلى فرضية متعارفة في طيف واسع من الفلسفة الأخلاقية، تفصل بشكل حازم بين الحقائق والقيم. وبموجب هذه الفرضية فإن السؤال حول ما إذا كان اعتبار بعينه ذا صلة بقضية أخلاقية أم لا، هذا السؤال بذاته يعتبر سؤالًا تقييميًّا، أي إنه يرمي إلى تقرير قيمة وليس عرض حقيقة. بتعبير آخر: فإن تقرير أن اعتبارًا ما ذو علاقة أو غير ذي علاقة بمبدأ أخلاقي محدد، يعتبر –في هذه الرؤية– انحيازًا إلى نوع معين من المبادئ أو الرؤى الأخلاقية. وفيما يخص المسألة التي نحن بصددها فإن تطبيق هذه الفرضية يعادل القول بأن الإشارة إلى حقيقة أن فلانًا أسود اللون، ليست –بذاتها- ذات علاقة بمسألة «كيف ينبغي أن نعامل فلانًا هذا»، فيما يخص الخيرات العامة.
لكننا نرى، استنادًا إلى الأرضية ذاتها التي تقف عليها تلك الفرضية، بأن هذا القول بذاته، أي القول بأن سواد البشرة لا علاقة له بكيفية التعامل مع صاحبها فيما يخص الخيرات العامة، هذا القول نفسه ينطلق من موقف غير محايد أخلاقيًّا.
هذه الرؤية، في عمومها، تبدو لي، إلى حدٍّ بعيد، باطلة. إن المبدأ القائل بأن لون البشرة يمكن أن يحدد كيفية معاملة الناس فيما يخص حقهم في الخيرات العامة، هذا المبدأ ليس نوعًا خاصًّا من المبادئ الأخلاقية، بل هو لا يعدو أن يكون توكيدًا تعسفيًّا لإرادة شخصية، ربما لا تختلف عن إرادة طاغية مجنون، يأمر مثلًا بقتل كل رجل يتكرر في اسمه حرف الراء ثلاث مرات.
لقد قلت ما سبق بهدف دحض التبرير القائل بالفصل -كما في مثالنا– بين سواد البشرة والمعاملة التمييزية، باعتبار الأول حقيقة والثاني قيمة، وهما منفصلان منهجيًّا. في واقع الحياة، فإن كل من يمارس التمييز يربط ممارسته بمبرر أخلاقي. نعلم طبعًا أنك لن تجد من يبرر تلك الممارسة بالقول مثلًا: «لأنهم سود البشرة، وأن مبدئي الأخلاقي يقضي بمعاملة الأسود على نحو مختلف عن الآخرين». نادرًا ما تجد من يقول هذا الكلام. أما غالبية الذين يمارسون التمييز فهم يحاولون دعم موقفهم بنوع من التفسير الأخلاقي، مثل الربط بين سواد البشرة وبين اعتبارات أخرى، يمكن أن تتصل -بنحو ما- بسؤال: كيف ينبغي أن يعامل الإنسان، اعتبارات مثل عدم الإحساس، القسوة، الغباء، الاستهتار.. إلخ.
حين تعرض هذه المبررات بمفردها فإنها قد تبدو معقولة. لكن نسبتها المزعومة إلى سواد البشرة لا يمكن تصديقها. بل يغلب على ظني أن من يسوق مبررات كهذه قد لا يكون مؤمنًا بها كحقيقة محايدة، أو لعله يقيم منظوره للمسألة ككل على أساس غير عقلاني.
لكن هذه نقطة غير التي نحن بصددها. فمحور النقاش هو تحديد ما يصنف كمبرر أخلاقي، يمكن أن يتفق عليه القائل به والأشخاص الآخرون، ولو بصورة عامة. المشكلة التي سيواجهها صاحب التبرير هنا، هي أن مبرراته استوحيت من سياساته ورغباته وليس العكس. هذا يذكرنا بالأنثربولوجيين النازيين الذين اجتهدوا يومًا في بناء نظريات التفوق الآري. فالواضح أن هؤلاء كانوا يصوغون –على نحو رديء– استدلالات عقلانية لدعم مبدأ لا يمكن الشك في لا عقلانيته.
سوف نعود لاحقًا إلى إثارة سؤال الملاءمة (أي ملاءمة المبررات المطروحة أعلاه، لموضوع القضية محل النقاش، وللمبدأ الأخلاقي العام الذي ترتكز عليه فكرة المساواة) في سياق مختلف في هذه الورقة. لكن في الوقت الحاضر، أجد مفيدًا التأكيد على أهمية هذا السؤال، لأنه يسلط الضوء على حقيقة أن أولئك الذين يغفلون عن الحقوق/ المطالبات المنبعثة من قابليتهم الإنسانية للشعور بالألم... إلخ، أولئك ينكرون هذه القابلية الإنسانية أو يهونون قيمتها. إنهم –بعبارة أخرى– لا يتبعون معايير أخلاقية خاصة تنفي تمتع أولئك الناس بالقابليات المذكورة، بل ينكرون إمكانية اعتمادها وعاء أخلاقيًّا للحق في المعاملة المتساوية.
ربما، في غالب الأحيان، أقنعوا أنفسهم بأن أولئك الناس يملكون القابليات المذكورة، لكن بدرجة أدنى من سائر الناس. إذا كان هذا محتملًا، فلعل من المفيد أن نذكر أنفسنا بأن هؤلاء الناس، بشر مثلنا، وأن القول بأن لديهم درجة أدنى من المشاعر تفاهة واضحة.
لقد عرضت النقطة السابقة في سياق خصائص إنسانية واضحة، مثل الشعور بالألم والانجذاب العاطفي. لكن ثمّة بالإضافة إلى هذه، خصائص أخرى ربما لم يجر تعريفها بالقدر نفسه من الوضوح، مع أنها مشتركة بين جميع البشر. هذه الخصائص تعرضت للإهمال في التنظيم السياسي والاجتماعي، ربما بدرجة أكبر من سابقاتها. دعني أذكر مثلًا الخاصية التي يمكن أن نسميها بـ«الرغبة في الاحترام أو تقدير الذات».
قد لا تكون هذه العبارة مثيرة للاهتمام، أو قوية بما يكفي لتوليد قيمة مستقلة في الإطار الثقافي للطبقة الوسطى. لكني أعني بها ميلًا محددًا عند الإنسان، يتمثل في رغبته بأن ينسب إلى ما ينجزه، وما يملكه فعليًّا من مؤهلات، أن يكون قادرًا على تحقيق غاياته الخاصة، وأَلَّا يكون أداة في يد الآخرين أو خاضعًا لإرادتهم، إلَّا إذا اختار بنفسه هذا الدور.
مع هذا الشرح، لا بد من القول: إنه لا يزال دون ما يكفي وما يفي بالغرض. بل قد يكون، على نحو ما، تحديدًا ملتبسًا للميول الإنسانية. ولذا فقد نحتاج إلى فحص أوسع، يجمع التأمل الفلسفي إلى بيانات علم النفس والأنثروبولوجيا، للخروج بتوصيف مناسب يدعم الفكرة.
إن فحصًا بهذه السعة، سوف يمكننا من إدراك أعمق للعلاقة بين الميول الإنسانية، مما سبق ذكره وما يماثله من خصائص، وبين معنى أن تكون إنسانا، وكيف يتشكل مفهوم إنسانية الإنسان. هذه الجوانب ليست بارزة على السطح. لكن مجموع ما سلف الحديث عنه يوضح بجلاء أن عبارة «الناس متساوون لأنهم بشر» ليست فارغة أو قليلة القيمة، كما قيل. فهي تذكرنا بتلك الجوانب الخفية من الحياة التي يتشاركها كافة البشر.
2- القابليات الأخلاقية (حول الأساس التجريبي للتقدير)
عالجنا حتى الآن عددًا من الاعتبارات التي تسند فكرة التماثل بين الناس، محورها القابلية للمعاناة، والحاجات المتعلقة بالإنسان كإنسان. هذه الاعتبارات سلبية، بمعنى أنها تركز على حقوق الطرف المستحق/ المستقبل في العلاقة بين الناس. لو افترضنا أن المساواة علاقة تتضمن طرفين: طرف يعطي وطرف يأخذ، فإن الاعتبارات التي ناقشناها حتى الآن، تتعلق بالطرف الثاني. الفرضية هنا إجرائية بحتة، مفادها أن العطاء اعتبار إيجابي والأخذ اعتبار سلبي.
بالإضافة إلى ما سبق، ثمّة اعتبارات من نوع آخر، كانت بالتأكيد جزءًا من تفكير أولئك المؤمنين بالتساوي بين الناس. دعنا نطلق عليها وصف الاعتبارات الإيجابية. وقد اخترنا هذا الوصف لأنها تشير إلى أشياء يمكن للناس أن يفعلوها أو ينجزوها؛ لأن هذه القابليات متماثلة عند جميع الناس، أي إن الناس متماثلون في حيازتها، فهي تشكل وعاء آخر لفكرة التساوي فيما بينهم.
هناك أيضًا طيف عريض من القدرات البشرية، جسدية وذهنية، من رفع الأثقال حتى الحساب، على سبيل المثال. لكن التماثل فيها ليس جليًّا، كما لاحظنا في البداية، بل وليس من المفترض أن يكون كذلك. لكن ثمّة قدرات غير هذه، من شأنها أن تعزز دعوى التساوي بين بني آدم. هذه القدرات أقوى علاقة بالجانب الأخلاقي، لكنها ليست متاحة تمامًا للفحص التجريبي. لعل أبرز هذه القدرات أو القابليات، هي القدرة على اكتساب الفضائل أو بلوغ المستوى الأعلى من الكمال الأخلاقي.
ثمّة صعوبة في هذه الفكرة، محورها تحديد القابليات التي يمكن تصنيفها كأخلاقية أو معنوية محضة. بعض القابليات الإنسانية ذات صلة قوية بتحقيق الحياة الفاضلة، وبعضها أضعف صلة. من ذلك مثلًا الذكاء، القابلية للتفهم والتعاطف، سوف نضيف إليها أيضًا قدرًا من قوة العزيمة. لكن هذه القدرات جميعًا، يمكن أن تعرض أيضًا باعتبارها قابليات طبيعية وليست معنوية على وجه الدقة. وفي هذا السياق، سوف نقول –بناء على الملاحظة والفحص- بأنها تتفاوت بين شخص وآخر، مثل بقية القابليات الطبيعية. هذا التفاوت حقيقة يقبلها العديد من المفكرين، من أبرزهم –على سبيل المثال– أرسطو.
رغم اتفاقهم مع سائر المفكرين من حيث المبدأ، فإن أرسطو وأتباعه امتازوا بموقف متفرد فيما يلي هذا المبدأ، حيث رأوا أن تلك المواهب الطبيعية تشكل الحجر الأساس للارتقاء والتكامل. وفقًا لرأي أرسطو فإن الاختلاف المشهود بين الناس في قابليتهم لبلوغ الكمال راجع إلى تفاوت المواهب الطبيعية التي يملكونها لحظة ولادتهم.
في مقابل هذا، ثمّة تيار قوي جدًّا بين المفكرين يجمع على التسخيف المطلق لهذه الدعوى وما يترتب عليها، ولا سيما القول بأن نيل الإنسان للدرجة العليا من القيمة المعنوية يتوقف على ما يملكه من مواهب طبيعية. نعرف أن المواهب الطبيعية موزعة بين البشر على نحو غير متماثل بالضرورة. كما نعرف –بالملاحظة المتكررة- أن الناس، الذين ربما يولدون وهم مالكون لتلك القابليات والمواهب، يسعى بعضهم إلى بلوغ الكمال، بينما ينصرف آخرون إلى الرذيلة. وهذا بطبيعة الحال ينفي كون تلك القابليات –بذاتها– وعاء أو حاملًا للكمال.
رؤية إيمانويل كانت
يمكن العثور على هذه الفكرة في تعبيرات دينية عديدة. أما في إطار الفلسفة فإن أنقى تعبيراتها توجد عند «إيمانويل كانت»، الذي أخذ الفكرة إلى مداها الأقصى، حين أنكر إمكانية اعتماد الكمال على الصدف أو الممكنات (وهو سمة المواهب الطبيعية). كما شدد في حديثه عمَّا أسماه «مملكة الغايات The Kingdom of Ends» على فكرة التقدير/ الاحترام التي ندين بها لكل إنسان باعتباره فاعلًا عاقلًا. وتبعًا لهذا، وبالنظر لأن كل البشر متساوون في كونهم فاعلين عاقلين، فإن كلًّا منهم يدين بالتقدير لكل أحد آخر. التقدير، وفقًا لرأي كانت، يختلف عن المحبة والإعجاب وما يشبهها من سلوكيات. فهذه تأتي –بطبعها- متفاوتة بين شخص وآخر، متناسبة مع ما يملكونه من ميزات طبيعية من مختلف الأنواع.
هذه الأفكار متصلة بشكل وثيق في فلسفة كانت. ومن غير الممكن فهم نظريته الأخلاقية ما لم نعطِ وزنًا متساويًا لما يقوله عن «مملكة الغايات» وما يقوله عن «الواجب»[5].
لم يكن الاتساق الكبير في رؤية «كانت» يسيرًا أو سهل المنال. نجاحه في تحرير القيمة الأخلاقية من كل الأعراض والشروط تحقّق بعدما جعل صفة الإنسان كفاعل أخلاقي أو عقلاني صفة متعالية: قدرة الإنسان على الإرادة والاختيار، ليست مرتهنة لأي قابلية تجريبية، وعلى وجه الخصوص ليست مرتهنة للقابليات التجريبية التي يمكن أن يحوزها الناس بصورة متباينة؛ لأن قابلية الإنسان لأن يكون فاعلًا عاقلًا ليست بذاتها قابلية تجريبية على الإطلاق. وبناء على هذا، فإن التقدير الذين يدين به كل إنسان للآخر على نحو متساوٍ، باعتباره عضوًا في «مملكة الغايات»، لا يدين به بناء على أي صفة تجريبية يمكن أن يحوزها، بل فقط وفقط بناء على سمته المتعالية ككائن حر ذي إرادة عقلانية.
أرضية الاحترام/ التقدير المستحق لكل إنسان، في نظرية كانت، هي النظير العلماني للمفهوم المسيحي القائل بالاحترام المستحق لكل الناس، باعتبارهم أطفالًا متساوين للرب. ومع أن رؤية كانت علمانية، فهي، مثل نظيرتها المسيحية، غيبية في أساسها. ففي كلا الحالين ليس ثمّة شيء تجريبي يشكل أرضية للقول بالتقدير المتساوي.
لا يمكن لهذا التصور المتعالي الذي يقترحه كانت أن يقيم –بمفرده- أساسًا صلبًا لفكرة التساوي بين الناس، أو تساويهم في استحقاق التقدير/ الاحترام. إن التصويرات المتعالية عسيرة في المجمل. لكن بصرف النظر عن هذا العسر فثمّة حقيقة متينة، فحواها أن مفهوم «الفاعل الأخلاقي» والمفاهيم المتصلة به، مثل المسؤولية عن الأفعال قائمة على أساس تجريبي، بل ويجب إقامتها على مثل هذا الأساس. ولولاه فسوف يكون كلامًا أجوف، لو قلنا: إن جميع الناس سواسية باعتبارهم فاعلين أخلاقيين، بينما يكون مورد السؤال هو مسؤولية الناس عن الأفعال التي تصدر عنهم، باعتبارهم يحملون صفة الفاعل الأخلاقي. ونعلم أن المسؤولية عن الفعل تتعلق بها اعتبارات تجريبية واضحة، كما أن من الطبيعي أن يتلقى السؤال المذكور إجابات تشير إلى درجات مختلفة من المسؤولية، ودرجات مختلفة من التحكم العقلاني في الفعل.
حين يخضع فرد ما للمساءلة عن أفعاله، فهذا يحصل كامتداد لفرضية مسبقة فحواها أن هذا الفرد فاعل أخلاقي، بمعنى أنه عاقل ومالك لحرية الاختيار. كون الفرد مسؤولًا عن أفعاله، هو التجلي العملي الأكثر وضوحًا لاعتباره فاعلًا أخلاقيًّا. إن لم يعامل الناس باعتبارهم سواء في تحمل مسؤولية أفعالهم، فإن فكرة تساويهم كفاعلين أخلاقيين ستكون فارغة من أي محتوى ذي قيمة.
دعنا نعيد صياغة هذه الفكرة على الوجه التالي: لو استبعدنا رؤية كانت عن الأساس المتعالي للفاعل الأخلاقي، فإن فكرته عن تساوي البشر باعتبارهم فاعلين أخلاقيين، سوف تكون مجرد دعوى خاوية؛ لأنها غير مستندة إلى دليل مناسب. فإذا انهارت هذه الدعوى فهل ستبقى الدعوى المتفرعة عنها، أي الاحترام المستحق لكافة الناس، قائمة بمفردها؟. بالطبع لا.
هذا يظهر في الحقيقة أن رؤية كانت حول الاحترام المستحق لكافة الناس بالتساوي، وسندها الأصلي، أي تساويهم في الاتصاف بكونهم فاعلين أخلاقيين، يمكن أن تقوم، بل ويجب أن تقوم على أساس تجريبي، هو المسؤولية عن الأفعال، وأن الناس سواء في هذه المسؤولية.
تقدير الإنسان أم تقدير عمله
فكرة الاحترام/ التقدير هذه معقدة وغامضة في الوقت ذاته. أعتقد أنها تحتاج قدرًا كبيرًا من الفحص والتحقيق. ربما يقتضي الأمر أن نضيف إليها بعض المكونات البعيدة نوعًا ما عن الأفكار ذات الصلة بالفاعل الأخلاقي.
ثمّة بالتأكيد فارق واضح بين طريقتين في النظر إلى حياة الإنسان، أفعاله، أو شخصه. قد ننظر إليها من وجهة نظر جمالية أو تقنية، غرضها تقييم حاله أو إنجازاته، أو نضع أنفسنا في محل الشخص نفسه، نحاول أن ننظر بعينه إلى حياته، أفعاله، وإنجازاته. غرضنا هنا هو محاولة التعرف إلى معنى الأشياء، من وجهة نظر ذلك الشخص الذي ننظر إليه، وتحديد ما يعني بالنسبة له شخصيًّا أن يحيا تلك الحياة أو يفعل ذلك الفعل في تلك الشخصية.
بعبارة أخرى، فإن هدفنا قد يكون وضع تقييمنا الخاص للشخص وحياته (الطريقة الأولى)، أو قد يكون فهم تقييم الشخص نفسه لحياته ومعنى أفعاله (الطريقة الثانية).
من وجه نظر تقنية (الطريقة الأولى)، فإن رجلًا كرّس حياته لصنع ماكنة معينة، لكنه لم يفلح في مهمته، هذا الرجل يعتبر مجرد مخترع فاشل. ولأنه فشل، فإن اسمه لن يكون في قائمة الذين ساهموا في مجموع الإنجازات التقنية التي يعرفها العالم. حقيقة أنه كرّس حياته لهذه المهمة التي لم تنتج شيئًا، رغم الجهد المتواصل، هي ببساطة غير ذات علاقة بقيمة الرجل.
أما من وجهة النظر الإنسانية (الطريقة الثانية)، فالأمر مختلف تمامًا. نحن نهتم به، ليس باعتباره مخترعًا فاشلًا، بل باعتباره رجلًا أراد أن يكون مخترعًا ناجحًا. نحن هنا لا نوجه التقدير لنتائج العمل الذي كرّس حياته له، بل لمعنى هذا العمل بالنسبة إليه. بعبارة أخرى: فإن محور تقديرنا هو الإنسان نفسه وليس نتاج عمله.
أيضًا.. في إطار العلاقات المهنية وعالم العمل، يعمل الناس ويتعرض عملهم للنقد تحت مختلف العناوين المهنية أو التقنية. الإنسان في هذا الإطار يشار إليه كحفّار أو عامل زراعي أو مدير ثانوي على سبيل المثال. في العرف السائد في عالم المهن ينظر للأشخاص من خلال تلك العناوين فقط، وهكذا تتقرر قيمتهم. أما في المقاربة الإنسانية فإن العناوين المرتبطة بالمهنة هي زاوية واحدة، من مجموع الزوايا / العناوين التي يتم تقدير الإنسان بناء عليها. في هذه المقاربة نشير إلى مهنة الإنسان، كما نشير إلى معنى هذه المهنة بالنسبة إليه: هو اختارها، اضطر إليها، ليس أمامه غيرها، فخور بها... إلخ.
ينبغي أن نقدر الإنسان من وجهة نظر إنسانية، وليس فقط من زاوية عنوانه المهني. هذا المستخلص جزء من المحتوى الذي يمكن الحاقه بالوصية التي يحتفي بها إيمانويل كانت: «عامل كل إنسان كغاية في ذاته، وليس فقط كأداة أو وسيلة». لكني لا أظن أن هذا كل ما ينبغي أن يرى في هذه الوصية، أو حتى كل ما يتعلق بفكرة التقدير/ الاحترام المستحق.
تتضمن الأمثلة التي عرضناها للتو بعدًا آخر، يمكن شرحه على الوجه التالي: إننا ندين لكل إنسان بالحق في أن نبذل جهدًا عند تعريفه. يعرف الناس في غالب الأحيان، تبعًا للمسميات والصفات التي تطلق عليهم. لكن هذا لا يكشف حقيقة الإنسان الذي نريد التعرف إليه. مع بعض الجهد سيمكننا رؤية العالم من وجهة نظره. هذه التوصية مبررة بأن البشر كائنات واعية، تملك بالضرورة إرادات وأهداف، ويرون الأشياء التي يفعلونها من زوايا محددة.
خداع الذات
يبدو أن لدينا، إضافة إلى ما سبق، وصايا أخرى تتصل بالمثال الكانتي من جهة، وبفكرة الاحترام/ التقدير من جهة ثانية، وهي تتجاوز هذه الاعتبارات. ثمّة أشكال من استغلال البشر والحطّ من شأنهم، تبدو كما لو أنها استبعدت –منهجيًّا-من هذا الإطار. مع أنها لا ينبغي أن تستثنى، لمجرد أننا أخذنا بعين الاعتبار الحالة، كما رآها هؤلاء البشر الذين تعرضوا للظلم والاستغلال.
أما سبب هذه المفارقة، فهو أنه من علامات الاستغلال المفرط أو الإذلال، أن أولئك الذين يعانون منه، لا يرون أنفسهم على نحو مختلف عن ذلك الذي يراه المستغل أو الظالم: إما إنهم لا يرون أنفسهم شيئًا على الإطلاق، أو أنهم ألفوا الإذعان والاستسلام للقدر الذي وجدوا أنفسهم فيه فتقبلوه. من الواضح أننا في حالة كهذه سنحتاج إلى ما هو أكثر من رؤية العالم من وجهة نظر الإنسان الآخر، أي وعيه الخاص. نحن بحاجة للتحقق من عدم تدمير أو قمع ذلك الوعي أيضًا.
يجب أن أعترف أن كل ما ذكر حتى الآن، ليس سوى اعتبارات غير نهائية وضبابية إلى حدٍّ كبير. حسنًا، نحن نتعامل هنا مع فكرة ضبابية أيضًا، لكنها فكرة نتبناها ونعطيها قيمة، ونريد أن نوضح كيف أن وضعها في موضعها المناسب، يساوي في حقيقة الأمر التوصل إلى أجوبة حاسمة للعديد من الأسئلة الأساسية في الفلسفة الأخلاقية.
ما ينبغي السؤال عنه هنا هو: ما شأن هذه الآراء بمسألة المساواة؟.
لقد بدأنا مع فكرة التساوي بين الناس باعتبارهم فاعلين أخلاقيين. هذه الفكرة لا تبدو مقبولة، لأسباب عديدة في الاستدلال التجريبي والمتعالي على حد سواء. تحركنا عندئذٍ، من خلال «التقدير/ الاحترام»، إلى فكرة أخرى تدور حول النظر إلى وعي الإنسان بعالمه ومعنى أفعاله، وتحاشي الاقتصار على ما توحي به المسميات الظاهرية، سواء المهنية أو التقنية أو الاجتماعية.
هذه الرؤية تنطوي على قدر من الصلة بمسألة المساواة: أن العناوين الخارجية التي تدعونا لتجاوزها هي الحامل الصريح للتمايز الاجتماعي، السياسي، والتقني، سواء كانت تشير إلى إنجاز (كما في مثال المخترع) أو كانت تشير إلى أدوار (كما في أمثلة العناوين المهنية).
على وجه أكثر تحديدًا، يتوجب علينا حين نفكر في الناس، أن نحول دون خضوع تفكيرنا فيهم لمعايير النجاح المهني أو المكانة الاجتماعية. ينبغي أَلَّا نحدد موقعهم في أنفسنا، استنادًا إلى القيم التي تحملها هذه العناوين والأوصاف، أو استنادًا إلى البنى الاجتماعية التي حددت مواضعهم تبعًا لتلك العناوين والأوصاف.
هذا لا يعني بطبيعة الحال أنه يتوجب النظر إلى حالة كل شخص بمفرده، حتى لو كان الظرف واحدًا لجميع الأشخاص محل الاهتمام. ما نعنيه على وجه التحديد، هو أن كل فرد يستحق أن نبذل جهدًا للتعرف إليه. وهذا يتحقق من خلال النظر إليه كإنسان قائم بذاته، منفصلًا عن البنية التي نجده فيها. وقد أسلفنا الإشارة إلى أن مثل هذه البنية ربما تحدد زاوية النظر أو نوعية المعلومات ذات العلاقة، على نحو يجافي الإنصاف، بل لعلها تخفي عن أبصارنا حقيقة هذا الإنسان أو قيمته، وهي بالتالي تسهم في تأليف صورة ملتبسة عنه كإنسان مساوٍ لنا.
هذه التوصيات قائمة على فرضية ضرورية إلى حد ما، فحواها أن الإنسان كائن يعي نفسه والعالم الذي يعيش فيه. (هنا نستثني، كما فعلنا طوال النقاش، الحالات الطبية الخاصة للأشخاص الذين يعانون من إعاقات ذهنية. هؤلاء يشكلون دائمًا استثناءات خاصة مما يعتبر حقيقة عامة للبشر). مع أخذ هذا التوضيح بعين الاعتبار، يلزم الإشارة إلى أن تلك الفرضية لا تلح على أن الناس سواء في مقدار وعيهم بذواتهم وواقعهم. إنها بالتحديد أحد العناصر في فكرة الاستغلال التي أشرنا إليها في السطور السابقة، حيث يمكن أن ينحدر ذلك الوعي ويتقلص بتأثير البيئة والفعل الاجتماعي. لكننا نضيف أنه مثلما ساهمت تلك العوامل في تقليص مستوى الوعي، فإن نظائر لها يمكن أن تساعد على رفعه.
نعلم أن الناس –من حيث المبدأ على الأقل– يملكون وعيًا بقدر ما، بواقعهم وبما أسميته أوصافهم. كما يملكون القدرة على الانسحاب من الأدوار والمواقع التي وجدوا أنفسهم فيها، مختارين أو غافلين أو مضطرين. هذا الوعي العكسي يمكن أن يتعزز أو يضمر بتأثير ظرفهم الاجتماعي. وهذه النقطة الأخيرة هي التي توضح نقطة اتصال تلك الاعتبارات بالأهداف السياسية للمساواتية. أما الفكرة المجردة حول تقدير الإنسان لكونه إنسانًا فحسب، فعلى الرغم من أنها ذات علاقة وثيقة جدًّا بالسياسة، وإلى حدٍّ كبير مع المساواة، فإننا لا نجد لها علاقة خاصة مع المساواة السياسية. بعبارة أخرى: فإن مفهوم المساواة السياسية يدور حول «الظرف السياسي/ الاجتماعي» الذي يعزز المساواة أو يضعفها من خلال القوانين والأعراف ونظم العمل والتوزيع، فضلًا عن الثقافة. ونعلم أن تأثير هذا الظرف لا يقتصر على الفعل المباشر (تعزيز المساواة أو العكس) بل يمكن أن يقيم قناعة عامة عند المعنيين، فحواها الرضا عن ظرف اللامساواة. خلاصة القول إذن أن تصحيح الظرف الاجتماعي/ السياسي، ضروري أيضًا، لتمكين الأشخاص الذين يعيشون ظروف تمييز من اكتشاف الحقيقة، والاهتمام بتصحيح وضعهم الخاص على الأقل.
إشكالية العلاقة بين القيمة والواقع، مثال التراتب الهرمي
من المحتمل أن تجد أشخاصًا يومنون بالقيم السامية كل الإيمان، لكنهم لا يجدونها واقعية، أو ممكنة التطبيق في الحياة اليومية؛ نظرًا لتزاحمها مع إلزامات لا يمكن إغفالها في هذه الحياة. من ذلك مثلًا أنك قد تجد شخصًا يؤمن بالفكرة السابقة «تقدير الإنسان لكونه إنسانًا فحسب»، باعتبارها هدفًا مثاليًّا، لكنه في الحياة اليومية يفضل نظامًا يقوم على تراتب اجتماعي هرمي على سبيل المثال. هذا الشخص سيستمر على هذه القناعة، طالما كان النظام الهرمي قادرًا على البقاء من دون إكراه، وكان ثمّة تفاهم إنساني بين أجزائه.
في مجتمع هرمي كهذا، سيحمل كل شخص عنوانًا، أو وصفًا واضحًا جدًّا يوضح موقعه في البنية الاجتماعية. ربما تجد أن معظم الناس في هذا المجتمع يملكون وعيًا كافيًا بالإنسان الذي وراء العنوان أو الوصف، وربما تجد كثيرًا منهم راضيًا، أو حتى فخورًا بحمله لتلك الأوصاف والعناوين.
لا أعلم إن كان شيء من هذا النوع قد حدث فعلًا في تاريخ المجتمعات الطبقية. لكن لن يثير استغرابي لو رأيت شخصًا يتبناه كنموذج مثالي (لعل هذا قد حدث أحيانًا بتأثير الصورة الرومانسية للعصور الوسطى). شخص كهذا سيكون ممن تقبل فكرة «وجهة النظر الإنسانية»، أي الرؤية القائلة بأن حقيقة كل إنسان تتجاوز وصفه أو عنوانه، وهي كما نرى مثال رفيع. لكن من ناحية أخرى، فإن قبول ذلك الشخص للنموذج الطبقي، يعني –بالضرورة- أنه يرفض مثال المساواة السياسية.
المثال التخيلي السابق يتعلق بشخص ينظر إلى النموذج الاجتماعي الطبقي، وهو مؤمن به، لكنه ليس بالضرورة متضررًا منه. دعنا الآن نتخيل شخصًا يعيش في داخل هذا النموذج، ويعامل معاملة تمييزية، أي إنه يحصل على أقل مما يستحق. حين يتقبل هذا الشخص الفكرة القائلة بأن مستوى وعيه بمسائل مثل مكانته في المجتمع، هي في حد ذاتها، جزئيًّا على الأقل، نتاج للترتيبات الاجتماعية التي يعيش في إطارها. فإن توصله إلى هذا الوعي، أي إدراكه بأن مكانته ليست من اختياره، وليست أيضًا قدرًا لا مفر منه، هذا الإدراك سيؤدي فورًا إلى فجوة في الثقة، بين الشخص وبين النظام. ومن هنا أيضًا تبدأ عملية التفكك الداخلي للمجتمع الطبقي، حتى يتلاشي ويزول تمامًا.
ما يجعل النظام الطبقي المستقر قادرًا على البقاء هو فكرة الضرورة، أي اقتناع الناس بأنه ضروري لحياتهم، أو أنه من المسلمات الصحيحة، أو أنه قدر لا مفر منه. فكرة الضرورة سوف تنحدر حتى تتلاشى، في اتجاه معاكس لارتفاع مستوى وعي الناس بمكانتهم وأدوارهم. وسوف يكون تلاشيها أسرع، حين يقترن ذلك الوعي باكتشاف أن اعتقادهم واعتقاد نظرائهم في ضرورة هذا النظام أو كونه قدرًا، لم يكن سوى إيحاء النظام نفسه، وليس استنتاجًا منطقيًّا مستقلًّا عنه.
حسنًا، كيف نقدر الموقف الأخلاقي لشخص، يقر بأن وعي الناس بمكانتهم أو دورهم، مقيد أو مؤطر على هذا النحو. أي إن وعيهم ينطوي على نوع من المخادعة للذات. لكن هذا الشخص ذاته يؤمن على أي حال بالنموذج الطبقي/ الهرمي. وفي سبيل الحفاظ على نموذجه هذا، فسوف يسعى للحيلولة دون أن يتسرب الوعي بتلك المخادعة، إلى الشريحة الأوسع من الأشخاص المعنيين، كي لا يتخلوا عن النظام، فينهار. بعبارة أخرى: فإن هذا الشخص يريد، من ناحية، الحفاظ على النموذج الطبقي الذي يفضله وربما يعتبره مثاليًّا. لكنه يعي، من ناحية أخرى، أن بقاء هذا النموذج، رهن بقدر من المخادعة لبعض الناس. أي إننا نتحدث هنا عمَّا يمكن اعتباره ضرورة للنظام، مقابل تضحية محدودة بواجب أخلاقي بعينه.
هذه الفكرة -التي تبدو في ظاهرها براغماتية نوعًا ما– تختلف تمامًا عن سابقتها الأقل ذكاء. الشخص الذي يفكر على هذا النحو متحرر بالتأكيد من التأثير الذهني والروحي للنظام الطبقي/ الهرمي. طالما أدرك حقيقة التقييد الذي يفرضه النظام على الوعي الذاتي للأشخاص، وما قد يؤدي إليه من فهم مخادع للذات، فهو يفكر –فعليًّا– في شروط القهر، المتمثل في المنع المتعمد لنمو الوعي الذاتي عند الضحايا. وقد أشرنا سلفًا إلى أن هذا الوعي هو العنصر القاتل للنظام الطبقي، والذي كان غائبًا عن النموذج الأصلي. وقد قلنا: إنه لو ظهر فسوف يؤدي بالتأكيد إلى تفكيك النموذج والقضاء عليه.
علاوة على هذا، فإن تعامل هذا الشخص (ومن يماثله من الحاكمين) مع بقية الناس، في المجتمع الطبقي الذي اعتبروه نموذجًا مفضلًا لهم، ينطوي على شيء من الاحتقار أو البغض لأولئك الناس. ذلك أن تفكيره على النحو المشار إليه يتضمن –بالضرورة– وعيّا بأن هؤلاء الناس غارقون في الوهم، الوهم الذي فحواه أن قيمتهم أو مكانتهم هي التي حددها النظام. مع أن هذه القيمة أو المكانة لا تنم عن حقيقتهم كأشخاص مساوين لكل الآخرين. ذلك الشخص يعي حقيقة أن الناس يحصلون على أقل مما يستحقون، لا لشيء سوى صون النظام الذي ينتفع منه غيرهم. هم غارقون في الوهم لأنهم يظنون أن هذا هو الخيار الوحيد المتاح، مع أنهم قادرون –لو استعادوا وعيهم– على الأخذ بخيارات أفضل.
لا بد من القول: إن تعاملًا ينطوي على احتقار الناس واستصغارهم على هذا النحو، بل واستثمارهم في سبيل منفعة غيرهم من دون منحهم الحق في الاختيار، هذا التعامل غريب عن روح الفهم والتفهم الإنساني، الذي يشكل الأرضية القيمية الأصلية التي ينطلق منها كل نقاش حول العلاقة بين البشر. لا يمكن لدعاة النموذج الطبقي/ الهرمي إخفاء حقيقة أن بعض الأشياء التي يقوم بها الناس بصورة عفوية، في حالة عدم الوعي الذاتي، غير ممكنة في حالة الوعي، إلَّا على على أرضية النفاق.
هذه الأفكار العامة وغير الواضحة إلى حدٍّ كبير، التي حاولت ربطها معًا في هذا النقاش، توضح جانبًا من الأرضية النظرية لمثال المساواة السياسية. والتي يمكن تلخيصها في أن الدعوة إلى إقامة نظام يضمن المساواة للجميع، لأنهم بشر، ليست فارغة أو ضعيفة المبررات، وليست بالتأكيد مجرد حشو مكرر. إنها أيضًا ليست –في الغالب- حالات فردية أو قناعات لعدد محدود من الأشخاص. ثمّة في عالمنا جوانب غير واضحة جدًّا، لكنها تنطوي على هدر لكرامة الإنسان وإنسانيته. ووجود هذه الجوانب، سيما على نحو غير ظاهر جدًّا، هو ما يستدعي التأكيد على أن بني آدم سواء؛ لأنهم إخوة في الإنسانية، ولأنهم متماثلون في القيمة. ويجب أن يعاملوا على هذا الأساس.
3- المساواة في الظروف غير المتكافئة – تكافؤ الفرص
تثار مسألة المساواة في ظروف مختلفة، من حيث نمط العلاقات السائد في كل منهما. بديهي أن أكثرها وضوحًا هي تلك الظروف التي يُدَّعى أن جميع الناس فيها سواء. لكنها تثار أيضًا في الظروف التي تنطوي على قدر من الالتباس، بشأن العلاقات السائدة فيها. مثال ذلك: علاقات قائمة على أرضية تمييز، لكن الطرف المتضرر واعٍ بهذا التمييز وموافق عليه، وأن سؤال المساواة ذو صلة جلية بمقدار ما يحصل عليه من سلع وما يتاح له من فرص.
الذين يتبنون مفهوم المساواة المبسط سيحكمون على هذه العلاقات بأنها غير عادلة؛ لأنها لا تقوم على أرضية المساواة بين الناس. لكن فريقًا آخر سوف يعارض هذا الحكم قائلًا: إن الإشارة إلى مبدأ المساواة كمعيار للحكم هنا غير صائبة، بل قد تكون مضللة، وأن المبدأ الذي ينبغي العودة إليه للحكم على تلك العلاقات هو مبدأ الإنصاف أو العدالة، بالمعنى الذي ورد في حديث أرسطو عن «العدالة التوزيعية».
طبقًا لرأي أرسطو فإن السؤال المثار هنا لا يتعلق بتقدير الناس أو معاملتهم كذوات متساوية. المسألة المطروحة هنا هي توزيع سلع وفرص وخيرات معينة على نحو يتناسب مع التباين الواقعي بين المستفيدين منها وحاجاتهم. رؤية أرسطو تقترح إذن آلية للتوزيع، فهي تنظر للأشخاص من زاوية استحقاقهم وليس قيمتهم كبشر. إن المسألة التي على المحك هنا ليست تقدير الناس وتعيين قيمتهم من خلال التوزيع، بل وصول الخيرات إلى مستحقيها على نحو صحيح، من حيث استحقاقهم أو حاجتهم[6].
سوف أناقش هذه الرؤية من زاوية خاصة. فهي تبدو -من حيث المبدأ– معارضة لمفهوم المساواة، إلَّا أنني أجد فيها موطئ قدم لهذه القيمة. لتوضيح الفكرة، سوف أبدأ بالإشارة إلى ضرورة التمييز بين نمطين مختلفين من اللامساواة أو التباين: التباين في الحاجات والتمايز في الجدارة. يتفاعل مع هذا التمييز تمييز موازٍ بين الخيرات/ السلع المطلوبة بسبب الحاجة إليها، من ناحية، ومن ناحية أخرى، تلك المستحقة بناء على الجدارة.
في الحالة الأولى، أي حين تكون الحاجة هي محور النقاش، كحاجة المريض إلى العلاج الطبي مثلًا، سنضع –لأغراض عملية بحتة- فرضية مسبقة فحواها أن الأشخاص الذين يحتاجون يرغبون واقعيًّا في السلعة أو الفرصة محل المساءلة. ومن هنا فإنه يمكن اعتبار السؤال متعلقًا بالتوزيع في معناه الأولي، أي تلبية رغبة فعلية.
يبدو الأمر مختلفًا في حال الجدارة. خذ مثلًا القدرة على الإنجاز من خلال التعليم الجامعي. هنا ليس لدينا فرضية مسبقة، تماثل ما عرضناه في الحالة الأولى: ليس كل جدير لديه رغبة في السلعة محل السؤال. مثلًا: ليس كل جدير بالتعليم الجامعي راغب في الانضمام إلى الجامعة. طبعًا من الممكن أن يكون الأمر على هذا النحو، أي أن يكون جديرًا بالسلعة وراغبًا فيها، في الوقت ذاته. لكن هذه ليست القاعدة العامة بل أحد الاحتمالات. بخلاف الحالة الأولى (الحاجة، كما في مثال المحتاج للعلاج الطبي). فالقاعدة هنا أن كل محتاج سيرغب في تلبية حاجته، إلَّا ما شذ وندر، مع أن هذا النادر يبقى أحد الاحتمالات الممكنة.
علاوة على ذلك، فإن سلعة/ فرصة التعليم الجامعي قد تكون مرغوب فيها، بل ربما موضع احتياج شديد ومشروع، من جانب أولئك الذين لا يتحلون بالجدارة. بينما –في الطرف الآخر– قد نجد أن الرغبة في العلاج الطبي أو تعويض البطالة مثلًا، غير موجودة أصلًا عند غير المريض أو غير العاطل عن العمل، أو ربما لا يكون صدورها مشروعًا من شخص بهذه الصفة. أي إن الحاجة غير مناسبة أو مستوفية للشروط التي تستدعي الوفاء. في هذه الحالة فإن توزيع السلع/ الفرصة بناء على معيار الجدارة، ينطوي على نوع من التعارض الداخلي، وهو ما لا يوجد في الحالة الأولى، أي التوزيع تبعًا لمعيار الحاجة.
لهذه الأسباب، سيكون مناسبًا أَلَّا يقتصر الحديث في حالة الجدارة عن توزيع السلعة، بل أيضًا عن توزيع الفرص للحصول على السلعة. لكن فرصة الحصول على السلعة، خلافًا للسلعة ذاتها، يمكن أن تعتبر متاحة بالتساوي بين الجميع. وفي هذه النقطة سوف نواجه فكرة المساواة العامة، ولا سيما في المعنى الأكثر تداولًا في مجتمعنا اليوم، أعني فكرة تكافؤ الفرص.
قبل الانخراط أكثر في مناقشة الفكرة، دعني أشير إلى بعض أوجه التشابه والتباين بين الحالتين مورد النقاش: الحاجة والجدارة. نحن نواجه موضوع ملاءمة الأسباب. وقد ذكرنا في فقرات سابقة أن تطبيق مبدأ المساواة أو حجبه، يجب أن يقوم على أسباب معقولة تتضمن وجود صلة بين أطراف المعادلة والسلعة موضوع النقاش. قلنا مثلًا: إن كون شخص ما أسود اللون أو فقيرًا ليس مبررًا لمنحه قدرًا أقل من السلع أو الفرص التي يجري توزيعها، مثل الرعاية الطبية أو التعليم العام؛ لأن اللون أو الثروة ليست ذات صلة بموضوع التوزيع. إن الأرضية المناسبة لتوزيع الرعاية الطبية -مثلًا- هي اعتلال صحة الفرد. هذه حقيقة ضرورية. دعنا الآن ننظر في حالات واقعية. في كثير من المجتمعات يمثل اعتلال الصحة شرطًا ضروريًّا للحصول على علاج، لكنه في الوقت ذاته لا يعد شرطًا كافيًا؛ لأن هذا العلاج مكلف ماديًّا، وليس جميع المحتاجين إليه يملكون المال. ومن هنا يصبح امتلاك القدر الكافي من المال شرطًا إضافيًّا في الحقيقة للحصول على العلاج.
مع الأخذ بنظر الاعتبار هذه الإشارة، فإن توفر المال يمكن أن يكون –في واقع الأمر- شرطًا كافيًا للحصول على العلاج، حتى لو لم يكن ثمّة حاجة طبية ملحة. بمعنى أن المال هو العامل الأكثر تأثيرًا في الحصول على السلعة مورد النقاش في هذه الحالة. مع أن هذا العامل ليس –بطبعه– ذا صلة بالسلعة، من أي وجه. مع ذلك سنشير -من باب التحفظ على الأقل- إلى أنه ربما يوجد بعض المصابين بالتوهم المرضي hypochondriacs الذين ربما يرغبون في العلاج، حتى لو لم يحتاجوه، وهؤلاء قلة على أي حال؛ لذا سوف نعتبرهم حالة هامشية، لا تؤثر على مسار النقاش.
حين يكون لدينا حالة مثل تلك، حيث تكون الثروة شرطًا أكثر ضرورة للحصول على العلاج الطبي، فإنه يسعنا أن نطبق فكرة المساواة واللامساواة مرة أخرى. ليس فقط فيما يتصل باللامساواة بين السليم والعليل، بل في مقارنة اللامساواة بين المريض الغني والمريض الفقير. هذه المقارنة تكشف عن حالة أولئك الذين يتساوون في الحاجة، لكنهم لا يتساوون في الحصول على فرص متماثلة للعلاج، على الرغم من أن الحاجة هي أرضية العلاج. هذه بالطبع حالة تتجلى فيها اللاعقلانية.
اعتراض وجواب
ربما يرد اعتراض على هذا التقدير، فحواه أن الكاتب أغفل تمييزًا مهمًّا بين المركز المفهومي/ القيمي لاعتلال الصحة، ونظيره الخاص بحيازة المال. إن استعراض الاثنين جنبًا إلى جنب يوهم بأنهما في مستوى واحد من حيث الصلة بالمشكلة. وهذا خلاف الواقع في رأي المعترضين. وفقًا لهؤلاء فإن اعتلال الصحة ينظر إليه –في أعلى التقادير– كأرضية لاستحقاق العلاج الطبي، بينما توفر المال يشكل –في ظروف معينة– شرطًا سببيًّا ضروريًّا لتحصيل الحق. وهذا مختلف عن الأول.
في هذا الاعتراض نقطة تستحق التأمل. فهو يقترح توضيح التمايز بين: أ) حقوق الإنسان كمبرر لوجوب معاملته على نحو محدد، و ب) الأسباب التي تجعله قادرًا على نيل ما يستحق في الحياة الواقعية. لكن هذا الاعتراض لا ينقض وصفنا لحالة اللامساواة المذكورة باللاعقلانية. إنه فقط يلقي ضوء أكثر، يوضح عناصر الحالة التي أطلقنا عليها هذا الوصف. التوضيح الإضافي الذي وفره الاعتراض، هو أن الحالة التي نحن بصددها، تنطوي على عيوب في التأسيس المنطقي. إنها حالة لا تقف على أرضية معقولة، ولا تتبع –في نهاية المطاف– أحكام العقل أو تخضع لسيطرته.
هذه النقطة ذاتها ستواجهنا، حين نصل بالنقاش إلى شكل آخر من أشكال المساواة والحقوق المتساوية، والمساواة أمام القانون. دعنا نوضح المسألة على النحو التالي: ربما يقال: إن القانون في مجتمع معين يتيح الحق في المحاكمة العادلة لكافة الناس على السواء. وبالتالي فإن كل فرد يتمتع بالحق في المطالبة بالانتصاف، ممن بغى عليه أو ارتكب خطأ في حقه، بالأدوات التي يتيحها القانون. لكن دعنا نفترض أن المحاكمة العادلة أو استرجاع الحق بواسطة الأدوات القانونية غير متاحة -واقعيًّا– في ذلك المجتمع، إلَّا لأولئك الذين يملكون المال (لتوكيل محامٍ مثلًا) أو الذين يملكون المعرفة (لتحديد موقفهم القانوني مقابل خصمهم مثلًا). في مثل هذه الحالة، فإن التشديد على تساوي الناس في هذا النوع من الحقوق (الحق في المحاكمة العادلة) ينصرف واقعيًّا إلى أولئك الأشخاص الذين يملكون المال أو يملكون المعرفة، ولا يشمل غيرهم من أعضاء المجتمع.
إن القبول بهذا التقدير يكشف عن ميل أناني غير مقبول. إن اهتمامنا لا ينصب على حقوق الإنسان في صورتها المجردة، ولا الإقرار بها في الإطار النظري، بل في المدى الذي نعرف أن تلك الحقوق مطبقة في الحياة الواقعية، وحاكمة على ما يجري فيها، في الأفعال وليس فقط الجدل اللفظي.
من هنا فإن الجمع بين الاعتبارين، أي: أ) كون أسباب الاستثناء من المعاملة المتساوية، ذات صلة بالموضوع و ب) كونها فعالة في الواقع وليست مجرد تنظير[7]، سيعطينا سلاحًا أخلاقيًّا حقيقيًّا، قابلًا للتطبيق على الحالات التي يمكن تصنيفها على نحو ملائم كحالات معاملة غير متساوية، حتى لو كان الشخص المهتم بالمسألة، غير معني بالمساواة بين الناس كمبدأ عام ينطبق على الكل.
هذه المحاججة تمثل تعزيزًا للمبدأ الضعيف جدًّا الذي ذكرناه في أول الورقة، المبدأ القائل بأن أيّة معاملة لأحد من الناس على نحو غير متساو مع الآخرين ينبغي أن تقام على مبرر معقول. حين يستدعي الأمر أن يكون السبب ذا صلة بالموضوع محل الجدل، وأن يكون فاعلًا وقابلًا للتطبيق في الحياة الواقعية، فإن هذا المبدأ سيكون مثيرًا للاهتمام[8].
سنطبق مثل هذه الاعتبارات أيضًا على حالات الجدارة. مع أننا نجد من الضروري ملاحظة الفرق المهم بين حالات الجدارة وحالات الحاجة، فيما يخص كون المبررات ذات صلة أو غير ذات صلة. إنه لأمر منطقي أن نصنف حالات احتياج معينة باعتبارها مبررات معقولة لاستحقاق أنواع معينة من السلع/ الخيرات. أما في حالة الجدارة فإن السؤال المثير للجدل يتناول العلاقة بين المؤهلات والاستحقاق. فحوى هذا السؤال: هل هناك مؤهلات معينة، أو أنواع معينة من الجدارة، تشكل بذاتها مبررًا معقولًا لاستحقاق أنواع معينة من السلع/ الخيرات.
سوف نضرب مثلًا، على نحو المجادلة فحسب، بالمدارس الخاصة التي توفر مستوى عاليًا من التعليم. وهو شيء يود الإنسان أن يحصل عليه بطبيعة الحال. لكن –من جهة ثانية– ستجد من يجادل بأن الحق في الحصول على هذا المستوى من التعليم لا يتم توزيعه بالتساوي بين الأطفال الذين يتمتعون بأهلية متماثلة من حيث الذكاء أو الموهبة، أي بين مجموع الأشخاص الجديرين بالحصول على هذا الحق. هذا متوقع لأن العديد منهم لا يملك القدرة على توفير الرسوم المرتفعة، التي يتطلبها هذا النوع من المدارس. عندئذٍ فإن الحصول على هذا المستوى الرفيع من التعليم، سيكون قصرًا على الأطفال الذين ينتمون إلى بيوتات ثرية. بل إن اشتراط الرسوم العالية سيجعل هذا الحق متاحًا لمن يملك المال دون الجدارة، ويحجبه عن الجدير الذي لا يملك المال. وهذا غير عقلاني.
المدافعون عن التعليم الخاص سيقدمون ربما نوعين من الأجوبة عن الاعتراض السابق: النوع الأول وهو الذي ناقشناه حين تعرضنا لحالة الحاجة في فقرة سابقة. وفحواه أننا قد نتفق على أن الأطفال الموهوبين والأذكياء لديهم حق في الحصول على تعليم متقدم، لكن في الظروف الاقتصادية الواقعية، فإن تحصيل هذا الحق ليس مضمونًا على الدوام. أما الجواب الثاني فهو أكثر تطرفًا، إذ ينكر موضوع الفرضية التي انطلق منها الاعتراض، أي القول بأن الموهبة والذكاء، في ذاتهما على أقل التقادير، هما المبرر المعتمد للحصول على هذا المستوى الرفيع من التعليم.
ربما لا يلح مؤيدو التعليم الخاص على أن الثروة في حدّ ذاتها أرضية كافية أو ضرورية، لكنهم قد يزعمون أن صفات أخرى متصلة بالثروة على نحو وثيق، تشكل أرضية مناسبة للدعوى. قد يقولون مثلًا: إن هذا النوع من المدارس يستهدف صيانة تقاليد الزعامة. ومن هذه الزاوية، فإن أفضل نوعية من الأشخاص الذين يمكنهم أن يقوموا بهذه المهمة، هم أولئك الذين سبق لآبائهم ارتياد هذا النوع من المدارس.
لا نحتاج للإطالة في تتبع هذا النقاش هنا. لكن ثمّة نقطة مهمة أثيرت في سياقه، تخص طبيعة السلع موضوع التوزيع. من الواضح أنه ثمّة خلاف حقيقي حول نوع الجدارة، التي اتخذت معيارًا للتفاضل في الحالات موضع النقاش، ويتمحور الخلاف حول ما إذا كان النوع المذكور على صلة حقيقية بمسألة المساواة أم لا. لكن لعل موضوع الخلاف الآخر الأكثر إلحاحًا الآن يتمحور في طبيعة السلع والخيرات التي ستكون موضوعًا للتوزيع. يمكن تلخيص الخلاف في سؤال: هل السلع المذكورة في النقاش، هي من نوع الحقوق/ السلع/ الفرص العامة، التي تعتبر –على نحو دقيق– موضوعًا للنقاش في العدالة التوزيعية أو المساواة السياسية؟.
هذا يوضح أن الخلافات المشار إليها، ليست نظرية بحتة، وهي لا تدور في فراغ. كما أن الحجج التي يعرضها كل من الفريقين ليست –منطقيًّا– بلا قيود أو محددات.
فيما يلي سنتعرض لجانب من هذا الموضوع.
ثمّة عدد محدد من المبررات التي يمكن –بناء عليها– اعتبار التعليم سلعة. وثمّة عدد محدد من الأغراض التي يمكن أن يقال –عقلًا–: إن على التعليم أن يخدمها ويلبيها. في مقابل هذه المحدوديات/ القيود ثمّة محدوديات/ قيود مقابلة على أنواع المؤهلات/ أوجه الجدارة والصفات الشخصية، التي يمكن –عقليًّا– أن تذكر كمبررات للحصول على هذه السلعة. هنا أيضًا نجد أنفسنا أمام نقطة قوة إضافية تسهم في تعزيز حقيقي للمبدأ الضعيف جدًّا الذي ذكرناه في أول الورقة، أي القول بأن أي تمايز في المعاملة بين الناس يجب أن يمهد له بتبرير معقول.
سنعود الآن إلى مفهوم تكافؤ الفرص، وخصوصًا تطبيقات المفهوم في الإطار السياسي، أي أن يكون لكل عضو في المجتمع فرص متساوية في الحصول على سلع معينة.
الإطار السياسي لتكافؤ الفرص
تطرح مسألة تكافؤ الفرص في النقاش السياسي حين يثار سؤال الحصول على سلع/ فرص معينة، يريدها الناس. السلع/ الفرص ذات الصلة بنقاش المساواة، تحمل السمات التالية:
أولًا- مرغوب فيها: قد لا يكون مرغوب فيها من جانب كافة أعضاء المجتمع. لكنها مرغوب فيها من جانب عدد كبير في قطاعات اجتماعية مختلفة، إما لأنفسهم أو –كما في حال التعليم– لأطفالهم، أو أنها ستكون مرغوب فيها لكافة قطاعات المجتمع إذا علموا عن تلك السلعة مورد النقاش، وظنوا أنه من الممكن لهم أن يحصلوا عليها.
ثانيًا- ممكنة: هذه السلع تعتبر مما يمكن الحصول عليه أو اكتسابه. أي إنها ليست مستحيلة أو عسيرة جدًّا.
ثالثًا- نادرة: هذه السلع ليست مما يمكن الحصول عليه من جانب كل من يرغب فيها. إي إن الحصول عليها ينطوي –بالضرورة– على تنافس من نوع ما.
الشرط الثالث يغطي على أقل التقادير ثلاث حالات مختلفة، مما يستحق التبيين:
أ- بعض السلع المرغوب فيها محدودة العدد بطبيعتها، مثل الوظائف المرموقة، الوظائف الإدارية، وأمثالها. حيثما كانت هذه الوظائف مشغولة من جانب بعض الأشخاص فإن بقية الناس غيرهم سيكونون محرومين منها.
ب- ثمّة –إضافة إلى هذا– سلع/ فرص متاحة للجميع، لكن الحصول عليها يتطلب شروطًا لا يمكن الوفاء بها لغير عدد محدود من الناس. ومن هنا فإن عدد الذين سيحصلون عليها سيكون محدودًا، ليس بسبب عوامل تخصها بذاتها، بل بسبب عدم قدرة كافة الناس، أو عدم رغبتهم في تلبية تلك الشروط، التي لا يمكن –بسبب طبيعة الفرصة/ السلعة– استثناؤها. من ذلك مثلًا التعليم الجامعي الذي يعتبر في العادة مفتوحًا للجميع، لكن الانضمام إليه يتطلب شروطًا معينة لا يمكن لكل متقدم أن يلبيها.
ج- أما الحالة الثالثة فتضم السلع/ الفرص التي –بطبعها- محدودة العدد، فلا يمكن أن يحصل عليها جميع الناس حتى لو كانت متاحة دون قيود، أو كان الجميع يرغب فيها ويقدر عليها. المسألة هنا أن ما يتوفر لا يلبي رغبة الجميع أو الأكثرية. بالتالي فإن عددًا محدودًا من الناس فقط سوف يحصل عليها دون الآخرين.
في مثل هذه الحالة يتطلب الأمر فرض شروط أكثر صرامة، أو تطبيق نظام تقنين، من أجل تحديد الحصول على هذه السلعة في ظروف غير مثالية. من الممكن بطبيعة الحال أن تكون السلعة مشروطة، كما في الحالة الثانية، وفي الوقت نفسه، محدودة العدد، كما في الحالة الأخيرة. في ظروف معينة، وبسبب محدودية المتوفر، فإن عدد الذين سيحصلون عليها سيكون محدودًا، وسيحرم منها كثير، حتى لو كان بمقدورهم توفير الشروط المطلوبة.
ثمّة أنواع من القيود/ المحدوديات تستحق التمييز بصورة خاصة، بالنظر إلى الاختلاف الكبير في الآراء حول ماهية القيود المتعلقة بسلع محددة. نعلم أن الغالبية توافق الآن على أن محدودية فرص التعليم العالي راجعة إلى شروط القبول فيه. لكن الرؤية الأفلاطونية سوف تعتبر أنه محدود بالضرورة، لا بشروط الدخول فيه. إي إن المحدودية متعلقة بطبيعة السلعة/ الفرصة، لا بالمرشحين لنيلها.
زبدة القول إذن أن الجدل حول تكافؤ الفرص يتعلق بسلع/ فرص متاحة في المجال العام لكنها محدودة العدد، وأنها مرغوب فيها من جانب الناس كلهم أو عدد معتبر منهم، وأنها مما هو قابل للتوزيع بطبيعته، ويمكن الحصول عليها. من هنا فإن الجدل يدور حول معايير الحصول على تلك السلعة/ الفرصة، في ظروف التنافس غير المثالية، وأنه يستهدف وضع نظام عام يحكم العلاقات التي تتولد حين يحاول أحد من عامة المواطنين الحصول على تلك السلعة/ الفرصة.
نستنتج مما سبق بيانه أن فكرة تكافؤ الفرص تعني أن فرصة/ سلعة محدودة، سوف ترصد لمستحقيها، وفق شروط لا تستثني بصورة مسبقة أي شريحة من الناس الذين يرغبون في الحصول عليها.
لكن هذه المعادلة ليست واضحة جدًّا في الحقيقة. دعنا نأخذ مثالًا من المدارس الحكومية النموذجية المسماة Grammar School في المملكة المتحدة[9] (وهي سلعة محدودة، ربما على أساس شروط القبول، وبالتأكيد على أساس محدودية العدد). هذه السلعة/ الفرصة مخصصة للأطفال الذين يتمتعون ببعض القابليات الذهنية وفق اختبار في سن الحادية عشرة. هذا المثل يضرب عادة على تكافؤ الفرص، كمناظر للنظام الذي يعطي أفضلية بناء على ثروة الوالدين.
أليست خلاصة القصة التي يعرضها هذا المثال أن معيار القابليات الذهنية يعني الإقصاء المسبق لشريحة معينة من الشعب، وهم الناس الذين يفتقرون إلى تلك القابليات؟.
هذا يشبه تمامًا النقد الذي يوجه إلى نظام المدارس الخاصة، السابق الذكر، الذي سمح بالإقصاء المسبق للشريحة التي لا تملك المال من التعليم الرفيع المستوى، لا لسبب غير افتقارها للمال. من المتوقع بكل وضوح أن يقال في الرد على هذه الحجة، بأن هذا ليس هو المقصود بالإقصاء المسبق. الإقصاء المسبق لا يعني وضع الشروط الضرورية المرتبطة بطبيعة السلعة. لا يصح تفسير كل شرط مسبق كإقصاء مسبق.
ما الإقصاء المسبق إذن؟
الإقصاء المسبق يعني استبعاد الأشخاص بناء على مبررات غير معقولة، أو غير ذات صلة بالسلعة/ الفرصة موضع النقاش. لكن هذا التعريف لا يفي بالغرض حتى الآن؛ لأنه قد يقال: إن الذين يقبلون الثروة كمعيار للفوز بفرصة التعليم في المدرسة النموذجية، يعتقدون أن هذا المعيار مناسب أو عقلاني (وهذا ما قد يفعلونه، كما حصل حين عرضنا مثال التعليم الخاص). لعل هؤلاء يعتبرون النظام الذي يتبنونه تجسيدًا كاملًا لمبدأ التكافؤ في الفرص، وهم يقولون هذا بكل جدية ومن دون أي تردد، لكننا نعلم أن هذا القول سخيف تمامًا.
من الواضح إذن أن مفهوم تكافؤ الفرص ليس بسيطًا، بل لعله أكثر تعقيدًا مما يبدو في الوهلة الأولى. هذا المبدأ يعني أولًا أَلَّا يسمح بأي إقصاء أو حرمان بناء على مبررات غير عقلانية أو ذات صلة بالسلعة/ الفرصة مورد النقاش. لكنه لا يقتصر على هذا، فهو يتطلب أيضًا أن تكون المبررات التي توصف بأنها ملائمة على نحو يعطي الناس من كافة أجزاء المجتمع فرصة متساوية لتلبيتها وتحصيلها. نحن نتحدث إذن عن تكافؤ الفرص في الوصول إلى السلعة وتكافؤ الفرص في الطريق الذي يقود إليها.
ماذا نعني بـ«أجزاء المجتمع»؟
إن مبدأ تكافؤ الفرص يعني منح كافة المواطنين فرصًا متماثلة للحصول على السلع/ الفرص المتاحة في المجال العام، إلَّا أننا نعلم ضمنيًّا أن عددًا كبيرًا من السكان سيتم استثناؤهم في أيّة عملية توزيع، بمن فيهم أشخاص يرغبون بشدة ويملكون المؤهلات اللازمة. السبب الواضح هو قانون الندرة الذي سبق الإشارة إليه في الصفحات السابقة.
هذا يقودنا في الحقيقة إلى فهم أن لدينا نوعين من المعايير، هما معايير المنح ومعايير الإقصاء. مع أن هذا التقسيم لا يخلو من مشكلات. من الطبيعي –كما سبق القول– أن يؤدي تطبيق أي معيار إلى إقصاء شريحة من السكان. هذا أمر لا مفر منه، ولا يمكن اعتباره غير عقلاني أيضًا. لكن ماذا لو أن شريحة كاملة من المجتمع لم تنطبق عليها مواصفات المنح، وبناء عليه جرى إقصاؤها بالكلية باعتبارها غير مستحقة؟.
ثمّة صعوبات مهمة هنا؛ لذا سنأخذ مثالًا تخيليًّا، ربما يساعدنا على استيضاحها ومن ثم تفكيكها.
دعنا نفترض أنه في مجتمع معين يحظى المحاربون بمنزلة رفيعة، وهي وظيفة تتطلب -كما نعلم- قوة بدنية عظيمة. في الماضي كانت طبقة المحاربين تتألف حصرًا من أبناء العائلات الثرية، لكن الإصلاحيين المساواتيين نجحوا في تغيير هذه القاعدة، وبات في وسع أي شخص أن يخوض المنافسة التي تمهد لانضمامه إلى طبقة المحاربين، أيًّا كانت الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها، دون تمييز.
لكن لوحظ أنه حتى بعد هذا الإصلاح الهامّ لازالت طبقة المحاربين قصرًا على أبناء العائلات الثرية إلى حدٍّ كبير. السبب في ذلك أن بقية السكان يعانون من سوء التغذية (نتيجة فقرهم) مما يجعل أجسامهم ضعيفة، عاجزة عن خوض المنافسة الضرورية للانضمام إلى طبقة المحاربين (وهي منافسة تتعلق حصرًا بالقوة الجسدية).
هذا سيغضب بطبيعة الحال الإصلاحيين، الذين يرون أن تكافؤ الفرص لم يتحقق على أرض الواقع، أي إن جهودهم لم تثمر عن تغيير ملموس في العالم الواقعي.
نتوقع أن يجيبهم الأثرياء بالقول: إن الفقراء قد حصلوا على ما يريدون، فهم يملكون الحق في الانضمام إلى طبقة المحاربين، لكن اللوم يجب أن يوجه إلى سوء الحظ، الذي جعل صفاتهم (القوة الجسدية) دون المستوى الذي يفرضه النظام لضمان الفوز في الاختبار والمنافسة. نحن لا نقصي الفقير لأنه فقير، بل لأنه ضعيف البنية. ومن مساوئ الصدف أن الفقراء ضعفاء أيضًا.
جواب الأثرياء هذا، سيبدو –في نظر معظم الناس– هزيلًا أو مريبًا.
هذا يشبه إلى حدٍّ كبير الإجابات التي سبق أن استعرضناها، فيما يخص المساواة أمام القانون. وخلاصة ما يقال هنا أن التكافؤ المزعوم في الفرص، ليس سوى وعد فارغ. بل ربما يسعنا القول: إن التكافؤ لا حقيقة له أصلًا، ما لم يكن أكثر فاعلية وواقعية مما جرى عرضه حتى الآن.
يمكن لمبدأ المساواة أن يتجاوز تلك المبررات الضعيفة، كي يكون أكثر فاعلية في الواقع. نحن نعلم أن هذا ممكن. نعلم أن هناك صلة قوية بين كون الإنسان فقيرًا وكونه سيّئ التغذية، وصلة مماثلة بين سوء التغذية والضعف البدني. إزاء الحاجة إلى تحقيق قيمة المساواة في الواقع الاجتماعي نعلم أننا قادرون على فعل شيء يتناسب مع الشروط الاقتصادية الخاصة بالمجتمع المتخيل، شيء يؤدي إلى تصحيح التوزيع الخاطئ للثروة.
مع علمنا بإمكانية هذه الأشياء، فإن الادّعاء الذي يتبناه الأثرياء حول سوء الحظ الذي يلاحق الفقراء سيبدو نوعًا من الخداع وليس تبريرًا صادقًا.
أخذًا بعين الاعتبار الشروحات السابقة، فإنه يمكن القول: إن نظام التوزيع لن يرقى إلى المستوى المتناسب مع مبدأ تكافؤ الفرص، طالما كان توزيع السلع مورد النقاش ينطوي في واقع الأمر على شروط تمييزية، بين شرائح المجتمع المختلفة، أي طالما كانت الشرائح الاجتماعية الأقل حظًّا تتعرض لتمييز سلبي، بسبب عوامل يمكن علاجها أو إزالتها بالمزيد من الإصلاحات أو المبادرات الاجتماعية. مثل هذا كان واضحًا جدًّا في مثال المجتمع المتخيل الذي ذكرناه آنفًا؛ لأن العامل الأساس الذي تسبب في إقصاء الشريحة الفقيرة كان بسيطًا ومعروفًا.
في واقع الأمر فإن الحالات التي تنطوي على مشكلات في التوزيع أو تتسبب في الإقصاء أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه في الأمثلة السابقة، إلى الحد الذي قد نجد أن الأرجح هو التغاضي عن العلاقات السببية التي تنشأ في إطارها. هذا واضح بصورة خاصة في حالة فرص التعليم في المدارس النموذجية، حيث نواجه مفاهيم تبدو من الخارج معقولة، مثل «المؤهلات الفكرية». لكن الأخذ بها دون تمحيص يقود إلى منزلق التمييز الظالم، رغم ما يظهر عليها من حياد في الوهلة الأولى. ثمّة حقيقة معروفة عن نظام التعليم في المملكة المتحدة، فقد اتضح من نتائج اختبار الطلبة في سن الحادية عشرة وما بعدها، والذي بموجبه يترشحون للانضمام إلى المدارس النموذجية Grammar Schools، اتضح من تلك النتائج أن هذا النظام سيميل غالبًا إلى ترجيح كفة الأطفال الذين ينتمون إلى عائلات من الطبقة الوسطى والمحترفين، فهؤلاء يحققون نجاحًا أكبر بكثير من نظرائهم القادمين من عائلات تنتمي للطبقة العاملة.
ثمّة أسباب وجيهة تدعونا للقول بأن هذه النتائج، في معظمها، ثمرة لعوامل بيئية. سوف نعرف إضافة لهذا أن إصلاحات اجتماعية متخيلة لنظام التعليم الابتدائي وشروط المعيشة على السواء سوف يعالج تلك العوامل البيئية على النحو المطلوب. لكن حتى يتحقق هذا فالواضح أن نظام الاختيار التعليمي هذا لا يحقق المتطلبات اللازمة لمبدأ تكافؤ الفرص[10].
تكافؤ الفرص = شروط تنافس متكافئة
يشير خط التفكير هذا إلى العلاقة بين فكرة تكافؤ الفرص وفكرة التساوي بين الأشخاص، وهي أقوى مما قد تبدو عليه في الوهلة الأولى. لقد رأينا بوضوح أن الاكتفاء بتطبيق معيار موحد على حالة الشخصين المتخيلين: زيد وعبيد (أو سميث وجونز)، سوف لن يؤدي إلى منحهما الفرصة ذاتها التي يشير إليها مبدأ تكافؤ الفرص، على الرغم من التساوي الظاهري الذي توحي به الإجراءات المتماثلة المطبقة على الشخصين، أي إخضاعهما للاختبار نفسها في سن الحادية عشرة (كما في المدارس النموذجية المذكورة أعلاه).
حين نطبق المعيار نفسه على الطفلين فإن ما يحصل هو الآتي: نطبق المعيار على زيد الذي تتأثر فرصته بظروف مؤاتية للفوز، ونطبق المعيار نفسه على عبيد الذي تتأثر فرصته بظروف معاكسة (لكنها قابلة للعلاج). معرفتنا بالتفاوت بين ظرف زيد وزميله، وتأثيره المتعاكس في قابليتهما للحصول على الفرصة المتاحة، يولد ضغطًا ضروريًّا لمساواة ظروف الاثنين. المساواة في الفرص بين زيد وعبيد يتضمن بالضرورة ملاحظة تأثير الظروف التي تساعد كلًّا منهما أو تعيقه، ولا سيما قابليتها للعلاج، نظرًا لأن الظرف الذي تعرض فيه الفرصة، والظرف المؤثر في قدرة المستفيدين على نيلها يشكل جزء من مفهوم التكافؤ بين الفرص ذاتها، وليس التساوي بين الأشخاص المرشحين لنيلها. بعبارة أخرى: فإن مفهوم التكافؤ في فرصة الدخول إلى المدرسة النموذجية يشمل أيضًا تكافؤ الظروف التي تساعد أو تعيق المرشحين للدخول، وليس فقط المساواة بين الأشخاص أنفسهم.
بهذا المعنى فإننا نسلط الضوء على جانب مهم من مبدأ تكافؤ الفرص، ألا وهو قابليتها للتحول إلى مكسب فعلي للمتنافسين عليها. من الواضح أن هذا ممكن فقط إذا جرى التنافس ضمن ظروف متكافئة. حين نقول: إن زيدًا (الثري) وعبيدًا (الفقير) متكافئان في القيمة، أو حين ندعو إلى المساواة بينهما في الفرص المتاحة في المجال العام، فإننا قد نغفل في كثير من الأحيان، عن حقيقة أن الظرف الحياتي لهما متفاوت، على نحو يؤثر جوهريًّا في كون الفرصة واقعية بالنسبة لهما معًا. بعبارة أخرى: فإن الشروط البيئية تشكل جزءًا من قابلية تحويل الفرصة إلى مكسب، وأن التكافؤ المنشود غير واقعي، ما لم تكن إمكانية الوصول إلى الفرصة متماثلة. هذا لا يتعلق بمدى الجهد الذي يبذله كل منهما لتعزيز موقعه في المنافسة، قدر ما يتعلق بالأرضية والظرف الذي تجري المنافسة في إطاره. وبهذا المعنى فإن تكافؤ الشروط البيئية التي يجري التنافس على الفرصة/ السلعة في ظلها يشكل جزء من مفهوم تكافؤ الفرص.
حدود التكافؤ المنشود
لقد أخذنا فكرة ظرف الفرصة وعوامل التكافؤ إلى مدى أوسع. لكن يبدو الموضوع قابلًا للهضم حتى الآن. يمكن القول: إنه حتى أكثر المحافظين تشددًا سوف يتفهم –إذا كان صادقًا مع نفسه- الحاجة إلى معالجة الشروط البيئية، باعتبارها تشكل جزءًا من مفهوم تكافؤ الفرصة. وقد رأينا أن الوصول إلى جوهر مفهوم التكافؤ يستدعي أن يكون الطريق إليه متاحًا بالمواصفات نفسها لجميع المتنافسين.
لكن هذا يثير سؤالًا لاحقًا: إلى أي مدى يمكننا أن نذهب مع هذه الفكرة.. ومتى ينبغي أن نتوقف؟. هل ينبغي أن نتوقف عند حدود الوراثة مثلًا؟.
لتوضيح الفكرة محل النقاش، دعنا نتخيل أن كافة الظروف البيئية المشار إليها في السطور السابقة قد جرت تسويتها على النحو المطلوب، لكننا اكتشفنا لاحقًا أنه ثمّة اختلاف بين الأشخاص يرجع إلى عوامل جينية موروثة من الوالدين ومستقرة في تركيب الدماغ، وأن هذه العوامل ذات صلة بالفروق بين الأشخاص في المؤهلات المرغوبة، والتي هي أيضًا مؤثرة في التنافس على الفرص المتاحة. دعنا نفترض أيضًا أن تركيب الدماغ على النحو المذكور يمكن تعديله بتدخل جراحي[11]، في هذه الحالة سنجد تكرارًا للمشكل السابق، لكن بدرجة مختلفة من التعقيد: الأثرياء سيكونون قادرين على دفع المال اللازم للعملية الجراحية التي ستؤدي إلى زيادة حظوط أبنائهم في الفوز بالمقاعد المتقدمة في النظام التعليمي. ترى هل سنفكر هنا أن الأطفال الفقراء لم يحصلوا على فرص مكافئة لأنهم لم يطيقوا إصلاح العيب الجيني كما فعل الأثرياء؟.
هذا مثال تخيلي بطبيعة الحال. لكنه يثير إشكالًا يستحق النظر. إن الانطباع الأول الذي يرد إلى الذهن هو أن فكرة الهوية الشخصية التي في أذهاننا بدأت تتلاشى وتتبدل. لعلنا نبدأ في التساؤل عمَّا إذا كان الشخص الذي نتحدث عنه الآن هو نفسه الذي عرفناه قبل التدخل الجراحي بكل ما فيه من حسنات وعيوب.
لكني أجد أنه سيكون من الخطأ الظن بأن المشكلة قابلة للحل، لمجرد أننا أخرجناها من دائرة النقاش، بمثل القول: إن فكرة الهوية الشخصية التي في أذهاننا قد انهارت مع تغير إطار النقاش الأصلي، بحيث لم نعد قادرين على الحديث عن الشخص موضع النقاش. أقول: إن هذا المبرر سيكون خاطئًا؛ لأننا نستطيع دائمًا أعادة تعريف الشخص من خلال عوامل عديدة، من بينها، على أقل التقادير، العوامل الزمانية - المكانية[12].
لن يكون هذا الموضوع محل اهتمامنا في هذه اللحظة. وسأكتفي بالإشارة إلى أن اعتراضنا على النظام المقترح في المثال التخيلي، ينبغي أن يصدر عن أساس أخلاقي وليس ميتافيزيقي[13].
ما يثير اهتمامي في ذلك المثال الخيالي، هو أن التأمل فيه يقود بالضرورة إلى تغيير اتجاه النقاش من تطبيقات تكافؤ الفرص إلى تكافؤ البشر. بيان ذلك: أن الحديث عن إمكانية تغيير صفات الأفراد من خلال التدخل الجراحي، يعني –بتعبير آخر– أن كافة الأفراد متساوون في أنفسهم، من جميع النواحي، باعتبارهم ذوات متشابهة، تضاف إليها صفات هي أعراض عليها، أو باعتبارهم منظومة صفات غير مستقلة بذاتها بل محمولة على جوهر محايد، وأن ما يحملونه من صفات، جسدية كانت أو ذهنية، أعراض وإضافات قابلة للتغير. وهذا يشمل حتى ما ينتقل إليهم بواسطة الجينات من آبائهم.
في مثل هذا الحال، حيث كل صفة يحملها الإنسان قابلة للتعديل والتغيير، لسنا بحاجة للنقاش في مسألة تكافؤ الفرص؛ لأن الأفراد الذين نتحدث عنهم متساوون في ذاتهم، أي إن تكافؤ الفرص بات متلازمًا مع تكافؤ حقيقي أصلي بين الأفراد أنفسهم.
الاعتراض الأخلاقي
أشرت في السطور السابقة إلى عدم الحاجة لمناقشة الاعتراضات الأخلاقية على نوع العالم المقترح في المثال التخيلي. ثمّة نقطة واحدة، على أي حال، ذات صلة بجوانب مختلفة لمبدأ المساواة، من نوع ما استعرضناه في ثنايا هذه الورقة. لعل القارئ أيضًا قد استفزته حقيقة أن جانبًا كبيرًا من اهتمام ذلك العالم التخيلي، مركز على امتلاك قابليات عالية. ومن هنا فهو ينظر إلى الأطفال –مثلًا– باعتبارهم أوعية لهذه القابليات وحسب. أظن أن هذا الشعور غير المريح سيتواصل حتى لو أن كل شخص قد عومل على هذا النحو (مع صعوبة تخيل النتائج المحتملة لهذه المعاملة). نتوقع طبعًا أن الذي عومل على هذا النحو سيكون أنجح من غيره، وأن أولئك المهتمين بإظهار القابليات سيكونون على الأرجح أكثر اهتمامًا بتحقيق النجاح.
لعل من الطريف الإشارة إلى أن الاعتراض الأخلاقي على الاهتمام المفرط بهذه الأهداف ليس منفصلًا عن قيمة المساواة بذاتها، بل هو متصل بها من خلال معانٍ معينة، نوقشت في صفحات سابقة من هذه الورقة، منها تساوي البشر كبشر، مهما اختلفوا عن بعضهم، وعلى وجه الخصوص مجموعة الأفكار التي ناقشناها في القسم الثاني تحت عنوان «التقدير/ الاحترام».
من المتوقع دائمًا أن تظهر بعض التعارضات حين نتحدث عن قيمة المساواة وتطبيقاتها. ليس ضروريًّا أن نلجأ للافتراضات النظرية أو العوالم المتخيلة، كي تستكشف هذه التعارضات. هذه التعارضات موجودة بالفعل في الحياة الواقعية المعاصرة. ثمّة شعور بأن الإلحاح الشديد على تطبيق مبدأ المساواة في الفرص بجميع تفصيلاته واحتمالاته سوف يدمر أحد التعبيرات المألوفة عن الإنسانية المشتركة، مع أن هذا التعبير بذاته واحد من تمثلات قيمة المساواة[14].
المثل التي نشعر أحيانًا بأنها في حال تعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص، قد لا تكون بالضرورة تمثلات أو تطبيقات أخرى لقيمة المساواة. قد نجد واحدًا من تلك المثل في الدعوة المزمنة لرعاية القيم والأعراف الضرورية لصيانة الحياة الجمعية، أو للتأمل في الثمرات المعنوية لنمط عيش مجتمعي يميل للتكامل بين الإرادات والمصالح، بدل التنافس بين الإرادات والمصالح. لعل بعضنا قد لاحظ أن فكرة المساواة ذاتها قد أثيرت بين حين وآخر في تبرير أو شرح هذا النوع من العلاقات المقترحة، وهي إثارات في محلها.
عرضت في الصفحات السابقة مفهومًا للمساواة، يمكن ملاحظة تمثيلاته في نطاق واسع جدًّا، من يوميات الإنسان وأشكال العلاقات التي تربطه مع البشر الآخرين. طالما كان المفهوم بهذه السعة فمن المؤكد أن تعارضات داخلية، على المستوى النظري أو العملي، سوف تبرز في تطبيق ما أو علاقة ما. تبرز فكرة المساواة كلما ظهرت علاقة تنطوي على توزيع لذلك النوع من السلع/ الفرص التي هي عامة بطبيعتها، وعلى أقل التقادير، تلك السلع التي من شأنها منح حائزيها قدرًا من المكانة أو الأبهة. هذا من جانب.
من جانب آخر، فإن فكرة المساواة في التقدير/ الاحترام تحثنا على قلة الاكتراث بالبنى التي تمنح الناس مكانة أو أبهة، وأن نهتم –بدل ذلك– بالناس بما هم، وبغض النظر عن تلك الامتيازات والأوصاف، حين يتعلق الأمر بتوزيع سلع/ فرص تثير اهتمامهم واهتمامنا.
ربما لا نجد أي تعارض واضح المعالم في هذين التطبيقين، لكن على أي حال فإن الإنسان يأمل أن يرى مجتمعه متصفًا بالإنصاف والعقلانية والتوزيع الملائم لتلك السلع، وأن يراه في الوقت ذاته خاليًا من أشكال العلاقات التي تتسم بالازدراء أو الاستهانة أو التناكر بين من يحظون بنصيب أكبر من السلع والفرص، ومن لا يحصلون على غير القليل.
لعل كثيرًا من الناس يحملون هذه الأمنية، لكن حين تأتي إلى واقع الحياة ستجد أن تحقيق تلك الأمنية دونه عقبات نفسية واجتماعية عميقة. كمثال على ذلك فإن السلع التي تضفي على صاحبها هيبة أو امتيازات (التطبيق الأول) تكون في العادة موضع تنافس شديد، هذه التنافسية تؤثر بشدة على العلاقة بين المتنافسين (التطبيق الثاني).
هل يمكن أن تكون هناك منافسة من دون مشاعر سلبية؟ هل يمكن أو نتعرف على حدود واضحة لتأثير هذه المشاعر، هل يمكن أن يصل التطور الاقتصادي في أي مجتمع إلى مستوى يؤمن للكثير من الناس ما يلزم من مؤهلات كي يقفوا على قدم المساواة في نيل السلع/ الفرص التي يشتد حولها التنافس أكثر من غيرها؟.
هذه كلها أسئلة لا أعتقد أننا سنعرف أجوبتها. وربما تكون موضوعًا مفيدًا للبحث في إطار علم النفس وعلم الاجتماع.
حين يواجه المرء مشهدًا من هذا النوع، مشهدًا تتجلى فيه أشكال عديدة لمبدأ المساواة، لكن كلًّا منها يدفع باتجاه معاكس للآخر. في حال كهذه ربما يشعر المرء بإغراء التخلي عن الفكرة ككل، أو ربما يشعر بإغراء التخلي عن جانب منها. ربما يقول لنفسه على سبيل المثال: إن تكافؤ الفرص هو النموذج الوحيد للمساواة الذي يمكن تطبيقه دون صعوبات. بخلاف المساواة في التقدير/ الاحترام، الذي يبدو أقرب إلى وهم غامض، يصعب استيعابه، فضلًا عن التفكير في تطبيقاته.
أشخاص آخرون ربما يراودهم شعور معاكس تمامًا. قد يقول أحدهم لنفسه: إن التقدير هو ما يحتاجه البشر؛ ولذا فإن المساواة في التقدير/ الاحترام هي المساواة الحقيقية. أما تكافؤ الفرص فهو تطبيق ضعيف لمبدأ المساواة، وربما يمكن اعتباره نوعًا من الخذلان غير المقصود للمثل الأعلى لا سيما إذا جرى الإصرار عليه والإلحاح في تطبيقه، كما فعلنا حتى الآن.
هذه بطبيعة الحال مشاعر متوقعة عند هذا الفريق من الناس أو ذاك. لكن يهمني هنا التنبيه إلى أن هذه الصيغ جميعها ربما تبالغ في تبسيط الأمور. واقع الحياة والعلائق بين الناس أعقد من هذا؛ ولذا ينبغي الحذر من الاستسلام لأيٍّ منها دون تمحيص.
من المهم ونحن نسعى لتطبيق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص أَلَّا نغفل العوامل الأخرى الضرورية للعلاقة بين الأفراد، والتي قد تلعب دورًا «تلطيفيًّا»، بمعنى تدوير الزوايا الحادة وتخفيف التجاذبات التي لا تخلو منها علاقة. إن التطبيق الدقيق والحرفي لفكرة تكافؤ الفرص، في مختلف تجلياتها، ربما يلقي طابعًا خشنًا وغير إنساني على الحياة الاجتماعية. ثمّة في الحياة اليومية عوامل تلعب دورًا معاكسًا لفكرة المساواة وتكافؤ الفرص بالمعنى الحرفي. هذه العوامل قد تبدو كريهة وغير مقبولة، لكن بعضها لا يمكن الاستغناء عنه، فهو ضروري لجعل حياة المجتمع أكثر لينًا وسلاسة. دعنا نأخذ مثلًا الميل الفطري عند كل الآباء لتحصيل مكانة لأطفالهم تماثل على أقل التقادير تلك التي لديهم. مثل هذا الميل يبدو متعارضًا مع الصورة المثالية لتكافؤ الفرص، لكن –في الوقت نفسه– لا يبدو من اللطيف أو العقلاني أن تطالب الآباء بعدم التفكير في أبنائهم على هذا النحو.
في الجانب الآخر، نجد أن مثال المساواة في التقدير/ الاحترام لا يمكن أن يكون واقعيًّا ما لم يؤخذ بعين الاعتبار عند تطبيقه بعض الحقائق الحياتية، مثل حاجة المجتمع لمهارات معينة، الأمر الذي يعطي أصحابها مكانة تتجاوز الآخرين. ومثل ذلك الميل الفطري عند الإنسان للحصول على نوع من الامتياز أو الهيبة أو النفوذ مما لا يمكن ردعه أو التخلص منه بطريقة لينة. إن إغفال أو إنكار مثل هذه الحقائق ليس سوى يوتوبية فارغة. ليس من المتوقع أن يفلح اتجاه متشدد كهذا في إنشاء توزيع سلس وفعال للسلع والفرص والمواقع والنفوذ، أي لن يصل إلى الصورة الممكنة لتكافؤ الفرص في الحياة الواقعية، فضلًا عن الصورة المتخيلة أو المثالية.
الحل المعقول لهذا التعارض، بين ما نفترض صحته من مبادئ المساواة، وما هو واقعي من نظم ومسارات الحياة الاجتماعية، هو أن نسعى للجمع بين ما يمكن جمعه من عناصر في هذا الجانب وذاك. ليس معقولًا بطبيعة الحال أن يفكر أحدنا في رمي أي من الدعاوى والمطالبات من النافذة. البديل هو الحل البراغماتي: أن نبحث في كل حالة عن الطريق الأمثل كي نأكل أكثر ما نستطيع من الكعكة. إنه ظرف غير مريح، كما يحصل في كل حين نقارب الفكر السياسي الأصيل. ما نقابل من منغصات هنا، نقابل مثله حين نتعمق في النقاش حول الحرية، أو أي فكرة سياسية نبيلة أو أساسية. هذا إذن جزء من طبيعة التفكير في السياسة ومشكلاتها.
[1] العنوان الأصلي للمقالة «The Idea of Equality»، ونشرت للمرة الأولى في 1962 كفصل من كتاب P. Laslett,& W. Runciman: Philosophy, Politics and Society: A Collection. Basil Blackwell Oxford. 1962. ثم أعيد نشرها في ثلاثة كتب أخرى، وتحوّلت إلى نص مرجعي في النقاشات الخاصة بالمساواة في الفلسفة السياسية.
* الكاتب برنارد ويليامز (1929-2003) فيلسوف وأكاديمي معروف في بريطانيا، عمل أستاذًا للفلسفة في كامبردج وأكسفورد وبيركلي. ودعم حزب العمال الذي كان عضوًا فيه لفترة طويلة. ساهم ويليامز في إحياء تراث الفلسفة التحليلية، وهو يعتبر من أبرز الفلاسفة الأخلاقيين. للمزيد حول حياته وأعماله. انظر سيرته المختصرة على ويكيبديا https://en.m.wikipedia.org/wiki/Bernard_Williams
** باحث من السعودية.
[2] يقصد الكاتب بقوله: «بالغ القوة» أن هذا التفسير يوحي بأن البشر متساوون في كل شيء. ونعلم أن هذا غير صحيح؛ لأن الناس يختلفون في العديد من الجوانب البيولوجية والنفسية والمادية والذهنية. أما وصفه للتفسير الثاني بأنه «بالغ الضعف»، فلأنه ينصرف في نهاية المطاف إلى ما يشبه جملة «البشر بشر» وهذا –من الناحية المنطقية– مجرّد حشو لا قيمة له.
[3] المفارقة paradox عبارة تنطوي في داخلها على دعوى محتملة الصحة والفساد في الوقت ذاته. فهي تنطوي على خاتمة تبدو غير مقبولة، مستمدة من فرضيات وسياق منطقي يبدوان مقبولين. للمزيد انظر:
https://en.wikipedia.org/wiki/Paradox
[4] المبدأ العملي للمساواة (=practical maxim of equality) هو الدعوة لإصلاح النظام السياسي والقانون، على نحو يضمن المعاملة المتساوية لجميع البشر (أو لجميع المواطنين على الأقل). الفرضية التي ينطلق منها هذا المبدأ هي أن البشر؛ لأنهم بشر لهم حق متساو في مجالات معينة مثل الحق في التصويت، التقاضي، تكافؤ الفرص سيما في مجال التعليم والوظيفة، والتوزيع العادل للسلع والخدمات العامة مثل الرعاية الصحية.
وفقًا لرأي الكاتب فإن الإقرار لكافة الناس بهذه الحقوق يحتاج إلى البرهنة على أنهم متكافئون، وأن الاستحقاق لاحق لقبول البرهان. أما القول بأن الاستحقاق قائم بكونهم بشرًا، فهو تكرار للدعوى نفسها محل الاختلاف وليس برهنة عليها أو إثباتًا لها. أي إن كل ما فعله دعاة المساواة هو أنهم زادوا ما يترتب على الوصف المدّعى، بدل أن يجتهدوا في إثبات صحته. ومن هنا وصف الكاتب دعوى أن «البشر متساوون لأنهم بشر» بأنها ضعيفة جدًّا، بحيث لا تستطيع حمل المبدأ العملي، أي تطبيقاتها في الحياة السياسية.
[5] للمزيد حول هذه النقطة، انظر عبدالإله دعال: الشخص في فلسفة كانط الأخلاقية، الثقافة والفكر والسينما (مدونة): http://mysidibouya.blogspot.com/p/blog-page_36.html اطلعت عليها في 14 فبراير 2019.
[6] for a brief on the idea of distribution, see: David Gross, ‘Aristotle on Distributive Justice’, The Picket Line (personal blog - 2009) https://sniggle.net/TPL/index5.php?entry=14Oct09.
[7] توضيح الفكرة: قد يقال: إن المرض يشكل أرضية مناسبة للحق في الرعاية الطبية مثلًا، لكنها فرصة لنيل الحق وليست ضمانًا لنيله. قد يحصل الشخص على الفرصة أو الحق في شيء لكنه لا يملك القوة الكافية أو المصادر الملائمة لتحويله من فرصة/ حق إلى فعل واقعي. بعبارة أخرى: فإن الأسباب غير فعالة أو أن فاعليتها غير كافية.
[8] المنظومة المؤلفة من «كون المبررات ذات صلة بالموضوع» و«كونها فعالة في الواقع» تشكل عنصر قوة مهمًّا لتعزيز المبدأ المشروح في المتن، أي القول بأنه في حال تم معاملة الناس على نحو غير متسق مع مبدأ المساواة التامة، فإنه يجب تقديم سبب عام أو قاعدة لتبرير التمايز. يجب أن تكون هذه القاعدة أو السبب العام ذا صلة وفعالًا في الواقع.
[9] For more on this type of schools, see: ‘Grammar School’, WIikipedia, (19 - 04 - 2019) https://en.wikipedia.org/wiki/Grammar_school.
[10] See on this: Charles Crosland, ‘Public Schools and English Education’, Encounter (July 1961).
[11] أتخيل حالة أكثر تطرفًا، مع أنها ليست بعيدة الاحتمال، تتجسد في إمكانية التدخل الجراحي للتحكم في تشكيل العناصر الجينية أو الوراثية، بهدف التحديد والتصميم المسبق لصفات الفرد. لا أستطيع، ولن أحاول التنبؤ الآن بالعواقب المذهلة التي قد تترتب على خطوة كهذه.
[12] تردد الكاتب في مناقشة هذه الحالة المتخيلة، سببه أنه على فرض تحقق إمكانية التحكم في جينات البشر، فإنه سيكون بالإمكان جعل الناس نسخًا متشابهة. وعندئذٍ فإن معظم النقاش السابق لا يعود ذا صلة؛ لأن إحدى الفرضيات الأصلية في نقاش المساواة هي أنها علاقة بين أشخاص مختلفين، لا بين نسخ متشابهة، كما تشير إليه الحالة المتخيلة المذكورة.
للمزيد حول مفهوم تحول الهوية الشخصية عند وليامس، انظر مناقشته للفكرة في الفصل الأول من كتاب مشكلات النفس (Bernard Williams, The Problems of the Self (Cambridge 1973). والتي جادل فيها إشكال التحولات المحتملة في جسد الإنسان وذهنه وذاكرته، وكيف تنعكس على هويته.
[13] أحتمل أن الغرض من هذه الإشارة بيان أن الحكم على البشر في الحالات المختلفة، ينبغي أن يتبع معايير وقيمًا مؤسسة على أرضية عقلائية، وبالتالي مرنة وقابلة للتعديل، وليس أحكامًا صلبة ومسبقة أو متعالية. الأخلاقي في منظور وليامز نتاج للعقلانية البشرية وليس متعاليًا.
[14] الفكرة التي يعرضها الكاتب هنا، فحواها ببساطة أنه لو أخذنا مبدأ تكافؤ الفرص إلى نهاياته فسوف تتحول الكفاءة العلمية أو العملية إلى معيار وحيد للنجاح، عندها سوف ينقسم المجتمع بشدة إلى شريحة تستأثر بمصادر القوة لأنها ذات كفاءات رفيعة وشريحة محرومة لأن كفاءاتها متدنية. مجتمع كهذا سيكون محوره العمل والإنجاز وليس الإنسان. وهذه نتيجة لا يريد الناس أن يصلوا إليها. انظر بهذا الصدد كتاب المفكر والسياسي البريطاني مايكل يونغ الذي يعالج إشكالية تماثل هذا المعنى:
Michael Young, The Rise of the Meritocracy (London:Thames and Hudson, 1958).